البرهان فى تناسب سور القرآن سورة الفرقان
لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنا ورمي
الزوجات به والقذف والاستئذان والحجاب، وإسعاف الفقير والكتابة
وغير ذلك، والكشف عن مغيبات من تغاير حالات تبين بمعرفتها
والاطلاع عليها الخبيث من الطيب - كإطلاعه سبحانه نبيه
والمؤمنين على ما تقوله أهل الِإفك وبيان حالهم واضمحلال
محالهم - ثم في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما
يضمرون، ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين "وعد الله الذين آمنوا
منكم (وعملوا الصالحات) " (النور: 35) ، ثم ما فضح به تعالى
منافقي الخندق "
(1/260)
"قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا" إلى آخر الآية
كان في مجموع هذا فرقانا يعتضد به الإيمان ولا ينكره مقر
بالرحمن، يشهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة رسالته
ويوضح مضمن قوله تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)
من عظيم قدره - صلى الله عليه وسلم -، وعلي جلالته أتبعه
سبحانه بقوله: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى
عَبْدِهِ"
وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل والمطلع على ما أخفاه
المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر "لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ
نَذِيرًا"، فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم، ثم
تناسج الكلام والتحم جليل المقصود من ذلك النظام.
وقد تضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم
وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرهاكقولهم: "ما لهذا
الرسول
يأكل الطعام ... الآيات " (آية: 7) وقولهم: "لولا أنزل علينا
الملائكة أو نرى
ربنا" (آية: 21) وقولهم: "لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة"
(آية: 32) ، وقولهم: "وما الرحمن " (آية: 60) إلى ما عضَّد هذه
وتخللها، ولهذا ختمت بقواطع الوعيد، وأشد التهديد وهو قوله
سبحانه (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) .
(1/261)
سورة الشعراء
لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين وختمت بما
ذكر في الوعيد كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه السلام وتأسفه على
فوت إيمانهم لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة
الأخرى بتسليته عليه السلام وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم
آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه: "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
وقد تكرر هذا المعنى عند إرادته تسليته عليه السلام كقوله
تعالى: "ولو شاء الله لجمعهم على الهدى" "وَلَوْ شِئْنَا
لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَ" "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا" "وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ"
(1/262)
ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير
"أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ " "وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى".
وقل ما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا
معقبة بقصة
موسى عليه السلام وما كابد من بنى إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة
منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار
حتى لا تجد قصة تتكرر، وإنه ظَنَّ ذلك من لم يمعن النظر، فما
من قصة من القصص المتكرر في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر
إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها وسنوضح هذا في
التفسير بحول الله تعالى.
ئم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء (عليهم
الصلاة
والسلام) مع أممهم على الطريقة المذكورة وتأنيسا له عليه
السلام حتى لا يهلك نفسه أسفا على فوت إيمان قومه، ثم أتبع
سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال: "وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ"
فيا لها كرامة تقصر الألسنة عن شكرها وتعجز العقول عن تقريرها،
ثم أخبر تعالى أنه بلسان عربي مبين، ثم أخبر سبحانه بعلي أمر
هذا
الكتاب وشائعِ ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء عليهم السلام
فقال: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن
تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
(1/263)
كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى
متوقفي العرب فقال: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
مُؤْمِنِينَ (199)
ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب مع أنه
هدى ونور قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى: (يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) (وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى
رِجْسِهِمْ)
وقال تعالى: في هذا المعنى: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) ،
ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله على أن تتسور
الشياطين. على شىء منه أو تصل إليه فقال سبحانه: "وما تنزلت به
الشياطين وما ينبغي لهم "
أي ليسوا أهلين له ولا يقدرون على استراق سمعه بل هم معزولون
عن السمع مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى نبيه - صلى الله عليه
وسلم - والمراد المؤمنون فقال: "فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ،
ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) .
ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه وأهلية ما تخيلوه فقال: (هَلْ
أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) .
ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه عليه السلام على ما يقولوه، ثم
هددهم
وتوعدهم فقال: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .
(1/264)
سورة النمل
لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب وبيان ما تضمنه
مما فضح
به الأعداء أو رحم به الأولياء وبراءته من أن تتسور الشياطين
عليه، وباهر
آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه
فرقانا قاطعا ونورا ساطعا، أتبع ذلك سبحانه ذلك مدحة وثناء،
وذكر من شملته رحمته به تخصيصا واعتناء فقال: "تلك آيات القرآن
" أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات القرآن (وكتاب مبين
هدى وبشرى للمؤمنين "
ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع وليقوى رجاؤه في
النجاة مما أشار إليه، وسيعلم الذين ظلموا من عظيم ذلك المطلع،
ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الأهلين لما تقدم من التقول
والافتراء تنزيها لعباده المتقين وأوليائه المخلصين عن دنس
الشكوك والافتراء فقال: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ
يَعْمَهُونَ (4) .
أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور
(1/265)
والإظلام لارتياب الخواطر والأفهام، ثم
أتبع ذلك بتسليته عليه السلام
بالقصص الواقعة بعد تنشيطا له وتعريفاً بعلو منصبه، وإطلاعا له
على
عجيب صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة
وبعض ما بين يديها والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد
من تنكب عن سبيله عليه السلام.
سووة القصص
لما تضمن قوله سبحانه: "إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ
هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ"
إلى آخر السورة من التخويف والترهيب
والإنذار والتهديد ما انجر معه الإشعار بأنه عليه السلام سيملك
مكة ويفتحها
تعالى عليه، ويذل عتاة قريش ومتمرديهم، ويعز أتباع رسوله عليه
السلام ومن استضعفته قريش من المؤمنين، أتبع سبحانه ذلك بما
قصه على نبيه من نظير ما
(1/266)
أشار إليه في قصة بني إسرائيل وابتداء
امتحانهم بفرعون واستيلائه عليهم وفتكه بهم إلى أن أعزهم الله
وأظهرهم على عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم.
ولهذا أشار تعالى في كلا القصتين بقوله في الأولى:
"سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا"
وبقوله في الثانية: "وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ".
ثم قص ابتداء أمر فرعون واستعصامه بقتل ذكور الأولاد، ثم لم
يغن
ذلك عنه من قدر الله شيئا، ففي حاله عبرة لمن وفق للاعتبار،
ودليل أنه سبحانه أنه المنفرد بملكه يؤتي الملك من يشاء وينزعه
ممن يشاء لا ينازعه نازع ولا يمنعه عما يشاء مانع "قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ"، وقد أفصح قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ"
بما أشار إليه مجملا ما أوضحنا اتصاله من خاتمة النمل وفاتحة
القصص ونحن.
نزيده بيانا بذكر لمع من تفسير ما قصد التحامه فنقول: إن قوله
تعالى
معلما لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وآمراً "إِنَّمَا أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا"
إلى قوله: "وقل الحمد لله سيريكم آياته "
لا خفاء بما تضمن ذلك من التهديد وشديد الوعيد. ثم في قوله:
"رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ".
(1/267)
أشار أنه عليه السلام سيفتحها ويملكها
لأنها بلدة ربه وملكه وهو عبده
ورسوله، وقد اختصه برسالته وله كل شىء، فالعباد والبلاد ملكه،
ففي هذا من الإشارة مثل ما في قوله تعالى: " إِنَّ الَّذِي
فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ "
وقوله: "وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ".
أي ليسمعوه فيتذكر من سبقت له السعادة ويلحظ سنة الله في
العباد والبلاد، ويسمع ما جرى لمن عاند وعتا، وكذب واستكبر،
كيف وقصه الله وأخذه ولم يغن عنه حذره، وأورث مستضعف عباده
أرضه ودياره، ومكن لهم في الأرض، وأعز رسله وأتباعهم، "نتلو
عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون "
أي يصدقون ويعتبرون ويستدلون فيستوضحون وقوله: "سيريكم آياته"
يشير إلى ما حل بهم يوم بدر، وبعد ذلك إلى يوم فتح مكة، وإذعان
من لم
يكن يظن انقياده، وإهلاك من ظن تمرده وعناده وانقياد العرب
بجملتها بعد
فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا، وعزة أقوام وذلة آخرين
بحاكم " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "
(الحجرات: 13)
إلى فتح الله على الصحابة (رضوان الله عليهم) ما وعدهم به
نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فكان كما وعد.
