إعراب القرآن للنحاس قَدْ سَمِعَ اللَّهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى
اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ
إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ
مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ
غَفُورٌ (2)
58 شرح إعراب سورة المجادلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المجادلة (58) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها قال أبو جعفر بن محمد: إن شئت
أدغمت الدال في السين فقلت: قد سمع، لأن مخرج الدال والسين
جميعا من طرف اللسان، وإن شئت بيّنت فقلت: قد سمع الله لأن
الدال والسين وإن كانتا من طرف اللسان فليستا من موضع واحد لأن
الدال والتاء والطاء من موضع واحد، والسين والصاد والزاي من
موضع واحد. يسمّين حروف الصفير، وأيضا فإن السين منفصلة من
الدال.
وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ أي تشتكي المجادلة إلى الله جلّ
وعزّ ما بظهار زوجها وتسأله الفرج. وَاللَّهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما أي تحاور النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمجادلة
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لما يقولانه وغيره. بَصِيرٌ بما
يعملانه وغيره.
[سورة المجادلة (58) : آية 2]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ
أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
الَّذِينَ رفع بالابتداء، ويجوز على قول سيبويه أن يكون في
موضع نصب ببصير يظّهارون «1» قراءة الحسن وأبي عمرو ونافع،
وقرأ أبو جعفر وشيبة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
يظهرون وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعاصم يَظْهَرُونَ وحكى
الكسائي أنّ في حرف أبيّ يتظاهرون حجة لمن قرأ يظهرون لأن
التاء مدغمة في الظاء وأصحّ من هذا ما رواه نصر بن علي عن أبيه
عن هارون قال: في حرف أبيّ يتظهّرون حجّة لمن قرأ
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 231.
(4/247)
وَالَّذِينَ
يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ
تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
يظّهرون لأن التاء أدغمت في الظاء أيضا.
مّا هنّ أمّهاتهم «1» خبر «ما» شبّهت بليس، وقال الفرّاء:
بأمهاتهم فلما حذفت الباء بقي لها أثر فنصب الاسم. إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ مبتدأ وخبر، و
«إن» بمعنى «ما» وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ
الْقَوْلِ أي ما لا يصحّ. وَزُوراً قال قتادة: أي كذبا ونصبت
منكرا وزورا ويقولون لو رفعته لانقلب المعنى وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ أي ذو عفو وصفح عمن تاب. غَفُورٌ له لا يعذّبه بعد
التوبة، وقيل هذا لأنهم كانوا يطلّقون في الجاهلية بالظّهار.
قال أبو قلابة: كان الرجل في الجاهلية إذا ظاهر من امرأته فهو
طلاق بتات فلا يعود إليه أبدا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا.
[سورة المجادلة (58) : آية 3]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قال أبو جعفر: اختلف العلماء في معنى العود فقال قوم ممن يقول
بالظاهر: لا يجب عليه الكفّارة حتّى يظاهر مرة ثانية، وحكوا
ذلك عن بكير بن عبد الله بن الأشجّ، وقال قتادة: ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما قالُوا هو أن يعزم بعد الظّهار على وطئها
وغشيانها، وقال بعض الفقهاء: عوده أن يمسكها ولا يطلّقها بعد
الظهار فتجب عليه الكفارة، وقال القتبيّ: هو أن يعود لما كان
يقال في الجاهلية وقال أبو العالية: لِما قالُوا أي فيما
قالوا، وقال الفرّاء «2» : لما قالوا وإلى ما قالوا وفيما
قالوا واحد، يريد يرجعون عن قولهم، وقال الأخفش: فيه تقديم
وتأخير أي فتحرير رقبة لما قالوا. ومن أبينها قول قتادة أي ثم
يعودون إلى ما قالوا من التحريم فيحلّونه. فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ أو فعليهم تحرير رقبة، ويجوز عند النحويين البصريين
فتحرير رقبة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يمسّ
الرجل المرأة، ومن قبل أن تمسّ المرأة الرجل، وهذا عام غير أن
سفيان كان يقول: له ما دون الجماع.
[سورة المجادلة (58) : آية 4]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
مِنْ في موضع رفع بالابتداء أي فمن لم يجد الرقبة والمفعول
يحذف إذا عرف المعنى فعليه صيام شهرين، ويجوز صيام شهرين على
أن شهرين ظرف، وإن شئت كان
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 231 (قرأ الجمهور بالنصب على لغة
الحجاز، والمفضل عند عاصم بالرفع على لغة تميم، وابن مسعود
بأمهاتهم بزيادة الباء) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 139.
(4/248)
إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ
يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا
أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ (6)
مفعولا على السعة فإذا قلت: صيام شهرين لم
يجز أن يكون ظرفا. وعلى هذا حكى سيبويه فيما يتعدّى إلى
مفعولين: [الرجز] 470-
يا سارق اللّيلة أهل الدار
«1» فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي
فمن لم يستطع الصوم لهرم أو زمانة فعليه إطعام ستين مسكينا،
ويجوز تنوين إطعام، وليس هاهنا من قبل أن يتماسّا ولكنه يؤخذ
من جهة الإجماع ذلك ليؤمنوا بالله ورسوله. قال أبو إسحاق: أي
ذلك التغليظ، وقال غيره: فعلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله أي
لتصدّقوا بما جاءكم فتؤمنوا. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي هذه
فرائض الله جلّ وعزّ التي حدّها وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ
أَلِيمٌ أي لمن كفر بها.
[سورة المجادلة (58) : آية 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا
آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالفون
الله ورسوله ويصيرون في حدّ أعدائه.
كُبِتُوا أي غيظوا، وقال بعض أهل اللغة: أي هلكوا، قال: والأصل
كبدوا من قولهم: كبده إذا أصابه بوجع في كبده كَما كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الكاف في موضع نصب لأنّها نعت لمصدر
ولهم عذاب مهين.
[سورة المجادلة (58) : آية 6]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ العامل في يوم «عذاب» ، ولا يجوز
عند البصريين أن يكون مبنيا إذا كان بعده فعل مستقبل وإنما
يبنى إذا كان بعده ماض أو ما ليس بمعرب فإذا كان هكذا بني،
لأنه لما كان يحتاج إلى ما بعده ولا بد له منه أجري مجراه.
فأما الكوفيون فيقولون: إنما بني لأنه بمعنى إذا فيبنى
لبنائها. جَمِيعاً منصوب على الحال أي يوم يبعثهم الله من
قبورهم إلى القيامة في حال اجتماعهم. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا أي فيخبرهم بما أسرّوه وأخفوه وغير ذينك من أعمالهم
أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أي عدّه وأثبته وحفظه ونسيه
عاملوه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي على كل شيء من
أعمالهم شاهد عالم به.
__________
(1) الرجز بلا نسبة في الكتاب 1/ 233، وخزانة الأدب 3/ 108 و
4/ 233، والدرر 3/ 98، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 655، وشرح
المفصل 2/ 45، والمحتسب 2/ 295، وهمع الهوامع 1/ 203.
