إعراب القرآن للنحاس

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)

56 شرح إعراب سورة الواقعة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الواقعة (56) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1)
إِذا في موضع نصب لأنها ظرف زمان، والعامل فيها وقعت لأنها تشبه حروف الشرط، وإنما يعمل فيها ما بعدها. وقد حكى سيبويه «1» : أن من العرب من يجزم بها، قال: وشبهها بحروف الشرط متمكن قوي، وذلك أنها تقلب الماضي إلى المستقبل وتحتاج إلى جواب غير أنه لا يجازى بها إلّا في الشعر. فأما مخالفتها حروف المجازاة فإن ما بعدها يكون محدّدا تقول: أجيئك إذا احمرّ البسر ولا يجوز هاهنا «أن» وكسرت التاء من «وقعت» لالتقاء الساكنين، لأنها حرف فحكمها أن تكون ساكنة، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: الواقعة والطامّة والصاخّة «2» ونحو ذلك من أسماء القيامة عظمها الله جلّ وعزّ وحذّرها عباده، وقال غيره: هي الصيحة وهي النفخة الأولى.

[سورة الواقعة (56) : آية 2]
لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2)
اسم ليس وذكّرت كاذبة عند أكثر النحويين لأنها بمعنى الكذب أي ليس لوقعتها كذب. قال الفرّاء «3» : مثل عاقبة وعافية.

[سورة الواقعة (56) : آية 3]
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) على إضمار مبتدأ، والتقدير الواقعة خافضة رافعة، وقرأ اليزيدي خافِضَةٌ رافِعَةٌ «4» بالنصب. وهذه القراءة شاذة متروكة من غير جهة منها أنّ
__________
(1) انظر الكتاب 3/ 67.
(2) انظر الطبري 27/ 96، وزاد المسير 8/ 130.
(3) انظر معاني الفراء 3/ 121.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 203 (وهي قراءة زيد بن علي وعيسى وأبي حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني أيضا) .

(4/215)


إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)

الجماعة الذين تقوم بهم الحجّة على خلافها، ومنها أنّ المعنى على الرفع في قول أهل التفسير والمحقّقين من أهل العربية. فأما أهل التفسير فإن ابن عباس قال: خفضت أناسا ورفعت آخرين فعلى هذا لا يجوز إلّا الرفع: لأن المعنى خفضت قوما كانوا أعزاء في الدنيا إلى النار ورفعت قوما كانوا أذلّاء في الدنيا إلى الجنة، فإذا نصب على الحال اقتضت الحال جواز أن يكون الأمر على غير ذلك كما أنك إذا قلت: جاء زيد مسرعا، فقد كان يجوز أن يجيء على خلاف هذه الحال، وقال عكرمة والضحّاك: خافِضَةٌ رافِعَةٌ خفضت فأسمعت الأدنى، ورفعت فأسمعت الأقصى فصار الناس سواء. قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فقد تكلّم منهم جماعة في النصب. فقال محمد بن يزيد:
لا يجوز، وقال الفرّاء «1» : يجوز بمعنى إذا وقعت الواقعة وقعت خافضة رافعة فأضمر وقعت وهو عند غيره من النحويين بعيد قبيح، ولو قلت: إذا جئتك زائرا، تريد إذا جئتك جئتك زائرا. لم يجز هذا الإضمار لأنه لا يعرف معناه، وقد يتوهّم السامع أنه قد بقي من الكلام شيء. وأجاز أبو إسحاق النصب على أن يعمل في الحال «وقعت» ، قد بيّنا فساده على أن كل من أجازه فإنه يحمله على الشذوذ فهذا يكفي في تركه.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 5]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5)
إِذا في موضع نصب. قال أبو إسحاق: المعنى إذا وقعت الواقعة في هذا الوقت، رَجًّا مصدر، وكذا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. (5)

[سورة الواقعة (56) : آية 6]
فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
هَباءً خبر كان. مُنْبَثًّا من نعته. وأصحّ ما قيل في معناه ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الهباء المنبثّ رهج الدواب، وعن ابن عباس هو الغبار، وعنه هو الشرر الذي يطير من النار.

[سورة الواقعة (56) : آية 7]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7)
عن ابن عباس قال: أصنافا ثلاثة. قال أبو إسحاق: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أزواج واحدها زوج، كما يقال: زوج من الخفاف لأحد الخفّين.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 9]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ رفع الابتداء. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقيل: التقدير ما هم فلذلك صلح أن يكون خبرا عن الأول لمّا عاد عليه ذكره وكذا الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ [القارعة: 1، 2] يظهر الاسم على سبيل التعظيم
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 121.

(4/216)


وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)

والتشديد. وهذا قول حسن لأن إعادة الاسم فيه معنى التعظيم، وكذا فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) قيل: إنما قيل لهم: أصحاب الميمنة لأنّهم أعطوا كتبهم بإيمانهم، وقيل: لأنهم أخذ بهم ذات اليمين. وهذه علامة في القيامة لمن نجا، وقيل:
إن الجنة على يمين الناس يوم القيامة، وعلى هذا وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) لأن اليد اليسرى يقال لها الشّومى.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 10 الى 11]
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
قال محمد بن سيرين: السابقون الذين صلّوا القبلتين، وأبو إسحاق يذهب إلى أنّ فيه تقديرين في العربية: أحدهما أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والثاني من صفته، وخبر الابتداء أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) ، ويجوز عنده أن يكون السابقون الأول مرفوعا بالابتداء والسابقون خبره وتقديره والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله، قال: أولئك المقربون صفة. قال أبو جعفر: قوله: أولئك صفة غلط عندي لأن ما فيه الألف واللام لا يوصف بالمبهم. لا يجوز عند سيبويه: مررت بالرجل ذلك، ولا مررت بالرجل هذا، على النعت، والعلّة فيه أن المبهم أعرف مما فيه الألف واللام، وإنما ينعت الشيء عند الخليل وسيبويه بما هو دونه في التعريف، ولكن يكون أولئك المقربون بدلا أو خبرا بعد خبر.

[سورة الواقعة (56) : آية 12]
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
من صلة المقرّبين، أو خبر أخر.

[سورة الواقعة (56) : آية 13]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13)
قال أبو إسحاق: المعنى: هم ثلّة من الأولين.

[سورة الواقعة (56) : آية 14]
وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عطف عليه.

[سورة الواقعة (56) : آية 15]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
عَلى سُرُرٍ من العرب من يقول: سرر لثقل الضمّة وتكرير الحرف وفي الراء أيضا تكرير. مَوْضُونَةٍ نعت.

[سورة الواقعة (56) : آية 16]
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
قال أبو إسحاق: هما منصوبان على الحال.

(4/217)


يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)

[سورة الواقعة (56) : آية 17]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
ذكر الفرّاء «1» معناه على سنّ واحد لا يتغيّرون كأنه مشتقّ من الولادة إلّا أنه يقال:
وليد بين الولادة بفتح الواو.

[سورة الواقعة (56) : آية 18]
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
بِأَكْوابٍ اجتزئ بالجمع القليل عن الكثير. وَأَبارِيقَ لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد. وَكَأْسٍ واحد يؤدي عن الجمع، وروى عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ قال: الخمر، وقال الضحّاك: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقال قتادة: من معين من خمر ترى بالعيون.

[سورة الواقعة (56) : آية 19]
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ «2» فنفى عن الخمر ما يلحق من آفاتها من السكر والصداع، وقيل: «يصدّعون عنها» يفرّقون عن قلّى.

[سورة الواقعة (56) : آية 20]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
أي يتخيّرونها وحذفت الهاء لطول الاسم.

