البرهان فى تناسب سور القرآن سورة الرعد
هذه السورة تفصيل لمجمل قوله سبحانه في خاتمة سورة يوسف عليه
السلام "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها
معرضون
(1/231)
(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ
تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
(107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
فبيان آى السمماوات في قوله (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)
وبيان آي الأرض في قوله: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)
فهذه آي السماوات والأرض وقد زيدت بيانا في مواضع ثم في قوله
تعالى: "يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ" ما يكون من الآيات
عنهن، لأن الظلمة
عن جرم الأرض والضياء عن نور الشمس وهى سماوية ثم زاد تعالى
آيات الأرض بيانا وتفصيلا في قوله: "وفي الأرض قطع متجاورات"
إلى قوله "لقوم يعقلون "
ولما كان إخراج الثمر بالماء النازل من السماء من أعظم آية
ودليلا واضحا على صحة المعاد، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى
"كذلك نخرج الموتى" وكان قد ورد هنا على أعظم جهة في الاعتبار
من إخراجها مختلفات في
الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد المادة، تسقى بماء واحد
ونفضل بعضها على بعض في الطعوم والألوان والروائح مع اتحاد
المادة "تسقى بماء واحد وتفضل بعضها على بعض في الأكل " لذلك
أعقب قوله تعالى: "وفي الأرض قطع متجاورات ... الآية بقوله
"وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ"
ثم بين سبحانه الصنف القائل بهذا وأنهم الكافرون أهل الخلود
في النار، ثم أعقب ذلك ببيان عظيم حلمه وعفوه فقال:
"وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... "
الآية، ثم أتبعِ ذلك بما يشعر بالجري على السوابق في
قوله: "إنما أنت منذر ولكل قوم هاد" ثم بين عظيم ملكه واطلاعه
على
(1/232)
دقائق ما أوجده من جليل صنعه واقتداره
فقال: "الله يعلم ما تحمل كل
أنثى ... ". الآيات إلى قوله "وما لكم من دونه من وال "
ثم خوف عباده وأنذرهم ورغبهم "هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا
... الآيات " وما بعدها
وكل ذلك راجع إلى ما أودع سبحانه في السماوات والأرض وما
بينهما من الآيات، وفي ذلك أكثر آي السورة.
ونبه تعالى على الآية الكبرى والمعجزة العظمى فقال:
"وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى"
والمراد لكان هذا القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا"
، والتنبيه بعظيم هذه الآيات مناسب لمقتضى السورة من التنبيه
بما
أودع تعالى من الآيات في السماوات والأرض، وكأنه جل وتعالى لما
بين لهم عظيم ما أودع في السماوات والأرض وما بينهما من الآيات
وبسط ذلك وأوضحه أردف ذلك بآية أخرى جامعة للآيات ومتسعة
للاعتبارات فقال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ" فهو من نحو "إن في السموات والأرض لآيات
للمؤمنين"، "وفي أنفسكم "، أي لو فكرتم في آيات
السماوات والأرض لأقلتكم كفتكم في بيان الطريق إليه، ولو فكرتم
في أنفسكم وما أودع تعالى فيكم من العجائب لاكتفيم، (من عرف
نفسه عرف)
(1/233)
فمن قبيل هذا القرب من الاعتبار هو الواقع
في سورة الرعد من بسط
آيات السماوات والأرض، ثم ذكر القرآن وما يحتمل، فهذه إشارة
إلى ما تضمنت هذه السورة الجليلة من بسط الآيات المودعة في
الأرضين والسماوات.
وأما قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
فقد أشار إليه قوله تعالى: "ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "
"إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ" وقوله: (الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
فالذين تطمئن قلوبهم بذكر الله هم أولو الألباب المتذكرون
التامو الإيمان وهم القليل المشار إليهم في قوله: "وقليل ما هم
" والمقول فيهم "أولئك هم
المؤمنون حقا" ودون هؤلاء طوائف من المؤمنين ليسوا في درجاتهم
ولا بلغوا يقينهم وإليهم الإشارة بقوله: (وَمَا يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قال عليه الصلاة والسلام (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل)
فهذا بيان ما أجمل في قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) .
وأما قوله تعالى: " أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ"
فما عجل لهم من ذلك في قوله: "وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ"
القاطع دابرهم والمستأصل لأمرهم، وأما قوله تعالى: "قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ....
الآية
(1/234)
فقد أوضحت آى سورة الرعد سبيله عليه السلام
وبينته بما تحتمله من عظيم التنبيه وبسط الدلائل بما في
السماوات والأرض
وما بينهما وما في العالم بجملته وما تحمله الكتاب المبين كما
تقدم.