(4/249)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ
وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ
ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ
لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ
حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
[سورة المجادلة (58) : آية 7]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما
فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ
رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما
كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ
إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
أي ألم تنظر بعين قلبك فتعلم أن الله جلّ وعزّ يعلم ما في
السّموات وما في الأرض لا يخفى عليه شيء من صغيرة ولا كبيرة
فكيف يخفى عليه أعمال هؤلاء ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ
إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ قال مقاتل بن حيان عن الضحاك قال: هو
تعالى فوق عرشه وعلمه معهم. وخفض ثلاثة على البدل من «نجوى»
ويجوز أن يكون مخفوضا بإضافة نجوى إليه، ويجوز رفعه على موضع
نجوى، ويجوز نصبه على الحال من المضمر الذي في نجوى إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ مبتدأ وخبره، وحكى الفراء «1» أن في حرف عبد
الله ولا أربعة إلّا هو خامسهم وحكى أبو حاتم أن في حرف عبد
الله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا الله رابعهم ولا خمسة إلّا
الله سادسهم ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر إلّا الله معهم إذا
انتجوا. قال أبو جعفر: وهذه القراءة إن صحّت فإنما هي على
التفسير لا يجوز أن يقرأ بها إلا على ذلك وقرأ يزيد بن القعقاع
ما تكون «2» من نجوى ثلاثة وهذه القراءة وإن كانت مخالفة لحجة
الجماعة فهي موافقة للسواد جائزة في العربية لأن نجوى مؤنثة
باللفظ و «من» فيها زائدة، كما تقول: ما جاءني من رجل، وما
جاءتني من امرأة، والتقدير: ولا يكون من نجوى أربعة إلّا هو
خامسهم، وحكى هارون عن عمرو عن الحسن أنه قرأ وَلا أَدْنى مِنْ
ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ «3» إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ عطفه على الموضع
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثم
ينبئهم بما تناجوا به إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من
نجواهم وسرارهم وغير ذلك من أعمالهم وأعمال عباده.
[سورة المجادلة (58) : آية 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ
يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قال مجاهد: هم قوم من اليهود وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة
«4» ينتاجون بالإثم والعدوان ويتناجون أبين لأنهم قد أجمعوا
على أن قرءوا
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 140.
(2) انظر البحر المحيط 8/ 233. [.....]
(3) انظر معاني الفراء 3/ 140، والبحر المحيط 8/ 233 (قرأ
الجمهور «ولا أكثر» عطفا على لفظ المخفوض، والحسن وابن أبي
إسحاق والأعمش وأبو حياة وسلام ويعقوب بالرفع عطفا على موضع
نجوى) .
(4) انظر البحر المحيط 8/ 234، وتيسير الداني 169.
(4/250)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا
بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ
وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ
الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
إذا تناجيتم فلا تتناجوا إلّا شيئا روي عن
ابن مسعود أنه قرأ أيضا وينتجون بالإثم والعدوان وعصيان الرسول
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.
قال أبو جعفر: قد ذكرنا معناه. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ
لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلّا يعاقبنا على
ذلك في وقت قولنا حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ مبتدأ وخبره، وحكى النحويون أنه يقال:
حسبك ولا يلفظ له بخبر لأنه قد عرف معناه، وقيل: فيه معنى
الأمر لأن معناه اكفف فلما كان الأمر لا يؤتى له بخبر حذف خبر
ما هو بمعناه.
[سورة المجادلة (58) : آية 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا
تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا
تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
الرَّسُولِ فيه ثلاثة أجوبة فلا تتناجوا بتاءين، ولا تناجوا
بتاء واحدة ولا تناجوا بإدغام التاء في التاء. فمن جاء به
بتاءين، قال: هي كلمة مبتدأ بها وهي منفصلة مما قبلها، ومن جاء
به بتاء واحدة حذف لاجتماع التاءين مثل تذكرون وتتذكّرون، ومن
أدغم قال: اجتمع حرفان مثلان وقبلهما ألف والحرف المدغم قد
يأتي بعد الألف مثل دواب وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ أي بما يقربكم
من الله جلّ وعزّ وَالتَّقْوى أي باتّقائه بأداء فرائضه
واجتناب ما نهى عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ أي الذي إليه مصيركم ومجمعكم فيجزيكم بأعمالكم.
[سورة المجادلة (58) : آية 10]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ أصحّ ما قيل فيه قول
قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بحضرة النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم فيسوء ذلك المسلمين ويكبر عليهم فأنزل الله جلّ وعزّ:
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا الآية ويدلّ على صحّة هذا القول ما قبله وما بعده من
القرآن. وقال ابن زيد: كان الرجل يناجي النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم في الحاجة ويفعل ذلك ليرى الناس أنه ناجى النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم فيوسوس إبليس للمسلمين فيقول: إنما هذه
المناجاة لجموع قد اجتمعت لكم وأمر قد حضر ترادون به فيحزنون
لذلك. وفي الآية قول ثالث ذكره محمد بن جرير، قال: حدّثنا محمد
بن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال:
حدّثنا يحيى بن داود البجلي قال: سئل عطية العوفي وأنا أسمع عن
الرؤيا فقال: الرؤيا على ثلاثة منازل منها ما يوسوس به الشيطان
فذلك قول الله جلّ وعزّ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ومنها ما يحدث الرجل به نفسه
فيراه في منامه ومنها أخذ باليد، ويقرأ لِيَحْزُنَ والأول
أفصح. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
قال محمد بن جرير: أي بقضاء الله وقدره، وقيل: بِإِذْنِ
اللَّهِ بما أذن الله جلّ وعزّ فيه، وهو غمّهم
(4/251)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي
الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
بالمؤمنين لأنه جلّ ثناؤه قد أذن في ذلك
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي ليكلوا
أمرهم إليه ولا تحزنهم النجوى وما يتسارّ به المنافقون إذا كان
الله جلّ وعزّ يحفظهم ويحوطهم.
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا
فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
في المجلس «1» وروي عن الحسن وقتادة أنهما قرأ إذا قيل لكم
تفاسحوا قال الفراء «2» : مثل تعهدت ضيعتي وتعاهدت، وقال أهل
اللغة: تعهّدت أفصح لأنه فعل من واحد، وقال الخليل: لا يقال
إلّا تعهّدت لأنه فعل من واحد. وقرأ الحسن وعاصم فِي
الْمَجالِسِ وقراءة العامة في المجلس وقال أبو جعفر: واختلف
العلماء في معناه فصحّ عن مجاهد أنه قال: هو مجلس النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم خاصة، وصح عن قتادة أنه قال: كان الناس
يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد بعضهم
يوسع لبعض فأنزل الله جلّ وعزّ يعني هذا، وروي عن قتادة أنه في
مجلس الذكر، وقال الحسن «3» ويزيد بن أبي حبيب: هذا في القتال
خاصة. قال أبو جعفر: وظاهر الآية للعموم، فعليه يجب أن يحمل
ويكون هذا لمجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة وللحرب
ولمجالس الذكر ولا نعلم قولا رابعا والمعنى يؤدّي عن معنى
مجالس، وأيضا فإن الإنسان إذا خوطب أن يوسع مجلسه ومعه جماعة
قد أمروا بما أمر به فقد صارت مجالس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ
جواب الأمر، وفيه معنى المجازاة ومكان فسيح أي واسع. وَإِذا
قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قراءة أبي جعفر ونافع وشيبة
وقراءة ابن كثير وأبي عمرو وأهل الكوفة انْشُزُوا فَانْشُزُوا
«4» وهما لغتان بمعنى واحد، وأبو عبيد يختار الثانية. ولو جاز
أن يقع في هذا اختيار لكان الضم أولى لأنه فعل لا يتعدى مثل
قعد يقعد لأن الأكثر في كلام العرب فيما لا يتعدى أي يأتي
مضموما وفيما يتعدّى أن يأتي مكسورا مثل ضرب يضرب. وأما المعنى
فأصح ما قيل فيه أنه النشوز إلى كل خير من أمر بمعروف ونهي عن
منكر أو قتال عدو أو تفرّق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
لئلا يلحقه أذى. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ قيل: أي يرفعهم في
الثواب والكرامة، وقيل: يرفعهم من الارتفاع أي يرفعهم على
غيرهم ممن لا يعلم ليبيّن فضلهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ أي يخبره فيجازي عليه.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 235، وتيسير الداني 169 (قرأ عاصم
«في المجالس» بألف على الجمع والباقون بغير على ألف على
التوحيد) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 141.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 235.
