إعراب القرآن للنحاس

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)

60 شرح إعراب سورة الممتحنة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
أي نداء مفرد والَّذِينَ من نعته في موضع رفع، وبعض النحويين يجيز النصب على الموضع وقال بعضهم: «أيّ» اسم ناقص وما بعده صلة له، وهذا خطأ على قول الخليل وسيبويه «1» ، والقول عندهما أنه اسم تام إلا أنه لا بدّ له من النعت مثل «من» و «ما» إذا كانتا نكرتين، وأنشد سيبويه: [الكامل] 482-
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حبّ النّبيّ محمّد إيّانا
«2» قوله غيرنا نعت لمن لا يفارقه. لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ بمعنى أعدائي فعدوّ يقع للجميع والواحد والمؤنث على لفظ واحد، لأنه غير جار على الفعل، وإن شئت جمعته وأنثته. أَوْلِياءَ مفعول ثان ولم يصرف أولياء لأن في اخره ألفا زائدة وكلّ ما كان في اخره ألف زائدة فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة نحو عرفاء وشهداء وأصدقاء وأصفياء ومرضى، وتعرف أن الألف زائدة أن نظر فعله فإن وجدت بعد اللام من فعله ألفا فهي زائدة. ألا ترى أن عرفاء فعلاء وأصفياء أفعلاء فبعد اللام ألف، وكذلك مرضى فعلى وما كان من الجمع سوى هذا من الجمع فهو ينصرف نحو غلمان ورجال وأعدال وفلوس وشباب إلّا أن أشياء وحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لثقل التأنيث فاستثقلوا أن يزيدوا التنوين مع زيادة حرف التأنيث لأنها أريد بها أفعلاء نحو أصدقاء كأنهم أرادوا أشياء، وهو الأصل فثقل لاجتماع الياء والهمزتين فحذفوا إحدى
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 190.
(2) مرّ الشاهد رقم (30) .

(4/270)


إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

الهمزتين، وما أشبهها مصروف في المعرفة والنكرة نحو أسماء وأحياء وأفياء ينصرف لأنه أفعال فمن ذلك أعدال وأجمال، وكذلك عدوّ وأعداء مصروف، وكذلك قوله تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً مصروف لأنه أفعال ليس فيه ألف زائدة: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مذهب الفراء أن الباء زائدة وأن المعنى تلقون إليهم المودة. قال أبو جعفر: «تلقون» في موضع نصب على الحال، ويكون في موضع نعت لأولياء. قال الفراء «1» : كما تقول: لا تتّخذ رجلا تلقي إليه كلّ ما عندك. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ عطف على الرسول أي ويخرجونكم أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ في موضع نصب أي لأن تؤمنوا وحقيقته كراهة أن تؤمنوا بالله ربّكم. إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي نصبت جهادا لأنه مفعول من أجله أو على المصدر أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في طريقي الذي شرعته وديني الذي أمرت به وابْتِغاءَ مَرْضاتِي عطف تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مثل تلقون. وَأَنَا أَعْلَمُ قراءة أهل المدينة يثبتون الألف في الإدراج، وقراءة غيرهم وأن أعلم بحذف الألف في الإدراج وهذا هو المعروف في كلام العرب لأن الألف لبيان الحركة فلا تثبت في الإدراج، لأن الحركة قد ثبتت وأَعْلَمُ بمعنى عالم كما يقال: الله أكبر الله أكبر بمعنى كبير، ويجوز أن يكون المعنى وأنا أعلم بكم بما أخفاه بعضكم من بعض وبما أعلنه وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ ومن يلق إليهم بالمودة ويتخذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي عن قصد طريق الجنة ومحجّتها.

[سورة الممتحنة (60) : آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً شرط ومجازاة فلذلك حذفت النون وكذا وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ تمّ الكلام.

