البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة لقمان
لما تكرر الآمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة
الروم كقوله: "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق " (آية: 8) وقوله "أولم يسيروا في الأرض " (آية: 9) وقوله: "الله يبدأ الخلق ثم يعيده " (آية: 11) وقوله: "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي " إلى قوله "كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون " 11 لآيات: 19 - 28) وهى عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا تبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل، وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله: "ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " (آية: 38)
وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وسني العظات، وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق "الم تلك آيات الكتاب الحكيم "
أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهم المحسنون الذين
ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن فطرة الله التى فطر الناس عليها فقال: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ...
الآيات " (آية: 6 وما بعدها) ، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند ويقطع بكل
جاحد، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء،

(1/275)


ْثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها ثم قال سبحانه "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ"
ثم أتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزِغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال: "ولقد آتينا لقمان الحكمة ... الآية "
ليبين لنا سنن من أتبع فطرة الله التى تقدم ذكرها فِى سورة الروم ثم
تناسق الكلام وتناسج.
سورة السجدة
لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه
سبحانه في عالم السماوات والأرض على ذكر الفطرة ثم أتبعت بسورة

(1/276)


لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد هدى به من شاء إلى سبيل الفطرة، وان لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذُكر فلم يغن عنه، ودُعىَ فلم يجب، وتكررت الإنذارات فلم يُصْغِ لها، إن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، وأتبع سبحانه ذلك بما ينبه المعتبر على صحته فقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)
فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة في الاستسلام له ولما يقع من أحكامه، وعزَّى نبيه، وصبَّره بقوله: "ومن كفر فلا يحزنك كفره "
ثم ذكر تعالى لَجْأ الكل قهرا ورجوعا بحكم اضطرارهم - لوضوح الأمر - إلى الله تعالى فقال: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ"
ثم وعظ تعالى الكل بقوله: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة"
أى أن ذلك لا يشق عليه تعالى ولايصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل في النهار وجريان الفلك بنعمته "ذلك بأن الله هو الحق "
ثم أكد ما تقدم من رجوعهم في الشدائد إليه فقال: "وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ"
فلما خلصهم سبحانه ونجاهم عادوا إلى سيء أحوالهم هذا، وقد عاينوا رفقة بهم، وأخذهم عند الشدائد بأيديهم، وقد اعترفوا بأنه خلق السماوات وسخر الشمس والأرض والقمر وذلك شاهد من حالهم
بجريانهم على ما قدر لهم ووقوفهم عند حدود السوابق
(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)
ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه وحذرهم يوم المعاد وشدته وحذرهم من الاغترار وأعلمهم

(1/277)


أنه المنفرد بعلم الساعة وإنزال الغيث وعلم ما في الأرحام وما يقع من المكتسبات وحيث يموت كل المخلوقات.
ولما كانت سورة لقمان بما بين من مضمنها محتوية من التنبيه
والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم أتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب ويزيل كل شك فقال: "الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ"
أى أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء شواهده، ثم أتبع ذلك بقوله ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع "
وهو تمام لقوله: "ومن يسلم وجهه إلى الله " ولقوله: "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " ولقوله: "وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين "
ولقوله: "ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون "
بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته فمالكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات
متوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم ولجأتم إليه عند
احتياجكم.
ثم أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع ولا يغنى عنه إجابة فقال: "وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ"
ثم أعلم سبحانه أن الواقع منهم إنما هو بإرادته وسابق من حكمه
ليأخذ الموفق الموقن نفسه بالتسليم فقال: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا"

(1/278)


كما فعلنا بلقان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق
فقال: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذُكِّر فأعرض فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا)
وتعلق الكلام إلى آخر السورة.
سورة الأحزاب
افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه ونهيه عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين،
واتباعه ما يوحى الله إليه تنزيها لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم
ذكره في سورة السجدة، وأمرا له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه "والله يقول الحق وهو يهدي السبيل "
ولما تحصل من السورتين قبل (ما يَعقب العاِلمَ من الخوف أشده لغيبة العلم بالخواتم، وما جرى في السورتين من الإشارة إلى السوابق "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا" كان ذلك مظنة

(1/279)


لتيئيس نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وصالحي أتباعه، فلهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة
المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجرى على المعهود من لطفه تعالى وسعة
رحمته، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه بالتقوى وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة، وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله
وإيضاح دليله، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر ورد عقب تخويف وإنذار بيان كان عليه السلام قد نَزه الله قدره عن أن يكون منه خلاف التقوى وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعَلي منصبه ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص إلا مدحٌ من محمود صفاتهم ومنه: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ..... الآية "
فذكره باسم الرسالة، ومهما كان الأمر أو النهى عدل في الغالب إلى الأعم ومنه "يا أيها النبي اتق الله " "يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء" "يا أيها النبي لِم تحرم ما أحل الله لك "
"يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات "،
وقد بين في غير هذا، وإن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن الطرد كقوله: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ"، فوجه هذا أن قوله سبحانه: "وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ"، موقعه شديد فعدل بذكره عليه السلام باسم الرسالة لضرب من التلطف فهو من باب "عفا الله عنك لم أذنت لهم "
وفيه بعض غموض.

(1/280)


وأيضا فإنه لما قيل له: "بلغ " طابق هذا ذكره بالرسالة، فإن المبلغ رسول
والرسول مبلغ ولا يلزم النبى أن يبلغ إلا أن يرسل، وأما قوله تعالى: "يا أيها
الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" (المائدة: 41) فأمره وإن كان نهيا أوضح من الأول لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه، فماَله راجع إلى ما يرد مدحا مجردا عن الطلب وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا.
ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من
هذا الأمر بعلى حاله ومزية قدره، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع:
منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه أمهات للمؤمنين فنزههن عن أن
يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصا وإجلالا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها قوله تعالى: "ولما رأى المؤمنون الأحزاب.... الآية"
فنزههم لم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم
(قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
والآية بعد كذلك وهى قوله تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا".
ومنها "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ"
فنزههن تعالى وبين شرفهن على من عداهن.
ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"..... الآية".