(4) انظر تيسير الداني 169.
(4/252)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا
قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ
سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ (16)
[سورة المجادلة (58) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا قد آذوا النبي صلّى
الله عليه وسلّم بكثرة سرارهم فأراد الله جلّ وعزّ أن يخفّف
عنه فأمرهم بهذا فتوقّفوا عن السّرار ثم وسّع عليهم ولم يضيّق.
قال مجاهد: لم يعمل أحد بهذه الآية إلا علي بن أبي طالب رضي
الله عنه تصدّق بدينار ثم سار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم
نسخت، وقال رحمة الله عليه: بي خفّف عن هذه الأمة. قال لي
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما ترى أيتصدّق من سارّ بدينار
قلت: لا، قال: فبدرهم قلت: لا، قال: بكم؟ قلت: بحبة من شعير،
فقال: إنك لزهيد» «1» ثم نزل التخفيف فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يكلّف من لا يجد.
[سورة المجادلة (58) : آية 13]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
أصل الإشفاق في اللغة الحذر والخوف ومن هذا لا يحلّ لأحد أن
يصف الله جلّ وعزّ بالاشفاق ولا يقول: يا شفيق. قال مجاهد:
أأشفقتم أي أشقّ عليكم فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ
عَلَيْكُمْ فإذا تاب عليكم لم يؤاخذهم فأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة أي فافعلوا ما لم يسقط عنكم فرضه وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أي فيما أمركم به وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم عليه.
[سورة المجادلة (58) : آية 14]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ألم تنظر بعين قلبك فتراهم. ما هُمْ
مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ الضمير يعود على الذين وهم المنافقون
ليسوا من المؤمنين أي من أهل دينهم وملّتهم ولا من الذين غضب
الله عليهم وهم اليهود وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ يحلفون أنّهم مؤمنون.
[سورة المجادلة (58) : آية 15]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (15)
ما في موضع رفع أي ساء الشيء الذين يعملونه، وهو غشّهم
المؤمنين، ونصحهم الكافرين.
[سورة المجادلة (58) : آية 16]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أي اتخذوا حلفهم للمؤمنين
أنّهم منهم حاجزا لدمائهم وأموالهم، وهذا معنى فَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ لأن سبيل الله جلّ وعزّ في أهل الأوثان أن
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير 12/ 186.
(4/253)
لَنْ تُغْنِيَ
عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى
شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ
أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ
(20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ
اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
يقتلوا، وفي أهل الكتاب أن يقتلوا إلّا أن
يؤدّوا الجزية فلما أظهر هؤلاء الإيمان وهم كفار صدّوا
المؤمنين بما أظهروه عن قتلهم.
[سورة المجادلة (58) : آية 17]
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (17)
أي لن تنتفعوا بالأموال فتفتدوا بها، ولن ينفعهم أولادهم
فينصروهم ويستنقذوهم مما هم فيه من العذاب. أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ويجوز النصب على الحال في غير
القرآن.
[سورة المجادلة (58) : آية 18]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما
يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما
يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي فيحلفون له على الباطل، وهذا دليل بيّن
على بطلان قول من قال: إنّ أحدا لا يتكلّم يوم القيامة إلّا
بالحق لما يعاين.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء ينفعهم. أَلا
إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ كسرت إنّ لأنها مبتدأة، وسمعت علي
بن سليمان يجيز فتحها لأن معنى ألا حقا.
[سورة المجادلة (58) : آية 19]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ
اللَّهِ هذا مما جاء على أصله ولو جاء على الإعلال لكان
استحاذ، كما يقال: استصاب فلان رأي فلان ولا يقال: استصوب. قال
أبو جعفر: إنما جاء على أصله مما يؤخذ سماعا من العرب لا مما
يقاس عليه، وقيل: يعلّ الرباعي اتباعا للثلاثي فلما كان يقال:
استحوذ عليه إذا غلبه ولا يقال حاذ في هذا المعنى، وإنما يقال:
حاذ الإبل إذا جمعها فلمّا لم يكن له ثلاثيّ جاء على أصله.
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ
هُمُ الْخاسِرُونَ حزبه أولياؤه وأتباعه وجموعه والخاسر الذي
قد خسر في صفقته.
[سورة المجادلة (58) : آية 20]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ (20)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال قتادة:
يعادونه وقال مجاهد: يشاقون، وقيل:
معناه يخالفون حدود الله جلّ وعزّ فيما أمر به. وحقيقته في
العربية يصيرون في حدّ غير حدّه الذي حدّه، والأصل يحاددون
فأدغمت الدال في الدال. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي ممن
يلحقه الذل، وأولئك وما بعد خبر عن الذين.
[سورة المجادلة (58) : آية 21]
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي قيل: أي كتب في
اللوح المحفوظ، وجعله
(4/254)
لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ
حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ
أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا
إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الفراء «1» مجازا جعل كتب بمعنى «قال» أي
الله لأغلبنّ أنا ورسلي أي من حادّنا، «ورسلي» معطوف على
المضمر الذي في «لأغلبن» و «أنا» توكيد. قال أبو جعفر: وهذه
اللغة الفصيحة، وأجاز النحويون جميعا في الشعر: لأقومنّ وزيد،
وأجاز الكوفيون وجماعة من أهل النظر أن يعطف على المضمر
المرفوع من غير توكيد لأنه يتّصل وينفصل فخالف المضمر المخفوض
إِنَّ «2» اللَّهَ قَوِيٌّ أي ذو قوّة وقدرة على أن كتب فيمن
خالفه وخالف رسله عَزِيزٌ في انتقامه لا يقدر أحد أن ينتصر
منه.
[سورة المجادلة (58) : آية 22]
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
أصحّ ما روي في هذا أنه نزل في المنافقين الذين والوا اليهود
لأنهم لا يقرّون بالله جلّ وعزّ على ما يجب الإقرار به ولا
يؤمنون باليوم الآخر فيخافون العقوبة ويُوادُّونَ في موضع نصب
لأنه خبر تجد أو نعت لقوم. وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ
أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي ولو كان
الذين حادّوا الله ورسوله آباءهم، جمع أب على الأصل، والأصل
فيه أبو والتثنية أيضا على الأصل عند البصريين لا غير، وحكى
الكوفيون: جاءني أبان أَوْ أَبْناءَهُمْ جمع ابن على الأصل
والأصل فيه: بني الساقط منه ياء، والساقط من أب واو فأما أب
فقد دل عليه التثنية وأما ابن فدلّ عليه الاشتقاق.
قال أبو إسحاق: هو مشتقّ من بناه أبوه يبينه. قال أبو جعفر:
وقد غلط بعض النحويين فقال: الساقط منه واو لأنه قد سمع
البنوة. أَوْ إِخْوانَهُمْ جمع أخ على الأصل، كما تقول: ورل
وورلان أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ قيل: هو
مجاز، و «في» بمعنى اللام أي كتب لقلوبهم الإيمان، وقد علم أن
المعنى كتب لهم، وقيل: هو حقيقة أي كتب في قلوبهم سمة الإيمان
ليعلم أنّهم مؤمنون وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ قيل: بنور
وهدى وقيل بجبرائيل صلّى الله عليه وسلّم ينصرهم ويؤيّدهم
ويوفّقهم وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها على الحال. رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أي بطاعتهم في الدنيا. وَرَضُوا عَنْهُ بإدخالهم
الجنة. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أي جنده وجماعته. وتحزّب القوم
تجمّعوا أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قيل:
أي الذين ظفروا بما أرادوا.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 142.
