البرهان فى تناسب سور القرآن سورة يونس
عليه السلام
لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى: "إلاتنصروه فقد نصره الله "
وقوله: "عفا الله عنك لم أذنت لهم " وقوله: (وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) "
(1/221)
وقوله (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ)
إلى آخر السورة، إلى ما تخلل أثناء آى هذه السورة الكريمة
مما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخصيصه بمزايا
السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب، ووصفه بالرأفة
والرحمة، هذا مع ما انطوت عليه هي والأنفال من قهره أعداءه
وتأييده ونصره عليهم وظهور دينه، وعلو دعوته وإعلاء لكلمته إلى
غير هذا
من نعم الله سبحانه عليه، كان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب
وتوقف الشاك، ومثيرا لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم، ما
مُنحه عليه السلام قال تعالى في هذه السورة: "أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ
لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ
إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
ثم قال تعالى: "إن ربكم الله " الآيات وما بعدها
فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف
تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله
ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم
في خلقه بما يريد "ذلكم الله ربكم فاعبدوه " "ما خلق الله ذلك
إلا بالحق " ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكير في عظيم آياته
حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا
"مال هذا الرسول يأكل الطعام يمشى في الأسواق " "وَقَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا"
وهذه مقالات الأمم المتقدمة
"قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا"، "ما نراك إلا بشرا مثلنا"
(1/222)
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ
مِثْلِنَا)
"مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا
كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ"
فقال تعالى متوعداً للغافلين: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ.. الآيات " وكل هذا بين الالتحام جليل الالتئام
ثم تناسجت آى السورة.
سورة هود عليه السلام
لما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت من آي التنبيه
والتحريك للنظر، ومن العظات والتخويف والتهديد والترهيبب
والترغيب وتقريع المشركين والجاحدين والقطع بهم والإعلام
بالجريان على حكم السوابق ووجوب التفويض والتسليم ما لم تشتمل
على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب
(1/223)
تكرر ذلك فيها والله أعلم، أنها أعقبت بها
السبع الطوال، وقد مر التنبيه
على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن
الصراط المستقيم على اختلاف أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام
ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كا تقدم، وبسطت
ما أجمل من أمرهم، ثم أتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وحذروا وأنذروا كشف عن حال من تلبس بهم
من عدوهم من
المنافقين، وتم المقصود من هذا في سورة (الأنفال وبراءة) ثم
عاد الخطاب إلى
طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه بعد بسط ما تقدم،
فكان مظنة لتأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال
وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس عليه السلام مضمنة من هذا
ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله "إن ربكم الله ...
الآيات، ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة
البقرة بقوله تعالى: "يا أيها الناس اعبدوا ربكم" (آية: 21) ،
ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ"
ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين
والمعاندين فمن
التنبيه "إن ربكم الله " إن في اختلاف الليل والنهار" "قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" "قل
انظروا ماذا في السماوات والأرض "
إلى غير هذا.
وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه
السورة إلى
قوله تعالى: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ"
فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل
فيما تقدمها، كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين
والمتنكبين، فلما تقرر هذا كله، أتبع المجموع بقوله: " كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ "
(1/224)
وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين
الكريمين وهما: الحكيم، الخبير، ثم
تأمل تلاؤم صدر السورة لقوله: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ"
وقد كان تقدم قوله تعالى: "قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ"
فأتبع قوله تعالى: "قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ"
بقوله في صدر سورة هود كتاب أحكمت آياته ثم فصلت "
فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق
لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق
توبيخهم في قوله تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ".
والعجب في عمههم مع أحكامه وتفصيله، ولكن. (إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) .
وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة والله أعلم بما
أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من كمال بيان الصراط المستقيم،
وملتزمات متبعيه أخذا وتركا، وذكر أحوال المتنكبين على شتى
طرقهم واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرّهم إبليس فإنه متبعهم
والقائل لجميعهم في أخبار الله تعالى سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ"
وقد نسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين
الحذر منه وعرفهم به، وذُكِرَ اليهود والنصارى والمشركون
والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم، كما
استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيئين والصديقين
والشهداء والصالحين، وفصل من أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاما
وتركاً ما أوضح طريقهم وعين حزبهم
وفريقهم، "أولئك الذين هدى الله"
وذكر أحوال الأمم مع
(1/225)
أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلا،
وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام، وحال الملائكة في
التسليم والإذعان، وذكر فريقا الجن من مؤمن وكافر، وأمر الآخرة
وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي، وتكرر دعاء الخلق إلى
الله تعالى طمعا فيه ورحمة، وإعلام الخلق بما هو عليه سبحانه،
وما يجب له من الصفات العلا، والأسماء الحسنى، ونبه العباد على
الاعتبار وعلموا طرق الاستدلال ورغبوا ورهبوا وأنذروا وأعلموا
بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المنفرد بخلقهم
إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به، والله
يقول الحق.
