البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة مريم
لما قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين موسى والخضر (عليهما السلام) ، وقصة ذي القرنين، أتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة
زكريا به بعد الشيخوخة وقطع الرجاء وعقر الزوج حتى سأل زكريا مستفهما
ومتعجبا (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
فأجابه الله تعالى بأن ذلك عليه هين وأنه يجعل ذلك آية للناس
وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة فكأن قد قيل: أم حسبت يا محمد أن
أصحاب الكهف والرقيمِ كانوا من آياتنا عجبا نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية وهو قصة زكريا في ابنه يحيى عليهما السلام، وقصة عيسى (عليه السلام) في كينونته بغير أب ليعلم أن الأسباب في الحقيقة لا يتوقف

(1/251)


عليها شىء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله، وإنما الفعل له سبحانه لا لسبب وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه السلام "وقد خلقتك من قبل
ولم تكن شيئا" (آية: 9) ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإتيانه الحكم صبيا ثم بذكر مريم وابنها عليهما السلام وتعلقت الآي بعد إلى انقضاء السورة.
سورة طه
لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم وما منحه وأعطاه وقصص الأنبياء بعده بما
خصهم به، وأعقب ذلك بقوله تعالى: "أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ" (مريم: 58) وكان ظاهر هذا الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العالية والدرجات المنيفة الجليلة لا سيما وقد أتبع ذلك بقوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
كان هذا مظنة إشفاق وخوف فأتبعه تعالى بملاطفة نبيه (محمد) - صلى الله عليه وسلم -

(1/252)


ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى"
وأيضا فقد ختمت سورة مريم بقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
بعد قوله: (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
وقد رأى عليه السلام من تأخر قريش عن الإسلام ولردها ما أوجب
إشفاقه وخوفه عليهم ولا شك أنه عليه السلام يحزنه تأخر إيمانهم ولذلك قيل له: فلا تحزن عليهم ".
فكأنه، عليه الصلاة والسلام ظن أنه يستصعب المقصود من
استجابتهم أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة فبشره سبحانه
بقوله: "ما أنزلنا عليه القرآن لتشقى"
فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهم فسيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر "فلا يحزنك قولهم " (آية: يس 76) .
ثم أتبع (سبحانه) ذلك تعريفا وتأنيسا بقوله: "الرحمن على العرش
استوى" (آية: 5) إلى أول قصص موسى عليه السلام فأعلم
سبحانه أن الكل خلقه وملكه وتحت قهره وقبضته لا يشذ شىء عن ملكه، فإذا شاء هداية لم من وفقه لم يصعب أمره، ثم أتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام وما كان منه في إلقائه صغيرا في اليم، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع وهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول والله أعلم.

(1/253)


سورة الأنبياء
لما تقدم قوله سبحانه "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ" إلى قوله "فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى" (طه: 31 1 - 135)
قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
أي لا تمدن عينيك إلى ذلك فإني جعلته فتنة لمن ناله بغير حق ويسأل عن قليل ذلك كثيره "لتسألن يومئذ عن النعيم " (التكاثر: 8) والأمر قريب "اقترب للناس حسابهم " وأيضا فإنه تعالى لما قال: "وتنذر به قوما لدا" (مريم: 97) وهم الشديدو الخصومة في الباطل المرتكبوا للجج، ثم قال تعالى (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
استدعت هذه الجملة بسط حال ابتدأت بتأنيسه عليه السلام وتسليته حتى لا يشق عليه لردهم، فتضمنت. سورة طه من هذا الغرض بشارته بقوله: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وتأنيسه بقصة موسى عليه السلام وما كان من حال بني إسرائيل وانتهاء أمر فرعون ومكابدة موسى عليه السلام لدد فرعون ومرتكبه إلى أن وقصه الله وأهلكه

(1/254)


وأورث عباده أرضهم وديارهم، ثم أتبعت بقصة آدم عليه السلام ليرى نبيه
- صلى الله عليه وسلم - سننه في عباده حتى أن آدم عليه السلام وإن لم يكن امتحانه بذريته ولا مكابدته من أبناء جنسه فقد كابد من إبليس ما قصه الله في كتابه، وكل هذا تأنيس للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا تقرر لديه أنها سنة الله تعالى في عباده هان عليه لدد قريش ومكابدتهم ثم ابتدأت سورة الأنبياء ببقية هذا التأنيس فبين اقتراب الحساب
ووقوع يوم الفصل المحمود فيه ثمرة ما كوبد في ذات الله والمتمنى فيه أن لو كان ذلك أكثر والمشقة أصعب لجليل الثمرة وجليل الجزاء، ثم أتبع سبحانه ذلك بعظات ودلائل ومواعظ وبسط آيات، وأعلم أنه سبحانه قد سبقت سنته فأهلك من لم يكن منه الإيمان من متقدمي القرون وسالفى الأمم "ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها" (آية: 6) وفي قوله: "أفهم يؤمنون " (آية: 6) تعزية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمرقريش ومن قبيل ما الكلام بسبيله.
وقد تضمنت هذه السورة إلى ابتداء قصة إبراهيم عليه السلام من المواعظ
والتنبيه على الدلالات وتحريك العباد إلى الاعتبار بها ما يعقب لمن اعتبر به التسليم والتفويض لله سبحانه والصبر على الابتلاء وهو من مقصود السورة في قوله تعالى: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
إجمال لما فسره النصف الأخير من هذه السورة من تخليص الرسل عليهم السلام من قومهم واهلاك من أسرف وأفك ولم يؤمن، وفي ذكر تخليص الرسل وتأييدهم الذى تضمنه النصف الأخير من لدن قوله: "ولقد آتينا إبراهبم رشده (آية: 51) إلى آخر السورة" كمال الغرض المتقدم من التأنيس وملاءمة ما تضمنته سورة طه وتفصيل المجمل (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) .