[سورة الممتحنة (60) : آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ لأن أولادهم وأقرباءهم كانوا بمكة فلذلك تقرّب بعضهم إلى أهل مكّة وأعلمهم الله جلّ وعزّ أنّهم لن ينفعوهم يوم القيامة. يكون العامل في الظرف على هذا لن تنفعكم ويكون يفصل بينكم في موضع نصب على الحال، ويجوز أن يكون العامل في الظرف يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «2» وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة، وقد عرف أن المعنى يفصل الله جلّ وعزّ بينكم، وقرأ عبد الله بن عامر
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149.
(2) انظر تيسير الداني 170 (قرأ عامر «يفصل» بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخفّفة، وابن عامر بضمّ الياء وفتح الفاء والصاد مشدّدة، وحمزة والكسائي كذلك إلّا أنهما كسرا الصاد، والباقون بضمّ الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخفّفة) .

(4/271)


قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)

يفصّل على التكثير، وقرأ عاصم يفصل وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي يفصّل بينكم على تكثير يفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مبتدأ وخبره.

[سورة الممتحنة (60) : آية 4]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وحكى الفراء في جمعها أسى بضمّ في الجمع، وإن كانت الواحدة مكسورة ليفرق بين ذوات الواو وذوات الياء، وعند البصريين أنه يجوز الضم على تشبيه فعلة بفعلة، ويجوز الكسر على الأصل فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ قال عبد الرحمن بن زيد: الَّذِينَ مَعَهُ الأنبياء عليهم السلام قالُوا لِقَوْمِهِمْ أي حين قالوا لقومهم إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ هذه القراءة المعروفة التي قرأ بها الأئمة كما تقول: كريم وكرماء، وأجاز أبو عمرو وعيسى إنا براء منكم «1» وهي لغة معروفة فصيحة كما تقول: كريم وكرام، وأجاز الفراء إنا برآء منكم. قال أبو جعفر: وهذا صحيح في العربية يكون برآء في الواحد والجميع على لفظ واحد، مثل إنني برآء منكم وحقيقته في الجمع أنا ذوو برآء. كما تقول: قوم رضى فهذه ثلاث لغات معروفة وحكى الكوفيون لغة رابعة. وحكي أن أبا جعفر قرأ بها وهو أنا برآء منكم على تقدير براع وهذه لا تجوز عند البصريين لأنه حذف شيء لغير علة. قال أبو جعفر: وما أحسب هذا عن أبي جعفر إلا غلطا لأنه يروى عن عيسى أنه قرأ بتخفيف الهمزة أنّا برأ وأحسب أن أبا جعفر قرأ كذا. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ معطوف بإعادة حرف الخفض، كما تقول: أخذته منك ومن زيد، ولا يجوز أخذته منك وزيد. ألا ترى كيف السواد فيه ومما، ولو كان على قراءة من قرأ والأرحام [النساء: 1] لكان: وما تعبدون من دون الله بغير من كَفَرْنا بِكُمْ أي أنكرنا كفركم. وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً لأنه تأنيث غير حقيقي أي لا نودكم. حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء ليس من الأول أي لا تستغفروا للمشركين وتقولوا يتأسّى بإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إذ كان إنما فعل ذلك عن موعدة وعدها إياه قيل: وعده أنه يظهر إسلامه ولم يستغفر له إلا بعد أن أسلم.
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي ما أقدر أن أدفع عنك عذابه وعقابه. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا في معناه قولان: أحدهما أن هذا قول إبراهيم ومن معه من الأنبياء، والآخر أن المعنى:
قولوا ربنا عليك توكّلنا أي وكلنا أمورنا كلّها إليك، وقيل: معنى التوكل على الله جلّ وعزّ أن يعبد وحده ولا يعبى ويوثق بوعده لمن أطاعه. وَإِلَيْكَ أَنَبْنا أي رجعنا مما
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 149، والبحر المحيط 8/ 252.

(4/272)


رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

تكره إلى ما تحبّ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي مصيرنا ومصير الخلق يوم القيامة.

[سورة الممتحنة (60) : آية 5]
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تقول: لا تسلّطهم علينا فيفتنونا وَاغْفِرْ لَنا ولا يجوز إدغام الراء في اللام لئلا يذهب تكرير الراء. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في انتقامك ممن انتقمت منه الْحَكِيمُ في تدبير عبادك.

