إعراب القرآن للنحاس إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
48 شرح إعراب سورة الفتح
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (48) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
الأصل إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات. والنون والألف في
«إنّا» في موضع نصب، وفي «فتحنا» في موضع رفع وعلامات المضمر
تتّفق كثيرا إذا كانت متصلة، والفتح هاهنا فتح الحديبيّة. وقد
توهّم قوم أنه فتح مكّة ممّن لا علم لهم بالآثار. وقد صحّ عن
ابن عباس والبرآء وسهل بن حنيف أنّهم قالوا: هو فتح الحديبيّة
وهو صحيح عن أنس بن مالك كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن
علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا قتادة عن
أنس بن مالك إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال:
الحديبية. وصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عند
منصرفه من الحديبيّة «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من
الدنيا وما فيها» ثمّ تلا إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً
مُبِيناً (1) «1» الآية فإن قيل:
لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحب الدنيا، فكيف قال في
هذا الفضل العظيم الخطير أحبّ إليّ من الدنيا؟ وإنما تقول
العرب: هذا في الشيء الجليل فيقولون: هو أسخى من حاتم طيّئ،
والدنيا لا مقدار لها. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
حين مرّ بشاة ميّتة «والله للدّنيا أهون على الله جلّ وعزّ من
هذه على أهلها» «2» ففي ذلك غير جواب منها أنّ المعنى لقد
أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها لو كانت لي
فأنفقتها في سبيل الله جلّ وعزّ. وقيل: خوطبوا بما يعرفون
«فتحا» مصدر «مبينا» من نعته.
[سورة الفتح (48) : آية 2]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (2)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ لام كي، والمعنى لأن. قال مجاهد ما
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قبل النّبوة. وَما تَأَخَّرَ بعد
النبوة، وقال الشعبي مثله إلّا أنه قال: إلى أن مات. وَيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، الجهاد ب 34 رقم 97، والقرطبي في
تفسيره 16/ 259.
(2) أخرجه الترمذي في سننه- الزهد 9/ 198، وابن ماجة في سننه
رقم الحديث (4110) .
(4/129)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ
نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ
فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
عطف قيل: يتم نعمته عليه في الدنيا بالنصر
وفي الآخرة بالثواب وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً قيل:
طريق الجنة. قال محمد بن يزيد: الصراط المنهاج الواضح. قال أبو
جعفر: التقدير: إلى صراط ثم حذفت إلى.
[سورة الفتح (48) : آية 3]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ عطف. نَصْراً عَزِيزاً مصدر «عزيزا» من
نعته.
[سورة الفتح (48) : آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً (4)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
السكينة الرحمة، قال محمد بن يزيد: السكينة فعيلة من السكون،
ومن السكينة الحلم والوقار وترك ما لا يعني. وروى مالك بن أنس
عن الزهري عن علي بن الحسين وبعضهم يقول عن الحسين رضي الله
عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه» «1» ، ومن الرحمة الحديث أنّ النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم قبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له
الأقرع بن حابس: إنّ لي لعشرة أولاد ما قبّلت واحدا منهم قطّ
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من لا يرحم لا يرحم» «2» .
وفي بعض الحديث «أرأيت إن كان الله سبحانه قلع الرحمة من قلبك
فما ذنبي» «3» . وفي ابن أبي طلحة عن ابن عباس لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله ثم زاد الصلاة ثمّ زاد الصيام
ثم أكمل لهم دينهم.
[سورة الفتح (48) : الآيات 5 الى 6]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ
عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً
عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ
ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَساءَتْ مَصِيراً (6)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مفعولان خالِدِينَ على الحال
وَيُكَفِّرَ عطف، كذا وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ
الظَّانِّينَ نعت.
وقرأ مجاهد وأبو عمرو دائرة السوء «4» بضم السين، وفتح السين،
وإن كانت القراءة به أكثر فإنّ ضمّها فيما زعم الفراء في هذا
أكثر. والسّوء اسم الفعل، والسّوء الشيء بعينه.
__________
(1) أخرجه مالك في الموطّأ- الحديث (3) ، والترمذي في سننه-
الزهد 9/ 196.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 170.
(4) انظر تيسير الداني 163، ومعاني الفراء 3/ 65. [.....]
(4/130)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ
إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ
الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا
فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ
نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
[سورة الفتح (48) : آية 8]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)
حال مقدّرة.
[سورة الفتح (48) : آية 9]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا «1» مردودة على هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ليؤمنوا.