(2) انظر تيسير الداني 170 (فتحها نافع وابن عامر) .
(4/255)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
59 شرح إعراب سورة الحشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحشر (59) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
أي في انتقامه ممن عصاه. الْحَكِيمُ في تدبيره، وهُوَ مبتدأ
والْعَزِيزُ خبره والْحَكِيمُ نعت للعزيز، ويجوز أن يكون خبرا
ثانيا.
[سورة الحشر (59) : آية 2]
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ
أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ
مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بمحمد صلّى الله
عليه وسلّم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من اليهود وهم بنو النضير
مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ صرفت أولا لأنه مضاف، ولو
كان مفردا كان ترك الصرف فيه أولى على أنه نعت، ومن جعله غير
نعت صرفه ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا «أن» في موضع نصب
بظننتم، وهي تقوم مع صلتها مقام المفعولين عند النحويين إلّا
محمد بن يزيد فإن أبا الحسن حكى لنا عنه أن المفعول الثاني
محذوف، وكذا القول في وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا أي لم يظنّوا من قولهم: ما كان هذا في حسباني أي
في ظني، ولا يقال: في حسابي لأنه لا معنى له هاهنا، ويجوز أن
يكون معنى «لم يحتسبوا» لم يعلموا، وكذا قيل في قول الناس:
حسيبه الله أي العالم بخبره والذي يجازيه الله جلّ وعزّ، وقيل
معنى قولك: حسيبك الله كافيّ إياك الله. من قولهم: أحسبه
الشيء، إذا كفاه، وقيل: حسيبك أي محاسبك مثل شريب بمعنى مشارب،
وقيل: حسيبك أي مقتدر عليك، ومنه وكان الله على كل شيء حسيبا.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ومن قال: في قلوبهم الرّعب
جاء به على الأصل «1»
__________
(1) انظر تيسير الداني 170 (قرأ أبو عمرو مشدّدا والباقون
مخفّفا) .
(4/256)
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ويخرّبون على التكثير، وقد حكى
سيبويه أنّ فعّل يكون بمعنى أفعل كما قال: [الطويل] 471-
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
«1» فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي فاتعظوا واستدلّوا
على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأن الله جلّ وعزّ ناصره
لما يريكم في أعدائه وبصدق ما أخبركم به. واشتقاقه من عبر إلى
كذا إذا جاز إليه، والعبرة هي المتجاوزة من العين إلى الخدّ.
قال الأصمعي: وقولهم: فلان عبر أي يفعل أفعالا يورث بها أهله
العبرة وفي معنى يا أُولِي الْأَبْصارِ قولان:
أحدهما أنه من بصر العين، والآخر أنه من بصر القلب. قال أبو
جعفر: وهذا أولى بالصواب، لأن الاعتبار إنما يكون بالقلب، وهو
الاتّعاظ والاستدلال بما مرّ. فقد قيل:
إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبّرهم بهذا أنه يكون فكان على
ما وصف فيجب أن تعتبروا بهذا وغيره، كما قال جلّ وعزّ:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ [الفتح: 27] فكان كما قال، وقال جلّ ذكره: سَيَصْلى
ناراً ذاتَ لَهَبٍ [المسد: 3] ذلك وقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً [البقرة: 95] فلم يتمنه أحد منهم، وكذا وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:
87] فقالوا ذلك، وكذا وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ [الروم: 3] كذا قوله صلّى الله عليه وسلّم
لعمّار: «تقتلك الفئة الباغية» «2» وقوله عليه السلام لعلي بن
أبي طالب رضي الله عنه يوم كتب: «من محمد رسول الله» فساموه
محوها فاستعظم ذلك علي رضي الله عنه فقال له النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم: «إنّك ستسام مثلها» «3» فكان ذلك على ما قال،
وكذلك قوله في ذي الثديّة «ومن ينجو من الخوارج» «4» فكان
الأمر كما قال، وكذلك قوله في كلاب الحوأب قولا محدّدا، وكذلك
قوله في فتح المدينة البيضا وفي فتح مصر، وأوصى بأهلها خيرا
فهذا كله مما يعتبر به وقال جلّ وعزّ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ
مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فعصمه حتّى مات على فراشه، وقال:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] فاستخلف
ممّن خوطب بهذا أربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله
عنهم، وكان هذا موافقا لقوله صلّى الله عليه «الخلافة بعدي
ثلاثون» ومما يعتبر به تمثيلاته التي لا تدفع، منها حديث أبي
رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله كيف يحيي
__________
(1) انظر الفهارس العامة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه- الفتن 70، وأحمد في مسنده 2/ 161،
والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 189، والطبراني في المعجم الكبير
1/ 300، والمتقي في كنز العمال (23736) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه- المناقب 13/ 209.
(4) أخرجه ابن ماجة في سننه باب 12 الحديث (167) ، وأبو داود
في سننه، الحديث رقم (4763) . [.....]
(4/257)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ فقال:
«يا أبا رزين أما مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتزّ خضرا
فكذلك يحيي الله الموتى وكذلك آيته تعالى في خلقه» فهذا
التشبيه الباهر الذي لا يلحق، ولذلك قوله في تمثيل الميّت
بالنائم وبعثه باليقظة. وهذا أشكل شيء بشيء، فبهذا يعتبر أولو
الأبصار.
[سورة الحشر (59) : آية 3]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ
لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ
النَّارِ (3)
حكى أهل اللغة أنه يقال: جلا القوم عن منازلهم وأجليتهم هذا
الفصيح، وحكى أحمد بن يحيى ثعلب أجلوا، وحكى غيره جلوا عن
منازلهم يجلون، واستعمل فلان على الجالية والجالّة، وقرأ أكثر
الناس، وهي اللغة الفصيحة المعروفة من كلام العرب التي نقلتها
الجماعة التي تجب بها الحجّة، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء وضم الميم، فمن قرأ بها: أبو
جعفر وشيبة ونافع وعبد الله بن عامر وعاصم، وقرأ الأعمش وحمزة
والكسائي عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو
بن العلاء عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ بكسر الهاء والميم. قال أبو
جعفر: والقراءة الأولى كسرت فيها الهاء لمجاوزتها الياء
فاستثقلت ضمة بعد ياء، وأيضا فإن آخر مخرج الهاء عند مخرج
الياء وضمّت الميم لأن أصلها الضم فردّت إلى أصلها، وهذه
القراءة البينة والقراءة الثانية على الأصل إلّا أن الأعمش
والكسائي لا يقرآن عليهم إلّا أن يلقى الميم ساكن، ولا يعرف عن
أحد من القراء من جهة صحيحة أنه قرأ عليهم إلا حمزة ثم إنه
خالف ذلك فقرأ فيهم ولم يضمّ إلّا في عليهم وإليهم ولديهم إلا
ابن كيسان احتجّ له في تخصيصه هذه الثلاثة، فقال: عليهم وإليهم
ولديهم ليست الياء فيهنّ ياء محضة، وأصلها الألف، لأنك تقول:
على القوم، فلهذا أقرّوها على ضمتها لأن الياء أصلها الألف،
والياء في «في» ياء محضة. قال: وسألت أبا العباس لم قرأ
الكسائي عليهم بكسر الهاء فلما قال: (عليهم) ضمّها؟ فقال: إنما
كسرها اتباعا للياء لأن الكسرة أخت الياء فلما اضطرّ إلى ضمّ
الميم لالتقاء الساكنين لأن الضم أصلها كان الأولى أن يتبع
الهاء الميم فيضمّها أي لأن أصلها الضم وبعدها مضموم. قال أبو
جعفر: وهذا أحسن ما قيل في هذا، فأما قراءة أبي عمرو
عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ففيها حجتان إحداهما أنه كسر الميم
لالتقاء الساكنين. وهذه حجة لا معنى لها لأنه إنما يكسر
لالتقاء الساكنين ما لم يكن له أصل في الحركة فأما أن تدع
الأصل وتجتلب حركة أخرى فغير جائز، والحجة الأخرى صحيحة، وهو
إنما كسر الهاء اتباعا للياء لأنه استثقل ضمة بعد ياء، وكذلك
أيضا استثقل ضمة بعد كسرة فأبدل منها كسرة اتباعا كما فعل
بالهاء فقال عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي مع الخزي الذي
لحقهم في الدنيا من الجلاء. قال قتادة: الجلاء الخروج من بلد
إلى بلد،
(4/258)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ
أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ
خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وقيل: معنى كتب حتم وهو مجاز، وقيل: كتبه
في اللوح المحفوظ.