ثم قد تعرضت السورة لبيان جلي سالكي تلك السبيل الواضحة
المنجية
فقال تعالى: "الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " إلى
آخر
ما حلاهم به أخذا وتركا.
ثم عاد الكلام بعد إلى ما فيه من التنبيه والبسط وتقريع الكفار
وتوبيخهم
وتسليمه عليه السلام في أمرهم "إنما أنت منذر" "وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ
أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً" "فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ"
"وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا"
والسورة بجملتها غير حائدة عن تلك الأغراض المجملة في الآيات
الأربع المذكورات من آخر سورة يوسف، ومعظم السورة وغالب آيها
في التنبيه وبسط الدلالات والتذكير بعظيم ما أودعت من الآيات،
ولما كان هذا شأنها أعقبت بمفتتح سورة إبراهيم عليه السلام.
(1/235)
سورة إبراهيم
عليه السلام
لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات
واليراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لعظيم
شأنها
واتضاح أمرها، قال تعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ"
أى إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته "وَلَوْ
أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى"
(1/236)
ولما كان الهدى والضلال كل ذلك موقوف على
مشيئة الله سبحانه وسابق إرادته، وقد قال لنبيه عليه السلام:
"إنما أنت منذر ولكل قوم هاد"
قال تعالى هنا "بإذن ربهم " "فإنما عليك البلاغ " وكما قال
تعالى: "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ"، ثم بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له
وملكه فقال: "الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض "
فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما وما بينهما من عظيم ما
أوضح لكم
الاعتبار به، كل ذلك له ملكا وخلقا واختراعا "وله أسلم من في
السماوات
والأرض طوعا وكرها" "وويل للكافرين من عذاب شديد"
لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه، ويصدون عن سبيل الله مع وضوح
السبيل وانتهاج ذلك بالدليل ثم قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول
إلا
بلسان قومه " وكان هذا من تمام قوله سبحانه "ولقد أرسلنا رسلا
من
قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية"
وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد إِلفهم بما جبل
على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى
قالوا: "أبشر يهدوننا" "ما أنتم إلا بشر مثلنا" وحتى قالت
قريش: " لولا أنزل عليه ملك " و "مَالِ هَذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا
أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
"وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ
مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ"
فلما كثر هذا منهم وتبع خلفُهم في هذا سلفَهم رد تعالى أزعامهم
وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئا
(1/237)
فشيئا، فأول الوارد من ذلك في معرض السرد
عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى: "أكان للناس عجبا ان
أوحينا إلى رجل منهم ... الآية "، ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى
بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما
يشاء، لأن الكل خلقه وملكه وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال
الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذه الآى كل
جاحد ومعاند، ثم ذكر تعالى في سورة هود قوم نوح: "ما نراك إلا
بشرا مثلنا ... الآية"
وجوابه عليه السلام: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ
فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا
كَارِهُونَ"
أي وإني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله من فضله
وآتاني رحمة من عنده وبرهانا على ما جئتكم به عنه، وفي هذه
القصة أوضح عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام وديدن
الأمم أبدا مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد
والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى، وما هو شاهد على تعنتهم، ثم
زاد تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعريفا بأحوال من تقدمه
من الأنبياء (عليهم السلام) ليسمع
ذلك من جرى له مثل ماجرى لهم فقال مثل مقالتهم فقال تعالى:
"ولقد
أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية" وأعلم سبحانه أن
هذا لا يحيط شيئا من مناصبهم بل هو أوقع في قيام الحجة على
العباد، ثم تلى ذلك بقوله: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
" أي ليكون أبلغ في
الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة لا
نفهم عنهم، إذ قد قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب
عليه السلام:
(1/238)
"مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ"
هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم، فكيف لو كان على خلاف
ذلك، بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم
اتخاذ الزوجات والأولاد، واستعمال الأغذية وغير ذلك من مألوفات
البشر لكان ذلك منفرا، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر،
ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية
وإليه الإشارة بقوله تعالى: "ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا
وللبسنا عليهم ما يلبسون "
أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب
وأقوم للحجة.
ولما كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة كان عليه
الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها
بما تفهم وتأمل
كم بين كتابه - صلى الله عليه وسلم - لأنس (رضى الله عنه) في
الصدقة، وكتابه إلى وائل
(1/239)
ابن حُجْر مع اتخاد الغرض، وللكتابين نظائر
يوقف عليها في مظانها وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر
باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف
بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخر
وعذابها.