(1/281)


ومنها الأمر بالحجاب "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ"
فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب وصانهن عن التبذل والامتهان.
ومنها قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى"
فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن
والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
ثم قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا" إلى قوله "أَجْرًا كَرِيمًا "
وقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.... الآية"
وقوله تعالى: "إن المسلمين والمسلمات" إلى قوله "أجرا عظيما"
وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح
الآية إلى قوله عظيما" (آية: 70)
وقوله: "ويتوب الله على المؤمنين والمومنات وكان الله غفورا رحيماً" (آية: 73)
وقوله سبحانه مثنيا على المؤمنين بوفائهم وصدقهم "وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ - إلى قوله:
- وما بدلوا تبديلا" (الآيتان: 22 - 23)
وقوله سبحانه تعظيما لحرمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) .
وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر
سورة الخوف الحاصل في سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم تأنيسا لا رفعا،

(1/282)


ومن هذا القبيل أيضا ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين
خلاصهم كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
وقوله تعالى: "وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ" إلى قوله: "وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا" (الآيات: 25 - 27) وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد منْ
دليل قصدها وبيانها على ما وضح والحمد لله، ولما كان حاصلها رحمة ولطفا ونعمة لا يقدر عظيم قدرها وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها أعقب بما ينبغى من الحمد (يعنى أول سبأ) .
سورة سبأ
افتتحت بالحمد لله سبحانه لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة
الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حسبما بيَّن آنفا فكان مظنة الحمد
على ما مَنح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"

(1/283)


ملكا واختراعا وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعا عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتقريعهم بحسب ما شاء، فكأن قد قيل إذا كانوا له - مِلكا وعبيدا أفلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من
تيسير للحسنى أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته أو استطلاع سببه
بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع وهو الحكيم الخبير وجه
الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم، وأشار قوله: "وله الحمد في الآخرة"
إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم
من الجزاء وعظيم الثواب في الآخرة على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ".
ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته
وعلمه فقال تعالى: "يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها (إلى قوله) (وهو الرحيم الغفور) "،
فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم، فله الحمد الذى هو أهله، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب كفر مع عظيم اجترائهم لتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (إلى قوله) : "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ" (الآيات: 3 - 9) أى إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم: "لا تأتينا الساعة" وقوله: "هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" (آية: 7)
وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات، ففي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر، ثم بسط

(1/284)


لعباده المؤمنين من ذكر آلائه ونعمه وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه، ويشير إلى عظيم ملكه، كما أعلم في قوله سبحانه: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"
فقال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
ثم قال (ولسليمان الريح" إلى قوله "اعملوا آل داود شكرا"، ثم أتبع
ذلك بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها، ثم وبخ (تعالى) من
عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال: "قل ادعوا الذين زعمتم من
دون الله " (آية: 22) إلى وصفه حالهَم الأخروي ومراجعة متكبريهم
ضعفاءَهم، وضعفاءهم متكبريهم "وأسروا الندامة لما رأوا العذاب "، ثم
التحمت الاآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها.
سورة فاطر
لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ومستحق
الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه،

(1/285)


فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة في البحار
الزاخرة فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة
خاضعة (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصي العقول أو تحيط به الأفهام، فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، وشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى: "جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة.... الآية " وقوله: "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ... هل من خالق غير الله يرزقكم " (آية: 2) وقوله: "أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا.... الآية " (آية: 8) وقوله: "الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا ... الآية " "والله خلقكم من تراب "
"يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ" (آية: 13) ، "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا"
"هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ" (آية: 39) "إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا".
فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق والاختراع أو مشيرة، ولم يقع من ذلك
في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف والاستبداد بذلك والإبداء به، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان وقوله سبحانه: "قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ... الآيات "
يتضح لك ما ذكرناه وما انجر في السورتين مما ظاهره الخروج

(1/286)


عن هذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء
مقاصد الآي، رزقنا الله الفهم عنه بمنه.
سورة يس
لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك
وانفراده بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاءه، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدراكها واستولت عليها الغفلة، فكأن قد خمدت عن معهود حراكها، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات واصطفاه بإيضاح تلك البينات فقال تعالى: "يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم "
ثم قال: "لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ"
فأشار

(1/287)


سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار ويبعثه التيقظ بالتذكار، ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه، وإن كان مسببا عن الطبع وشر السابقة "لقد حق القول على أكثرهم.... الآيات "، ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن
عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عن تحريكه لسابق سعادته فقال
تعالى: "إنا نحن نحيي الموتى " (آية: 12) فكذا نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم
"أومن كان ميتا فأحيناه " (الأنعام: 122) ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل
الكذبين مع بيان الأمر فقال: "واضرب لهم مثلا أصحاب القرية.... الآيات "
(آية: 13 وما بعدها) ، وأتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل
الواضحة والبراهين فقال: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ.... الآية " ثم قال: "وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا" إلى قوله "أَفَلَا يَشْكُرُونَ" (آية: 33)
ثم قال: "وآية لهم الليل نسلخ منه النهار (إلى - قوله) : وكل في فلك
يسبحون " (الآيات: 37 - 40) ثم قال: "وآية لهم أنَّا حملنا ذريتهم (إلى قوله) إلى حين " (الآيات: 41 - 44) ثم ذكروا إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة أعضائهم بأعمالهم ثم تناسجت الآي جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة.