إعراب القرآن للنحاس ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
50 شرح إعراب سورة ق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة ق (50) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
ق غير معربة لأنها حرف تهجّ. قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناها.
وَالْقُرْآنِ خفض بواو القسم. الْمَجِيدِ من نعته. قال سعيد بن
جبير: «المجيد» الكريم، فأما جواب القسم ففيه أربعة أجوبة: قال
الأخفش سعيد: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ
[ق: 4] وقال أبو إسحاق: الجواب محذوف أي والقرآن المجيد
لتبعثنّ، وقيل:
بل المحذوف ما ذلّ عليه سياق الكلام لأنهم قالوا: إنّ هذا
النبيّ عجيب تعجّبوا من أن يبعث إليهم رجل من بني أدم فوقع
الوعيد على ذلك أي والقرآن المجيد لتعلمنّ عاقبة تكذيبكم يوم
القيامة فقالوا: أَإِذا مِتْنا. قال أبو جعفر: فهذان جوابان،
ومن قال:
معنى قضي الأمر والله فليس يحتاج إلى جواب، لأن القسم متوسّط،
كما تقول: قد كلّمتك والله اليوم. والجواب الرابع أن يكون «ق»
اسما للجبل المحيط بالأرض. قال ذلك وهب بن منبّه. فيكون
التقدير: هو قاف والله، فقاف على هذا في موضع رفع.
قال أبو جعفر: وأصحّ الأجوبة أن يكون الجواب محذوفا للدلالة
لأن إذا متنا جواب فلا بدّ من أن يكون «إذا» متعلّقة بفعل أي
أنبعث إذا، فأما أن يكون الجواب قد علمنا فخطأ لأن «قد» ليست
من جواب الأقسام، وقاف إذا كان اسما للجبل فالوجه فيها
الإعراب.
[سورة ق (50) : آية 2]
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ
الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي لم يكذّبوك
لأنّهم لا يعرفونك بالصدق بل عجبوا أن جاءهم برسالة رب
العالمين. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ.
[سورة ق (50) : آية 3]
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
أَإِذا مِتْنا أي أنبعث إذا متنا. وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ ومعنى بعيد عند الفراء لا يكون. وذلك معروف في
اللغة.
(4/146)
قَدْ عَلِمْنَا مَا
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ
كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ
(6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
[سورة ق (50) : آية 4]
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا
كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي من لحومهم
وأبدانهم وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ بمعنى حافظ لأنه لا يندرس
ولا يتغير.
[سورة ق (50) : آية 5]
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ
مَرِيجٍ (5)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ أي لم يكذّبوك لشيء
ظهر عندهم. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ روي عن ابن عباس: «مريج»
منكر. وعنه: مريج في ضلالة، وعنه: مريج مختلف، وقال مجاهد
وقتادة: مريج ملتبس، وقال الضّحاك وابن زيد: مريج مختلط. قال
أبو جعفر: وهذه الأقوال، وإن كانت ألفاظها مختلفة فمعانيها
متقاربة لأن الأمر إذا كان مختلفا فهو ملتبس منكر في ضلالة لأن
الحقّ بيّن واضح.
[سورة ق (50) : آية 6]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ
بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6)
أي أفلم ينظر هؤلاء المشركون الذين أنكروا البعث وجحدوا قدرتنا
على إحيائهم بعد البلى إلى قدرتنا على خلق السماء حتّى جعلناها
سقفا محفوظا. وَزَيَّنَّاها أي بالكواكب. وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ يكون جمعا ويكون واحدا أي من فتوق وشقوق.
[سورة ق (50) : آية 7]
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها ونصبت الأرض بإضمار فعل أي
وبسطنا الأرض، والرفع جائز إلّا أن النصب أحسن لتعطف الفعل على
الفعل. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا رست في الأرض أي
ثبتت. وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي نوع. قال ابن
عباس:
بَهِيجٍ حسن.
[سورة ق (50) : آية 8]
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
تَبْصِرَةً مصدرا، ومفعول له أي فعلنا ذلك لنبصّركم قدرة الله
سبحانه وَذِكْرى أي ولتذكروا عظمة الله وسلطانه فيعلموا أنه
قادر على أن يحيي الموتى ويفعل ما يريد.
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى الإيمان وطاعة الله جلّ
وعزّ.
[سورة ق (50) : آية 9]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ
جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً وهو المطر.
فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ زعم الفراء «1»
: أنّ الشيء أضيف إلى نفسه لأن الحب هو الحصيد عنده. قال أبو
جعفر:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 76.
(4/147)
وَالنَّخْلَ
بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ
وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
سمعت علي بن سليمان يحكي عن البصريين منهم
محمد بن يزيد أن إضافة الشيء إلى نفسه محال، ولكن التقدير حبّ
النبت الحصيد.
[سورة ق (50) : آية 10]
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي وأنبتنا النخل طوالا، وهي حال مقدرة
«باسقات» على الحال لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رفعت طلعا بالابتداء
وإنه كان نكرة لما فيه من الفائدة.
[سورة ق (50) : آية 11]
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً
كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
رِزْقاً لِلْعِبادِ قال أبو إسحاق: رزقا مصدر، ويجوز أن يكون
مفعولا من أجله.
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي مجدبة، ليس فيها زرع
ولا نبات كَذلِكَ الْخُرُوجُ مبتدأ وخبره أي الخروج من قبوركم
كذا يبعث الله جلّ وعزّ ماء فينبت به الناس كما ينبت الزّرع
«1» ، وقال أبو إسحاق: المعنى كما خلقنا هذه الأشياء نبعثكم.
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 14]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ
وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13)
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أي كذّبت قبل هؤلاء
المشركين الذين كذّبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم قوم نوح،
والتاء لتأنيث الجماعة وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) . وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ
قال مجاهد: الرّسّ: بئر. وقال قتادة: الأيكة الشجر الملتفّ
وَقَوْمُ تُبَّعٍ عطف كلّه. قال أبو مجلز سأل عبد الله بن عباس
كعبا عن تبّع فقال: كان رجلا صالحا أخذ فتية من الأحبار
فاستبطنهم فأسلم فأنكر ذلك قومه عليه. وفي حديث سهل بن سعد عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تلعنوا تبّعا فإنه كان
أسلم» كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ التقدير عند
سيبويه: كلّهم ثم حذف لدلالة كلّ، وأجاز النحويون جميعا: كلّ
منطلق، بمعنى كلّهم. قال أبو جعفر سمعت محمد بن الوليد يجيز
حذف التنوين فيقول: كلّ منطلق بمعنى كلّهم. يجعله غاية مثل قبل
وبعد. قال علي بن سليمان: هذا كلام من لم يعرف لم بني قبل
وبعد، ونظير هذا من الألفاظ لأن النحويين قد خصّوا الظروف
للعلّة التي فيها ليست في غيرها. قال أبو جعفر: وهذا كلام بين
عند أهل العربية صحيح.