سورة الحجر
لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنته الآي المختتم بها سورة
إبراهيم عليه
السلام من لدن قوله سبحانه: "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل
الظالمون " إلى
خاتمتها (الآيات: 42 - 32) أعقب ذلك بقوله: (رُبَمَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
(1/240)
أي عند مشاهدة تلك الأهوال الجلائل، ثم قال
تعالى تأكيدا لذلك الوعيد (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
(3)
ثم أعقب تعالى هذا بيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب
والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان لا انفكاك لهما عنها،
ولا تقدم ولا تأخر إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن
يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد
منهم ولا يعجزه، قال تعالى: "وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب
معلوم "
وكان هذا يزيده إيضاحا قوله عز وجل "إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه
الأبصار"
وقوله: "وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ"
وقوله: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ...
الآية.
وتأمل نزول قوله تعالى: "رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ"
على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله.
وأما افتتاح السورة بقوله: " (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ
وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) "
فأحاله على أمرين واضحين أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل
والآيات كما يفسر،
والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل
والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضا، فكيف لا يكون
المتوعد به في قوة الواقع الشاهد لضدة البيان، في صحة الوقوع،
فالعجب من التوقف والتكذيب ثم أعقب هذا بقوله: "رُبَمَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ".
(1/241)
سورة النحل
هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم
من غير
فرق، لما قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
(وقال بعد ذلك في وعيد المستهزئين "فسوف يعلمون "
أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ
فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)
وزاد هذا بيانا قوله سبحانه وتعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ)
فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم
بهتهم واتبع ذلك تنبيها وتعظيما فقال: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته "خلق الإنسان
من نطفة) . ثم أبلغه تعالى حدا يكون منه الخصام والمحاجة، كل
ذلك ابتلاء
منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه
(سبحانه) في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة وما
هو سبحانه
(1/242)
عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر
العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم
يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم
أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله
قوله: "ولو شاء لهداكم أجمعين "
فبين أن كل الواقع من هداية وضلال، خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل
من واحد وابتدأهم ابتداء واحدا "خلق الإنسان من نطفة"، فلا بعد
في
اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل
ونظيره في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) .
سورة الإسراء (291)
لما تقدم قوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
(120)
إلى قوله (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا.... الآية "
كان ظاهر ذلك تفضيل إبراهيم عليه السلام على محمد - صلى الله
عليه وسلم - وعلى جميع الأنبياء لا سيما مع الأمر بالاتباع،
فأعقب ذلك بسورة الإسراء،
(1/243)
وقد تضمنت من خصائص نبينا (عليه السلام)
وانطوت على ما حَصل من
النصوص في الصحيح والمقطوع به والمجمع عليه من أنه - صلى الله
عليه وسلم - سيد ولد آدم فاستفتحت السورة بقصة الإسراء، وقد
تضمنت حسبما وقع في صحيح مسلم
وغيره إمامته بالأنبياء عليهم السلام وفيهم إبراهيم وموسى
وغيرهما من الأنبياء من غير استثناء، هذه رواية ثابت عن أنس
(ضي الله عنه) (وهي أنقى رواية عند أهل صناعة الحديث وأجودها)
، وفي حديث أبي هريرة أنه عليه
السلام أثنى على ربه فقال: (الحمد لله الذي أرسلنى رحمة
للعالمين كافة
وللناس بشيرا ونذيرا. وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شي وجعل
أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتى هم
الأولون وهم
(1/244)
الآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري ورفع
لي ذكرى، وجعلني فاتحا وخاتما فقال إبراهيم (عليه السلام) بهذا
فضلكم محمد.
وفي رواية أبي هريرة (ضى الله عنه) من طريق الربيع بن أنس وذكر
- صلى الله عليه وسلم - سدرة المنتهى وأنه تبارك وتعالى قال
له: سل فقال إنك اتخذت إبراهم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، كلمت
موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألَنْتَ له الحديد
وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجن
والإنس والشياطين والرياح وأعطيته مكا لا ينبغي لأحد من بعده،
وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص،
وأعذته وأمه من الشيطان
الرجيم، فلم يكن له عليهما سبيل فقال له ربه تعالى: قد اتخذتك
حبيبا فهو
مكتوب في التوراة (محمد) حبيب الرحمن وأرسلتك إلى الناس كافة،
وجعلت
أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى
يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول النبيئين خلقا وآخرهم
بعثا، وأعطيتك سبعا من المثاني ولم أعطهما لنبي قبلك وأعطيتك
خواتم البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك، وجعلتك
فاتحا وخاتما.