والقراءة بالتاء على معنى قل لهم، وقيل إنّ المخاطبة للنبيّ
صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، وَتُعَزِّرُوهُ على
التكثير، ويقال عزره يعزره. قال الحسن والضحاك:
«وتعزّروه» أي تنصروه وتعظّموه. وَتُسَبِّحُوهُ أي تسبّحوا
الله عزّ وجلّ. وقال قتادة:
«تعزّروه» تعظّموه وَتُوَقِّرُوهُ تسوّدوه وتشرّفوه، وتأوّله
محمد بن يزيد على أنه للمبالغة قال: ومنه عزّر السلطان الإنسان
أي بالغ في أدبه فيما دون الحدّ. قال أبو جعفر:
ورأيت علي بن سليمان يتأوّله بمعنى المنع، قال: فعزّرت الرجل
الجليل منعت منه ونصرته، وعزّرت الرجل ضربته دون الحدّ.
واشتقاقه منعته من أن يعود إلى ما ضربته من أجله.
[سورة الفتح (48) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ اسم «إنّ» ويجوز أن يكون الخبر
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ويجوز أن يكون الخبر يَدُ اللَّهِ
فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقرأ ابن أبي إسحاق وَمَنْ أَوْفى بِما
عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ «2» جاء به على الأصل ويجوز فسنؤتيه
أجرا عظيما كالأول، فسنؤتيه بإثبات الواو في الإدراج، ويجوز
فسنؤتيهي بإثبات الياء في الإدراج تبدل من الواو ياء. حكى هذا
كلّه سيبويه وغيره.
[سورة الفتح (48) : آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا
أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ
يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ
ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ويجوز إدغام
اللام وإن كان فيه جمع بين ساكنين لأن الأول منهما حرف مدّ
ولين، ولا يجوز الإدغام في فَاسْتَغْفِرْ لَنا عند الخليل
وسيبويه لأن في الراء تكريرا فإن أدغمتها في اللام ذهب
التكرير. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ جمع على أنّ اللسان
مذكّر ومن أنّثه قال: ألسن. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا هذه قراءة أكثر
القراء، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
__________
(1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 603.
(2) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد 603.
(4/131)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ
لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا
أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى
مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ
أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ
تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا
(15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ
إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا
حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
ضرا»
ففرّق بينهما جماعة من أصحاب الغريب منهم أبو عبيد فقال:
الضّرّ: ضدّ النفع والضرّ: البؤس كما قال: أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ [الأنبياء: 83] فعلى هذا يجب أن يكون الضرّ هنا أولى
ولكن حكى النحويّون أنّ ضرّه ضرّا وضرّا جائز مثل شرب شربا
وشربا.
[سورة الفتح (48) : الآيات 12 الى 14]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ
فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ
قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً (14)
وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يقال: إنّ البور في لغة أزد عمان
الفاسد، وحكى الفراء: أن البور في كلام العرب لا شيء، وأنه
يقال: أصبحت أعمالهم بورا أي لا شيء.
[سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 16]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ
قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ
فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ
عَذاباً أَلِيماً (16)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة
والكسائي كلم الله «2» جمع كلمة، وقول سيبويه «هذا باب علم ما
الكلم من العربيّة» يريد به جمع كلمة يريد ثلاثة أنحاء من
الكلام اسما وفعلا وحرفا. والكلام اسم للجنس، وقد أجاز بعض
النحويين أن يكون الكلام بمعنى التكليم، وأجاز: سمعت كلام زيد
عمرا. قال أبو جعفر: وحقيقة الفرق بين الكلام والتكليم أن
الكلام قد يسمع بغير متكلّم به، والتكليم لا يسمع إلّا من
متكلّم به. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ
مِنْ قَبْلُ وهو قوله جلّ وعزّ: وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا [التوبة: 83] ثم قال جلّ ثناؤه بعد هذا قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يقال: كيف تدعون إلى القتال، وقد قال
وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا وردّ عليهم قولهم ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ؟ فالجواب عن هذا أنه إنما قال: لَنْ تُقاتِلُوا
مَعِيَ عَدُوًّا وهؤلاء لم يدعوا في وقت النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم يدلك على ذلك أنّ بعده. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ويعضد هذا الجواب جماعة الحجّة أن
أبا بكر وعمر رحمهما الله هما اللذان دعيا الأعراب إلى القتال،
كما قال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: إلى بني حنيفة أصحاب مسيلمة، قال:
ويقال إلى فارس
__________
(1) انظر تيسير الداني 163، وكتاب السبعة لابن مجاهد 604.