[سورة الحشر (59) : آية 4]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ
يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
يكون ذلِكَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ أي الأمر ذلك، ويجوز
أن يكون في موضع نصب أي فعلنا بهم ذلك، ويجوز أن يكون في موضع
رفع أيضا أي ذلك الخزي وعذاب النار لهم بأنهم خالفوا الله
ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ في موضع جزم بالشرط، وكسرت
القاف لالتقاء الساكنين، ويجوز فتحها لثقل التشديد والكسر إلّا
أنّ الفتح إذا لم يلقها ساكن أجود مثل مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ [المائدة: 54] وإذا لقيها ساكن كان الكسر أجود،
كما قال: [الوافر] 472-
فغضّ الطّرف إنّك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
«1» فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ جواب الشرط أي شديد
عقابه لمن حادّه وحادّ رسوله.
[سورة الحشر (59) : آية 5]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى
أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
في معنى «اللّينة» ثلاثة أقوال عن أهل التأويل: روى سفيان عن
داود بن أبي هند عن عكرمة بن عباس قال: اللينة النخل سوى
العجوة، وهذا قول سعيد بن جبير وعكرمة والزهري ويزيد بن رومان،
وقول مجاهد وعمر بن ميمون: إنه لجميع النخل، وكذا روى ابن وهب
عن ابن زيد قال: اللّينة النخل كانت فيها عجوة أو لم تكن، وقال
سفيان: هي كرائم النخل. وهذه الأقوال صحيحة لأن الأصمعي حكى
مثل القول الأول فيكون لجميع النخل، ويكون ما قطعوا منها
مخصوصا فتتفق الأقوال. ولينة مشتقّة عند جماعة من أهل العربية
من اللون، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وفي الجمع ليان
كما قال: [المتقارب] 473-
وسالفة كسحوق اللّبا ... ن أضرم فيها الغويّ السّعر
«2» وقال بعضهم: هي مشتقّة من لان يلين، ولو كانت من اللون،
قيل في الجميع لو أن. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي وليذلّ من
خرج من طاعته جلّ وعزّ.
[سورة الحشر (59) : آية 6]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما
أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ
اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
هذا عند أهل التفسير في بني النضير لأنه لم يوجف عليهم بخيل
ولا جمال،
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (167) .
(2) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 165، ولسان العرب (لبن) ،
وجمهرة اللغة 674، وتاج العروس (لون) وبلا نسبة في لسان العرب
(سحق) وتهذيب اللغة 4/ 25، والمخصّص 11/ 132.
(4/259)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ
عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ
مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (7)
وإنما صولحوا على الجلاء فملّك الله تعالى
مالهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحكم فيه بما أراد وكان فيه
فدك فصحّ عن الصحابة منهم عمر رضي الله عنه أن النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم كان يأخذ منه ما يكفيه وأهله ويجعل الباقي في
السلاح الذي يقاتل به العدوّ وفي الكراع. فلما توفّي النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم طالبت فاطمة رضي الله عنها على أنه ميراث
فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: أنت أعزّ الناس عليّ غير أني
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّا معاشر
الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» «1» ولكنّي أقرّه على ما كان
يفعله فيه، وتابعه أصحابه بالشهادة على أن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم كذا قال حتّى صار ذلك إجماعا، وعمل به الخلفاء
الأربعة لم يغيروا منه شيئا وأجروه مجراه في وقت النبيّ صلّى
الله عليه وسلّم فأما معنى «لا نورث ما تركنا صدقة» فقد تكلّم
فيه العلماء فقال بعضهم: معنى «لا نورث» كمعنى لا أورث كما
يقول الرجل الجليل: فعلنا كذا، وقيل: هو لجميع الأنبياء لأنه
لم يورث أحد منهم شيئا من المال، وقالوا: معنى خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] معناه خفت ألا يعملوا
بطاعة الله جلّ وعزّ.
ويدل على هذا وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم: 6] . ومعنى
يَرِثُنِي النبوة والشريعة وكذلك وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ
[النمل: 16] ومعنى «ما تركنا صدقة» فيه أقوال: فمن أصحّها أنه
بمنزلة الصدقة لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يملك شيئا.
وإنما أباحه الله جلّ وعزّ هذا فكان ينفق منه على نفسه ومن
يعوله، ويجعل الباقي في سبيل الله. فهذا قول، وقيل:
بل قد كان تصدق بكل ما يملكه، وقيل: «ما» بمعنى الذي أي لا
نورث الذي تركناه صدقة وحذفت الهاء لطول الاسم ويقال: «وجف»
إذا أسرع، وأوجفه غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلى مَنْ يَشاءُ أي كما سلّطه على بني النضير.
[سورة الحشر (59) : آية 7]
ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً
بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
في هذه الآية أربعة أقوال: منها أنه الفيء الأول وأنّ ما صولح
عليه المسلمون من غير قتال فهذا حكمه، وقيل: بل هذا غير الأول،
وهذا حكم ما كان من الجزية ومال الخراج أن يقسم. وهذا قول
معمر، وقيل: بل هذا ما قوتل عليه أهل الحرب. وهذا قول يزيد بن
رومان. والقول الرابع أن هذا حكم ما أوجف عليه بخيل وركاب،
وقوتل عليه فكان هذا حكمه حتّى نسخ بالآية التي في سورة
«الأنفال» «2» والصواب أن يكون هذا الحكم مخالفا للأول لأنه قد
صحّ عمن تقوم به الحجّة أن الأول في بني النّضير وأنه جعل حكمه
إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الثاني على خلاف ذلك
لأنه فيه
__________
(1) انظر التمهيد لابن عبد البر 8/ 175.
(2) سورة الأنفال، الآية: 1.