وحذفت الياء من وَعِيدِ لأنه رأس آية لئلا يختلف الآيات، فأما
من أثبتها في الإدراج وحذفها في الوقف فحجّته أنّ الوقف موضع
حذف، الدليل على ذلك أنك تقول: لم يمض، فإذا وصلت كسرت الضاد
لا غير ومعنى فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب الوعيد من الله جلّ وعزّ
للكفار بالعذاب في الآخرة والنقمة.
__________
(1) مرّ الحديث في الآية 10- الزخرف.
(4/148)
أَفَعَيِينَا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا
تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ
حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
[سورة ق (50) : آية 15]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ
خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
أَفَعَيِينا «1» بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقال: عيينا بالأمر
وعييّ به إذا لم يتجه، ولم يحسنه، وإذا قلت: عيينا لم يجز
الإدغام لأن الحرف الثاني ساكن فلو أدغمته في الأول التقى
ساكنان. فأما المعنى فإنه قيل لهؤلاء الذين أنكروا البعث
فقالوا (ذلك رجع بعيد) أفعيينا بالابتداء الخلق فنعيا بإحيائكم
بعد البلى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:
أفعيينا بالخلق الأول، قال: يقول لم نعي به. قال أبو جعفر:
وهكذا الاستفهام الذي فيه معنى التقرير والتوبيخ يدخله معنى
النفي أي لم يعي بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ
خَلْقٍ جَدِيدٍ أي من البعث.
[سورة ق (50) : آية 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ
(16)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ
نَفْسُهُ الضمير الذي في به يعود على «ما» ، وأجاز الفراء»
أن يعود على الإنسان أي ويعلم ما توسوس إليه نفسه. وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ قال ابن عباس:
الوريد حبل العنق، وللنحويين فيه تقديران: قال الأخفش سعيد:
ونحن أقرب إليه بالمقدرة من حبل الوريد، وقال غيره: أي ونحن
أقرب إليه في العلم بما توسوس به نفسه من حبل الوريد.
[سورة ق (50) : آية 17]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمالِ قَعِيدٌ (17)
ولم يقل: قعيدان ففيه أجوبة: فمذهب سيبويه والكسائي أن المعنى
عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ثم حذف. ومذهب الأخفش والفراء
أن «قعيد» واحد يؤدي عن اثنين، وأكثر منهما، كما قال جلّ وعزّ:
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] . وقال محمد بن يزيد:
إنّ التقدير في قَعِيدٌ أن يكون ينوى به التقديم أي عن اليمين
قعيد ثم عطف عليه وعن الشمال. قال أبو جعفر: وهذا بيّن حسن
ومثله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة:
62] . وقول رابع أن يكون قعيد بمعنى الجماعة، كما يستعمل العرب
في فعيل، قال جلّ وعزّ: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ
[التحريم: 4] .
[سورة ق (50) : آية 18]
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ الضمير الذي فيه يعود على الإنسان أي
ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلّم به إلّا عند لفظ به. رَقِيبٌ
أي حافظ يحفظ عليه. عَتِيدٌ معدّ. يكون هذا من متصرّفات فعيل
يكون بمعنى الجمع وبمعنى مفعل وبمعنى مفعول مثل قتيل، وبمعنى
فاعل، مثل قدير بمعنى قادر.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 122.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 77.
(4/149)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ
كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ
فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
[سورة ق (50) : آية 19]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ (19)
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي شدّته وغلبته على فهم الإنسان
حتّى يكون كالسكران من الشراب أو النوم. بِالْحَقِّ أي بأمر
الآخرة الذي هو حقّ حتّى يتبيّنه عيانا، وقول أخر أن يكون
الحقّ هو الموت أي وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت. وصحّ عن أبي
بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت «1»
وكذا عن عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه. قال: وهذه قراءة
على التفسير. وفي معناها قولان: يكون الحقّ هو الله جلّ وعزّ
أي وجاءت سكرة الله بالموت، والقول الآخر قول الفراء تكون
السّكرة هي الحق، وجاءت السكرة الحقّ أضيف الشّيء إلى نفسه.
ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تلك السكرة ما كنت منه
تهرب. فأما التذكير فبمعنى ذلك السّكر.
[سورة ق (50) : آية 20]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
أي ما وعد الله عزّ وجلّ الكفار وأصحاب المعاصي بالنار.
[سورة ق (50) : آية 21]
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
محمول على المعنى، ولو كان على اللفظ لكان وجاء كلّ نفس معه
والتقدير ومعها حذفت الواو للعائد والجملة في موضع نصب على
الحال.
[سورة ق (50) : آية 22]
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اختلف أهل العلم في هذه
المخاطبة لمن هي فقالوا فيها ثلاثة أقوال: قال زيد بن أسلم
وعبد الرحمن بأنّ هذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
وحكى عبد الله بن وهب عن يعقوب عن عبد الرحمن قال: قلت لزيد بن
أسلم وهذه المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما
أنكرت من هذا وقد قال الله سبحانه: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 6، 7] . قال: فهذا
قول، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا قال: هذا مخاطبة للكفار، وكذا قال مجاهد،
وقال الضحاك: مخاطبة للمشركين وقال صالح بن كيسان بعد أن أنكر
على زيد بن أسلم ما قاله، وقال: ليس عالما بكلام العرب ولا له
وإنما هذه مخاطبة للكفار.
فهذان قولان، والقول الثالث ما قاله الحسن بن عبد الله بن عبيد
الله بن عباس قال:
هذا مخاطبة للبرّ والفاجر، وهو قول قتادة. قال أبو جعفر: أما
قول زيد بن أسلم فتأويله على أن الكلام تم عنده عند قوله جلّ
وعزّ: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 78، والمحتسب 2/ 283.
(4/150)
وَقَالَ قَرِينُهُ
هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ
كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
ثم ابتدأ يا محمد لقد كنت في غفلة من هذا
الدّين ومما أوحي إليك من قبل أن تبعث إذ كنت في الجاهلية
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي فبصّرناك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ
حَدِيدٌ أي فعلمك نافذ.
والبصر هاهنا بمعنى العلم. وأولى ما قيل في الآية أنها على
العموم للبرّ والفاجر يدلّ على ذلك وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ فهذا عامّ
لجميع الناس برّهم وفاجرهم، فقد علم أنّ معنى وَجاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ وجاءتك أيّها الإنسان سكرة
الموت ثم جرى الخطاب على هذا في لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هذا أي لقد كنت أيّها الإنسان في غفلة مما عاينت فإن كان
محسنا ندم إذ لم يزدد، وإن كان مسيئا ندم إذ لم يقلع هذا لما
كشف عنهما الغطاء، فبصرك اليوم نافذ لما عاينت. وقال الضحاك:
فبصرك لسان الميزان:
قيل: فتأوّل بعض العلماء هذا على التمثيل بالعدل أي أنت أعرف
خلق الله جلّ وعزّ بعملك، فبصرك به كلسان الميزان الذي يعرف به
الزيادة والنقصان.