(2) انظر تيسير الداني 163.
(4/132)
لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ
كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ
أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
والروم. قال مجاهد وعطية العوفي: إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: فارس. قال أبو جعفر: فكانت
في هذه الآية دلالة على إمامة أبي بكر وعمر وفضلهما رضي الله
عنهما وأنهما أخذا الإمامة باستحقاق لقول الله جلّ وعزّ فَإِنْ
تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً ولا يجوز أن
يعطى الله جلّ وعزّ أجرا حسنا إلّا لمن قاتل على حقّ مع إمام
عادل. قال الكسائي: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على
النسق. وقال أبو إسحاق: «أو يسلمون» مستأنف، والمعنى أو هم
يسلمون. قال الكسائي: وفي قراءة أبيّ بن كعب أو يسلموا «1»
بمعنى حتّى يسلموا، والبصريون يقولون: بمعنى إلى أن كما قال:
[الطويل] 428-
أو نموت فنعذرا
«2»
[سورة الفتح (48) : آية 17]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً
(17)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أصل الحرج في اللغة الضيق. وعن
ابن عباس: أن هذا في الجهاد، وأنه كان في وقعة الحديبية فيمن
تخلّف عنها.
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ
السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
حَكِيماً (19)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال جابر كنا ألفا وأربع مائة بايعنا على
أن لا نفرّ. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أكثر أهل التفسير
على أنه خيبر كانت لأهل الحديبية، وقيل: هو فتح الحديبية. قال
الزهري: وكان فتحا عظيما.
[سورة الفتح (48) : آية 20]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها
فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً
مُسْتَقِيماً (20)
فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فأهل التفسير على أنها خيبر وَكَفَّ
أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ عن ابن عباس والحسن قال: هو عيينة
بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا
لينصروا أهل خيبر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم محاصر لهم
فألقى في قلوبهم الرعب قال جلّ وعزّ: وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وقيل: المعنى: ولتكون المغانم آية أي دلالة
على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخباره بالغيب.
__________
(1) انظر مختصر ابن خالويه 142، والبحر المحيط 8/ 94.
(2) مرّ الشاهد رقم 148.
(4/133)
وَأُخْرَى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ
اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا
يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ
تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (25)
[سورة الفتح (48) : آية 21]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21)
وَأُخْرى في موضع نصب أي وعدكم أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها
قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي علم أنها ستكون.
[سورة الفتح (48) : آية 22]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ
ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22)
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ
عن ابن عباس والحسن أيضا أنه في عيينة وعوف.
[سورة الفتح (48) : آية 23]
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23)
سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لأن معنى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ سنّ
الله عزّ وجلّ ذلك. قال أبو إسحاق: ويجوز «سنّة الله» بالرفع
أي تلك سنة الله.
[سورة الفتح (48) : الآيات 24 الى 25]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ
مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ
الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ
أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزّ
وجلّ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ولم تنصرف مكة لأنها معرفة اسم للمؤنث
ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون
وأخبر أنّهم كفار فقال: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ معطوف على الكاف
والميم وصدّوا الهدي مَعْكُوفاً على الحال. أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ
وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ
وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «أن»
في موضع رفع بدل والمعنى ولولا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء،
وقيل: لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من أهل مكة
بالوطء، وقيل: المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار
من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال: إنّ على
هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال
الله جلّ وعزّ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشاءُ. فأما معنى فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة
أي عيب فيقال: لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه:
لَوْ تَزَيَّلُوا
(4/134)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ
عَذاباً أَلِيماً
أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل.