[سورة الواقعة (56) : آية 21]
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
أهل التفسير منهم من يقول: يخلق الله جلّ وعزّ لهم لحما على ما يشتهون من شواء أو طبيخ من جنس الطير، ومنهم من يقول: بل هو لحم طير على الحقيقة. وبهذا جاء الحديث عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما هو إلّا أن تشتهي الطائر في الجنّة وهو يطير فيقع بين يديك مشويّا» «3» .

[سورة الواقعة (56) : الآيات 22 الى 23]
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
وَحُورٌ عِينٌ (22) قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وشيبة ونافع، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي وَحُورٌ عِينٌ «4» بالخفض، وحكى سيبويه والفرّاء أنّ في قراءة أبيّ بن كعب وحورا عينا «5» بالنصب، وزعم سيبويه «6» أنّ الرفع محمول على
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 122.
(2) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 205 (قرأ الجمهور «ولا ينزفون» مبنيا للمفعول) .
(3) انظر تفسير القرطبي 17/ 34.
(4) انظر البحر المحيط 8/ 206، وتيسير الداني 168.
(5) انظر معاني الفراء 3/ 124.
(6) انظر الكتاب 1/ 228.

(4/218)


المعنى لأن المعنى فيها أكواب وأباريق وكأس من معين وفاكهة ولحم طير وحور أي ولهم حور عين وأنشد «1» : [الكامل] :
451-
بادت وغيّر ايهنّ مع البلى ... إلّا رواكد جمرهنّ هباء
ومشجّج أمّا سوعاء قذاله ... فبدا وغيّر ساره المعزاء
فرفع ومشجّج على المعنى لأن المعنى بها رواكد وبها مشجّج. والقراءة بالرفع اختيار أبي عبيد لأن الحور لا يطاف بهن، واختار الفرّاء «2» الخفض واحتج بأن الفاكهة واللحم أيضا لا يطاف بهما وإنما يطاف بالخمر. وهذا الاحتجاج لا ندري كيف هو إذ كان القراء قد أجمعوا على القراءة بالخفض في قوله جلّ وعزّ: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) فمن أين له أنه لا يطاف بهذه الأشياء التي ادّعى أنه لا يطاف بها؟ وإنما يسلّم في هذا لحجّة قاطعة أو خبر يجب التسليم له. واختلفوا في قوله جلّ وعزّ: وَحُورٌ عِينٌ (22) كما ذكرت والخفض جائز على أن يحمل على المعنى لأن المعنى ينعمون بهذه الأشياء وينعمون بحور عين، وهذا جائز في العربية كثير. كما قال: [الكامل] 452-
علفتها تبنا وماء باردا ... حتّى شتت همّالة عيناها
«3» فحملت على المعنى، وقال أخر: [مجزوء الكامل] 453-
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا
«4» وقال أخر: [الوافر] 454-
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا
«5» والعيون لا تزجّج فحمله على المعنى. فأما «وحورا عينا» فهو أيضا محمول على المعنى لأن معنى الأول يعطون هذا ويعطون حورا، كما قال «6» : [البسيط] 455-
جئني بمثل بني بدر لقومهم ... أو مثل أسرة منظور بن سيّار
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (36) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 124. [.....]
(3) الشاهد لذي الرمة في ديوانه 664، والخزانة 1/ 499، وبلا نسبة في معاني الفراء 1/ 14، وديوان المفضليات 248، واللسان (علف) .
(4) مرّ الشاهد رقم (122) .
(5) الشاهد للراعي النميري في ديوانه 269، والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج) ، والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 212، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة ص 617، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح عمدة الحافظ ص 635.
(6) مرّ الشاهد رقم (135) .

(4/219)


جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

أو عامر بن طفيل في مركّبه ... أو حارثا يوم نادى القوم يا حار
قال الحسن البصري: الحور الشديدات سواد سواد العين. وهذا أحسن ما قيل في معناهن. والحور البياض، ومنه الحوّاريّ وروي عن مجاهد أنه قال: قيل حور لأن العين تحار فيهن، وقال الضحّاك: العين العظيمات الأعين. قال أبو جعفر: عين جمع عيناء وهو على فعل إلّا أن الفاء كسرت لئلا تنقلب الياء واوا فيشكل بذوات الواو، وقد حكى الفرّاء أن من العرب من يقول: حير عين على الإتباع.
وروي عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ:
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) قال: «كصفاء الدرّ الذي في الصّدف الذي لا تمسّه الأيدي» «1» .

[سورة الواقعة (56) : آية 24]
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قال أبو إسحاق: نصبت جزاء لأنه مفعول له أي لجزاء أعمالهم. قال: ويجوز أن يكون مصدرا لأن معنى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) يجزيهم ذلك جزاء أعمالهم.

[سورة الواقعة (56) : آية 25]
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25)
اللّغو ما يلغى قيل: معناه لا يسمعون فيها صخبا ولا ضجرا ولا صياحا. فنفى الله عزّ وجلّ عن أهل الجنة كلّ ما يلحق الناس في الدنيا في نعيمهم من الضجر وفي كلّ ما يلحق في طعامهم وشرابهم من الآفات وكل ما يلحقهم من العناء والتعب وفي المأكول والمشروب في هذه السورة. وفي بعض الحديث «من داوم قراءة سورة الواقعة كلّ يوم لم يفتقر أبدا» «2» .

[سورة الواقعة (56) : آية 26]
إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
قال أبو إسحاق: إِلَّا قِيلًا منصوب بيسمعون أي لا يسمعون إلّا قيلا، وقال غيره: هو منصوب على الاستثناء سَلاماً سَلاماً يكون نعتا لقيل أي إلّا قيلا يسلم فيه من الصياح والصخب وما يؤثم فيه، ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر، ويجوز وجه ثالث وهو أن يكون منصوبا بقيل، ويكون معنى قيل أن يقولوا، وأجاز الكسائي والفرّاء الرفع في في سلام بمعنى: سلام عليكم، وأنشد الفرّاء: [الطويل] 456-
فقلنا السّلام فاتّقت من أميرها ... فما كان إلّا ومؤها بالحواجب
«3»
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 206.
(2) انظر الترغيب والترهيب للمنذري 2/ 448.
(3) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (ومأ) و (صفح) و (سلم) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 34، والمخصّص 13/ 155، وتهذيب اللغة 15/ 644، وتاج العروس (ومأ) و (صفح) .

(4/220)


وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)

[سورة الواقعة (56) : آية 27]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ في معناه ثلاثة أقوال: منها أنه إنما قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم، ومنها أنه يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين وذلك أمارة من نجا، والقول الثالث أنّهم الذين أقسم الله جلّ وعزّ أن يدخلهم الجنة. ما أَصْحابُ الْيَمِينِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول، وقول قتادة: إن المعنى: أيّ شيء هو وما أعدّ لهم من الخيرات.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 28 الى 29]
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
«مخضود» أصحّ ما قيل فيه أنه خضد شوكه، وقيل: هو مخلوق كذا، والعرب تعرف الطّلح أنه الشجر كثير الشوك. قال أبو إسحاق يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل عنه الشوك. وأهل التفسير يقولون: إن الطلح الموز. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب الغريب وأسماء النبت كثيرة حتّى إن أهل اللغة يقولون: ما يعاب على من صحّف في أسماء النبت لكثرتها.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 30 الى 31]
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
أي لا يتعب في استقائه.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 32 الى 33]
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ نعت. وجاز أن يفرق بين النعت والمنعوت بقولك لا لكثرة تصرّفها وأنها تقع زائدة. قال قتادة: في معنى وَلا مَمْنُوعَةٍ لا يمنع منها شوك ولا بعد.

[سورة الواقعة (56) : آية 34]
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
أي عالية ومنه بناء رفيع.

[سورة الواقعة (56) : آية 35]
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)
قال مجاهد: خلقن من زعفران. قال أبو إسحاق: إنشاء من غير ولادة.