[سورة ق (50) : آية 23]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
وَقالَ قَرِينُهُ قال عبد الرحمن بن زيد: «قرينه» سائقه الذي
وكّل به هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ قال: هذا ما أخذه وجاء به، هذا
في موضع رفع بالابتداء وما خبر الابتداء وعَتِيدٌ خبر ثان،
ويجوز أن يكون مرفوعا على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون بدلا من
«ما» ، ويجوز أن يكون نعتا لما على أن تجعل «ما» نكرة، ويجوز
النصب في غير القرآن مثل وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] .
[سورة ق (50) : آية 24]
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
اختلف النحويون في قوله ألقيا، فقال قوم: هو مخاطبة للقرين أي
يقال للقرين:
ألقيا. فهذا قول الكسائي والفراء، وزعم «1» : أنّ العرب تخاطب
الواحد بمخاطبة الاثنين فيقول: يا رجل قوما، وأنشد: [الطويل] .
432-
خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ... لنقضي حاجات الفؤاد المعذّب
«2» وإنّما خاطب واحدا واستدلّ على ذلك قوله: [الطويل] 433-
ألم تر أنّي كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب
وقال قوم: «قرين» للجماعة والواحد والاثنين مثل
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . قال أبو
جعفر: وحدّثنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد عن بكر بن محمد
المازني، قال: العرب تقول للواحد: قوما على شرط إذا أرادت
تكرير الفعل أي
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 78.
(2) هذا الشاهد والذي بعده لامرئ القيس في ديوانه ص 41،
والأشباه والنظائر 8/ 85، ولسان العرب (ندل) و (محل) .
(4/151)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ
قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي
ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30)
قم قم، فجاؤوا بالألف لتدلّ على هذا
المعنى، وكذا «ألقيا» وقول أخر: يكون مخاطبة لاثنين. قال عبد
الرحمن بن زيد: معه السائق والحافظ جميعا. قال مجاهد وعكرمة:
العنيد المجانب للحقّ والمعاند لله جلّ وعزّ. قال محمد بن
يزيد: عنيد بمعنى معاند مثل ضجيع وجليس.
[سورة ق (50) : آية 25]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي لما يجب عليه من زكاة وغيرها. والخير
المال. ومُعْتَدٍ على الناس بلسانه ويده. قال قتادة: مُرِيبٍ
شاك.
[سورة ق (50) : آية 26]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي
الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يكون «الذي» في موضع
نصب بدلا من كلّ وبمعنى أعني، ويكون رفعا بإضمار مبتدأ،
وبالابتداء وخبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ.
[سورة ق (50) : آية 27]
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ أي ما جعلته طاغيا أي
متعدّيا إلى الكفر. وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي في
طريق جائر عن الحق.
[سورة ق (50) : آية 28]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ
بِالْوَعِيدِ (28)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس
قال: اعتذروا بغير عذر فأبطل عليهم حجّتهم وَقَدْ قَدَّمْتُ
إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي بالوعيد الذي لا حيف فيه، ولا خلف
له فلا تختصموا لديّ.
[سورة ق (50) : آية 29]
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ
لِلْعَبِيدِ (29)
ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ قال مجاهد: أي قد قضيت ما أنا
قاض. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي لا أخذ أحدا بجرم
أحد.
[سورة ق (50) : آية 30]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ (30)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ والعامل في يوم
ظلام وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ في معناه قولان: أحدهما أنّ
المعنى: ما في مزيد، ويحتج صاحب هذا القول بقوله جلّ وعزّ:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السجدة: 13، ص: 85] . وهذا قول
عكرمة، ونظيره الحديث حين قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ألا تنزل دارا من دورك؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دار» «1»
أي ما
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 34، والمتقي الهندي في
كنز العمال (30429) و (30685) .
(4/152)
وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا
تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
ترك لنا دارا حتّى باعها وقت الهجرة فهذا
قول، والقول الآخر فهل من مزيد على الاستدعاء للزيادة. وهذا
قول أنس بن مالك، ويدلّ عليه الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم: «لا تزال جهنّم تقول هل من مزيد فيقول ربّ
العالمين سبحانه وتعالى فيجعل قدمه فيها فيقول قط قط» «1» .
قال أبو جعفر: فهذا الحديث صحيح الإسناد، ويدلّ على خلاف القول
الأول. والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة ق (50) : آية 31]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
أي قريب للمتقين، أي للمتقين معاصي الله جلّ وعزّ.
[سورة ق (50) : آية 32]
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
هذا ما تُوعَدُونَ أي: هذا الذي وصفناه للمتّقين الذي توعدون
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ قال ابن زيد لكل تائب راجع إلى الله
لطاعته: وعن ابن عباس أَوَّابٍ مسبّح، وعنه حَفِيظٍ حفظ ذنوبه
حتّى تاب منها. وقال قتادة: «حفيظ» حافظ لما ائتمنه الله جلّ
وعزّ عليه، ومعنى هذا أنه حفظ جوارحه عن معاصي الله تعالى.
[سورة ق (50) : الآيات 33 الى 34]
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ
(33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ في موضع خفض على البدل من
«كلّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء وخَشِيَ في موضع
جزم بالشرط، والتقدير: خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ
بِقَلْبٍ مُنِيبٍ فيقال لهم: ادْخُلُوها على معنى من، وما قبله
على لفظها ومُنِيبٍ تائب راجع إلى الله جلّ وعزّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ أي ذلك الذي وصفناه للمتقين يوم لا يزولون عنه.
[سورة ق (50) : آية 35]
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها أي لهم ما يريدون وزيادة في الكرامة
وفسّر أنس بن مالك معنى وَلَدَيْنا مَزِيدٌ فلما لا يجوز أن
يؤخذ باقتراح ولا يؤخذ إلّا عن النبيّ عليه السلام في
وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: قال: «يتجلّى لهم ربّ العالمين فيقول
وعزّتي لأتجلّينّ لكم حتّى تنظروا إليّ فيقول: مرحبا بعبادي
وجيراني وزواري ووفدي انظروا إليّ» «2» فذلك نهاية العطاء وفضل
المزيد.
__________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (3272) ، وأحمد في مسنده 3/ 134،
وذكره ابن حجر في فتح الباري 11/ 545، وأبو نعيم في حلية
الأولياء 7/ 204.
(2) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (4615) ، وابن الجوزي في
زاد المسير 8/ 21.
(4/153)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى
مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
[سورة ق (50) : آية 36]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ
مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ
(36)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ أي قبل مشركي قريش
الذين كذّبوك. هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً المهلكون أشد من
الذين كذّبوك. منصوب على البيان فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
أثّروا وحقيقته في اللغة طوّفوا وتوغّلوا.
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ قال الفراء: أي فهل كان لهم من الموت من
محيص، وحذف كان للدلالة وقراءة يحيى بن يعمر فَنَقَّبُوا شاذّة
خارجة عن الجماعة وهي على التهديد.
[سورة ق (50) : آية 37]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن في إهلاكنا القرون التي
أهلكناها وقصصنا خبرها.
لَذِكْرى يتذكّر بها من كان له قلب يعقل به أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ أي أصغى. وَهُوَ شَهِيدٌ متفهّم غير ساه، والجملة في
موضع نصب على الحال.