(4/260)
لِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ويدلّك على هذا حديث عمر مع
صحّة إسناده واستقامة طريقته قرئ على أحمد بن شعيب عن عبيد
الله بن سعيد ويحيى بن موسى وهارون بن عبد الله قالوا: حدّثنا
سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أويس بن الحدثان عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء
الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكان
ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في السلاح والكراع
عدّة في سبيل الله. فقد دلّ هذا على أن الآية الثانية حكمها
خلاف حكم الأولى لأن الأولى تدلّ على هذا إن ذلك شيء للنبيّ
صلّى الله عليه وسلّم، والآية الثانية، على خلاف ذلك قال الله
جلّ وعزّ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ
الْقُرى فَلِلَّهِ قيل: هذا افتتاح كلام، وكلّ شيء لله:
والتقدير فلسبل الله وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو
هاشم وبنو المطّلب وَالْيَتامى وهم الّذين لم يبلغوا الحلم وقد
مات آباؤهم، وَالْمَساكِينِ وهم الذين قد لحقهم ذلّ المسكنة مع
الفاقة، وَابْنِ السَّبِيلِ وهم المسافرون في غير معصية
المحتاجون كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ الضمير الّذي في يكون يعود على ما أي لا يكون ما أفاء
الله على رسوله من أهل القرى دولة يتداوله الأغنياء فيعملون
فيه ما يحبون، فقسمه الله جلّ وعزّ هذا القسم. وقرأ يزيد بن
القعقاع كي لا تكون دولة «1» بالرفع وتأنيث «تكون» دولة اسم
«تكون» «بين الأغنياء» الخبر، ويجوز أن يكون بمعنى يقع فلا
يحتاج إلى خبر مثل إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [البقرة:
282، والنساء: 29] «وأغنياء» جمع غنيّ، وهكذا جمع المعتل وإن
كان سالما جمع على فعلاء وفعال نحو كريم وكرماء وكرام، وقد
قالت العرب في السالم: نصيب وأنصباء شبه بالمعتل وشبهوا بعض
المعتل أيضا بالسالم. حكى الفرّاء «2» : نفي ونفواء بالفاء
شبّه بالسالم وقلبت ياؤه واوا. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا حكى بعض أهل
التفسير أنّ هذا في الغنائم واحتجّ بأن الحسن قال: وما أتاكم
الرسول من الغنائم فخذوه وما نهاكم عنه من الغلول قال أبو
جعفر: فهذا ليس يدلّ على أن الآية فيه خاصة بل الآية عامة.
وعلى هذا تأولها أصحاب رسول الله فقال عبد الله بن مسعود:
إن الله لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمّصة، فقيل له:
قد قرأنا القرآن فما رأينا فيه هذا فقال: قد لعنهنّ رسول الله
وقال الله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ
عَنْهُ فَانْتَهُوا وعن ابن عباس نحو من هذا في النهي عن
الانتباذ في النّقير والمزفّت. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا
عقابه في عصيانكم رسوله. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي
شديد عقابه لمن خالف رسوله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 244، وتيسير الداني 170.
(2) انظر المنقوص والممدود 14.
(4/261)
لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا
أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ (9)
[سورة الحشر (59) : آية 8]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ
وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (8)
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قيل: هو بدل ممن قد تقدّم ذكره
بإعادة الحرف مثل لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [سبأ: 32] لمن آمن
منهم، وقيل: التقدير كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم لكي
يكون للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم أي
أخرجهم المشركون. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْواناً في موضع نصب على الحال، وكذا وَيَنْصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ مبتدأ
وخبره..
[سورة الحشر (59) : آية 9]
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
الَّذِينَ في موضع خفض أي للذين، ويجوز أن يكون في موضع رفع
بالابتداء والخبر يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ أي انتقل
إليهم وإذا كان الذين في موضع خفض كان يحبّون في موضع نصب على
الحال أو مقطوعا مما قبله وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ
حاجَةً مِمَّا أُوتُوا معطوف عليه، وكذا وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي فاقة إلى ما
اثروا به. وكلّ كوّة أو خلل في حائط فهو خصاصة. وَمَنْ يُوقَ
شُحَّ نَفْسِهِ «1» جزم بالشرط فلذلك حذفت الألف منه، ولا يجوز
إثباتها إذا كان شرطا عند البصريين، ويجوز عند الكوفيين
وشبّهوه بقول الشاعر:
474-
ألم يأتيك والأنباء تنمي
«2» والفرق بين ذا والأول أن الألف لا تتحرك في حال والياء
والواو قد يتحرّكان وهذا فرق بيّن ولكن الكوفيين خلطوا حروف
المدّ واللين فجعلوا حكمها حكما واحدا، وتجاوزوا ذلك من ضرورة
الشعر إلى أن أجازوه في كتاب الله جلّ وعزّ، وحملوا قراءة حمزة
لا تخف دركا ولا تخشى [طه: 77] عليه في أحد أقوالهم. وأهل
التفسير على أنّ الشحّ أخذ المال بغير الحقّ، وقد ذكرنا
أقوالهم. والمعروف في كلام العرب أن الشّحّ أزيد من البخل،
وأنه يقال: شحّ فلان يشحّ إذا اشتدّ بخله ومنع فضل المال، كما
قال: [الوافر] 475-
ترى اللّحز الشّحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا
«3»
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 246 (قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة
«شحّ» بكسر الشين، والجمهور بإسكان الواو وتخفيف القاف، وضمّ
الشين) .
(2) مرّ الشاهد رقم (299) .
(3) الشاهد لعمرو بن كلثوم في ديوانه 65، ولسان العرب (سخن)
وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح ديوان امرئ القيس 320، وشرح القصائد
السبع 373، وشرح القصائد العشر 322، وشرح المعلقات السبع 166،
وتاج العروس (سخن) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لحز) ، ومقاييس
اللغة 5/ 237.
(4/262)
وَالَّذِينَ جَاءُوا
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ
قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ
لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
[سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا
إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
يكون الَّذِينَ في موضع خفض معطوفا على ما قبله أي والذين،
وعلى هذا كلام أهل التفسير والفقهاء، كما قال مالك ليس لمن شتم
أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الفيء نصيب لأن الله
تعالى قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا الآية، وقال قتادة: لم تؤمروا بسب أصحاب
النبيّ وإنما أمرتم بالاستغفار لهم، وقال ابن زيد في معنى قوله
وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا لا
تورّث قلوبنا غلا لمن كان على دينك. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ
رَحِيمٌ أي بخلقك. رَحِيمٌ لمن تاب منهم.
[سورة الحشر (59) : آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ
لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ
فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حذفت الألف للجزم،
والأصل فيه الهمز لأنه من رأى والأصل يرأى يَقُولُونَ
لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
«يقولون» في موضع نصب على الحال. وعن ابن عباس الَّذِينَ
نافَقُوا عبد الله بن أبيّ وأصحابه وإخوانهم من أهل الكتاب بنو
النضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من دياركم ومنازلكم
لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ من ديارنا. وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً أي لا نطيع من سألنا خذلانكم. وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ كسرت إن لمجيء اللام، وحكى لنا
علي بن سليمان عن محمد بن يزيد أنه أجاز فتحها في خبرها اللام
لأن اللام للتوكيد فلا تغيّر هاهنا شيئا.
[سورة الحشر (59) : آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا
لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ أي لئن أخرج بنو
النضير لا يخرج المنافقون معهم فخبر بالغيب، وكان الأمر على
ذلك. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ فخبّر جلّ وعزّ بما
يعلمه فإن قيل: فما وجه رفع لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ
مَعَهُمْ وظاهره أنه جواب الشرط وأنت تقول: إن أخرجوا لا
يخرجوا معهم، ولا يجوز غير ذلك، واللام توكيد فلم رفع الفعل؟
فالجواب عن هذا، وهو قول الخليل وسيبويه رحمهما الله على
معناهما أنه قسم. والمعنى والله لا يخرجون معهم إن أخرجوا، كما
تقول: والله لا
(4/263)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا
إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ
بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا
ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
يقومون، ودخلت اللام في الأول لأنه شرط
للثاني، وكذا ما بعده، وكذا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ معطوف عليه،
ويجوز أن يكون مقطوعا منه.