[سورة الممتحنة (60) : آية 6]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ولم يقل: كانت لأن التأنيث غير حقيقي معناه التأسي لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ أي ثوابه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي نجاته وَمَنْ يَتَوَلَّ جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الياء، والجواب فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.

[سورة الممتحنة (60) : آية 7]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
أَنْ يَجْعَلَ ومن العرب من يحذف «أن» بعد «عسى» قال ابن زيد: ففتحت مكة فكانت المودة بإسلامهم وَاللَّهُ قَدِيرٌ أي على أن يجعل بينكم وبينهم مودة. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن اتخذهم أولياء وألقى إليهم بالمودة إذا تاب رحيم به لمن يعذبه بعد التوبة. والرحمة من الله جلّ وعزّ قبول العمل والإثابة عليه.

[سورة الممتحنة (60) : آية 8]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قال أبو جعفر: قد ذكرناه. وليس لقول من قال: إنها منسوخة معنى: لأن البرّ في اللغة إنما هو لين الكلام والمواساة، وليس هذا محظورا أن يفعله أحد بكافر. وكذا الإقساط إنما هو العدل والمكافأة بالحسن عن الحسن. ألا ترى أن بعده إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وأن في موضع خفض على البدل من الَّذِينَ ويجوز أن يكون في موضع نصب أي لا ينهاكم كراهة هذا.

[سورة الممتحنة (60) : آية 9]
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
أَنْ تَوَلَّوْهُمْ والأصل تتولّوهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي ينصرهم ويودّهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين جعلوا المودة في غير موضعها. والظلم في اللغة وضع الشيء في غير موضعه.

(4/273)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

[سورة الممتحنة (60) : آية 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ على تذكير الجمع مُهاجِراتٍ نصب على الحال. فَامْتَحِنُوهُنَّ، أي اختبروهن هل خرجن لسبب غير الرغبة في الإسلام اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ أي منكم ثم حذف لعلم السامع فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ مفعول ثان. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وذلك لسبب هدنة كانت بينهم. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ لأنه لا تحلّ مسلمة لكافر بحال. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي له أن ينكحها إذا أسلمت وزوجها كافر، لأنه قد انقطعت العصمة بينهما وذلك بعد انقضاء العدة، وكذا إذا ارتدّ وأتوهم ما أنفقوا، وهو المهر وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وقرأ أبو عمرو ولا تمسكوا «1» يكون بمعناه أو على التكثير، وعن الحسن ولا تمسّكوا «2» والأصل تتمسّكوا حذفت التاء لاجتماع التاءين، وعصم جمع عصمة يقال: أخذت بعصمتها أي بيدها، وهو كناية عن الجماع، والْكَوافِرِ جمع كافرة مخصوص به المؤنث.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وذلك في المهر ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الزهري: فقال المسلمون رضينا بحكم الله جلّ وعزّ وأبى الكفار أن يرضوا بحكم الله ويقرّوا أنه من عنده.

[سورة الممتحنة (60) : آية 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
في معناه قولان، قال الزهري: الكفار هاهنا هم الذين كانت بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذمة، وقال مجاهد وقتادة: هم أهل الحرب ممن لا ذمّة له فَعاقَبْتُمْ وقرأ حميد الأعرج وعكرمة فعقّبتم «3» هما عند الفراء بمعنى واحد، مثل «ولا تصاعر» وَلا تُصَعِّرْ [لقمان: 18] وحكي أنّ في حرف عبد الله وإن فاتكم أحد من أزواجكم وإذا كان للناس صلح فيه أحد وشيء، وإذا كان لغير الناس لم يصلح فيه أحد، وعن مجاهد فأعقبتم «4» وكله مأخوذ من العاقبة، والعقبى وهو ما يلي الشيء.
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا، والباقون مخفّفا) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 254، والإتحاف 256. [.....]
(3) نظر البحر المحيط 8/ 255.
(4) نظر البحر المحيط 8/ 255.

(4/274)


يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا اختلف العلماء في حكمها فقال الزهري أيعطي الذي ذهبت امرأته إلى الكفار الذين لهم ذمّة مثل صداقها ويؤخذ ممن تزوج امرأة ممن جاءت منهم فتعطاه، وقال مسروق ومجاهد وقتادة: بل يعطى من الغنيمة. قال أبو جعفر:
وهذا التأويل على أن تذهب امرأته إلى أهل الحرب ممن لا ذمّة له. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي اتّقوه فيما أمركم به ونهاكم عنه.

[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ في موضع نصب على الحال. عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي على ألا يعبدن معه غيره ولا يتّخذن من دونه إلها ويُشْرِكْنَ في موضع نصب بأن، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى على أنهنّ، وكذا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وهذا الفعل كله مبني فلذلك كان رفعه ونصبه وجزمه كله واحدا، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يقول: لا ينحن، وقال ابن زيد: لا يعصينك في كل ما تأمرهنّ به من الخير فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولا يجوز إدغام الراء في اللام ويجوز الإخفاء، وهو الصحيح عن أبي عمرو، ويتوهّم من سمعه أنه إدغام.

[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: هم اليهود. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ «1» مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قد ذكرناه. فمن أحسن ما قيل فيه، وهو معنى قول ابن زيد، وقد يئسوا من ثوب الآخرة لأنهم كفروا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجحدوا صفته، وهي مكتوبة عندهم، وقد وقفوا عليها، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا من ثواب الآخرة أيضا، لأنهم قد كفروا وجحدوا لكفر هؤلاء.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 256 (قرأ ابن أبي الزناد «الكافر» على الإفراد، والجمهور على الجمع) .

(4/275)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)

61 شرح إعراب سورة الصف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الصف (61) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قال أبو جعفر: قوله سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي أذعن له وانقاد ما أراد جلّ وعزّ فهذا داخل فيه كل شيء لأن ما عامة في كلام العرب. وَهُوَ الْعَزِيزُ في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره.

[سورة الصف (61) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2)
لِمَ الأصل لما حذف الألف لاتصال الكلمة بما قبلها وأنه استفهام.

[سورة الصف (61) : آية 3]
كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
نصبت مَقْتاً على البيان والفاعل مضمر في كبر أي كبر ذلك القول أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ «أن» في موضع رفع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ والذي يخرج من هذا ألّا يقول أحد شيئا إلا ما يعتقد أن يفعله، ويقول: إن شاء الله لئلا يخترم دونه.

[سورة الصف (61) : آية 4]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
والمحبة منه جلّ وعزّ قبول العلم والإثابة عليه. صَفًّا في موضع الحال قيل:
فدلّ بهذا على أن القتال في سبيل الله جلّ وعزّ والإنسان راجلا أفضل منه راكبا.
كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد أحكم وأتقن فليس فيه شيء يزيد على شيء، وقيل:
مرصوص مبني بالرصاص.

[سورة الصف (61) : آية 5]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي نداء مضاف وحذفت

(4/276)


وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)

الياء، لأن النداء موضع حذف. وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والأصل أنّني فَلَمَّا زاغُوا أي مالوا عن الحقّ. أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ مجازاة على فعلهم، وقيل: أزاغ قلوبهم عن الثواب. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يوفق للصواب من خرج من الإيمان إلى الكفر. روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأبي أمامة أنّ هؤلاء هم الحرورية.

[سورة الصف (61) : آية 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
أي واذكر هذا. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ منصوب على الحال، وكذا وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وابن كثير، وقراءة ابن محيصن وحمزة والكسائي من بعد اسمه أحمد حذف الياء في الوصل لسكونها وسكون السين بعدها، وهو اختيار أبي عبيد، واحتج في حذفها بأنك إذا ابتدأت قلت:
اسمه فكسرت الهمزة. وهذا من الاحتجاج الذي لا يحصل منه معنى، والقول في هذا عند أهل العربية أن هذه ياء النفس فمن العرب من يفتحها ومنهم من يسكّنها، قد قرئ بهاتين القراءتين، وليس منهما إلّا صواب غير أن الأكثر في ياء النفس إذا كان بعدها ساكن أن تحرّك لئلا تسقط وإذا كان بعدها متحرك أن تسكّن، ويجوز في كلّ واحدة منهما ما جاز في الأخرى. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي فلما جاءهم أحمد بالبيّنات أي بالبراهين والآيات الباهرة قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «1» .