[سورة الفتح (48) : آية 26]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ روي عن ابن عباس قال: هم المشركون
صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي أن يبلغ محلّه فأما حقيقة
الحميّة في اللغة فهي الأنفة والإنكار فإن كانت لما يجب فهي
حسنة ويقال فاعلها حامي الذمار، كما قال: [الكامل] 429-
حامي الذّمار على محافظة ... الجليّ أمين مغيّب الصّدر
«1» وإن كانت لما لا يجب فهي ضلال وغلوّ كما قال جلّ وعزّ:
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فأما وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى فللعلماء فيه قولان: روى علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «لا إله إلّا الله»
وهي رأس كلّ تقوى وكذلك يروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وسلمة
بن الأكوع رحمهم الله قالوا: كلمة التقوى «لا إله إلا الله»
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن المسور ومروان وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى قال: يعني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ قال الزهري: لمّا كتب الكتاب بالمقاضاة وأملاه رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم (بسم الله الرحمن الرحيم) أنكروا
ذلك، وقالوا: ما نعرف إلا «باسمك اللهمّ» فأمر النّبي صلّى
الله عليه وسلّم أن يكتب كما قالوا. وهذان القولان ليسا
بمتناقضين، لأن الله جلّ وعزّ قد ألزم المؤمنين التوحيد وبسم
الله الرحمن الرّحيم. وقد كانوا أنكروا في هذا الكتاب «من محمد
رسول الله» وقالوا من محمد عبد الله. وَكانُوا أَحَقَّ بِها
خبر كان أي أحقّ بها من غيرهم لأنهم أصحاب رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم الذين اختارهم الله جلّ وعزّ له.
[سورة الفتح (48) : آية 27]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ
فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ
فَتْحاً قَرِيباً (27)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ثم بيّن
الرؤيا بقوله عزّ وجلّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ
إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وتكلّم العلماء في معنى «إن شاء
الله» هنا لأن الاستثناء لا يكون في البشارة فيكون فيه فائدة
إنما الاستثناء من المخلوقين لأنهم لا يعرفون عواقب الأمور
فقيل الاستثناء من امنين.
وقيل: إنما حكي ما كان من الرؤيا وقيل خوطب الناس بما يعرفون
ومن حسن ما فيه
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 90.
(4/135)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
أن يكون الاستثناء لمن قتل منهم أو مات،
وقد زعم بعض أهل اللغة أنّ المعنى لتدخلنّ المسجد الحرام إن
شاء الله. وزعم أنه مثل قوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] وأنّ مثله: وإنّا إن
شاء الله بكم لاحقون. وهذا قول لا يعرّج عليه، ولا يعرف أحد من
النحويين «إن» بمعنى «إذ» وإنّما تلك «أن» فغلط وبينهما فصل في
اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ نصب على الحال، وهي حال مقدرة. وزعم الفراء «1»
أنه يجوز «محلّقون رؤوسكم ومقصّرون» بمعنى بعضكم كذا وبعضكم
كذا وأنشد: [البسيط] 430-
وغودر البقل ملويّ ومحصود
«2»
[سورة الفتح (48) : آية 28]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ
شَهِيداً (28)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قيل: بالحجج والبراهين،
وقيل: لا بد أن يكون هذا، وقيل: وقد كان لأن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم بعث والأديان أربعة فقهرت كلّها في وقته، وفي خلافة
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
أن المعنى ليظهره على أمر الدّين كلّه أي ليبينه له.
قال أبو جعفر: هذا من أحسن ما قيل في الآية لأنه لا معارضة
فيه.
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى
عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبره وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ مثله. وروى قرّة عن الحسن أنه
قرأ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ
بَيْنَهُمْ «3» بالنصب على الحال وخبر «الذين» «تراهم» ، ويجوز
أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره تراهم. رُكَّعاً
سُجَّداً على الحال. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ أي علامتهم.
وأصحّ ما قيل فيه أنّهم يوم القيامة يعرفون بالنور الّذي في
وجوههم. وفي الحديث «تأتي أمتي غرّا محجّلين» «4» ذلِكَ
مَثَلُهُمْ مبتدأ وخبره فِي التَّوْراةِ تمام الكلام على
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 68.
(2) مرّ الشاهد رقم (384) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 100، ومختصر ابن خالويه 142.
(4) أخرجه مالك في الموطأ باب- الحديث 28، وابن ماجة في سننه-
الطهارة باب 6 الحديث (283) .
(4/136)
قول الضّحاك وقتادة، ويكون مَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ مبتدأ، وخبره كَزَرْعٍ، وعلى قول مجاهد التمام
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ تعطف مثلا على مثل ثم تبتدئ
«كزرع» أي هم كزرع. أَخْرَجَ شَطْأَهُ عن ابن عباس قال:
السنبلة بعد أن كانت وحدها تخرج معها سبع سنابل وأكثر وروى
حميد عن أنس أَخْرَجَ شَطْأَهُ «1» قال: نباته وفراخه. قال أبو
جعفر: إن خفّفت الهمزة قلت شطه فألقيت حركتها على الطاء
وحذفتها فَآزَرَهُ «2» قال أهل اللغة: أي لحق بالأمهات. وأصل
أزره قوّاه فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ جمع ساق على
فعول حذف منه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ قيل: الكفار هاهنا الزراع لأنهم يغطون الزّرع،
وقيل: هم الذين كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا أولى
لأنه لا يجوز يعجب الزراع ليغيظ بهم الزراع. وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً تكون «منهم» لبيان الجنس أولى
لأنها إذا جعلت للتبعيض كان معنى آمنوا ثبتوا، وذلك مجاز ولا
يحمل الشيء على المجاز ومعناه صحيح على الحقيقة.