[سورة الواقعة (56) : آية 36]
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
مفعول ثان. وقال أبو عبيدة: في الضمير الذي في «أنشأناهنّ» أنّه يعود على «وحور عين» ، وقال الأخفش سعيد: هو ضمير لم يجر له ذكر إلّا أنه قد عرف معناه.

(4/221)


عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)

[سورة الواقعة (56) : آية 37]
عُرُباً أَتْراباً (37)
عُرُباً «1» جمع عروب، ولغة تميم ونجد عربا يحذفون الضمة لثقلها. أَتْراباً جمع ترب.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 40]
لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
المعنى: إنّا أنشأناهنّ لأصحاب اليمين، وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر رحمة الله عليهما أنّهما قالا: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين.
وقدّره الفرّاء «2» بمعنى لأصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين، وقدّره غيره:
المعنى هم ثلّة من الأولين أي جماعة ممن تقدّم قبل مبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجماعة من أتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وقال صاحب هذا القول: إنما قيل في الأول ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، وفي الثاني ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين لأن الأول للسابقين إلى اتباع الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم والسابقون إلى اتّباعهم قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أكثر من السابقين إلى اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
يدلّك على صحة هذا أن قوم يونس صلّى الله عليه وسلّم آمنوا، وهم مائة ألف أو يزيدون، والسحرة اتّبعوا موسى صلّى الله عليه وسلّم وهم يروى أكثر من هؤلاء فلهذا قيل: وقليل من الآخرين، والثلة الثانية لأصحاب اليمين وليست للسابقين، وأصحاب اليمين قد يدخل فيهم المسلمون إلى يوم القيامة هذا على هذا القول، وقد ذكرنا غيره. والله جلّ وعزّ أعلم.

[سورة الواقعة (56) : آية 41]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ أي الّذين أعطوا كتبهم في شمالهم، وقيل: الذين أخذ بهم ذات الشمال. قال قتادة ما أَصْحابُ الشِّمالِ أي ماذا لهم وما أعدّ لهم.

[سورة الواقعة (56) : آية 42]
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42)
أي في حسر النار وما يلحق من لهبها، وحكى ابن السكيت في جمع سموم سمام. وقال أبو جعفر: فهذا على حذف الزائد وهو الواو «وحميم» وهو ما يعذّبون به من الماء الحار يجرّعونه ويصبّ على رؤوسهم كما قال جلّ وعزّ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] .

[سورة الواقعة (56) : آية 43]
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
ينصرف في المعرفة والنكرة لأنه ليس في الأفعال يفعول.

[سورة الواقعة (56) : آية 44]
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)
لا بارِدٍ أي لا ظلّ له يستر. وَلا كَرِيمٍ لأنه مؤلم وخفضت. لا بارِدٍ على
__________
(1) انظر تيسير الداني 168.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 126.

(4/222)


إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

النعت ولم تفرق «لا» بين النعت والمنعوت لتصرّفها وَلا كَرِيمٍ عطف عليه، وأجاز النحويون الرفع على إضمار مبتدأ كما قال: [الكامل] 457-
وتريك وجها كالصّحيفة لا ... ظمآن مختلج ولا جهم
«1»

[سورة الواقعة (56) : آية 45]
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
أي في الدنيا، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول: منعّمين.

[سورة الواقعة (56) : آية 46]
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
وَكانُوا يُصِرُّونَ قال ابن زيد: لا يتوبون ولا يستغفرون. والإصرار في اللغة الإقامة على الشيء وترك الإقلاع عنه. عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ قال الفرّاء: يقول الشرك هو الحنث العظيم.

[سورة الواقعة (56) : آية 47]
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تعجّبوا من هذا فلذلك جاء بالاستفهام. قال أبو جعفر: من قال إذا متنا جاء بالهمزة الثانية بين بين فهي متحرّكة كما كانت قبل التخفيف. وهكذا قال محمد بن يزيد، وقال أحمد بن يحيى ثعلب: همزة بين بين لا متحرّكة ولا ساكنة. قال أبو جعفر: فأما كتابها فبالألف لا غير لأنها مبتدأة ثم دخلت عليها ألف الاستفهام. فإذا في موضع نصب على الظرف، ولا يجوز أن يعمل فيه لمبعوثون لأنه خبر «إنّ» فلا يعمل فيما قبله والعامل فيه متنا. ويقال: متنا على لغة من قال: مات يموت وهي فصيحة ومن قال: متنا فهو على لغة من قال: مات يمات مثل خاف يخاف، وقد قيل: هو على فعل يفعل جاء شاذا.

[سورة الواقعة (56) : آية 48]
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
معطوف على الموضع، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر المرفوع.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 50]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
حكى سيبويه «2» عن العرب سماعا: ادخلوا الأول فالأول. وزعم أنه منصوب على الحال وفيه الألف واللام. وقال ابن كيسان: لا نعلم شيئا يصحّ في كلام
__________
(1) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه 313، ولسان العرب (ظمأ) و (خلج) ، وتاج العروس (ظمأ) و (خلج) ، وأساس البلاغة (جهم) ، والمفضليات 213، وبلا نسبة في المخصّص 1/ 91.
(2) انظر الكتاب 1/ 466.

(4/223)


ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)

العرب منصوبا على الحال وفيه الألف واللام إلّا هذا والعلة فيه أنه وقع فرقا بين معنيين لأنك إذا قلت: دخلوا أولا أولا فمعناه دخلوا متفرقين فإذا قلت: دخلوا الأول فالأول فمعناه أعرفهم الأول فالأول، وقال محمد بن يزيد: التعريف إنما وقع بعد فلذلك جيء بالألف واللام زائدتين كسائر الزوائد. وحكى سيبويه عن عيسى بن عمر: أدخلوا الأول فالأول يحمله على المعنى وقد خطأه سيبويه لأنه لا يجوز: ادخلوا الأول فالأول فالأول أي إنما يقال باللام، واحتج غيره لعيسى بن عمر: لأنه محمول على المعنى، كما روي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58] ، وكان يجب أن ينطق في الأول بفعل لأنه بمنزلة الأفضل، ولكن يردّ ذلك لأن فاءه وعينه من موضع واحد، ولا يوجد في كلام العرب فعل هكذا، وهو في الأسماء قليل. قالوا: كوكب لمعظم الشيء، وقالوا للهو واللعب: ددا وددن ودد، وقالوا للسيف الكليل ددان لا يعرف في الدال غير هذه. وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «حتّى يصير النّاس ببّانا واحدا» «1» أي شيئا واحدا «وبيّة» لقب. لا يعرف غير هذين في كلام العرب في الباء. أما قولهم في الطائر ببّغاء ولسبع ببر فأعجميان ولا يكاد يعرف ذلك في غير هذه الحروف إلا يسيرا إن جاء فقد قالوا لضرب من النبت آء ولا يعرف له نظير فلهذا لم يستعمل في أول فعل. وحكى سيبويه «2» أنّ «أول» يجوز أن يصرف على أنه اسم غير نعت كما يقال: ما ترك أولا ولا اخرا. وحكي ترك الصرف على أنه نعت.

[سورة الواقعة (56) : آية 51]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ أي الجائرون عن طريق الهدى. الْمُكَذِّبُونَ بالوعيد والبعث.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 52 الى 53]
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا على تأنيث الجماعة، ولو كان منه على تذكير الجميع لجاز. الْبُطُونَ جمع بطن وهو مذكر. فأما قول الشاعر: [الطويل] 458-
فإنّ كلابا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
«3» فمؤنث لتأنيث القبيلة محمول على المعنى، ولو ذكر على اللفظ لجاز.
__________
(1) انظر اللسان (بب) .
(2) انظر الكتاب 3/ 217.
(3) الشاهد لرجل من بني كلاب في الكتاب 4/ 43، وللنواح الكلابي في الدرر 6/ 196، والمقاصد النحوية 4/ 484، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 105، وأمالي الزجاجي 118، وخزانة الأدب 7/ 395، والخصائص 2/ 417، وشرح الأشموني 3/ 620، وشرح عمدة الحافظ 520، ولسان العرب (كلب) و (بطن) ، والمقتضب 2/ 148، وهمع الهوامع 2/ 149. [.....]