[سورة الصف (61) : آية 7]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
أي ومن أشدّ ظلما ممّن قال لمن جاءه بالبيّنات هو ساحر، وهذا سحر مبين أي مبين لمن راه أنه سحر. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وهو إذا دعي إلى الإسلام قال: هذا سحر مبين، وقراءة طلحة وهو يدّعي إلى الإسلام «2» وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهم الذين يقولون في البيّنات هذا سحر مبين.

[سورة الصف (61) : آية 8]
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي بقولهم هذا. وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ أي مكمل الإسلام ومعليه. هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم، وقرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي متمّ نوره والأصل التنوين والحذف على التخفيف وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وحذف المفعول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 83، والبحر المحيط 8/ 259.
(2) انظر المحتسب 2/ 321، والبحر المحيط 8/ 259.

(4/277)


هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

[سورة الصف (61) : آية 9]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
قول أبي هريرة في هذا: أنه يكون إذا نزل المسيح صلّى الله عليه وسلّم وصار الدّين كلّه دين الإسلام.

[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قال قتادة: فلولا أنه بيّن التجارة لطلبت قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكان أبو الحسن علي بن سليمان يذهب إلى هذا ويقول «تؤمنون» على عطف البيان الذي يشبه البدل، وحكى لنا عن محمد بن يزيد أن معنى «تؤمنون» آمنوا على جهة الإلزام. قال أبو العباس: والدليل على ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ جزم لأنه جواب الأمر وعطف عليه وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
فأما قول الأخفش سعيد: إنّ وَأُخْرى في موضع خفض على أنه معطوف على تجارة فهو يجوز، وأصحّ منه قول الفراء: إنّ «أخرى» في موضع رفع بمعنى ولكم أخرى يدلّ على ذلك نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ بالرفع ولم يخفضا وعلى قول الأخفش الرفع بإضمار مبتدأ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر والفتح. والنصر في اللغة المعونة.

[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو، وقرأ الكوفيون كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بالإضافة وهو اختيار أبي عبيد وحجته في ذلك قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم يقولوا: أنصار الله. وهذه الحجة لا تلزم لأنها مختلفان لأن الأول كونوا ممن ينصرون الله فمعنى هذا النكرة فيجب أن يكون أنصارا لله وإن كانت الإضافة فيه تجوز أي كونوا الذين يقال لهم: هذا، والثاني معناه المعرفة. ألا ترى أنك إذا قلت: فلان ناصر لله فمعناه ممن يفعل هذا، وإذا عرفته فمعناه المعروف بهذا، كما قال: [البسيط] 483-
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... حينا ويظلم أحيانا فيظّلم
«1»
__________
(1) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه 152، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 219، والكتاب 4/ 600، وسمط اللئالي ص 467، وشرح أبيات سيبويه 2/ 403، وشرح التصريح 2/ 391، وشرح شواهد الشافية 493، وشرح المفصّل 10/ 47، 149، ولسان العرب (ظلم) ، والمقاصد النحوية 4/ 582، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 141، وشرح الأشموني 3/ 873، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 189، ولسان العرب (ظنن) .

(4/278)


فأما قول القتبي معنى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله فلا يصحّ ولا يجوز: قمت إلى زيد مع زيد. قال أبو جعفر: وتقديره من يضم نصرته إياي إلى نصرة الله إياي فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قد بيّناه قال مجاهد: فَأَيَّدْنَا فقوّينا. قال إبراهيم النخعي في معنى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أيّدهم الله محمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه إياهم أن عيسى صلّى الله عليه وسلّم كلمة الله.

(4/279)


يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)

62 شرح إعراب سورة الجمعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2)
يُسَبِّحُ يكون للمستقبل والحال. الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت. وفيه معنى المدح، ويجوز النصب في غير القرآن بمعنى أعني، ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ، ويجوز على غير إضمار ترفعه بالابتداء والذي الخبر، وقد يكون التقدير هو الملك القدوس ويكون الَّذِي نعتا للملك فإذا خفضت كان هُوَ مرفوعا بالابتداء والَّذِي خبره، ويجوز أن يكون «هو» مرفوعا على أنه توكيد لما في الحكيم ويكون «الذي» نعتا للحكيم بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ داخل في الصلة يَتْلُوا عَلَيْهِمْ في موضع نصب أي تاليا عليهم نعت لرسول وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ معنى يزكيهم يدعوهم إلى طاعة الله عزّ وجلّ فإذا أطاعوه فقد تزكّوا وزكّاهم وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ويجوز إدغام اللام في اللام.

[سورة الجمعة (62) : آية 3]
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ في موضع خفض لأنه عطف على الأميين، ويجوز أن يكون في موضع نصب معطوفا على «هم» من يعلّمهم أو على «هم» من يزكيهم، ويجوز أن يكون معطوفا على معنى يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي يعرّفهم بها لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ. قال ابن زيد:
أي لمن يأتي من العرب والعجم إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: لمن ردفهم من الناس كلّهم. قال أبو جعفر: هذا أصحّ ما قيل به لأن الآية عامة ولمّا هي «لم» زيدت إليها «ما» توكيدا. قال سيبويه «1» : «لمّا» جواب لمن قال: قد فعل، و «لم» جواب لمن قال:
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 135.

(4/280)


ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)

فعل. قال أبو جعفر: إلّا أن الجازم عند الجميع لم ولذلك حذفت النون. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ومن أسكن الهاء قال: الضمة ثقيلة وقد اتصل الكلام بما قبله.

[سورة الجمعة (62) : آية 4]
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ذلك الذي أعطيه هؤلاء تفضل من الله جلّ وعزّ يؤتيه من يشاء. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي لا يذمّ في صرف من صرفه عنه، لأنه لم يمنعه حقّا له قبله ولا ظلمه بمنعه إياه ولكنه علم أن غيره أولى به منه فصرفه إليه.

[سورة الجمعة (62) : آية 5]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي حملوا القيام بها والانتهاء إلى ما فيها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يفعلوا ذلك كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «يحمل» في موضع نصب على الحال أي حاملا فإن قيل: فكيف جاز هذا ولا يقال: جاءني غلام هند مسرعة؟ فالجواب أنّ المعنى مثلهم مثل الّذين حملوا التوراة، وزعم الكوفيون أنّ يحمل صلة للحمار، لأنه بمنزلة النكرة وهم يسمون نعت النكرة صلة ثمّ نقضوا هذا فقالوا: المعنى كمثل الحمار حاملا أسفارا. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي هذا المثل ثم حذف هذا، لأنه قد تقدم ذكره. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المعنى لا يوفقّهم ولا يرشدهم إذ كان في علمه أنّهم لا يؤمنون، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب.

[سورة الجمعة (62) : آية 6]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6)
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا يقال: هاد يهود إذا تاب وإذا رجع. إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي سواكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إن كنتم صادقين أنكم أولياء فإنه لا يعذّب أولياءه فتمنّوه لتستريحوا من كرب الدنيا وهمّها وغمّها وتصيروا إلى روح الجنة.

[سورة الجمعة (62) : آية 7]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً فكان حقا كما قال جلّ وعزّ وكفّوا عن ذلك. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي من الآثام. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي ذو علم بمن ظلم نفسه فأوبقها وأهلكها بالكفر.

(4/281)


قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

[سورة الجمعة (62) : آية 8]
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ أي تأبون أن تتمنوه. الَّذِي في موضع نصب نعت للموت. فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ خبر إن وجاز أن تدخل الفاء ولا يجوز: إنّ أخاك فمنطلق لأن في الكلام معنى الجزاء، وأجاز الكوفيون «1» : إنّ ضاربك فظالم لأن في الكلام معنى الجزاء عندهم، وفيه قول أخر ويكون الذي تفرون منه خبر إن الموت هو الذي تفرون منه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ عطف جملة على جملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عطف على تردون.