[سورة ق (50) : آية 38]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما
فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
أثبت الهاء في ستة لأنه عدد لمذكر، وفرقت بينه وبين المؤنث.
ومعنى يوم:
وقت فلذلك ذكر قبل خلق النهار وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من
لغب يلغب ويلغب إذا تعب.
[سورة ق (50) : الآيات 39 الى 40]
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ
اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فأنا لهم بالمرصاد وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
الْغُرُوبِ قال أهل التفسير: يعني به اليهود لأنهم قالوا
استراح يوم السبت، قال جلّ وعزّ: فاصبر على ما يقولون فأنا لهم
بالمرصاد وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ
وَقَبْلَ الْغُرُوبِ حمله أهل التفسير على معنى الصلاة، وكذا
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ قال ابن زيد: العتمة. وقال
مجاهد: الليل كلّه. قيل: يعني المغرب والعشاء الآخرة. قال:
وهذا أولى لعموم الليل في ظاهر الآية وَأَدْبارَ السُّجُودِ
«1» فيه قولان: قال ابن زيد:
النوافل. قال: وهذا قول بيّن لأن الآية عامة فهي على العموم
إلّا أن يقع دليل غير أن حجّة الجماعة جاءت لأن معنى
وَأَدْبارَ السُّجُودِ ركعتان بعد المغرب. قال ذلك عمر وعلي
والحسن بن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، ومن
التابعين الحسن ومجاهد والشّعبيّ وقتادة والضحاك، وبعض
المحدثين يرفع حديث علي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
(وإدبار السجود) قال: «ركعتان بعد المغرب» . وقرأ أبو عمرو
وعاصم والكسائي
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 128. [.....]
(4/154)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ
يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
(42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ
(43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ
حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
وَأَدْبارَ السُّجُودِ بفتح الهمزة جعلوه
جمع دبر، ومن قال: إدبار جعله مصدرا من أدبر وأجمعوا جميعا على
الكسر في وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] فذكر أبو عبيد أنّ
السجود لا ادبار له. وهذا مما أخذ عليه، لأن معنى وأَدْبارَ
السُّجُودِ وما بعده وما يعقبه فهذا للسجود، والنجوم والإنسان
واحد. وقد روى المحدّثون الجلّة تفسير وَأَدْبارَ السُّجُودِ
وَإِدْبارَ النُّجُومِ فلا نعلم أحدا منهم فرّق ما بينهما.
[سورة ق (50) : آية 41]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41)
وقرأ عاصم والأعمش وحمزة والكسائي يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «1» بغير ياء في الوصل والوقف، وهو اختيار
أبي عبيد اتباعا للخط. وقد عارضه قوم فقالوا: ليس في هذا تغيير
للخط لأن الياء لام الفعل فقد علم أن حقّها الثبات. قال
سيبويه: والجيّد في مثل هذا إثبات الياء في الوقف والوصل قال:
ويجوز حذفها في الوقف. قال أبو جعفر: ذلك أنك تقول مناد ثم
تأتي بالألف واللام فلا تغيّر الاسم عن حاله، فأما معنى
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41)
.
فقيل فيه: أي حين يوم. قال كعب: المنادي ملك ينادي من مكان
قريب، من صخرة بيت المقدس بصوت عال يا أيّتها العظام البالية
والأوصال المتقطعة اجتمعي لفصل القضاء.
[سورة ق (50) : آية 42]
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ (42)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي بالاجتماع
للحساب ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من قبورهم.
[سورة ق (50) : آية 43]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ حذف المفعول أي نحيي الموتى
ونميت الأحياء وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي المرجع.
[سورة ق (50) : آية 44]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنا يَسِيرٌ (44)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً العامل في «يوم»
المصير أي وإلينا مصيرهم يوم تتشقّق وتَشَقَّقُ أدغمت التاء في
الشين، ومن قال: تشقّق حذف التاء، سِراعاً على الحال، قيل: من
الهاء والميم، وقيل لا يجوز الحال من الهاء والميم لأنه لا
عامل فيها، ولكن التقدير فيخرجون سراعا ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا
يَسِيرٌ أي سهل.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 129.
(4/155)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
[سورة ق (50) : آية 45]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي من الافتراء والتكذيب
بالبعث وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلّط. قال
الفراء: جعل جبّار في موضع سلطان، ومن قال بجبّار معناه لست
تجبرهم على ما تريد فمخطئ لأن فعّالا لا يكون من أفعل، وإن كان
الفراء «1» قد حكى أنه يقال: درّاك من أدرك فهذا شاذّ لا يعرف،
وحكى أيضا جبرت الرجل، وهذا من الشذوذ، وإن كان بعض الفقهاء
مولعا بجبرت. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي
وعيدي لمن عصاني وخالف أمري.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 81.
(4/156)
وَالذَّارِيَاتِ
ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ
يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8)
51 شرح إعراب سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الذاريات (51) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1)
وَالذَّارِياتِ خفض بواو القسم والواو بدل من الباء. ذَرْواً
مصدر، والتقدير والرّياح الذاريات. يقال: ذرت الريح الشيء: إذا
فرّقته فهي ذارية وأذرت، فهي مذريّة.
[سورة الذاريات (51) : آية 2]
فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2)
فَالْحامِلاتِ عطف على الذّاريات، والتقدير: فالسحاب الحاملات
المطر هذا التفسير صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل
الحاملات السفن، وقيل الرياح لأنها تحمل السحاب وِقْراً كلّ ما
حمل على الظهر فهو وقر.
[سورة الذاريات (51) : آية 3]
فَالْجارِياتِ يُسْراً (3)
فَالْجارِياتِ عطف أي فالسفن الجاريات. يُسْراً نعت لمصدر أي
جريا يسرا.
[سورة الذاريات (51) : آية 4]
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
فَالْمُقَسِّماتِ عطف أيضا أي فالملئكة المقسّمات ما أمروا به
أمرا.
[سورة الذاريات (51) : آية 5]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5)
أي من الحساب والثواب والعقاب. وهذا جواب القسم.
[سورة الذاريات (51) : آية 6]
وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)
عطف. قال ابن زيد: «لواقع» لكائن.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 7 الى 8]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ (8)
وَالسَّماءِ خفض بالقسم. وقيل التقدير: وربّ السّماء، وكذا
لكلّ ما تقدّم ذاتِ
(4/157)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ
(12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
الْحُبُكِ
«1» نعت. قال الأخفش: الواحد حباك. وقال الكسائي والفراء «2» :
حباك وحبيكة. وجواب القسم إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ
(8) قال قتادة: في معنى مختلف منكم مصدّق بالقرآن ومكذب به.
وقال ابن زيد: يقول بعضهم: هذا سحر، ويقول بعضهم:
شيئا أخر قولا مختلفا ففي أي شيء الحقّ.
[سورة الذاريات (51) : آية 9]
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قال «3» الحسن يصرف عن الإيمان والقرآن من صرف، وقيل: يصرف عن
القول أي من أجله لأنهم كانوا يتلقّون الرجل إذا أراد الإيمان
فيقولون له: سحر وكهانة فيصرف عن الإيمان.