(4/224)


فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)

[سورة الواقعة (56) : آية 54]
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
عَلَيْهِ على الشجر على تذكير الجميع، ويجوز أن يكون على الجمع الأكل.

[سورة الواقعة (56) : آية 55]
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «1» بفتح الشين، وزعم أبو عبيد أنها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل. فقال بعض العلماء: قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلام هائل لا ينبغي لأحد أن يقوله إلّا بتيقّن والحديث الذي رواه أصحاب الحديث والناقلون له عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقولون فيه: «إنّها أيام أكل وشرب» بضم الشين سواه، أو من قال منهم. ونظير هذا قوله لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» «2» وقد سمع خدعة وخدعة. والقول في هذا على قول الخليل وسيبويه أن شربا بفتح الشين مصدر وشربا بضمها اسم للمصدر يستعمل هاهنا أكثر، ويستعمل شرب في جمع شارب، كما قال: [البسيط] 459-
فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا ... شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل
«3» «والهيم» جمع هيماء وأهيم وهو على فعل كسرت الهاء لأنها لو ضمّت انقلبت الياء واوا. وقد أجاز الفرّاء «4» أن يكون الهيم جمع هائم.

[سورة الواقعة (56) : آية 56]
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
هذا نُزُلُهُمْ أي الذي ينزلهم الله إيّاه يوم القيامة وهو يوم الدّين الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم.

[سورة الواقعة (56) : آية 57]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57)
أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا فأوجدناكم بشرا فلولا تصدّقون من فعل ذلك أنه يحييكم ويبعثكم.

[سورة الواقعة (56) : آية 58]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58)
أَفَرَأَيْتُمْ أي أيّها المكذبون بالبعث والمنكرون لقدرة الله جلّ وعزّ على إحيائهم.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168، والبحر المحيط 8/ 209.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1361) ، وأبو داود في سننه (2636) ، وأحمد في مسنده 1/ 90، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 40، والهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 320.
(3) مرّ الشاهد رقم (314) .
(4) انظر معاني الفراء 3/ 128.

(4/225)


أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)

ما تُمْنُونَ في أرحام النساء. قال الفرّاء: يقال أمنى ومنى وأمنى أكثر.

[سورة الواقعة (56) : آية 59]
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي أنتم تخلقون ذلك المنيّ حتّى تصير فيه الروح أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ.

[سورة الواقعة (56) : آية 60]
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «1» أي فمنكم قريب الأجل وبعيده كل ذلك بقدر. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي في آجالكم وما يفتات علينا فيها بل هي على ما قدّرنا.

[سورة الواقعة (56) : آية 61]
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أحسن ما قيل في معناه نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم أي نجيء بغيركم من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
أحسن ما قيل في معناه وننشئكم في غير هذه الصّور فينشئ الله جلّ وعزّ المؤمنين يوم القيامة في أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاء وينشئ الكافرين والفاسقين في أقبح الصور وإن كانوا في الدنيا نبلاء.

[سورة الواقعة (56) : آية 62]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ «2» أي علمتم أنّا أنشأناكم ولم تكونوا فهلا تذّكّرون فتعلمون أن الذي فعل ذلك لقادر على إحيائكم، والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال.

[سورة الواقعة (56) : آية 63]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63)
تكون ما مصدرا أي حرثكم، ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي أفرأيتم الحرث الذي تحرثون.

[سورة الواقعة (56) : آية 64]
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
معنى تزرعونه تجعلون زرعا، ولهذا جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال: «لا تقل زرعت ولكن قل حرثت» ثمّ تلا أبو هريرة أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ.
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها) .
(2) انظر تيسير الداني 140.

(4/226)


لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 الى 66]
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً أي متهشّما لا ينتفع به. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ اختلف العلماء في معناه، فقال الحسن وقتادة: تفكّهون أي تندّمون على ما سلف منكم من المعاصي التي عوقبتم من أجلها بهذا وقال عكرمة: تفكّهون تلاومون أي على ما فاتكم من طاعة الله جلّ وعزّ، وقيل: تفكّهون تنعمون فيكون على التقدير على هذا: أرأيتم ما تحرثون فظلتم به تفكّهون. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال ما قاله مجاهد. قال: تفكّهون تعجّبون أي يعجب بعضكم بعضا مما نزل به وأصله من تفكّه القوم بالحديث إذا عجب بعضهم بعضا منه، ويروى أنها قراءة عبد الله فَظَلْتُمْ «1» بكسر الظاء. والأصل ظللتم كما قال: [الطويل] 460-
ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد
«2» فمن قال: ظلتم حذف اللام المكسورة تخفيفا ومن قال: ظلتم ألقى حركة اللام على الظاء بعد حذفها والأصل تتفكّهون، والمعنى تقولون إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال عكرمة: إنّا لمولع بنا، وقال قتادة: لمعذبون، وقيل: قد غرمنا في زرعنا، وقول قتادة حسن بيّن لأنه معروف في كلام العرب، إنه يقال للعذاب والهلاك: غرام. قال الأعشى: [الخفيف] 461-
إن يعاقب يكن غراما وإن يعط ... جزيلا فإنّه لا يبالي
«3»

[سورة الواقعة (56) : آية 67]
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أي ليس نحن مغرمين لكنا قد حرمنا وحورفنا.

[سورة الواقعة (56) : آية 68]
أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
الَّذِي في موضع نصب وتَشْرَبُونَ صلته والتقدير: تشربونه حذفت الهاء لطول الاسم وحسن ذلك لأنه رأس آية.

[سورة الواقعة (56) : آية 69]
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ الأصل: أأنتم خفّفت الهمزة الثانية فجيء بها بين بين.
والدليل على أنها متحركة وهي بين بين أن النون بعدها ساكنة والاختيار عند الخليل
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 211.
(2) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص 5، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري 132، وصدره:
«لخولة أطلال برقة ثهمد» .
(3) الشاهد للأعشى في ديوانه ص 9.

(4/227)


لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)

وسيبويه «1» أن يؤتى بها بين بين لثقل اجتماع الهمزتين. أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ مبتدأ وخبره.

[سورة الواقعة (56) : آية 70]
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70)
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال الفرّاء: الأجاج الملح الشديد المرارة. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أي فهلّا تشكرون الذي لم نجعله ملحا فلا تنتفعون به في مشرب ولا زرع.

[سورة الواقعة (56) : آية 71]
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
قال بعض العلماء: أي ترونها بأبصاركم. قال أبو جعفر: وهذا غلط ولو كان كما قال لكان ترون إنما هو من أوريت الزند أوريه إذا قدحته.

[سورة الواقعة (56) : آية 72]
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي اخترعتموها وأحدثتموها. أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ وإن شئت جئت بهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو، ولهذا قال محمد بن يزيد: لا يجوز أن تكتب إلّا بالواو أي بواوين، وكذا «يستهزئون» ، ومن كتبها بالياء فقد أخطأ عنده، لأن الضمة أقوى الحركات فإذا كانت الهمزة مضمومة متوسّطة لم يكن قبلها حكم، ومن أبدل من الهمزة قال المنشوون والمستهزوون، قال أبو جعفر: وهذه لغة رديئة شاذّة لا توجد إلّا في يسير من الشعر، وسمعت علي بن سليمان يحكي أن الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز إبدال الهمزة يعني في غير الشعر، قال: لأن أبا زيد قال له: من العرب من يقول قرا بغير همزة فقال له سيبويه: فكيف يقولون في المستقبل فقال: يقرا فقال: هذا إذن خطأ لأنه كان يجب أن يقولوا: يقري حتّى يكون مثل رمى يرمي. قال أبو الحسن: فهذا من سيبويه يدلّ على أنه لا يجيزه.