(1/245)
وفي حديث شريك أنه رأى موسى عليه السلام في
السماء السابعة قال
بتفضيل كلام الله، قال ثم علا به فوق ذلك ما لا يعلمه إلا الله
فقال
موسى لم أظن أن يرفع علي أحد.
وفي حديث علي بن أبي طالب (رضى الله عنه) أخرجه البزار في ذكر
تعليمه عليه (السلام) الأذان وخروج الملك فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - ياجبريل من هذا؟ قال: والذي بعثك بالحق إني
لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي
هذه ... الحديث، وفيه ثم أخذ الملك بيد
(1/246)
محمد - صلى الله عليه وسلم - فقدمه فأم أهل
السماء فيهم آدم ونوح.
وفي هذا الحديث قال أبو جعفر محمد بن علي راويه: أكمل الله
لمحمد
- صلى الله عليه وسلم - الشرف على أهل السماوات والأرض، قلت:
وفي هذا الحديث إشكالات صعبة فلهذا لم نورد منه إلا أطرافاً
بحسب الحاجات، إذ ليس ما فيه الإشكال من مطلوبنا هنا.
وقد حصل منه تفضيله - صلى الله عليه وسلم - بالاسراء وخصوصه
بذلك، ثم قد انطوت السورة على ذكر المقام المحمود، وهو مقامه
في الشفاعة الكبرى، وذلك مما خص به حسبما ثبت في الصحيح،
وانعقد عليه إجماع أهل السنة، ولا أعلم في الكتاب العزيز سورة
تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء مثل ما تضمنت هذه
السورة والحمد لله.
(1/247)
سورة الكهف
(1/248)
من الثابت المشهور أن قريشا بعثوا إلى يهود
بالمدينة يسألونهم في أمر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابتها يهود بسؤاله عن
ثلاثة أشياء قالوا فإن أجابكم (بجوابها) فهو نبي، وإن عجز عن
جوابكم فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم وهي: الروح، وفتية ذهبوا
في الدهر الأول، وهم أهل الكهف، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض
ومغربها، فأنزل الله عليه (سبحانه) جواب ما سألوه وبعضه في
سورة الإسراء "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي"
واستفتح تعالى سورة الكهف بحمده وذكر نعمة الكتاب وما أنزل
بقريش
وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح وبشارة المؤمنين بذلك
وما منحهم الله من النعيم الدائم وإنذار القائلين بالولد من
النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم: "إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا
كَذِبًا"، وتسلية نبى الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر
جمعهم "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... "
والتحمت الآي أعظم التحام وأحسن التئام إلى ذكر ما سأل عنه
الكفار من أمر الفتية (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
ثم بسطت الآي قصتهم وأوضحت أمرهم واستوفت خبرهم، ثم ذكر سبحانه
أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره فقال: "ويسألونك عن ذي
القرنين.... الآيات " (آية: 83 - 94) وقد فصلت بين القصتين
مواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط وأجل اتساق ومن جملتها قصة
(1/249)
الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما
بينهما كفر صاحبهما واغترَاره وهما من بني إسرائيل ولهما قصة،
وقد أفصحت هذه الآي منها باغترار أحدهما بما لديه وكونه إلى
توهم البقاء وتعويل صاحبه على ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء
أمره بعد المحاورة الواقعة نمط الآيات بينهما إلى إزالة ما
تخيل الفتون بقاءه ورجع ذلك كأنه لم يكن ولم يبق بيده إلا
الندم، ولا صح له من جنتيه بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشى
والعدم. وهذه حال من ركن إلى ما سوى المالك، وكل شىء إلا وجهه
سبحانه وتعالى فإنه فان وهالك، "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو"
"ففروا إلى الله ".
ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر، وأعقب
تلك
الآيات بقصة موسى والخضر عليهما السلام إلى تمامها وفي كل ذلك
من تأديب بنى إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن
الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه
السلام عن القصص الثلاث، أن قد حازوا العلم وانفردوا بالوقوف
على ما لا يعمله غيرهم، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع
دابرهم، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا وتحريك
لمن سبقت له منهم السعادة، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة
لمن هو العليم الخبير، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه
عاد الكلام إلى بقية سؤالهم
فقال: "ويسألونك عن ذي القرنين " إلى آخر القصة (آية: 83) وليس
بسط
هذه القصص من مقصودنا وقد حصل ما أردناه ولم يبق إلا السؤال عن
وجه
انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد وهذا ليس
من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن قدر به.
(1/250)
|