[سورة الذاريات (51) : آية 10]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله جلّ وعزّ قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (10) قال:
يقول: لعن المرتابون، وقال ابن زيد: يخترصون الكذب يقولون:
شاعر وساحر وجاء بسحر، وكاهن وكهانة وأساطير الأولين اكتتبها
فهي تملى عليه بكرة وأصيلا فيخترصون الكذب.
[سورة الذاريات (51) : آية 11]
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11)
الَّذِينَ في موضع رفع نعت للخراصين، وهي مبتدأ، وساهُونَ خبره
والجملة في الصلة وفي غير القرآن يجوز نصب ساهين على الحال.
وفِي غَمْرَةٍ أي في تغطية الباطل والجهل: ومنه: فلان غمر وماء
غمر يغطّي من دخله، ومنه الغمرة. قال ابن زيد: ساهون عن ما
أنزله الله وعن أمره ونهيه.
[سورة الذاريات (51) : آية 12]
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
عن ابن عباس: يقولون: متى يوم الحساب. وقرأ أبو عبد الرحمن
السلمي إيان «4» بكسر الهمزة وهي لغة.
[سورة الذاريات (51) : آية 13]
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
اختلف النحويون في نصب «يوم» فقال أبو إسحاق: موضعه نصب،
والمعنى يقع الجزاء يوم هم على النار يفتنون، والنحويون غيره
يقولون: يوم في موضع رفع على
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 133.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 82.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 134.
(4) انظر مختصر ابن خالويه 145.
(4/158)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا
آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ
مُحْسِنِينَ (16)
البدل من قوله: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ
وتكلّموا في نصبه فقال الفراء «1» : لأنه أضيف إلى شيئين،
وأجاز الرفع فيه على أصله. وقال غيره: لأنها إضافة غير محضة.
ومذهب الخليل وسيبويه أنّ ظروف الزمان غير متمكنة فإذا أضيف
إلى غير معرب أو إلى جملة مثل هذه بنيت على الفتح، وأجازا: مضى
يوم قام، وأنشد النحويون وأصحاب الغريب لامرئ القيس: [الطويل]
434-
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
«2» بنصب «يوم» وموضعه رفع على من روى «ولا سيّما يوم» «3»
وخفض على من روى «ولا سيّما يوم» . قال أبو جعفر: ولا نعلم
أحدا رفعه ولا خفضه، والقياس يوجب إجازة هذين. روى ابن أبي
طلحة عن ابن عباس يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
قال: يعذّبون. وقال محمد بن يزيد: هو من قولهم: فتنت الذهب
والفضة إذا أحرقتهما لتختبرهما وتخلصهما. وقال بعض المتأخرين:
لما كانت الفتنة في اللغة هي الاختبار لم تخرج عن بابها
والمعنى عليها صحيح، والتقدير: يوم هم على النار يختبرون
فيقال: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] .
[سورة الذاريات (51) : آية 14]
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ (14)
الذين هم قال مجاهد وعكرمة وقتادة: أي عذابكم هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ مبتدأ وخبر لأنهم كانوا
يستعجلون في الدنيا بالعذاب تهزّؤا وإنكارا.
[سورة الذاريات (51) : آية 15]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)
أي إن الذين اتقوا الله تعالى بترك معاصيه وأداء طاعته في
بساتين وأنهار فكذا المتّقي إذا كان مطلقا، فإن كان متقيا
للسّرق غير متّق للزنا لم يقل له متّق، ولكن يقال له: متّق
للسّرق فكذا هذا الباب كلّه.
[سورة الذاريات (51) : آية 16]
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُحْسِنِينَ (16)
آخِذِينَ نصب على الحال، ويجوز رفعه في غير القرآن على خبر
«إن» . فأما معنى ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ ففيه قولان: أحدهما في
الجنّة، والآخر أنّهم عاملون في الدنيا بطاعة الله سبحانه وبما
افترضه عليهم فهم آخذون به غير متجاوزين له كما روي عن ابن
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 83.
(2) مرّ الشاهد رقم (214) .
(3) إشارة إلى قول امرئ القيس في معلقته:
«ولا سيّما بدارة جلجل»
(4/159)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ
(20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
عباس في قوله جلّ وعزّ: آخِذِينَ ما
آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال: الفرائض، وعنه إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ
ذلِكَ مُحْسِنِينَ قال: قبل أن يفرض عليهم الفرائض.
[سورة الذاريات (51) : آية 17]
كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17)
تكون «ما» زائدة للتوكيد، ويكون المعنى كانوا يهجعون قليلا أي
هجوعا قليلا ويجوز أن يكون «ما» مع الفعل مصدرا ويكون «ما» في
موضع رفع وينصب «قليلا» على أنه خبر «كان» أي كانوا قليلا من
الليل هجوعهم قال محمد بن يزيد: إن جعلت «ما» اسما رفعت
«قليلا» . وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يهجعون ينامون.
[سورة الذاريات (51) : آية 18]
وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
تأوله جماعة على معنى يصلّون لأن الصلاة مسألة استغفار، وتأوله
بعضهم على أنهم يصلون من أول الليل ويستغفرون اخره واستحبّ هذا
لأن الله سبحانه أنثى عليهم به. وقال عبد الرحمن بن زيد:
السّحر: السدس الآخر من الليل.
[سورة الذاريات (51) : آية 19]
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
حَقٌّ رفع بالابتداء لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ قال أبو جعفر:
وقد ذكرنا أقوال جماعة من العلماء في المحروم ثمّ. وحدثنا
الزهري محمد بن مسلم أنّه قال: المحروم الذي لا يسأل، وأكثر
الصحابة على أنه المحارف. وليس هذا بمتناقض، لأن المحروم في
اللغة الممنوع من الشيء فهو مشتمل على كل ما قيل فيه.
[سورة الذاريات (51) : آية 20]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)
أي عبر وعظات للموقنين تدلّ على بارئها ووحدانيته.
[سورة الذاريات (51) : آية 21]
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ قال ابن زيد: وفي خلقه إياكم، قال: وفيها
أيضا آيات للسان والعين والكلام، والقلب فيه العقل هل يدري أحد
ما العقل وما كيفيته؟ ففي ذلك كلّه آيات أَفَلا تُبْصِرُونَ أي
أفلا تتفكّرون فتستدلّوا على عظمة الله جلّ وعزّ وقدرته.