[سورة الواقعة (56) : آية 73]
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً مفعولان أي ذات تذكرة. وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المقوون المسافرون، وقال ابن زيد: المقوي الجائع. قال أبو جعفر: أصل هذا من أقوت الدّار أي خلت، كما قال عنترة: [الكامل] 462-
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
«2» ويقال: أقوى إذا نزل بالقيّ أي الأرض الخالية، وأقوى إذا قوي أصحابه أي خلوا من الضعف.
__________
(1) انظر الكتاب 4/ 31.
(2) الشاهد لعنترة في ديوانه 189، ولسان العرب (شرع) ، وتهذيب اللغة 1/ 424، وتاج العروس (شرع) ، والمقاصد النحوية 3/ 188.

(4/228)


فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)

[سورة الواقعة (56) : آية 74]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أي بذكره وأسمائه الحسنى.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1» قول ابن عباس أنه نزول القرآن، واستدلّ الفرّاء «2» على صحة ذلك لأن بعده وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) وقول الحسن أي بمساقط النجوم، وزعم محمد بن جرير أن هذا القول أولى بالصواب لأنه المتعارف من النجوم أنها هي الطالعة إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أي مصون. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) من نعت الكتاب. تَنْزِيلٌ من نعت القرآن أي ذو تنزيل أي منزّل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.

[سورة الواقعة (56) : آية 81]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
أي تلينون الكلام لمن كفر بهذا الكتاب المكنون.

[سورة الواقعة (56) : آية 82]
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون «3» وعن ابن عباس وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون. قال أبو جعفر:
وهاتان القراءتان على التفسير، ولا يتأوّل على أحد من الصحابة أنه قرأ بخلاف ما في المصحف المجمع عليه، وكذا التفسير. والمعنى على قراءة الجماعة وتجعلون شكر رزقكم ثمّ حذف مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، وقد فسر ابن عباس هذا التكذيب كيف كان منهم قال: يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد سمّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا كفرا، قال أبو إسحاق: ونظيره قول المنجّم إذا طلع نجم كذا ثمّ سافر إنسان كان كذا فهذا التكذيب بإنذار الله جلّ وعزّ.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 84 الى 83]
مخاطبة لمن حضر ميتا: فالتقدير: فلا ترجعونها إن كنتم صادقين، يقال: رجع
__________
(1) انظر تيسير الداني 168 (قرأ حمزة والكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف والباقون بفتح الواو وألف بعدها) .
(2) انظر معاني الفراء 3/ 129.
(3) انظر المحتسب 2/ 310، والبحر المحيط 8/ 214. [.....]

(4/229)


فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)

ورجعته فعلى هذا قال تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) في أنكم لستم مملوكين مدبّرين.
قال أبو جعفر: هكذا حكى الفرّاء «1» في معنى مَدِينِينَ قال: مملوكين، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير محاسبين، وقال الحسن: غير مبعوثين، وقيل: غير مجازين من قوله عزّ وجلّ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] فأما جواب لولا الثانية ففيه قولان: قال الفرّاء «2» : أجيبتا جميعا بجواب واحد، وقيل: حذف من أحدهما ودلّ عليه الآخر.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 89 الى 88]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ «3» أي فأما إن كان المتوفّى من المقرّبين إلى رحمة الله جلّ وعزّ فله روح وريحان. قال أبو جعفر: وهذا الموضع مشكل من الإعراب لأن «أما» تحتاج إلى جواب ويسأل لم صار لا يلي «أما» إلّا الاسم وهي تشبه حروف المجازاة؟ وإنما يلي حروف المجازاة الفعل، وهذا أشكل ما فيها. فأما جواب «أما» و «إن» ففيه اختلاف بين النحويين فقول الأخفش والفراء: أنهما أجيبا بجواب واحد وهو الفاء وما بعدها، وأما قول سيبويه فإنّ «إن» لا جواب لها هاهنا، لأنّ بعدها فعلا ماضيا كما تقول: أنا أكرمتك إن جئتني، وقول محمد بن يزيد: إنّ جواب «إن» محذوف لأن بعدها ما يدلّ عليه. قال أبو جعفر: وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى «أما» فقال: هي للخروج من شيء إلى شيء أي دع ما كنا فيه وخذ في شيء أخر. فأما القول في العلّة لم لا يليها إلا الاسم: فذكر فيه أبو الحسن بن كيسان أن معنى «أما» مهما يكن من شيء فجعلت أما مؤدية عن الفعل، ولا يلي فعل فعلا فوجب أن يليها الاسم. وتقديره أن يكون بعد جوابها فإذا أردت أن إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها «مهما» وقدّر الاسم بعد الفاء تقول: أما زيدا فضربت معناه مهما يكن من شيء فضربت زيدا. وروى بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَرَوْحٌ بضم الراء، وهكذا قرأ الحسن البصري. قال أبو جعفر:
وهذا الحديث إسناده صالح وبعضهم يقول فيه: عن بديل عن أبي الجوزاء عن عائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الضمّ حياة دائمة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ قال: مستراح، وقال سعيد بن جبير: الرّوح الفرح، وروى هشيم عن جويبر عن الضحّاك:
فروح قال: استراحة، وروى غيره عن الضحّاك فروح قال: مغفرة ورحمة. قال: والروح عند أهل اللغة الفرح، كما قال سعيد بن جبير والمغفرة والرحمة من الفرح. فأما وريحان ففي معناه ثلاثة أقوال: منها أنه الرزق، ومنها أنه الراحة، ومنها أنه الريحان الذي يشمّ. هذا قول الحسن وقتادة وأبي العالية وأبي الجوزاء، وهو يروى عن عبد الله بن عمر قال: إذا قرب خروج روح المؤمن جاءه الملك بريحان فشمّه فتخرج روحه. قال أبو إسحاق:
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 215.

(4/230)


وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

الأصل في ريحان ريحان والياء الأولى منقلبة من واو. وأصله روحان، أدغمت الواو في الياء ثم خفّفت، كما يقال: ميت إلّا أنه لا يؤتى به على الأصل إلا على بعد لأن فيه ألفا ونونا زائدتين. وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي وله مع ذلك جنّة نعيم.

[سورة الواقعة (56) : آية 90]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
أي ممن أخذ به ذات اليمين إلى الجنة.

[سورة الواقعة (56) : آية 91]
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91)
فيه أقوال: قال قتادة فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ سلموا من عذاب الله جلّ وعزّ وسلّمت عليهم الملائكة وقيل فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) أي لك منهم سلام أي يسلّمون عليك. وهذا قول نظري لأن المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يخرج إلى غيره إلّا بدليل قاطع، وقيل فَسَلامٌ لَكَ فمسلّم لك أنك من أصحاب اليمين، وحذفت «أنّ» والمعنى لأنك من أصحاب اليمين. وحذف «أنّ» خطأ في العربية لأن ما بعدها داخل في صلتها وإن كان قائل هذا القول الفرّاء «1» وقد ذهب إليه محمد بن جرير.

[سورة الواقعة (56) : آية 92]
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
أي الجائرين عن الطريق.

[سورة الواقعة (56) : آية 93]
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)
فَنُزُلٌ أي عذاب مِنْ حَمِيمٍ وهو الماء الحار.

[سورة الواقعة (56) : آية 94]
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
أي إحراقه.