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 101.
(2) انظر تيسير الداني 164.
(4/137)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(1)
49 شرح إعراب سورة الحجرات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (49) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا حرف ينادى به، وأي مضمومة
لأنها نداء مفرد، وها للتنبيه، الَّذِينَ في موضع رفع نعت
لأيّ. ومن العرب من يقول: اللّذون آمَنُوا صلة «الذين» . لا
تُقَدِّمُوا
جزم بالنهي، وبعض النحويين يقول: جزم بلا لشبهها بلم، وبعضهم
يقول: لقوتها في قلب الفعل إلى المستقبل لا غيره.
وروي في نزول هذه الآية أقوال فمن أصحّها سندا وأبينهما ما
حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجّاج عن
ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير
أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال
عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما
أردت إليّ أو إلى خلافي؟
فقال: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما فنزل في
ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) .
قال الحسن: وحدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حسين
عن الحسن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: لا تذبحوا قبل الإمام. وروى
الضحاك عن ابن عباس لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ قال: هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال
ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا، لأن هذه الأشياء إذا كانت
ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين
يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يتشاوروا، وتأولها
قوم على منع الذبح قبل الإمام، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات
قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس
(4/138)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لَا تَشْعُرُونَ (2)
والضحاك لا تُقَدِّمُوا «1» وزعم الفراء
«2» أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر: وإن كان المعنى واحدا
على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا
تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،
وتقدّموا ليس كذا، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل.
[سورة الحجرات (49) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال إبراهيم التيمي: فقال أبو بكر
الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله لا أكلمك إلا أخا السّرار.
قال ابن أبي مليكة قال عبد الله بن الزبير: فكان عمر بعد نزول
هذه الآية لا يسمّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى
يستفهمه. وقال أنس: تأخّر ثابت بن قيس في منزله، وقال: أخاف أن
أكون من أهل النار حتّى أرسل إليه النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم: «لست من أهل النار» «3» وعمل جماعة من العلماء على أن
كرهوا رفع الصوت عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبحضرة
العلماء وفي المساجد، وقالوا: هذا أدب الله جلّ وعزّ ورسوله
عليه السلام، واحتجّوا في ذلك بحديث البراء وغيره، كما قرئ على
بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا أبو معاوية عن
الأعمش عن المنهال عن زاذان أبي عمرو عن البرآء قال: خرجنا مع
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا
إلى القبر ولم يلحد فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا
حوله كأنّ رؤوسنا الطير، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكبّ في
الأرض فرفع رأسه وقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» «4»
مرّتين أو ثلاثا، وذكر الحديث. فكان فيما ذكرناه فوائد: منها
خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدلّ هذا على أنه لا ينبغي
لإمام ولا لأمير ولا قاض أن يتأخر عن الحقوق من أجل ما هو فيه،
وفيه مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ على
رؤوسنا الطير، أي ساكنين إجلالا له فدلّ هذا على أنه كذا ينبغي
لمن جالس عالما أو واليا يجب أن يجلّ، كما روى عبادة بن الصامت
عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس منّا من لم يجلّ
كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا» «5» . وَلا تَجْهَرُوا
لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ الكاف في وضع
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 105، والمحتسب 2/ 278. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 69.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 106.
(4) أخرجه أحمد في مسنده 4/ 287 و 6/ 362، وأبو داود في سننه
(4753) ، والترمذي في سننه (3604) ، وذكره التبريزي في مشكاة
المصابيح (1630) ، والهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 49، والزبيدي
في إتحاف السادة المتقين 10/ 400، وأبو نعيم الحلية 8/ 118.
(5) ذكره الحاكم في المستدرك 1/ 122، والطبراني في المعجم
الكبير 8/ 196، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 14، والمتقي
الهندي في كنز العمال (5980) ، والزبيدي في إتحاف السادة
المتقين 6/ 259، والطحاوي في مشكل الآثار 2/ 133.