[سورة الذاريات (51) : آية 22]
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ رفع بالابتداء. واختلف أهل التأويل
في معنى قوله: رِزْقُكُمْ وفي الرزق ما هو هل هو الحلال
والحرام أم الحلال خاصة؟ فقال الضحاك: وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ
أي المطر، وقال سعيد بن جبير: الثلج وكلّ عين ذائبة، وتأويل
ذلك واصل
(4/160)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ
(23)
الأحدب على أن المعنى: ومن عند الله الذي
في السّماء صاحب رزقكم. وقال قول:
كلّ ما كسبه الإنسان سمّي رزقا. وقال قوم: لا يقال رزقه الله
جلّ وعزّ إلا كما كان حلالا، واستدلوا على هذا في القرآن فقال
الله عزّ وجلّ: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [المنافقون:
10] ولا يأمر بالنفقة إلّا من الحلال. واختلف أهل التأويل في
وَما تُوعَدُونَ فقال الضحاك: الجنّة والنار، وقال غيره:
توعدون من وعد، ووعد إنما يكون للخير فما توعدون للخير فأما في
الشّرّ فيقال: أوعد، وقال آخرون: هو من أوعد لأن توعدون في
العربية يجوز أن يكون من أوعد ومن وعد. والأحسن فيه ما قال
مجاهد، قال: ما توعدون من خير وشرّ لأن الآية عامة فلا يخصّ
بها شيء إلا بدليل قاطع.
[سورة الذاريات (51) : آية 23]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما
أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ خفض على القسم. إِنَّهُ
لَحَقٌّ أي إن قولنا. وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ (22) لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ برفع
«مثل» قراءة الكوفيين وابن أبي إسحاق «1» على النعت لحق، وقرأ
المدنيون وأبو عمرو مثل ما بالنصب. وفي نصبه أقوال أصحّها ما
قال سيبويه أنه مبني لما أضيف إلى غير متمكّن فبني ونظيره
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] . وقال الكسائي: «مثل ما»
منصوب على القطع، وقال بعض البصريين هو منصوب على أنه حال من
نكرة، وأجاز الفراء «2» أن يكون التقدير حقّا مثل ما، وأجاز أن
يكون «مثل» منصوبة بمعنى كمثل ثم حذف الكاف ونصب، وأجاز: زيد
مثلك، ومثل من أنت؟ ينصب «مثل» على المعنى على معنى كمثل فألزم
على هذا أن يقول: عبد الله الأسد شدّة، بمعنى كالأسد فامتنع
منه، وزعم أنه إنما أجازه في مثل لأن الكاف تقوم مقامها،
وأنشد: [الوافر] 435-
وزعت بكالهراوة اعوجّي ... إذا ونت الرّكاب جرى وثابا
«3» قال أبو جعفر: وهذه أقوال مختلفة إلّا قول سيبويه. وفي
الآية سؤال أيضا وهو أن يقال: جمع ما بين «ما» و «إنّ»
ومعناهما واحد. قال أبو جعفر: ففي هذا جوابان للنحويين
الكوفيين أحدهما أنه لما اختلف اللفظان جاز ذلك كما قال:
[الوافر] 436-
فما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
«4»
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 85.
(3) الشاهد لابن غادية السلميّ في الاقتضاب ص 429، وبلا نسبة
في أدب الكاتب 505، وجمهرة اللغة 1318، ورصف المباني 196، وسرّ
صناعة الإعراب 286، ولسان العرب (ثوب) و (وثب) والمقرّب 1/
196، والمخصص 14/ 86.
(4) الشاهد لفروة بن مسيك في الأزهيّة 51، والجنى الداني 327،
وخزانة الأدب 4/ 112، والدرر 2/ 100، وشرح أبيات سيبويه 2/
106، وشرح شواهد المغني 1/ 81، ولسان العرب (طبب) ، ومعجم ما
استعجم 650، والكميت في شرح المفصل 8/ 129، وللكميت أو لفروة
في تلخيص الشواهد ص 278، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 207،
وخزانة الأدب 11/ 141، والخصائص 3/ 108، ورصف المباني 110،
وشرح المفصل 5/ 120، والمحتسب 1/ 92، والمقتضب 1/ 51، والمنصف
3/ 128، وهمع الهوامع 1/ 123.
(4/161)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ
(25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
فجمع ما بين «ما» و «إن» ومعناهما واحد.
قال الله جلّ وعزّ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ [فاطر: 40]
بمعنى ما يعد الظالمون. والجواب الآخر أنّ زيادة «ما» تفيد
معنى لأنه لو لم تدخل «ما» كان المعنى أنه لحقّ لا كذب فإذا
جئت بما صار المعنى أنه لحقّ، مثل ما إنّ الآدميّ ناطق، كما
تقول: الحقّ نطقك، بمعنى أحقّ أم كذب؟
وتقول: أحقّ إنّك تنطق؟ فتفيد معنى آخر.
[سورة الذاريات (51) : آية 24]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)
ولم يقل أضياف لأنّ ضيفا مصدر، وحقيقته في العربية حديث ذوي
ضيف، مثل: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] .
[سورة الذاريات (51) : آية 25]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ (25)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي حين دخلوا. فَقالُوا سَلاماً منصوب
على المصدر، ويجوز أن يكون منصوبا بوقوع الفعل عليه. ويدلّ على
صحّة هذا الجواب أنّ سفيان روى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
فَقالُوا سَلاماً قال سدادا. قالَ سَلامٌ «1» مرفوع بالابتداء،
والخبر محذوف أي سلام عليكم، ويجوز أن يكون مرفوعا على خبر
الابتداء والابتداء محذوف أي أمري سلام، وقرأ حمزة والكسائي
قالَ سَلامٌ «2» وفيه تقديران: أحدهما أن يكون سلام وسلّم
بمعنى واحد مثل حلّ وحلال، ويجوز أن يكون التقدير نحن سلم.
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ على إضمار مبتدأ وإنما أنكرهم فيما قبل
لأنه لم يعرف في الأضياف مثلهم.
[سورة الذاريات (51) : آية 26]
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي رجع، وحقيقته رجع في خفية. فَجاءَ
بِعِجْلٍ سَمِينٍ التقدير:
فجاء أضيافه ثم حذف المفعول.
[سورة الذاريات (51) : آية 27]
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27)
الفاء تدلّ على أنّ الثاني يلي الأول و «ألا» تنبيه.
[سورة الذاريات (51) : آية 28]
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي ستر ذلك وأضمره قالُوا لا
تَخَفْ حذفت الضمة للجزم
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 137. [.....]
(2) انظر البحر المحيط 8/ 137.
(4/162)
فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ
هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (35)
والألف لالتقاء الساكنين وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي يكون عالما وحكى الكوفيون أنّ عليما إذا
كان للمستقبل قيل عالم، وكذا نظائره يقال: ما هو كريم وإنه
لكارم غدا، وما مات وإنه لمائت وهذا وإن كان يقال فالقرآن قد
جاء بغيره.
[سورة الذاريات (51) : آية 29]
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها
وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن
عباس قال: في صيحة، وكذا قال مجاهد والضحاك وابن زيد وابن
سابط، وقيل «في صرّة» في جماعة نسوة يتبادرن لينظرن إلى
الملائكة. فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد: ضربت جبهتها تعجبا
وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ زعم بعض العلماء أنّ عجوزا بإضمار
فعل أي أتلد عجوز. قال أبو جعفر: وهذا خطأ لأن حرف الاستفهام
لا يحذف والتقدير على قول أبي إسحاق: قالت أنا عجوز عقيم أي
فكيف ألد.
[سورة الذاريات (51) : آية 30]
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (30)
قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ أي كما قلنا لك، وليس هذا من
عندنا. إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في تدبيره الْعَلِيمُ أي مصالح
خلقه وبما كان وبما هو كائن.