[سورة الواقعة (56) : آية 95]
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
الكوفيون «2» يجيزون إضافة الشيء إلى نفسه ويجعلون هذا منه، وذلك عند البصريين خطأ لأنه يبين الشيء بغيره، والمضاف إليه يبيّن به. قال مجاهد: حقّ اليقين حقّ الخبر اليقين، وقال أبو إسحاق: المعنى أن هذا الذي قصصناه في هذه السورة يقين حقّ اليقين، كما تقول: فلان عالم حقّ العالم، إذا بالغت في التوكيد.

[سورة الواقعة (56) : آية 96]
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
أي فنزّه الله جلّ وعزّ عن كفرهم بأسمائه الحسنى.
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 131.
(2) انظر الإنصاف المسألة رقم (1141) .

(4/231)


سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

57 شرح إعراب سورة الحديد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحديد (57) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سَبَّحَ عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع، والتقدير: ما في السّموات وما في الأرض، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول، وأنشد النحويون: [الرجز] 463-
لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفصلها في حسب وميسم
«1» فالتقدير: من يفضلها «2» . وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل.

[سورة الحديد (57) : آية 2]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رفع بالابتداء. يُحْيِي وَيُمِيتُ في موضع نصب على الحال، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مبتدأ وخبره.

[سورة الحديد (57) : آية 3]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ مثله. ولم ينطق من الأول بفعل، وهو على أفعل لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.
__________
(1) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب 5/ 62، وله أو لحميد الأرقط في الدرر 6/ 19، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل 3/ 59، والمقاصد النحوية 4/ 71، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح 2/ 118، وبلا نسبة في الكتاب 2/ 364، والخصائص 2/ 370، وشرح الأشموني 2/ 400، وشرح عمدة الحافظ 547، وهمع الهوامع 2/ 120.
(2) انظر الكتاب 2/ 364 (يريد: ما في قومها أحد، فحذفوا) .

(4/232)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قيل: معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، ومثله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ويدلّ على هذا أن بعده وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي لا يخفى عليه شيء.

[سورة الحديد (57) : آية 4]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
يكون الَّذِي في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال: ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها يقال: ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. وَهُوَ مَعَكُمْ نصب على الظرف، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها.

[سورة الحديد (57) : آية 5]
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم.

[سورة الحديد (57) : آية 6]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» «1» .

[سورة الحديد (57) : آية 7]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
أي يخلفون من كان قبلهم، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 17/ 235.

(4/233)


وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)

قبلهم ويورثون. فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ أي ثواب عظيم.

[سورة الحديد (57) : الآيات 8 الى 9]
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ في موضع نصب على الحال، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ قد أظهر البراهين والحجج. لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال الفرّاء «1» : القرّاء جميعا على وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ قال: ولو قرئت وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لكان صوابا. قال أبو جعفر: هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط، وقد قرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ «2» غير أن أبا عبيد قال: والقراءة عندنا هي الأولى وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر: أما قوله: لأن الأمة عليها، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة، وأما قوله: لأن ذكر الله عزّ وجلّ اسمه قبل الآية وبعدها، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان: أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلّى الله عليه وسلّم بأن الله عزّ وجلّ ربّهم لا إله لهم سواه، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل:
المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى.
وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي حين بيّن لكم هداكم.

[سورة الحديد (57) : آية 10]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(2) انظر تيسير الداني 168 (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب) .

(4/234)


مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

أن لا تنفقوا في سبيل الله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فحضّهم بهذا على الإنفاق لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة: الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل فتح مكة وقاتلوا، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا، وكذا قال زيد بن أسلم، وقال الشّعبي: الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح الحديبية: «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا: يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال: «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا» . قلنا: يا رسول الله أهم خير منا؟
قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» «1» لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى»
بالرفع. قال أبو جعفر: وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء، وأنشد: [المتقارب] 464-
فثوب نسيت وثوب أجرّ
«3» وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير: فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع، ولا يجيز زيد ضربت لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه.

[سورة الحديد (57) : آية 11]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
مَنْ في موضع رفع بالابتداء وذَا خبره والَّذِي نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع
__________
(1) انظر المعجم المفهرس لونسنك 1/ 487.
(2) انظر تيسير الداني 169.
(3) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه 159، والكتاب 1/ 139، والأشباه والنظائر 3/ 110، وخزانة الأدب 1/ 373، وشرح شواهد المغني 2/ 866، والمقاصد النحوية 1/ 545، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 124، ومغني اللبيب 2/ 472، وصدره:
«فأقبلت زحفا على الرّكبتين» .

(4/235)


يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

«من» ، وهذا قول الفرّاء «1» ، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما» ، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها، وعلى هذا قرئ وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] بالنصب، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال: اللّذيّا، يقال: ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله: الذي بمنزلة العمي فقيل: كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي: العميّ، ويقال في تصغير الذي: اللذيّا، ويقال: اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال: أجابه إجابة، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول: أقرضته مالا، «حسنا» من نعت قرض. قيل: معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزّ وجلّ مبتغيا ما عنده فَيُضاعِفَهُ لَهُ قال الفرّاء «2» : جعله عطفا على يقرض. كما تقول: من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ، وقال أبو إسحاق: يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا، ومن قرأ فيضعفه «3» جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل:
الجنة.

[سورة الحديد (57) : آية 12]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قال الضحّاك: نورهم هداهم، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال: لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر: وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر: وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي يقال لهم، وحذف القول
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 123. [.....]
(2) انظر معاني الفراء 3/ 132.
(3) انظر البحر المحيط 8/ 219، وتيسير الداني 69.

(4/236)


يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)

«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره، وأجاز الفرّاء: في «جنّات» النصب من جهتين، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم» ، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر: ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن جَنَّاتٌ إذا نصبها على القطع، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم، وليس هو في الصلة، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد، خالِدِينَ نصب على الحال. ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال الفرّاء «1» : وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو» . قال أبو جعفر:
«ذلك» مبتدأ، و «هو» زائدة للتوكيد. الْفَوْزُ الْعَظِيمُ خبر ذلك، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك.

[سورة الحديد (57) : آية 13]
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله، انْظُرُونا من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة.
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا «2» بفتح الهمزة، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ، قال: وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر: وسمعت علي بن سليمان يقول: إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا لأنه يقال: أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق، فالمعنى على هذا يصحّ. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ مجزوم لأنه جواب. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر: وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال: يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فينادي المنافقون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيقول لهم المؤمنون: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور
__________
(1) انظر معاني الفراء 3/ 133.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء) .

(4/237)


يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل: فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين: أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم: أنت تعلم ونحن نستعين، ويأتي مفتوحا، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم، وليس هذا موضع جواب التصغير. لَهُ بابٌ قال كعب الأحبار:
باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ الجنة وما فيها. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ النار.

[سورة الحديد (57) : آية 14]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم، قالُوا بَلى أي قد كنتم معنا كذلك وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ قال مجاهد: بالنفاق. وَتَرَبَّصْتُمْ قال ابن زيد: بالإيمان وَارْتَبْتُمْ قال: شكّوا، وقال غيره: ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قيل: قضاؤه بمناياكم وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال مجاهد وقتادة:
الغرور الشيطان. قال أبو جعفر: فعول في كلام العرب للتكثير، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول: [الرمل] 465-
ثمّ زادوا أنّهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فجر
«1»

[سورة الحديد (57) : آية 15]
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ «2» بالتاء لأن الفدية مؤنثة،
__________
(1) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه 55، والكتاب 1/ 168، وخزانة الأدب 8/ 188، والدرر 5/ 274، وشرح أبيات سيبويه 1/ 68، وشرح التصريح 2/ 69، وشرح عمدة الحافظ 682، وشرح المفصل 6/ 74، والمقاصد النحوية 3/ 548، ونوادر أبي زيد 10.
(2) انظر تيسير الداني 169، والبحر المحيط 8/ 221.