(4/139)
إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ
مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
نصب أي جهرا كجهر بعضكم لبعض. أَنْ
تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ «أن» في موضع نصب فقال بعض أهل اللغة:
أي لئلا تحبط أعمالكم، وهذا قول ضعيف إذا تدبّر علم أنه خطأ،
والقول ما قاله أبو إسحاق هو غامض في العربية قال: المعنى لأن
تحبط وهو عنده مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] . وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ قيل: أي لا تشعرون أنّ أعمالكم قد حبطت.
[سورة الحجرات (49) : آية 3]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ اسم إنّ، ويجوز أن
يكون الخبر أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
لِلتَّقْوى ويكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين» خبره، ويجوز أن
يكون الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى خبر
إنّ و «أولئك» نعتا للذين، ويجوز أن يكون خبر إنّ لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
[سورة الحجرات (49) : آية 4]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ اسم
«إنّ» والخبر أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ويجوز أن تنصب
أكثرهم على البدل من الذين وقرأ يزيد بن القعقاع الْحُجُراتِ
بفتح الجيم. وقد ردّه أبو عبيد على أنه جمع الجمع على التكثير.
جمع حجرة على حجر ثمّ جمع حجرا على حجرات. قال أبو جعفر: وهذا
خلاف قول الخليل وسيبويه، ومذهبهما أنه يقال: حجرة وحجرات
وغرفة وغرفات فتزاد منها فتحة فيقال: حجرات وركبات وتحذف
فيقال: حجرات وركبات، كما يقال: عضد عضد. وروى الضحاك عن ابن
عباس: إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات إعراب من بني تميم
منهم عيينة ابن حصن صاحوا ألا تخرج إلينا يا محمد، اخرج إلينا
يا محمد. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما في هذا من القبح.
[سورة الحجرات (49) : آية 5]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ
خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي عند النداء حَتَّى تَخْرُجَ
إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً أي لكان الصبر خيرا لهم، ودلّ صبروا
على المضمر. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفر لهم ورحمهم لأنهم
لم يقصدوا بهذا استخفافا، وإنما كان منهم سوء أدب.
(4/140)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا
أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ
إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
[سورة الحجرات (49) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا
عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6)
يقرأ فتثبّتوا وهما قراءتان «1» معروفتان إلّا أن «فتبيّنوا»
أبلغ لأن الإنسان قد يثبّت ولا يتبيّن. أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً
بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عطفا على تصيبوا.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 7 الى 8]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ
فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ
وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
العلماء من أهل السنّة يقولون: معنى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمانَ وفّقكم له، وفعل أفاعيل تحبّون معها الإيمان
وتستحسنونه فلما أحبّوه واستحسنوه نسب الفعل إليه، وكذا فعل
أفاعيل كرهوا معها الكفر والفسق والعصيان. فأما أن يكون معنى
«حبّب» أمركم أن تحبّوه فخطأ من كل جهة منها أنه إنما يقال:
حبّب فلان إليك نفسه أي أنه فعل أفعالا أحببته من أجلها، ومنها
أنه قول مبتدع مخالف صاحبه لنصّ القرآن قال جلّ وعزّ:
وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: 88] ومنه قوله:
اهْدِنَا [الفاتحة: 6] من هذا بعينه، ومنها أنّ نص الآية يدلّ
على خلاف ما قال جلّ وعزّ: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فلا
اختلاف في هذا أنه يرجع إلى الذين حبّب إليهم الإيمان وزيّنه
في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلو كان معنى
حبّب أمرهم أن يحبوه كان الكفار وأهل المعاصي داخلين في هذا.
وهذا خارج من الملّة و «الراشدون» الذين رشدوا للإيمان وتركوا
المعاصي ثم بيّن جلّ وعزّ أنّ ذلك فضل منه ونعمة فقال جلّ
وعزّ: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً قال أبو إسحاق: «فضلا»
مفعول من أجله أي للفضل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم
بمصالح عباده ومنافعهم، حكيم في أفعاله.
[سورة الحجرات (49) : آية 9]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (9)
طائِفَتانِ مرفوعتان بإضمار فعل أي وإن اقتتلت طائفتان، ويجوز
أن يكون المضمر كان ولا بدّ من إضمار لأن «إن» لا يليها إلا
الفعل لأنها للشرط، وجوابه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ
بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى شرط أيضا، والجواب
فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ
اللَّهِ أي ترجع فإن قلت: تفي بغير همز فمعناه تكثر.