[سورة الذاريات (51) : آية 31]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31)
قال إبراهيم لضيفه ما شأنكم يا أيها، وحذفت يا، كما يقال: زيد
أقبل و «أي» نداء مفرد، وهو اسم تام، والْمُرْسَلُونَ من
نعمته.
[سورة الذاريات (51) : آية 32]
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
أي قد أجرموا بالكفر، ويقال: جرموا، إلّا أنّ أجرموا بالألف
أكثر.
[سورة الذاريات (51) : آية 33]
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)
أي لنمطر عليهم.
[سورة الذاريات (51) : آية 34]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
مُسَوَّمَةً في معناه قولان: أهل التأويل على أنّ معناه
معلّمة. قال ابن عباس: يكون الحجر أبيض وفيه نقطة سوداء ويكون
الحجر أسود وفيه نقطة بيضاء. والقول الآخر أن يكون معنى مسومة
مرسلة من سوّمت الإبل لِلْمُسْرِفِينَ أي للمتعدين لأمر الله
جلّ وعزّ.
[سورة الذاريات (51) : آية 35]
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) كناية
عن القرية، ولم يتقدّم لها ذكر لأنه قد عرف المعنى، ويجوز أن
يكون كناية عن الجماعة.
(4/163)
فَمَا وَجَدْنَا
فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا
فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ
(37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ
بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ
سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
[سورة الذاريات (51) : آية 36]
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
قال مجاهد لوط صلّى الله عليه وسلّم وابنتاه لا غير.
[سورة الذاريات (51) : آية 37]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ
الْأَلِيمَ (37)
قول الفراء «1» إنّ «في» زائدة. والمعنى ولقد تركناها آية
ومثله عنده لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ
لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] وهذا المتناول البعيد مستغنى عنه قال
أبو إسحاق ولقد تركنا في مدينة قوم لوط عليه السلام آية
للخائفين.
[سورة الذاريات (51) : آية 38]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ (38)
وَفِي مُوسى أي وفي موسى آية واعتبار إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى
فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة بيّنة يتبين من رآها أنّها
من عند الله سبحانه. قال قتادة: بسلطان مبين أي بعذر مبين.
[سورة الذاريات (51) : آية 39]
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
فَتَوَلَّى فأعرض عن ذكر الله وأدبر بِرُكْنِهِ فيه قولان قال
أهل التأويل: المعنى بقومه قال ذلك مجاهد وقتادة، وقال ابن
زيد: بجماعته. والقول الآخر حكاه الفراء «2» (بركنه) بنفسه،
قال وحقيقة ركنه في اللغة بجانبه الذي يتقوى به وَقالَ ساحِرٌ
أَوْ مَجْنُونٌ على إضمار مبتدأ. وأبو عبيدة «3» يذهب إلى أن
«أو» بمعنى الواو، قال: وهذا تأويل عند النحويين الحذّاق خطأ
وعكس المعاني، وهو مستغنى عنه ولأو معناها، وقد أنشد أبو عبيدة
لجرير: [الوافر] 437-
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا
«4» فهذا أيضا على ذاك محمول.
[سورة الذاريات (51) : آية 40]
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ
مُلِيمٌ (40)
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
عطف على الهاء. نَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
أي فألقيناهم في البحر.
هُوَ مُلِيمٌ
والأصل مليم ألقيت حركة الياء على اللام اتباعا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 87.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 87.
(3) انظر مجاز القرآن 2/ 227.
(4) الشاهد لجرير في ديوانه 814، والكتاب 1/ 156، والأزهيّة
214، وأمالي المرتضى 2/ 57، وجمهرة اللغة 290، وخزانة الأدب
11/ 69، وشرح أبيات سيبويه 1/ 288، وشرح التصريح 1/ 300، ولسان
العرب (خشب) ، و (طها) والمقاصد النحوية 2/ 533، وبلا نسبة في
الرد على النحاة 105، وشرح الأشموني 1/ 190.
(4/164)
وَفِي عَادٍ إِذْ
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ
مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
(42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى
حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ
قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
[سورة الذاريات (51) : آية 41]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
(41)
أي وفي عاد آية والمعنى معقومه فلذلك حذفت الهاء.
[سورة الذاريات (51) : آية 42]
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ (42)
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ حذفت الواو من تذر
لأنها بمعنى تدع، وحذفت من يدع لأن الأصل فيها يودع فوقعت بين
ياء وكسرة فحذفت إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ قال الفراء
«1» : الرميم النّبت إذا يبس وديس. وقال محمد بن يزيد: أصل
الرميم العظم البالي المتقادم، ويقال له: رمّة.
[سورة الذاريات (51) : آية 43]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ
(43)
وَفِي ثَمُودَ أي آية إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى
حِينٍ زعم الفراء أن الحين هاهنا ثلاثة أيام، وذهب إلى هذا
لأنه قيل لهم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
[سورة الذاريات (51) : آية 44]
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ
وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي غلوا وتركوا أمر ربّهم
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ويروى عن عمر بن الخطاب رحمه الله
أنه قرأ فأخذتهم الصاعقة «2» وإسناده ضعيف لأنه لا يعرف إلا من
حديث السّدّي ويدلّك على أن الصاعقة أولى قوله جلّ وعزّ
وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرعد: 13] فهذا جمع صاعقة. وجمع صعقة
صعقات وصعاق. وَهُمْ يَنْظُرُونَ قيل: المعنى: ينتظرون ذلك
لأنهم كانوا ينتظرون العذاب لمّا تغيّرت ألوانهم في الأيام
الثلاثة.
[سورة الذاريات (51) : آية 45]
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي نهوض بالعقوبة. قال الفراء:
مِنْ قِيامٍ أي ما قاموا بها وأجاز في الكلام من إقامة كأنه
تأوله بمعنى ما استطاعوا أن يقوموا بها. وزعم أن مِنْ قِيامٍ
مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17]
وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ما كانوا يقدرون على أن يستفيدوا
ممن عاقبهم. وقال قتادة في معنى وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ وما
كانت لهم قوة يمتنعون بها من العقوبة.
[سورة الذاريات (51) : آية 46]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً
فاسِقِينَ (46)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ قراءة أهل المدينة وعاصم، وقرأ أبو
عمرو والأعمش وحمزة
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 88.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 139.