[سورة الحشر (59) : آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
أي في صدور بني النضير من اليهود، ونصبت رهبة على التمييز.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي من أجل أنّهم قوم
لا يفقهون قدر عظمة الله جلّ وعزّ فهم يجترءون على معاصيه ولا
يتخوّفون عقابه.
[سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ
أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
نصبت جَمِيعاً على الحال، وقرية وقرى عند الفرّاء شاذّ كان يجب
أن يكون جمعه قراء مثل غلوة وغلاء. قال أبو جعفر: وأنكر أبو
إسحاق هذا وأن يقال شاذّ لما نطق به القرآن، ولكنه مثل ضيعة
وضيع جاء بحذف الألف.
وقيل: هو اسم للجميع. أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ وقرأ أبو عمر وابن كثير أو من وراء جدار
«1» وحكي عن المكيين أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بفتح الجيم
وإسكان الدال، ويجوز جدر على أن الأصل جدر فحذفت الضّمة
لثقلها. وجدر لغة بمعنى جدار، وجدار واحد يؤدّي عن جمع إلا أن
الجمع أشبه بنسق الآية لأن قبله إِلَّا فِي قُرىً ولم يقل:
إلّا في قرية تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مفعول ثان لتحسب، وليس على
الحال. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى قال قتادة: أهل الباطل مختلفة
أهواؤهم مختلفة أعمالهم، وهم مجتمعون على معاداة أهل الحقّ.
قال مجاهد: وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى لأن بني النضير يهود
والمنافقين ليسوا بيهود. وفي حرف «2» ابن مسعود وقلوبهم أشتّ
يكون أفعل بمعنى فاعل أو يحذف منه «من» ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعقلون ما لهم فيه الحظّ مما
عليهم فيه النّقص.
[سورة الحشر (59) : آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ المعنى مثلهم كمثل الذين
من قبلهم حين تمادوا على العصيان فأهلكوا. واختلف أهل التأويل
في الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هاهنا فقال ابن عباس:
هم بنو قينقاع، وقال مجاهد هم أهل بدر. والصواب أن يقال في
هذا: إنّ الآية عامة
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 247. انظر تيسير الداني 170 (قرأ ابن
كثير وأبو عمرو بكسر الجيم وألف بعد الدال، وأمال أبو عمرو
فتحة الدال والباقون «جدر» بضم الجيم والدال) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 248.
(4/264)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي
النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ
(17)
وهؤلاء جميعا ممن كان قبلهم. قَرِيباً نعت
لظرف ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا عذاب الله على كفرهم
وعصيانهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة.
[سورة الحشر (59) : آية 16]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا
كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ
رَبَّ الْعالَمِينَ (16)
الكاف في موضع رفع أي مثل المنافقين في غرورهم بني النضير ومثل
بني النضير في قلوبهم منهم كمثل الشيطان. وفي معناه قولان:
أحدهما أنه شيطان بعينه غرّ راهبا.
وفي هذا حديث مسند قد ذكرناه، وهكذا روي عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه.
والقول الآخر أن يكون الشيطان هاهنا اسما للجنس، وكذا الإنسان،
كما روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي عامّة.
[سورة الحشر (59) : آية 17]
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها
وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
عاقِبَتَهُما خبر كان وأن وصلتها اسمها. وقرأ الحسن فَكانَ
عاقِبَتَهُما بالرفع، جعلها اسم كان، وذكّرها لأن تأنيثها غير
حقيقي خالِدَيْنِ فِيها على الحال.
وقد اختلف النحويون في الظرف إذا كرّر فقال سيبويه «1» : هذا
باب ما يثنّى فيه المستقرّ توكيدا فعلى قوله نقول: إن زيدا في
الدار جالسا فيها وجالس لا يختار أحدهما على صاحبه، وقال غيره:
الاختيار النصب لئلا يلغى الظرف مرتين، وقال الفرّاء: «2» إنّ
النصب هاهنا هو كلام العرب قال: تقول: هذا أخوك في يده درهم
قابضا عليه، والعلّة عنده في وجوب النصب أنه لا يجوز أن يقدّم
من أجل الضمير فإن قلت: هذا أخوك في يده درهم قابض على دينار،
جاز الرفع والنصب، وأنشد في ما يكون منصوبا:
[الكامل] 476-
والزّعفران على ترائبها ... شرقا به اللّبّات والنّحر
«3» قال أبو جعفر: وهذا التفريق عند سيبويه لا يلزم منه شيء،
وقد قال سيبويه: لو كانت التثنية تنصب لنصبت. في قولك: عليك
زيد حريص عليك. وهذا من أحسن ما قيل في هذا وأبينه لأنه بيّن
أن التكرير لا يعمل شيئا. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ قيل:
يعني به بني النضير لأن نسق الآية فيهم، وكلّ كافر ظالم.
__________
(1) انظر الكتاب 2/ 123.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 147.
(3) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 293، ولسان العرب (شرق) ،
وتاج العروس (شرق) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ترب) ، ولسان
العرب (ترب) ، والمخصص 2/ 20. [.....]
(4/265)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ
وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
[سورة الحشر (59) : آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ
نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء
فرائضه واجتناب معاصيه. وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ والأصل ولتنظر حذفت الكسرة لثقلها واتصالها بالواو أي
لتنظر نفس ما قدّمت ليوم القيامة من حسن ينجيها أو قبيح
يوبقها. والأصل في غد غدو وربما جاء على أصله ثم كرّر توكيدا
فقال جلّ وعزّ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ.
[سورة الحشر (59) : آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
يكون نسي بمعنى ترك أي تركوا طاعة الله جلّ وعزّ فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ قال سفيان:
أي فأنساهم حظّ أنفسهم. ومن حسن ما قيل فيه أنّ المعنى أنّ
الله لما عذّبهم شغلهم عن الفكرة في أهل دينهم أو في خواصهم،
كما قال فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] .
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله جلّ
وعزّ.
[سورة الحشر (59) : آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ
أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لا يَسْتَوِي أي لا يعتدل. أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ
الْجَنَّةِ وفي حرف ابن مسعود ولا أصحاب الجنّة تكون «لا»
زائدة للتوكيد. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي
الذين ظفروا بما طلبوا.
[سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(21)
مُتَصَدِّعاً نصب على الحال أي فزعا لتعظيمه القرآن. مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ ودلّ بهذا على أنه يجب أن يكون من معه القرآن
خائفا حذرا معظّما له منزها عمن يخالفه.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي يعرفهم بهذا.
لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينقادون إلى الحق.
[سورة الحشر (59) : آية 22]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ مبتدأ، ومن العرب من يسكّن الواو فمن أسكنها حذفها هاهنا
لالتقاء الساكنين، اسم الله جلّ وعزّ خبر الابتداء، الَّذِي من
نعته. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في الصلة أي الذي لا تصلح الألوهة
إلّا له لأن كل شيء له هو خالقه فالألوهة له وحده عالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ نعت، ولو كان بالألف واللام في الأول
لكان الثاني منصوبا، وجاز الخفض هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ
والرحمة من الله جلّ وعزّ التفضل والإحسان إلى من يرحمه.