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
__________
(1) انظر تيسير الداني ص 80.
(4/141)
إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ
يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (11)
قال محمد بن يزيد: قسط إذا جار وأقسط إذا
عدل، مأخوذ منه أي أزال القسوط وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم: «كثيرا المقسطون الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا
على منابر من نور على يمين الرحمن جلّ وعزّ» «1» .
[سورة الحجرات (49) : آية 10]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مبتدأ وخبره لمّا اتّفقوا في
الدّين رجعوا إلى أصلهم لأنهم جميعا من بني آدم. وقراءة عبد
الرحمن بن أبي بكرة وابن سيرين فأصلحوا بين إخوانكم «2»
، وقراءة يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم «3» وأخ وإخوة لأقلّ العدد
وإخوان للكثير وبَيْنَ أَخَوَيْكُمْ «4» بين كلّ مسلمين اقتتلا
فقد صار عامّا.
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ
عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
جزم بالنهي. وروى الضّحاك عن ابن عباس أن بعضهم كان يقول لبعض:
أنّك لغير رشيد، وما أشبه ذلك، يستهزئ به فنزل هذا، وهو من بني
تميم وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ نهي أيضا. قال عكرمة عن ابن
عباس: أي لا يعب بعضكم بعضا. وسمعت علي بن سليمان يقول: اللّمز
في اللغة أن يعيب بالحضرة، والهمز في الغيبة. وقال أبو العباس
محمد بن يزيد: اللّمز يكون باللسان والعين يعيبه ويحدّد إليه
النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلّا باللسان في
الحضرة والغيبة، وأكثر ما يكون في الغيبة، فهذا شرح بيّن، وقد
أنشد أبو العباس لزياد الأعجم: [البسيط] 431-
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه
«5» قال محمد بن يزيد: واللّمز كالغيبة قال: والنبز اللّقب
الثابت: قال: والمنابزة الإشاعة والإذاعة به. قال أبو جعفر:
فأما اللّقب فقد جاء التوقيف فيه عمّن حضر التنزيل وعرف نزول
الآية فيم نزلت، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن حميد بن مسعدة
قال: أخبرنا بشر عن داود عن الشعبي قال: قال أبو جبيرة فينا
نزلت هذه الآية
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 159، 160.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 111.
(5) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه 78، وبهجة المجالس 1/ 404،
وبلا نسبة في لسان العرب (همز) ، وجمهرة اللغة ص 727، ومقاييس
اللغة 6/ 66، ومجمل اللغة 4/ 488، وديوان الأدب 1/ 256، وأساس
البلاغة (لمز) ، وإصلاح المنطق 428، وتاج العروس (همز) ، وكتاب
العين 4/ 17.
(4/142)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه
وسلّم المدينة وللرجل منا اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها
فيقال: يا رسول الله إنه يغضب منه فنزلت وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ فأما حديث الضّحاك عن ابن عباس كان الرجل يقول
للآخر: يا كافر يا فاسق، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
فإسناد الأول أصحّ منه، ولو صحّ هذا لم يكن ناقضا للأول، لأن
المعنى في اللّقب على ما قال محمد بن يزيد وغيره: أنه كلّما
كان ذائعا يغضب الإنسان منه ويكره قائله أن يلقى صاحبه به
ويكرهه المقول له به فمحظور التنابز به. بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ رفع بالابتداء والتقدير الفسوق بعد أن امنتم بئس
الاسم وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال
الضّحاك عن ابن عباس: من لم يتب من هذا القول.
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا
يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فسّر ابن عباس الإثم
فيم هو؟ قال: إن تقول بعد أن تظنّ، فإن أمسكت فلا إثم والبيّن
في هذا أنّ الظنّ الذي هو إثم، وهو حرام على فاعله، أن يظنّ
بالمسلم المستور شرا، وأما الظن المندوب إليه فأن تظنّ به خيرا
وجميلا، كما قال جلّ وعزّ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً
[النور: 12] قال: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحث عن عيب أخيك بعد
أن ستره الله جلّ وعزّ عنه: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
بيّن الله جلّ وعزّ الغيبة على لسان نبيّه صلّى الله عليه
وسلّم، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن علي بن حجر قال: حدّثنا
إسماعيل قال: حدّثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قال
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا:
الله جلّ وعزّ ورسوله أعلم قال: أن تذكر أخاك بما يكره، قيل:
أرأيت إن كان ذلك في أخي؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم
يكن فيه فقد بهتّه» «1» فهذا حديث لا مطعن في سنده ثم جرت
العلماء عليه، فقال محمد بن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن
تقول ما أشدّ سواد شعره، ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. فقالت
عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
في امرأة ما أطول درعها فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد
اغتبتها فاستحلّي منها» «2» . وقال أبو نضرة عن جابر عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا، لأن الرجل
يزني فيتوب فيتوب الله عليه والرجل يغتاب الرجل فيتوب فلا يتاب
عليه حتّى يستحلّه» «3» . قال أبو جعفر: وفي الغيبة ما لا يقع
فيه
__________
(1) أخرجه مالك في الموطّأ باب 4 الحديث رقم (10) ، والترمذي
في سننه- البر والصلة 8/ 120، والدارمي في سننه 2/ 299، وأبو
داود في سننه الحديث رقم (4874) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه- الأدب- الحديث رقم (4875) .