فلما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها، أعقب ذلك بقوله:
" كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ
حَكِيمٍ خَبِيرٍ"
ثم أتبع هذا بالايماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آى الكتاب،
وهي فصل الإلهية وفصل الرسالة وفصل التكاليف.
أما الأول فأشار إليه قوله: "أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ"
وأما فصل الرسالة فأشار إليه سبحانه: "إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ"
وأما فصل التكاليف فأشار إليه قوله سبحانه: "وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ"
وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آى القران، وعليها
مدار السورة الكريمة.
فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند
ولا تعلق للجاحد، واتضح الحق وبان، قال سبحانه وتعالى: "وجاءك
في هذه الحق "
إشارة إلى كمال المقصود، وبيان المطلوب واستيفاء التعريف
بوضوح الطريق، وقد وضح من هذا تلاؤم هذه السورة الكريمة لما
تقدمها، ومما
(1/226)
يشهد لهذا والله أعلم قوله تعالى:
"أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ
شَاهِدٌ مِنْهُ"
وقوله تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ
وَلَا تَطْغَوْا"
فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك "ولا تركنوا إلى الذين
ظلموا"
فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق.
كيف تنكب من حُرم سلوكَه من الخلق. ونظير قوله سبحانه: "وجاءك
في
هذه الحق " عقب ما ذكر سبحانه "لمن الملك اليوم"
وقوله تعالى: "يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ"
فتأمل ذلك والله المستعان.
سورة يوسف عليه السلام
هذه السورة من جملة ما قص عليه عليه السلام من أنباء الرسل
وأخبار من
تقدمه مما فيه التثبيت الممنوح في قوله تعالى: "وكلا نقص عليك
من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك "، ومما وقعت الإحالة عليه في
سورة الأنعام كما
(1/227)
تقدم، وإنما أفردت على حدتها ولم تنسق على
قصص الرسل مع أممهم في سورة واحدة لمفارقة مضمونها تلك القصص،
ألا ترى أن تلك قصص إرسال من تقدم ذكرهم عليهم السلام كيفية
تلقي قومهم لهم وإهلاك مكذبيهم، ْ أما هذه القصة فحاصلها فرج
بعد شدة، وتعريف بحسن عاقبة الصبر، فإنه تعالى امتحن يعقوب
عليه السلام بفقد ابنيه وبصره وشتات بنيه، وامتحن يوسف عليه
السلام بالجب والبيع وامرأة العزيز وفقد الأب والأخوة والسجن،
ثم امتحن جميعهم بشمول الضرر وقلة ذات اليد "مَسَّنَا
وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ"
ثم تداركهم الله بإلفهم وجمع كلهم ورد بصر أبيهم وائتلاف
قلوبهم
ورفع ما نزغ به الشيطان، وخلاص يوسف عليه الصلاة والسلام من
كيد
من كاده واكتنافه بالعصمة وبراءته عند الملك، وكل ذلك مما
أعقبه جيل الصبر، وجلالة اليقين في حسن تلقي الأقدار بالتفويض
والتسليم على توالي الامتحان وطول المدة، ثم انجر في أثناء هذه
القصة الجليلة إثابة امرأة العزيز ورجوعها إلى الحق وشهادتها
ليوسف عليه السلام بما منحه الله من النزاهة عن كل ما يشين، ثم
استخلاص العزيز إياه إلى ما أنجز في هذه القصة الجليلة من
العجائب والعبر، "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ".
فقد انفردت هذه القصة بنفسها وتناسب ما ذكر منْ قصص نوح وهود
وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، وما جرى من أممهمْ،
فلهذا فصِلت عنهم.
(1/228)
سورة برأسها إلى عاقبة من صبر ورضى وسلم
ليتنبه المؤمنون على ما في طي ذلك، وقد صرح لهم بما أجملته هذه
السورة من الإشارة في قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْنًا"
وكانت قصة يوسف (عليه السلام) ، بجملتها أشبه شىء بحال
المؤمنين في
مكابدتهم في أول الأمر وهجرتهم وتشتتهم مع قومهم، وقلة ذات
أيديهم إلى أن جمع الله شملهم "وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا"
وأورثهم الأرض وأيدهم ونصرهم، ذلك. بجليل إيمانهم وعظيم صبرهم.