[سورة الجمعة (62) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
وقرأ الأعمش الْجُمُعَةِ «2» بإسكان الميم ولغة بني عقيل «من يوم الجمعة» بفتح الميم فمن قرأ الْجُمُعَةِ «3» قدّره تقديرات منها أن يكون الأصل الجمعة ثمّ حذف الضمة لثقلها، ويجوز أن تكون هذه لغة بمعنى تلك، وجواب ثالث يكون مسكنا لأن التجميع فيه فهو يشبه المفعول به كما يقال: رجل هزأة أي يهزأ به ولحنة أي يلحن ومن قال: الْجُمُعَةِ نسب الفعل إليها أي يجمع للناس، كما يقال: رجل لحنة أي يلحّن الناس وقراء أي يقرئ الناس. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال قتادة: أي بقلوبكم وأعمالكم أي امضوا وَذَرُوا الْبَيْعَ ولا يقال في الماضي: وذر. قال سيبويه «4» : استغنوا عنه بترك، وقال غيره: لأن الواو ثقيلة فعدّلوا إلى ترك لأن معناه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي السعي إلى ذكر الله. قال سعيد بن المسيب: وهي الخطبة خير لكم من البيع والشراء.
قال الضحّاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقال غيره: ظاهر القرآن يدلّ على أن ذلك إذا أذّن المؤذّن والإمام على المنبر. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فيه منفعتكم ومضرتكم.

[سورة الجمعة (62) : آية 10]
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
أي صلاة الجمعة. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ أي أن شئتم يدلّ على ذلك ما قبله، وإن أهل التفسير قالوا: هو إباحة وفي الحديث عن أنس بن مالك مرفوعا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال أبو جعفر: لعيادة مريض أو شهود جنازة أو زيارة أي في الله.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 156.
(2) وهذه قراءة أبي عمرو وزيد بن علي أيضا، وهي لغة تميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(3) هذه قراءة الجمهور بضم الميم، انظر البحر المحيط 8/ 264.
(4) انظر الكتاب 4/ 226.

(4/282)


وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

وظاهر الآية يدلّ على إباحة الانتشار في الأرض لطلب رزق في الدنيا أو ثواب في الآخرة. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لما عليكم ووفّقكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تدخلون الجنة فتقيمون فيها، والفلاح البقاء.

[سورة الجمعة (62) : آية 11]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها اختلف العلماء في اللهو هاهنا، فروى سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كانت المرأة إذا أنكحت حرّكت لها المزامير فابتدر الناس إليها فأنزل الله جلّ وعزّ هذا. وقال مجاهد: اللهو الطبل. قال أبو جعفر: والقول الأول أولى بالصواب لأن جابرا مشاهد للتنزيل، ومال الفرّاء «1» إلى القول الثاني لأنهم فيما ذكر كانوا إذا وافت تجارة ضربوا لها بطبل، فبدر الناس إليها. وكان الفرّاء يعتمد في كتابه في المعاني على الكلبيّ والكلبي متروك الحديث. فأما قوله جلّ وعزّ انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل: إليهما فتقديره على قول محمد بن يزيد وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ثمّ عطف الثاني على الأول فدخل فيما دخل فيه. وزعم الفرّاء «2» أن الاختيار أن يعود الضمير على الثاني، ولو كان كما قال فكان انفضوا إليه، ولكنه يحتجّ في هذا بأن المقصود التجارة. وهذا كله جائز أن يعود على الأول أو على الثاني أو عليهما. قال جلّ وعزّ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: 112] فعاد الضمير على الثاني، وقال جلّ وعزّ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] فعاد عليهما جميعا وَتَرَكُوكَ قائِماً نصب على الحال أي قائما تخطب. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ أي ما عنده من الثواب.
وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي فإيّاه فاسألوا وإليه فارغبوا أن يوسّع عليكم.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 157.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 157.

(4/283)