(4/238)


أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم مَأْواكُمُ النَّارُ أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره، وكذا هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا.

[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
وعن الحسن أَلَمْ يَأْنِ «1» يقال: أإن يئين وأني يأنى وحان يحين، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «ما» في موضع خفض أي ولما نزل، هذه قراءة شيبة ونافع، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ «2» وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر: والمعنى واحد لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزّ وجلّ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل: الاختيار نزل: لأن قبله لِذِكْرِ اللَّهِ ولم يقل لتذكير الله. وَلا يَكُونُوا «3» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى لأنها واو عطف، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قال مجاهد الدّهر. فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق لأن منهم من قد آمن، ومنهم من لم تبلغه الدعوة، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلّى الله عليه وسلّم.

[سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قيل: فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك، هذا قول سيبويه. وغيره يقول: «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 222.
(2) انظر تيسير الداني 169 (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا) .
(3) انظر البحر المحيط 8/ 222 (بالياء قراءة الجمهور، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة) .

(4/239)


إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

[سورة الحديد (57) : آية 18]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين «1» وفي قراءة ابن كثير وعاصم إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ «2» أي المؤمنين من التصديق، والأول من الصدقة وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قيل. الجنة.

[سورة الحديد (57) : آية 19]
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مبتدأ. أُولئِكَ يكون مبتدأ ثانيا، ويجوز أن يكون بدلا من الذين، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا، على النعت عند أحد علمته، ولو قلت: مررت بزيد هذا على النعت لجاز، وخير الابتداء الصِّدِّيقُونَ قال أبو إسحاق: صدّيق على التكثير أي كثير التصديق، وقال غيره: هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه: الصّدّيق، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا» .
وَالشُّهَداءُ على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مؤمنو أمتي شهداء» «3» ثم تلا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ الآية. قال أبو جعفر: فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل: إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال: إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان، قال أبو جعفر: وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره عِنْدَ رَبِّهِمْ ويجوز أن يكون خبره. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ للجميع. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا مبتدأ.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.
__________
(1) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(2) انظر تيسير الداني 169، ومختصر ابن خالويه 152، وكتاب السبعة لابن مجاهد 626.
(3) انظر تفسير القرطبي 27/ 231.

(4/240)


اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ «ما» كافة لأنّ عن العمل ولو جعلتها صلة لنصبت الحياة والدنيا من نعتها، لَعِبٌ خبر، والمعنى: مثل لعب أي يفرح الإنسان بحياته فيها كما يفرح باللعب ثم تزول حياته كما يزول لعبه وزينته وما يفاخر به الناس ويباهيهم به من كثرة الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ. قال أبو إسحاق: الكاف في موضع رفع على أنها نعت أي وتفاخر مثل غيث قال:
ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والكفّار الزرّاع. وإذا أعجب الزراع كان على نهاية من الحسن. قال: ويجوز أن يكونوا الكفار بأعيانهم، لأن الدنيا للكفار أشدّ إعجابا لأنهم لا يؤمنون بالبعث قال: و «يهيج» يبتدئ في الصفرة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً قال: متحطّما. فضرب الله جلّ وعزّ هذا مثلا للحياة الدنيا وزوالها ثمّ خبر جلّ وعزّ بما في الآخرة فقال: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
«لموضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها فاقرؤوا إن شئتم» : وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ «1» .

[سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا بالأعمال التي توجب المغفرة إلى مغفرة من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قال أبو جعفر: قد تكلّم قوم من العلماء في معنى هذا فمنهم من قال: العرض هاهنا السعة ومنهم من قال: هو مثل الليل والنهار إذا ذهبا فالله جلّ وعزّ أعلم أين يذهبان، وأجاب بهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنهم من قال: هذه هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، والسماء مؤنثة ذكر ذلك الخليل رحمه الله وغيره من النحويين سوى الفرّاء وبذلك جاء القرآن إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وحكى الفرّاء أنها تؤنّث وتذكّر، وأنشد: [الوافر] 466-
فلو رفع السّماء إليه قوما ... لحقنا بالسّماء مع السّحاب
«2» وهذا البيت لو كان حجّة لحمل على غير هذا، وهو أن يكون يحمل على تذكير
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 433، والدارمي في سننه 2/ 333، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 107، وابن كثير في تفسير 2/ 255.
(2) الشاهد بلا نسبة في لسان العرب (سما) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص 367، والمذكر والمؤنث للفراء ص 102، والمخصص 17/ 22. [.....]

(4/241)


مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)

الجميع ذكر محمد بن يزيد: أن سماء تكون جمعا لسماوة وأنشد هو وغيره: [الوافر] 467-
سماوة الهلال حتّى احقوقفا
«1» ويدلّ على صحة هذا قوله جلّ وعزّ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ [البقرة:
29] وإذا كانت السماء واحدة فتأنيثها كتأنيث عناق، وتجمع على ستة أوجه منهن جمعان مسلّمان، وجمعان مكسّران لأقل العدد، وجمعان مكسّران لأكثره، وذلك قولك: سموات وسماءات وأسم وأسمية وسمايا وسميّ وإن شئت كسرت السين من سميّ، وقد جاء فيها أخر في الشّعر كما قال: [الطويل] 468-
سماء الإله فوق سبع سمائيا
«2» فعلى هذا جمع سماء على سماء وفيه من الأشكال والنحو اللطيف غير شيء، فمن ذلك أنه شبه سماء برسالة لأن الهاء في رسالة زائدة. ووزن فعال وفعال واحد، فكان يجب على هذا أن يقول: سمايا فعمل شيئا أخر فجمعها على سماء على الأصل لأن الأصل في خطايا خطاء ثم عمل شيئا ثالثا كان يجب أن يقول: فوق سبع سماء، فأجرى المعتلّ مجرى السالم وجعله بمنزلة ما لا ينصرف من السالم، وزاد الألف للإطلاق. والأرض مؤنّثة، وقد حكي فيها التذكير، كما قال: [المتقارب] 469-
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل ابقالها
«3» قال أبو جعفر: وقد ردّ قوم هذا، ورووا «ولا أرض أبقلت ابقالها» بتخفيف الهمزة. قال ابن كيسان: في قولهم أرضون حركوا هذه الراء لأنهم أرادوا: أرضات فبنوه على ما يجب من الجمع بالألف والتاء، قال: وجمعوه بالواو والنون عوضا من حذف الهاء في واحدة ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ مبتدأ وخبره أي ذلك الفضل من التوفيق والهداية والثواب فضل الله يؤتيه من يشاء أي يؤتيه إياه من خلقه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مبتدأ وخبره.

[سورة الحديد (57) : آية 22]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
__________
(1) مرّ الشاهد رقم (423) .
(2) الشاهد لأمية بن أبي الصلت في ديوانه 70، وخزانة الأدب 1/ 244، وشرح أبيات سيبويه 2/ 304، ولسان العرب (سما) ، وبلا نسبة في الكتاب 3/ 349، والأشباه والنظائر 2/ 337، والخصائص 1/ 211، وما ينصرف وما لا ينصرف 115، والمقتضب 1/ 144، والممتع في التصريف 2/ 513، والمنصف 2/ 66. وصدره:
«له ما رأت عين البصير وفوقه»
(3) مرّ الشاهد رقم (152) .