فهذا ما أوجب تجرد هذه القصة عن تلك القصص والله أعلم، وأما
تأخر
ذكرها عنها فمناسب لحالها، ولأنها إخبار بعاقبة من آمن واتعظ
ووقف عند ما حُد له فلم يضره ما كان، ولم تُذكر إثر قصص
الأعراف لما بقي من استيفاء تلك القصص الحاصل ذلك في سورة هود،
ثم إن ذكر أحوال المؤمنين مع من كان معهم من المنافقين وصبرهم
عليهم مما يجب أن يتقدم ويعقب بهذه القصة من حث عاقبة الصبر
والحض عليه كما مر فأخرت إلى عقب سورة هود عليه السلام لمجموع
هذا والله تعالى أعلم.
ثم ناسبت سورة يوسف أيضا أن تذكر إثر قوله تعالى: "إن الحسنات
يذهبن السيئات " وقوله: "واصبر فإن الله لا يضيع أمر المحسنين
"
وقوله: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة الآية " وقوله "وقل
للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا
منتظرون "
فتدبر ذلك.
أما نسبتها للآية الأولى فإن ندم إخوة يوسف واعترافهم بخطإ
فعلهم وفضل يوسف عليهم "لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا
وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ"
وعفوه عنهم "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ"، وندم
(1/229)
امرأة العزيز وقولها "الْآنَ حَصْحَصَ
الْحَقُّ ... الآية" كل هذا من باب
إذهاب الحسنة السيئة، وكأن ذلك مثال لما عرف المومنون من إذهاب
الحسنة
السيئة، وأما نسبة السورة لقوله تعالى: "واصبر فإن الله لا
يضيع أجر المحسنين "
فإن هذا أمر منه سبحانه لنبيه عليه السلام بالصبر على قومه،
فأتبع
بحال يعقوب ويوسف عليهما السلام، وما كان من صبرهما مع طول
المدة وتوالي امتحان يوسف عليه السلام بالجب ومفارقة الأب
والسجن حتى خلصه الله أجمل خلاص بعد طول تلك المشقات، ألا ترى
قول نبينا (عليه الصلاة والسلام) ، وقد ذكر يوسف عليه السلام
فشهد له بجلالة الحال، وعظيم الصبر فقال: "ولو لبثت في السجن
ما لبث أخي يوسف لأجبت الداعي "، فتأمل عذره له عليهما السلام
وشهادته بعظيم قدر يوسف "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت
به فؤادك ".
لما قيل له عليه السلام "واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
"
أتبع بحال يعقوب ويوسف من المحسنين، "ووهبنا له إسحاق ويعقوب"
إلى قوله "وكذلك نجزي المحسنين ".
وقد شملت الآية ذكر يعقوب ويوسف (عليهما السلام) ، ونبينا عليه
الصلاة والسلام قد أمر بالاقتداء في الصبر بهم، وقيل له "فاصبر
كما
صبر أولو العزم من الرسل "
ويوسف عليه السلام من أولي العزم (صلى الله عليهم أجمعين.
(1/230)
ثم إن حال يعقوب ويوسف عليهما السلام في صبرهما ورؤية حسن
عاقبة
الصبر في الدنيا مع ما أعد الله لهما من عظيم الثواب أنسب شىء
لحال نبينا
عليه السلام في مكابدة قريش ومفارقة وطنه، ثم تعقب ذلك بظفره
بعدوه، وإعزاز دينه، وإظهار كلمته، ورجوعه إلى بلده على حالة
قرت بها عيون المؤمنين وما فتح الله عليه وعلى أصحابه فتأمل
ذلك.
ويوضح ما ذكرناه ختم السورة بقوله تعالى: "حتى إذا استيأس
الرسل
وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ... " الآية.، فحاصل هذا كله
الأمر بالصبر وحسن عاقبة أولياء الله فيه.
وأما النسبة لقوله "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا
يزالون مختلفين " فلا أنسب لهذا ولا أعجب من حال إخوة فضلاء
لأب واحد من أنبياء الله وصالحى عباده جرى بينهم من التشتت ما
جعله الله عبرة لأولى الألباب، وأما النسبة لآية التهديد
فبينة، وكأن الكلام في قوة اعملوا على مكانتكم وانتظروا، فلن
نصبر عليكم مدة صبر يعقوب ويوسف (عليهما السلام) ، وقد وضح
بفضل الله وجه ورود هذه السورة عقب سورة هود والله أعلم. |