(4/266)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
[سورة الحشر (59) : آية 23]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ
الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا
يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ومن نصب قال: إلّا
إياه وأجاز الكوفيون إلّاه على أن الهاء في موضع نصب، وأنشدوا:
[البسيط] 477-
فما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألّا يجاورنا إلّاك ديّار
«1» قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند البصريين لا يقع بعد «إلّا»
ضمير منفصل لاختلافه، وأنشد محمد بن يزيد: «ألّا يجاورنا سواك
ديّار» الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ نعت والملك مشتقّ من الملك
والمالك مشتقّ من الملك، و «القدّوس» مشتقّ من القدس وهو
الطهارة كما قال حسان بن ثابت: [الوافر] 478-
وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
«2» قال كعب: روح القدس جبرائيل عليه السلام. قال أبو زيد:
القدس الله جلّ وعزّ وكذا القدوس وقال غيره: قيل لجبرائيل صلّى
الله عليه وسلّم: روح الله لأنه خلقه من غير ذكر وأنثى ومن هذا
قيل لعيسى صلّى الله عليه وسلّم: روح الله جلّ وعزّ لأنه خلقه
من غير ذكر، والله القدوس أي مطهّر مما نسبه إليه المشركون.
وقرأ أبو الدينار الأعرابي الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ بفتح القاف.
قال أبو جعفر: ونظير هذا من كلام العرب جاء مفتوحا نحو سمّور
وشبّوط ولم يجيء مضموما إلّا «السّبّوح» و «القدّوس» وقد فتحا
السَّلامُ أي ذو السلامة من جميع الآفات. والسلام في كلام
العرب يقع على خمسة أوجه: السلام التحيّة، والسلام السّواد من
القول قال الله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا
سَلاماً [الفرقان: 63] ليس يراد به التحية، والسلام جمع سلامة،
والسلام بمعنى السلامة كما تقول: اللّذاذ واللّذاذة، «السلام»
اسم الله من هذا أي صاحب السلامة والسلام شجر قوي واحدها
سلامة. قال أبو إسحاق: سمّي بذلك لسلامته من الآفات.
الْمُؤْمِنُ «3» فيه ثلاثة أقوال: منها أن معناه الذي آمن
عباده من جوره، وقيل: المؤمن الذي آمن أولياءه من عذابه، وقال
أحمد بن يحيى ثعلب الله جلّ وعزّ: المؤمن لأنه يصدّق عباده
__________
(1) الشاهد بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 129، وأمالي ابن
الحاجب 385، وأوضح المسالك 1/ 83، وتخليص الشواهد 100، وخزانة
الأدب 5/ 278، والخصائص 1/ 307، والدرر 1/ 176، وشرح الأشموني
1/ 48، وشرح شواهد المغني 844، وشرح ابن عقيل 52، ومغني اللبيب
2/ 441.
(2) الشاهد لحسّان بن ثابت في ديوانه ص 75، ولسان العرب (كفأ)
و (جبر) ، وكتاب العين 5/ 414، وتهذيب اللغة 10/ 389، والتنبيه
والإيضاح 2/ 96، وتاج العروس (كفأ) ، و (جبر) ، وأساس البلاغة
(كفأ) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 249.
(4/267)
هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
المؤمنين. قال أبو جعفر: ومعنى هذا أن
المؤمنين يشهدون على الناس يوم القيامة فيصدّقهم الله جلّ وعزّ
الْمُهَيْمِنُ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المهيمن
الأمين، وبهذا الإسناد قال: الشهيد، وقال أبو عبيدة: المهيمن
الرقيب الحفيظ. قال أبو جعفر: وهذه كلها من صفات الله جلّ وعزّ
فالله شاهد أعمال عباده حافظ لها أمين عليها لا يظلمهم ولا
يلتهم من أعمالهم شيئا، وحكى لنا علي بن سليمان عن أبي العباس
قال: الأصل مؤيمن، وليس في أسماء الله تعالى شيء مصغّر إنما هو
مثل مسيطر أبدل من الهمزة هاء، لأن الهاء أخفّ. الْعَزِيزُ أي
العزيز في انتقامه المنيع فلا ينتصر منه من عاقبه الْجَبَّارُ
فيه أربعة أقوال: قال قتادة: الجبّار الذي يجبر خلقه على ما
يشاء، قال أبو جعفر: وهذا خطأ عند أهل العربية، لأنه إنما يجيء
من هذا مجبر ولا يجيء فعّال من أفعل، وقيل: «جبّار» من جبر
الله خلقه أي نعتهم وكفاهم.
وهذا قول حسن لا طعن فيه، وقيل: جبار من جبرت العظم فجبر أي
أقمته بعد ما انكسر فالله تعالى أقام القلوب لتفهّمها دلائله،
وقيل: هو من قولهم تجبّر النخل إذا علا وفات اليد كما قال:
[الطويل] 479-
أطافت به جيلان عند قطاعه ... وردّت عليه الماء حتّى تجبّرا
«1» فقيل: جبار لأنه لا يدركه أحد الْمُتَكَبِّرُ أي العالي
فوق خلقه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ نصبت سبحان على
أنه مصدر مشتقّ من سبّحته أي نزّهته وبرّأته مما يقول
المشركون، وهو إذا أفردته يكون معرفة ونكرة فإن جعلته نكرة
صرفته فقلت سبحانا وإن جعلته معرفة كما قال: [السريع] 480-
أقول لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
«2»
[سورة الحشر (59) : آية 24]
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ معنى خلق الشيء
قدره كما قال: [الكامل] 481-
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
«3»
__________
(1) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 58، وجمهرة اللغة 1044،
ومقاييس اللغة 1/ 499، ومجمل اللغة 1/ 457، وبلا نسبة في
اللسان (جيل) وتهذيب اللغة 11/ 191، والمخصص 16/ 30.
(2) الشاهد للأعشى في ديوانه 193، والكتاب 1/ 388، وأساس
البلاغة (سبح) ، والأشباه والنظائر 2/ 109، وجمهرة اللغة 278،
وخزانة الأدب 1/ 185، والخصائص 2/ 435، والدرر 3/ 70، وشرح
أبيات سيبويه 1/ 157، وشرح شواهد المغني 2/ 905.
(3) الشاهد لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 94، والكتاب 4/ 299،
والدرر 6/ 297، وسرّ صناعة الإعراب 2/ 471، وشرح أبيات سيبويه
2/ 344، وشرح شواهد الإيضاح 270، وشرح المفصّل 9/ 79، ولسان
العرب (خلق) و (فرا) ، والمنصف 2/ 74، وبلا نسبة في شرح شافية
ابن الحاجب 2/ 302.
(4/268)
إلّا أن محمد بن إبراهيم بن عرفة قال: معنى
خلق الله الشيء قدّره مخترعا على غير أصل بلا زيادة ولا نقصان
فلهذا ترك استعماله الناس هذا معنى قوله: الْبارِئُ قيل: معنى
البارئ الخالق، وهذا فيه تساهل لضعف من يقوله في العربية أو
على أن يتساهل فيه لأنه قبله الخالق، وحقيقة هذا أن معنى برأ
الله الخلق سوّاهم وعدّلهم ألا ترى اتساق الكلام أن قبله خلق
أي قدّر وبعده برى أي عدّل وسوّى وبعده الْمُصَوِّرُ فالصورة
بعد هذين، وقد قيل: إن المصور مشتق من صار يصير، ولو كان كذا
لكان بالياء، ولكنه مشتق من الصورة وهي المثال. لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى. قال أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله
عليه وسلّم: «لله تسعة وتسعون اسما» «1» يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه دالّ على أن له محدثا ومدبّرا لا
نظير له فقد صار بهيئته يسبّح لله أي منزّها له عن الأشياء
وَهُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه ممن كفر به الْحَكِيمُ فيما
خلقه لأن حكمته لا يرى فيها خلل، وقيل: الحكيم بمعنى الحاكم.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 2/ 314، والزبيدي في إتحاف السادة
المتقين 2/ 21، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 148، والبيهقي في
الأسماء والصفات 15.
(4/269)
|