(3) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 91، والزبيدي في إتحاف
السادة المتقين 7/ 533، والتبريزي في مشكاة المصابيح (4874) ،
والسيوطي في الحاوي للفتاوى 1/ 172، والمنذري في الترغيب
والترهيب 3/ 511، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (2474) .
(4/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
استحلال، وهو أعظم، كما روي أن رجلا قال
لمحمد بن سيرين: إنّي قد اغتبتك فحلّلني فقال: إنّي لا أحلّ ما
حرّم الله تعالى. وروى عقيل عن ابن شهاب أنّ النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم قال: «كلّما كرهت أن تقوله لأخيك في وجهه ثم قلته
من ورائه فقد اغتبته» «1» . أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً هذا الأصل ثم من خفّف قال:
ميتا فَكَرِهْتُمُوهُ قال الكسائي: المعنى فكرهتموه فينبغي أن
تكرهوا الغيبة. وقال محمد بن يزيد: أي فكرهتم أن تأكلوه فحمل
على المعنى مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا
عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 1] .
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثى عامّ والذي بعده خاص لأن الشعوب والقبائل في العرب
خاصّة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ روى عبد
الرحمن في العرب خاصة قيل:
يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» ؟
«2» وقالت درّة: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من خير
الناس؟ قال: «أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم
وأتقاهم» «3» قال ابن عباس: ترك الناس هذه الآية: إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقالوا: بالنسب. وقال
أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلهم نسبا.
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ليقم المتّقون
فلا يقوم إلّا من كان كذلك.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 15]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال محمد بن يزيد: هذا على تأنيث
الجماعة أي قالت جماعة الأعراب قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنا والإسلام في اللغة الخضوع والتذلّل لأمر
الله جلّ وعزّ والتسليم له والإيمان والتصديق بكلّ ما جاء من
عند الله جلّ وعزّ فإذا خضع لأمر الله سبحانه وتذلّل له فهو
مصدّق، وإذا كان مصدّقا فهو مؤمن، ومن كان على هذه الصفة فهو
مسلم مؤمن إلّا أن للإسلام موضعا أخر وهو الاستسلام خوف
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ باب 4- الحديث (10) . [.....]
(2) أخرجه الترمذي في سننه (2329) ، وأحمد في مسنده 4/ 188، و
5/ 40، والدارمي في سننه 2/ 308، والبيهقي في السنن الكبرى 3/
371.
(3) أخرجه القرطبي في تفسيره 4/ 47.
(4/144)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
القتل وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً هذه
قراءة أكثر الناس، وبها قامت الحجّة وقرأ أبو عمرو والأعرج لا
يألتكم «1» وهي مخالفة للسواد إلا أن من قرأ بها يحتجّ بإجماع
الجميع على وَما أَلَتْناهُمْ [الطور: 21] والقول في هذا:
إنّهما لغتان معروفتان مشهورتان، فإذا كان الأمر كذلك فاتباع
السواد أولى.
[سورة الحجرات (49) : آية 16]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ على التكثير من
تعلمون.
[سورة الحجرات (49) : آية 17]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «أن» في موضع نصب بمعنى
يمنون عليك إسلامهم، ويجوز أن يكون التقدير بأن ثم حذفت الباء.
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ أي بأن ولأن
ثمّ حذف الحرف فتعدّى الفعل.
[سورة الحجرات (49) : آية 18]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مبتدأ وخبر أي عالم به،
وإذا علمه جازى عليه.
__________
(1) انظر تيسير الداني 164، والبحر المحيط 8/ 116.
(4/145)
|