(4/242)


لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

قال قتادة: فِي الْأَرْضِ يعني السنين أي الحرب والقحط. وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الأوصاب والأمراض إلّا في كتاب. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يكون من قبل أن نخلق الأنفس هذا قول ابن عباس والضحّاك والحسن وابن زيد، وقيل: الضمير للأرض، وقيل:
للمصائب والأول أولاها لأن الجلّة قالوا به، وهو أقرب إلى الضمير. وقال بعض العلماء: هذا معنى قضاء الله وقدره أنه كتب كلّ ما يكون ليعلم الملائكة عظيم قدرته جلّ وعزّ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنه جلّ وعزّ إنما يقول للشيء: كن فيكون.

[سورة الحديد (57) : الآيات 23 الى 24]
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ أي من أمر الدنيا إذ أعلمكم الله جلّ وعزّ أنه مفروغ منه مكتوب. وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وهو الفرح الذي يؤدي إلى المعصية، وقرأ أبو عمرو ولا تفرحوا بما آتاكم «1» وهو اختيار أبي عبيد، واحتجّ أنه لو أتاكم لكان الأول أفاتكم. قال أبو جعفر: وهذا الاحتجاج مردود عليه من العلماء وأهل النظر لأن كتاب الله عزّ وجلّ لا يحمل على المقاييس، وإنما يحمل بما تؤديه الجماعة فإذا جاء رجل فقاس بعد أن يكون متّبعا، وإنما تؤخذ القراءة كما قلنا أو كما قال نافع بن أبي نعيم: ما قرأت حرفا حتّى يجتمع عليه رجلان من الأئمة أو أكثر. فقد صارت قراءة نافع عن ثلاثة أو أكثر ولا نعلم أحدا قرأ بهذا الذي اختاره أبو عبيد إلّا أبا عمرو، ومع هذا فالذي رغب عنه معروف المعنى صحيح قد علم كلّ ذي لبّ وعلم أن ما فات الإنسان أو أتاه فالله عزّ وجلّ فاته إياه أو أتاه إياه، ولو لم يعلم هذا إلّا من قوله جلّ وعزّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها والله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي في مشيته تكبّرا وتعظّما فخور على الناس بماله ودنياه، وإنما ينبغي أن يتواضع لله جلّ وعزّ ويشكره ويثني عليه.
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بحقوق الله جلّ وعزّ عليهم وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي بما يفعلونه من ذلك وفي إعراب الَّذِينَ «2» خمسة أوجه منها ثلاثة للرفع واثنان للنصب.
يكون الَّذِينَ في موضع رفع على إضمار مبتدأ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف يدلّ عليه الاخبار عن نظائره، والوجه الثالث أن يكون
__________
(1) انظر تيسير الداني 169 (قرأ أبو عمرو «بما أتاكم» بالقصر والباقون بالمدّ) .
(2) انظر البحر المحيط 8/ 224.

(4/243)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

مرفوعا بالابتداء ودلّ على خبره ما بعده من الشرط والمجازاة لأنه في معناه. ويجوز أن يكون في موضع نصب على البدل من كلّ أو بمعنى أعني. وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي الغني عن خلقه وعما ينفقونه، الحميد إليهم بإنعامه عليهم. ومن قرأ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» جعل «هو» زائدة فيها معنى التوكيد أو مبتدأ، وما بعدها خبرا، والجملة خبر «إن» .

[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي بالأحكام والشرائع. وَالْمِيزانَ قال ابن زيد، هو الميزان الذي يتعامل الناس به، وقال قتادة: الميزان الحق لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ منصوب بلام كي، وحقيقته أنها بدل من «أن» . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ أي للناس فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ قال ابن زيد: البأس الشديد السلاح والسيوف يقاتل الناس بها، قال: والمنافع التي يحفر بها الأرضون والجبال. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ معطوف على الهاء. بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي قويّ على الانتصار ممن بارزه بالمعاداة عزيز في انتقامه منه لأنه لا يمنعه منه مانع.

[سورة الحديد (57) : آية 26]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ إلى قومهما. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أي متّبع لطريق الهدى مستبصر. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون إلى الكفر والمعاصي.

[سورة الحديد (57) : آية 27]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أتبعنا، ويكون الضمير يعود على الذريّة أو على نوح وإبراهيم عليهما السلام لأن الاثنين جمع وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي أتبعنا.
وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يروى أنه نزل جملة. وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 224، وتيسير الداني 169، (قرأ ابن عامر ونافع بغير هو، والباقون بزيادة هو) .

(4/244)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

ويقال: رأفة وقد رؤف ورأف وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها نصبت رهبانية بإضمار فعل أي فابتدعوا رهبانية أي أحدثوها، وقيل: هو معطوف على الأول. ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ قال ابن زيد: أي ما افترضناها. إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ نصب على الاستثناء الذي ليس من الأول ويجوز أن يكون بدلا من المضمر أي ما كتبناها عليهم إلّا ابتغاء رضوان الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها لفظه عام ويراد به الخاص لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدلّ على صحته فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وفي الذين لم يرعوها قولان: مذهب الضحّاك وقتادة أنّهم الذين ابتدعوها تهوّد منهم قوم وتنصّروا، وهذا يروى عن أبي أمامة، فأما الذي روي عن ابن عباس فإنهم كانوا من بعد من ابتدعها بأنهم كفار ترهّبوا، وقالوا:
نتبع من كان قبلنا ويدلّ على صحّة هذا حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ قال: «من آمن بي» . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ قال: من جحدني.

[سورة الحديد (57) : آية 28]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال الضحّاك: من أهل الكتاب. اتَّقُوا اللَّهَ أي في ترك معاصيه وأداء فرائضه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني حظّين، كما روى أبو بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، من كان من أهل الكتاب فآمن بالتوراة والإنجيل ثم آمن بالقرآن، ورجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن أدبها ثم تزوّجها، وعبد نصح مولاه وأدّى فرض الله جلّ وعزّ عليه» وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ عن ابن عباس قال: القرآن واتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد:
الهدى، قال أبو إسحاق: ويقال إنه النور الذي يكون للمؤمنين يوم القيامة وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي يصفح عنكم ويستر عليكم ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ذو مغفرة ورحمة لا يعذّب من تاب.

[سورة الحديد (57) : آية 29]
لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
لا زائدة للتوكيد ودلّ على هذا ما قبل الكلام وما بعده أي لأن يعلم ويروى عن ابن عباس أنه قرأ لأن يعلم أهل الكتاب وكذا يروى عن عاصم الجحدري وعن ابن مسعود لكي يعلم أهل الكتاب «1» وكذا عن سعيد بن جبير، وهذه قراءات على التفسير لا يقدرون فرفعت الفعل لأن المعنى أنه لا يقدرون يدلّ على هذا أن بعده:
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 227، ومعاني الفراء 3/ 137.

(4/245)


وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ، وبعض الكوفيين يقول «لا» بمعنى «ليس» ، والأول قول سيبويه، وروى المعتمر عن أبيه عن ابن عباس قال: اقرءوا بقراءة ابن مسعود ألّا يقدروا «1» بغير نون فهذا على أنه منصوب بأن. قال أبو جعفر: وهذا بعيد في العربية أن تقع أَنَّ معملة بعد يَعْلَمَ وهو من الشواذ، ومن الشواذ أنه روي عن الحسن أنه قرأ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ بالرفع ومجازه ما ذكرناه من أن التقدير فيه أنه وأن الفضل بيد الله أي بيد الله دونهم لأنه كما روي قالوا: الأنبياء منّا فكفروا بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبمحمد فأعلم الله جلّ وعزّ أنّ الفضل بيده يرسل من شاء وينعم على من أراد إلّا أن قتادة قال:
لمّا أنزل الله جلّ وعزّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ حسد اليهود المسلمين فأنزل الله جلّ وعزّ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من خلقه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أي على عباده.
__________
(1) انظر البحر المحيط 8/ 228.

(4/246)