(1/255)


سورة الحج
لما افتتحت سورة الأنبياء بقوله تعالى: "اقترب للناس حسابهم "
وكان في معرض التهديد، وتكرر في مواضع منها كقوله
تعالى: "وإلينا يرجعون " (آية: 35) "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ" (الآيات: 37 - @ر 3) "ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك (آية: 46) "ونضع الوازين القسط ليوم القيامة" (آية: 47) "وهم من الساعة مشفقون " (آية: 49) "كل إلينا راجعون " (آية: 93) "وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ" (آية: 97)
"إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) " (آية: 98) "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ" (آية: 104)
إلى ما تخلل هذه الآي من التهديد وتشديد الوعيد حتى لا تكاد تجد أمثال هذه الآي في الوعيد والإنذار بما في الساعة وما بعدها وما بين يديها في نظائر هذه السورة، وقد ختمت من ذلك بمثل ما به ابتدئت، اتصل بذلك ما يناسبه من الإعلام بهول الساعة وعظيم أمرها فقال تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم" إلى قوله تعالى "ولكن عذاب الله شديد"
ثم أتبع هذا ببسط الدلالات على البعث الأخير وإقامة البرهان "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ"
ثم قال: "ذلك بأن الله هو الحق " أي اطرد هذا الحكم العجيب ووضح من تقلبكم من حالة إلى حالة قي الأرحام وبعد خروجكم
إلى الدنيا وأنتم تعلمون ذلك من أنفسكم وتشاهدون الأرض على صفة من الهمود

(1/256)


والموت إلى حين نزول الماء فتحيى وتخرج أنواع النبات وضروب الثمرات تسقى بماء واحد "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى"
كما أحياكم أولا وأخرجكم من العدم إلى الوجود وأحيى الأرض بعد موتها وهمودها كذلك تاقي الساعة من غير ريب ولا شك ويبعثكم لما وعدتم من حسابكم وجزائكم "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ".
سورة المؤمنين
فُصِّل في افتتاحها ما أجمل في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
وأعلم بما ينبغي للراكع والساجد التزامه من الخشوع، ولالتحام الكلامين أورد الأول أمرا والثاني مدحة وتعريفا بما به كمال الحال، وكأنه لما أمر المؤمنين وأطمع بالفلاح جزاء لامتثاله كان مظنة لسؤاله عن تفضيل ما أمر به من العبادة وفعل الخير الذى به

(1/257)


يكمل فلاحه فقيل له: المفلح من التزم كذا وكذا وذكر سبعة أضرب من العبادة وفعل الخير الذي يكمل به فلاحه، فقيل له هي أصول لما وراءها ومستتبعة سائر التكاليف، وقد بسط حكم كل عبادة منها وما يتعلق بها في الكتاب والسنة.
ولما كانت المحافظة على الصلاة منافرة إتيان المأثم جملة: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
لذلك اختتمت بها هذه العبادات بعد التنبيه على محل الصلاة من هذه العبادات بذكر التنبيه على الخشوع فيها أولا، واتبعت هذه الضروب السبعة بذكر أطوار سبعة يتقلب فيها الإنسان قبل خروجه إلى الدنيا فقال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" إلى قوله: "ثم أنشأناه خلقا آخر فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ "
وكان قد قيل له إنما كمل خلقك وخروجك إلى الدنيا بعد هذه التقلبات السبعة، وإنما تتخلص من دنياك بالتزام هذه العبادات السبع، وقد وقع عقب هذه الآيات قوله تعالى: "ولقد خلقنا فوقك سبع طرائق " (آية: 17) ولعل ذلك مما يقرر هذا الاعتبار، ووارد لمناسبته والله أعلم.
وكان صدر هذه السورة مفسرا لما أجمل في الآيات قبلها فكذا الآيات
بعد مفصلة لمجمل ما تقدم في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ"

(1/258)


وهذا كاف في التحام السورتين والله سبحانه المستعان.
سورة النور
لما قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) ... "
ثم قال تعالى "فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) "
استدعى الكلام بيان حكم العادين في ذلك، ولم يبين فيها، فأوضحه في
سورة النور فقال تعالى: "الزانية والزاني ... الآية " (آية: 2) ،
ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف، وانجر مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيرا للمؤمنين من زلل الألسنة رجما بالغيب "وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ" (آية: 15) ، وأتبع ذلك بوعيد محبى شياع الفاحشة في المؤمنين بقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ... الآيات " (آية: 23) ثم بالتحذير من دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع، ثم بالأمر بغض البصر للرجال والنساء، ونهي النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام، وكل هذا مما يبرىء ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله به من ذلك والوقوف عند ما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى: "فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون " وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها

(1/259)


مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباط التفسير، وليس من شرطنا هنا والله سبحانه يوفقنا لفهم كتابه.