(4/165)
وَالسَّمَاءَ
بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ
فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
والكسائي وقوم نوح «1» بالخفض معطوفا على
وفي ثمود، والمعنى في الخفض وفي قوم نوح آية وعبرة. والنصب من
غير جهة فللفراء «2» فيه قولان، وبعدهما ثالث عنه أيضا وهما أن
يكون التقدير فأخذتهم الصاعقة وأخذت قوم نوح، والتقدير الثاني
أن يكون التقدير: وأهلكنا قوم نوح، والثالث الذي بعدهما أن
يكون التقدير واذكروا قوم نوح. قال أبو جعفر: ورأيت أبا إسحاق
قد أخرج قوله هذا الثالث وفيه من كلامه، وليس هذا بأبغض إليّ
من الجوابين، وهو يتعجّب من هذا ويقول: دلّ بهذا الكلام على أن
الأجوبة الثلاثة بغيضة إليه. قال: وفي هذه الآية قول رابع حسن
يكون وقوم نوح معطوفا على أَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
لأن معناه فأغرقناهم وأغرقنا قوم نوح. فأمّا القراءة بالنصب
فهي البيّنة عند النحويين سوى من ذكرنا ممن قرأ بغيرها، فاحتجّ
أبو عبيد للنصب بأن قبله فيما كان مخفوضا من القصص كلها بيان
ما نزل بهم نحو وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ
الرِّيحَ الْعَقِيمَ وليس هذا في قوم نوح فدلّ هذا على أنه ليس
معطوفا على الخفض لأنه مخالف له. قال: فكيف يكون وفي قوم نوح
ولا يذكر ما نزل بهم، وقال غيره: أيضا العرب إذا تباعد ما بين
المخفوض وما بعده لم يعطفوه عليه ونصبوه قال الله جلّ وعزّ:
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ [هود: 60] ولا نعلم أحدا خفض، وقال جلّ وعزّ:
فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ
[هود: 71] فرفع أكثر القراء ولم يعطفوه على ما قبله وحجة ثالثة
ذكرها سيبويه وهو أن المعطوف إلى ما هو أقرب إليه أولى وحكي:
خشنت بصدره وصدر زيد، وأن الخفض أولى لقربه فكذا هذا فأخذتهم
الصاعقة وأخذت قوم نوح أقرب من أن تردّه إلى ثمود إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ نعت لقوم أي خارجين عن الطاعة.
[سورة الذاريات (51) : آية 47]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
وَالسَّماءَ نصب بإضمار فعل أي وبنينا السماء. بَنَيْناها
بِأَيْدٍ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (بأيد) بقوة.
[سورة الذاريات (51) : آية 48]
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48)
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها بإضمار أيضا. فَنِعْمَ الْماهِدُونَ
رفع بنعم. والمعنى: فنعم الماهدون نحن ثم حذف.
__________
(1) انظر تيسير الداني 165، وكتاب السبعة لابن مجاهد 609.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 88.
(4/166)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
(53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
[سورة الذاريات (51) : آية 49]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (49)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ قيل: التقدير ومن كلّ
شيء خلقنا خلقنا زوجين. قال مجاهد: في الزوجين: الشقاء
والسعادة والهدى والضلالة والإيمان والكفر. وقال ابن زيد:
الزوجان: الذكر والأنثى. وجمعهما الفراء «1» فقال: الزوجان
والحيوان الذكر والأنثى ومن غيرهم الحلو والحامض وما أشبه ذلك.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فتعتبرون وتعلمون أنّ العبادة لا
تصلح إلا لمن خلق هذه الأشياء.
[سورة الذاريات (51) : آية 50]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(50)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي إلى طاعته ورحمته من معصيته وعقابه
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي مخوف عقابه من عصاه.
[سورة الذاريات (51) : آية 51]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي معبودا آخر إذا
كانت العبادة لا تصلح إلّا له إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
مُبِينٌ أي أخوف من عبد غيره عذابه وجاء إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ مرتين، وليس بتكرير لأنه خوّف في الثاني من
عبد غير الله جلّ وعزّ وفي الأول من لم يفرّ إلى طاعة الله
ورحمته فهذا قد يكون للموحدين.
[سورة الذاريات (51) : آية 52]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ
إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
تكون الكاف في موضع رفع أي الأمر كذلك، ويجوز أن يكون في موضع
نصب بمعنى كذلك فعل الذين من قبل قريش ما أتاهم من رسول إلّا
قالوا له هذا.
[سورة الذاريات (51) : آية 53]
أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53)
أَتَواصَوْا بِهِ أي هل أوصى بعضهم بعضا بهذا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ المعنى: لم يتواصوا به بل هم قوم طغوا واعتدوا فخالفوا
أمر الله جلّ وعزّ ونهيه.
[سورة الذاريات (51) : آية 54]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ قال مجاهد: أي أعرض والتقدير: أعرض عنهم
حتّى يأتيك أمرنا فيهم فأتاه الأمر بقتالهم. فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ أي لا تلحقك لائمة من ربّك جلّ وعزّ في تفريط كان
منك في إنذارهم فقد أنذرتهم وبلّغتهم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 89.
(4/167)
وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
(58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
[سورة الذاريات (51) : آية 55]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
وَذَكِّرْ أي عظهم. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
ويجوز ينفع لأن الذكرى والذكر واحد.
[سورة الذاريات (51) : آية 56]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
قيل: يراد هاهنا المؤمنون خاصة. واحتجّ صاحب هذا القول بأنه
يلي المؤمنين فأن يكون الضمير يليهم أولى. ومعنى هذا يروى عن
زيد بن أسلم قال: وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث، وقال القتبي:
هو مخصوص فهذا هو ذلك القول إلا أن العبارة عنه ليست بحسنة.
وقيل في الآية: ما روي عن ابن عباس أن العبادة هنا الخضوع
والانقياد، وليس مسلم ولا كافر إلا وهو خاضع لله جلّ وعزّ
منقاد لأمره طائعا أو كارها فيما جبله عليه من الصحّة والسقم
والحسن والقبح والضيق والسعة.
[سورة الذاريات (51) : آية 57]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ
يُطْعِمُونِ (57)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «ما» في موضع نصب و «من»
زائدة للتوكيد. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ حذفت النون
علامة النصب، وحذفت الياء لأن الكسرة دالة عليها، وهو رأس آية
فحسن الحذف.
[سورة الذاريات (51) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
(58)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أي الرّزاق خلقه المتكفل
بأقواتهم. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بالرفع قرأ به من تقوم
بقراءته الحجّة على أنه نعت للرزاق ولذي القوة أو على أنه خبر
بعد خبر أو على إضمار مبتدأ أو نعت لاسم «إنّ» على الموضع.
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس الْمَتِينُ الشديد. وقرأ يحيى
بن وثاب والأعمش ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «1» بالخفض على
النعت للقوة. وزعم أبو حاتم أن الخفض على قرب الجوار. قال أبو
جعفر والجوار لا يقع في القرآن ولا في كلام فصيح، وهو عند
رؤساء النحويين غلط ممن قاله من العرب. ولكن القول في قراءة من
خفض أنه تأنيث غير حقيقي. والتقدير فيه عند أبي إسحاق: ذو
الاقتدار المتين لأن الاقتدار والقوة واحد، وعند غيره بمعنى ذو
الإبرام المتين.
[سورة الذاريات (51) : آية 59]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 141، ومعاني الفراء 3/ 90.
(4/168)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً اسم
«إنّ» . مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ نعت. فَلا
يَسْتَعْجِلُونِ أي به.
[سورة الذاريات (51) : آية 60]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ (60)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا رفع بالابتداء، ويجوز النصب أي
ألزمهم الله ويلا. مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي
يوعدون فيه بنزول العذاب ...
(4/169)
|