فلما تضمنت (هذه الآي ما أشير إليه أعقب بما هو في قوة أن لو
قيل
ليس عتوكم بأعظم من عتو فرعون وآله، ولا حال مستضعفى المؤمنين
بمكة ممن
(1/268)
قصدتم فتنته في دينه، بدون حال بني إسرائيل
حين كان فرعون يمتحنهم
بذبح أبنائهم، فهلا تأملتم عاقبة الفريقين وسلكتهم أنهج
الطريقين "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
من قبلهم" إلى قوله: "فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " (غافر:
82) ، فلو تأملتم ذلك لعلمتم أن العاقبة للمتقين فقال سبحانه
بعد افتتاح السورة "إن فرعون علا في الأرض " (آية: 4) ، ثم ذكر
من خبره ما فيه عبرة، وذكر سبحانه آياته الباهرة في أمر موسى
عليه السلام وحفظه ورعايته وأخذ أم عدوه إياه "عسى أن ينفعنا
أو نتخذه ولدا" (آية: 9) فلم يذبح الأبناء خيفة من مولود يهتك
ملكه حتى إذا كان ذلك المولود تولى بنفسه تربيته وحفظه وخدمته
ليعلم لمن التدبير والإمضاء، كيف يقود سابق الحكم والقضاء فهلا
سألت قريش وسمعت وفكرت واعتبرت "أولم تأتهم بينة ما في الصحف
الأولى: " (طه: 133) .
ثم أتبع سبحانه ذلك بخروج موسى عليه السلام من أرضه "فخرج منها
خائفا يترقب " (آية: 21) وما ناله عليه السلام في ذلك الخروج
من عظيم
السعادة، وفي ذلك شبهة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
خروجه من مكة وتعزية له، وإعلام بأنه تعالى سيعيده إلى بلده
ويفتحه عليه، وبهذا المستشعر من هنا صرح آخر السورة في قوله
تعالى: "إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد"
وهذا كاف فيما قصد.
(1/269)
سورة العنكبوت
افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بنى إسرائيل بفرعون وابتلائهم
بذبح
أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم
وثمرة صبرهم، وانجر مع ذلك بما هو منه، لكن انفصل عن عمومه
بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولة وابتداء الرضاع،
وصبرها على أليم ذلك المذاق) حتى رده تعالى إليها أجمل رد
وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه السلام بأمر القبطي وخروجه
خائفا يترقب، وحسن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب
خيرا، وختم برحمة، ثم بضرب آخر من الابتلاء، أعقب محنة وأورث
شرا وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتتانه به
"فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" فحصل
(1/270)
من هذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة،
وجرت منه سبحانه في عباده ليميز
الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال
العباد بما يبتليهم به، إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه، إذ
هو موجده وخالقه كان خيرا أو شرا، فكيف يغيب عنه أو يفتقر
تعالى إلى ما به يتعرف أحوال العباد، أو يتوقف علمه على سبب
"ألا يعلم من خلق " (الملك: 14) ولكن هى سنة في عباده ليظهر
لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك
حتى يشهدوا على أنفسهم وتقوم الحجة عليهم باعترافهم ولا افتقار
به تعالى إلى شىء من ذلك.
فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقع
افتتاحها
واختتامها هذا، وقد انجر بحكم الإشارة أولا خروج نبينا - صلى
الله عليه وسلم - من بلده ومنشئه ليأخذه عليه السلام بأوفر حظ
مما ابتلى به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم
الأجر المناسب لعلي درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته - صلى
الله عليه وسلم - آخرا بالعودة
والظفر " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ
إِلَى مَعَادٍ " (القصص: 85) ، فأعقب سبحانه هذا بقوله معلما
للعباد ومنبها أنها سنته فيهم فقال: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ
يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)
أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم وظاهر إنابتهم ولما
يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات وضروب الاختبارات:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)
فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقى العليم، إن ذلك من
عند الله ابتلاء واختبارا يكون تسخيرا لهم وتخليصا، ومن فريق
يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان والمسارعة إلى الكفر والخذلان "ومن
جاهد فإنما يجاهد لنفسه ".
(1/271)
ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن
يدعي الإيمان، فإذا
أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، وكان عنده
مقاوما
لعذاب الله الصارف لمن عرفه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى:
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا
أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ
اللَّهِ"
فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة وأشد في المحنة.
ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم
السلام
وطول مكابدتهم من قومهم، فذكر نوحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، وخص
هؤلاء عليهم السلام بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم
ابتلاء، أما نوح عليه السلام، فلبث في قومه كما أخبر الله
سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمن معه إلا قليل، وأما
إبراهيم عليه السلام فرمي بالمنجنيق في النار فكانت عليه بردا
وسلاما، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين (صلى الله
عليهما وسلم وعلى الرسل والأنبياء أجمعين) بضروب من الابتلاءات
خصلوا على ثوابها وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى
نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال: "فكلا أخذنا
بذنبه " (آية: 40)
ثم وصى نبيه عليه السلام وأوضح حجته وتتابع اتساق الكلام إلى
آخر السورة.
(1/272)
سورة الروم
لما عنَّف سبحانه أهل مكة ونعى عليهم قبح صنيعهم في، التغافل
عن
الاعتبار بحالهم وكونهم مع قلة عددهم قد منع الله بلدهم عن
قاصد نهبه، وكف أيدي العتاة والمتمردين عنهم مع تعاور أيدي
المنتهبين من حولهم، وتكرُّر ذلك واطراده صونا منه لحرمه وبيته
فقال تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا
آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ"
أي أولم يكفهم هذا في الاعتبار ويتبينوا أن ذلك ليس عن قوة
منهم ولا حسن دفاع، وإنما هو بصون الله إياهم بمجاورة بيته
وملازمة أمنه مع أنهم أقل العرب، أفلا يرون هذه النعمة
ويقابلونها بالشكر
والاستجابة قبل أن يحل بهم نقمه ويسلبهم نعمه، فلما قدم
تذكارهم بهذا
أعقبه بذكر طائفة هم أكثر منهم وأشد قوة وأوسع بلادا وقد أيد
غيرهم ولم
يغن عنهم انتشارهم وكثرتهم فقال: "الم غلبت الروم في أدنى
الأرض ... الآيات "
فذكر تعالى (غلبة) غيرهم لهم، وأنهم ستكون لهم كرة ثم يغلبون،
وما ذلك إلا بنصر الله من شاء من عبيده ينصر من يشاء فلو كشف
عن أبصار
من كان بمكة من الكفار لرأوا أن اعتصام بلادهم وسلامة ذرياتهم
وأولادهم مما
(1/273)
يتكرر على من حولهم من الانتهاب والقتل
وسبي الذراري والحرم، إنما هو بمنع الله تعالى وكريم صونه لمن
جاور حرمه وبيته، وإلا فالروم أكثر عددا وأطول مددا ومع ذلك
تتكرر عليهم الفتكات والغارات وتتوالى عليهم الغلبات أفلا يشكر
أهل مكة من أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وأيضا فإنه سبحانه
لما قال: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ
وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ"
أتبع ذلك سبحانه بذكر تقلب حالها وتبين اضمحلالها ومحالها،
وأنها لا تصفو ولا تتم وإنما حالها أبدا التقلب وعدم الثبات،
فأخبر بأمر هذه الطائفة التي هى من أكثر أهل الأرض وأمكنهم وهم
الروم، وأنهم لا يزالون مرة عليهم وأخرى لهم، فأشبهت حالهم هذه
حال اللهو واللعب فوجب اعتبار العاقل بذلك وطلبته الحصول على
تنعم دار لا يتقلب حالها، ولا يتوقع انقلابها وزوالها،
"وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ"
ومما يقوي هذا المأخذ قوله تعالى: "يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا"
أي لو علموا باطنها لتحققوا أنها لهو ولعب ولعرفوا أمر الآخرة
"من
عرف نفسه عرف ربه "
ومما يشهد لكل من القصدين ويعضد كلا الأمرين قوله سبحانه:
"أولم يسيروا في الأرض ... الآيات " (آية: 9 وما بعدها) أى لو
فعلوا
هذا وتأملوا لشاهدوا من تقلب أحوال الأمم وتغير الأزمنة
والقرون ما بين لهم
عدم بقائها على أحد، فتحققوا لهوها ولعبها، وعلموا أن حالهم
ستؤول إلى حال من ارتكب في العناد والتكذيب وسوء التبار
والهلاك.
(1/274)
|