البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة الصافات
لما تضمنت سورة يس من جليل التنبيه وعظيم الإرشاد ما يهتدي الموفق
باعتبار بعضه ويشتغل المعتبر به في تحصيل مطلوبه وفرضه، ويشهد بأن الملك

(1/288)


بجملته لواحد وإن رغم أنف المعاند والجاحد، أتبعها تعالى بالقسم على
وحدانيته فقال تعالى: "وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
(إلى قوله) وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) " (الآيات: 1 - 5)
ثم عاد الكلام إلى التنبيه لعجيب مصنوعاته فقال تعالى: "إنا زينا السماء بزينة الكواكب" إلى قوله "شهاب ثاقب " (الآيات: 7 - 15) ، ثم أتبع بذكر عناد من جحد مع بيان الأمر ووضوحه وضعف ما خلقوا منه (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
ثم ذكر استبعادهم العودة الأخروية وعظيم حيرتهم وندمهم إذا شاهدوا ما به كذبوا، والتحمت الآي إلى ذكر الرسل مع أممهم وجريهم في العناد والتوقف والتكذيب على سنن متقارب وأخذ كل بذنبه وتخليص رسل الله وحزبه وإبقاء جميل ذكرهم باصطفائه وقربه، ثم عاد الكلام إلى تعنيف المشركين وبيان إفك المعاندين إلى ختم السورة.
سورة ص
لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مغ أنبيائهم في العتو والتكذيب وأن ذلك
أعقبهم الأخذ الوبيل والويل كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم، وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب فحل بالمعاند سوء

(1/289)


العذاب) ، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) .
ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قولهم: "عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ" (آية: 16) أتبِع ذلك بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر فقال: "اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ" (آية: 17) ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء "وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ".
سورة الزمر
لما بينت سورة (ص) على ذكر المشركين وعنادهم وسوء ارتكابهم واتخاذهم
الأنداد والشركاء ناسب ذلك ما افتتحت به سورة الزمر من الأمر بالإخلاص الذي

(1/290)


هو نقيض حال من تقدم وذكر ما عنه يكون وهو الكتاب، فقال تعالى: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)
وجاء قوله تعالى: "والذين اتخذوا من دونه أولياء.... الآية " (آية: 3) في معرض أن لو قيل عليك بالإخلاص ودع من أشرك ولم يخلص فسترى حاله وهل ينفعهم اعتذارهم بقولهم: "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" وهؤلاء هم الذين بنيت سورة ص على ذكرهم، ثم وبخهم الله تعالى وقرعهم فقال لم "لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى.... الآية " فنزه نفسه عن عظيم مرتكبهم بقوله سبحانه:
"هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ"
ثم ذكر بما فيه أعظم شاهد من خلق السماوات
والأرض وتكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل وذكر آيتى النهار والليل ثم خلق الكل من البشر من نفس واحدة وهي نفس آدم عليه السلام، ولما حرك تعالى إلى الاعتبار بعظيم هذه الآيات وكانت أوضح شىء وأدل شاهد، عقب ذلك بما يشير إلى معنى التعجب من توقفهم بعد وضوح الدلائل، ثم بين تعالى أنه غنى عن الكل بقوله: "إن تكفروا فإن الله غنى عنكم " ثم قال: "ولا يرضى لعباده الكفر" (آية: 7) فبين أن من اصطفاه وقربه واجتباه من العباد لا يرضى بالكفر وحصل من ذلك بمفهوم الكلام أن الواقع من الكفر إنما وقع بإرادته ورضاه لمن ابتلاه به، ثم آنس من آمن ولم يتبع سبيل أبيه وقبيلته من المشار إليهم في

(1/291)


السورة قبل فقال تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"
"إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ" "وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا"
ثم تناسجت الآي والتحمت الجمل إلى خاتمة السورة.
سورة المؤمن
لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالأمر بالاخلاص وذكر سببَه والحامل
بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعريض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص تتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ"
ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم

(1/292)


استمرار المراد لأحدهم وذكر قبيح اعتذارهم بقولهم: " ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى"، ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا
يتخيل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره فقال تعالى: "أليس الله بكاف عبده
(إلى قوله) : أليس الله بعزيز ذي انتقام " (الزمر: 36 - 37) ، ثم أتبع ذلك بحال أندادهم في أنها لا تضر ولا تنفع فقال: "قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ".
ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال: "قل لله الشفاعة جميعا"
"قل اللهم فاطر السماوات والأرض " "أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر" "اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"
ثم عنفهم وقرعرهم فقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) .
ثم قال تعالى: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ".
ثم أتبع تعالى بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق، ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين فتبارك المنفرد بالعزة والقهر.
فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه أعقب ذلك بقوله: "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " فذكر من أسمائه
سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيها على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق
القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق فأخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار مع قهره للكل في الدارين معا

(1/293)


وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره ثم قال تعالى: "غافر الذنب وقابل التوب "
تأنيباً لمن استجاب بحمده وأناب بلطفه، وجريا على حكم سبقية الرحمة
وتقليبها ثم قال: "شديد العقاب ذى الطول " ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من
الخوف والرجاء، واكتنف قوله شديد العقاب بقوله غافر الذنب وقابل التوب وقوله ذي الطول، وأشار سبحانه بقوله: "فلا يغررك تقلبهم في البلاد" (آية: 4) إلى قوله قبل وأورثنا الأرض " (الزمر: 74) وكأنه في تقدير إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم وجدالهم في الآيات كجدالهم وإن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب وسبق لهم في أم الكتاب.
سورة حم السجدة
لما تضمنت سورة غافر بيان حال المعاندين وجاحدي الآيات وأن ذلك ثمرة
تكذيبهم وجدلهم وكأن بناء السورة على هذا الغرض بدليل افتتاحها وختمها ألا ترى قوله تعالى: "مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا" وتأنيس نبيه
عليه الصلاة والسلام بقوله: "فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ"
فقد تقدم ذلك من غيرهم فأعقبهم سوء العاقبة والأخذ الوبيل "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ"
فعصمتهم واقية: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا)

(1/294)


وقال تعالى: "وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ"
أى فكيف رأيت ما حل بهم وقد بلغت خبرهم فهلا اعتبر هؤلاء بهم
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
وإنما أخذهم بتكذيبهم الآيات "ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله " (غافر: 22) ، ثم ذكر تعالى من حزب المكذبين فرعون وهامان وقارون وبسط القصة تنبيها على سوء عاقبة من
عاند وجادل بالباطل وكذب الآيات ثم قال تعالى بعد آيات: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (غافر: 56)
إذ الحول والقوة ليست لهم فاستعذ بالله من شرهم، فخلق غيرهم لو استبصروا أعظم من خلقهم "لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ" (غافر: 57)
وهم غير آمنين من الأخذ من كلا الخلقين "إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء" (سبأ: 9)
ثم قال تعالى: بعد هذا "ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله
أنى يصرفون "
أي إن أمرهم لعجيب في صرفهم عن استيضاح الآيات بعد
بيانها، ثم ذكر تعالى سوء حالهم في العذاب الأخروي وواهي اعتذارهم بقولهم: "ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا" (غافر: 74) ثم صبر تعالى نبيه عليه السلام بقوله: "فاصبر إن وعد الله حق " (غافر: 77) ثم أعاد تنبيهم فقال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض" إلى ختم السورة" (غافر: 82 - 85) ولم يقع من هذا التنبيه الذي دارت عليه آى هذه السورة في سورة الزمر شىء ولا من تكرار التحذير من تكذيب الآيات.

(1/295)


فلما بنيت على هذا الغرض أعقبت بذكر الآية العظيمة التى تحديت بها العرب
وقامت بها حجة الله سبحانه على الخلق، وكأن قد قيل لهم احذروا ما قدم لكم فقد جاءكم محمد - صلى الله عليه وسلم - بأوضح آية وأعظم برهان "تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (الآيات: 3 - 4) وتضمنت هذه السورة
العظيمة من بيان عظيم الكتاب وجلالة قدره كبير الرحمة به ما لا يوجد في غيرها من أقرانها كما أنها في الفصاحة تبهر العقول بأول وهلة فلا يكن للعريى الفصيح في شاهد برهانها أدنى توقف ولا يجول في وهمه إلى معارضة بعض آيها أدنى تشوف، "وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) "
(آية: 41 - 42) "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ" (آية: 44) فوبخهم تعالى وادحض حجتهم وأرغم باطلهمِ، وبكت دعاويهم ثم قال: "قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" (آية: 44) " إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ " وقرعهم تعالى في ركيك جوابهم عن واضح حجته بقولهم: "قلوبنا في أكنة مما تدعون إليه وفي آذاننا وقر" (آية: 3) وقولهم "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " (آية: 26) وهذه شهادة منهم على أنفسهم بالانقطاع عن معارضته وتسليمهم بقوة عارضته، ثم فضحهم بقوله: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ.... الآية ".

(1/296)


وتحملت السورة مع هذا بيان هلاك من عاند وكذب ممن كان قبلهم وأشد
قوة منهم وهم الذين قدم ذكرهم مجملا في سورة غافر في آيتى "أولم يسيروا في الأرض " "أفلم يسيروا"
فقال تعالى مفصلا لبعض ذلك الإجمال: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
ثم قال: "فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً"
ثم قال: "فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا.. الآية "
ثم قال: "وأما ثمود فهديناهم" (آية: 17) فبين تعالى حالهم وأخذهم فاعتضد
التحمام السورتين واتصال المقصدين والله أعلم.

(1/297)


سورة الشورى
لما تضمنت سورة غافر ما تقدم من بيان حال المعاندين والجاحدين
وأعقبت بسورة السجدة بيانا أن حال كفار العرب في ذلك كحال من تقدمهم وإيضاحا لآيات الكتاب العزيز وعظيم برهانه، ومع ذلك فلم تجد على من قضى عليه تعالى بالكفر، اتبعت السورتان بما اشتملت عليه سورة الشورى من أن ذلك كله إنما جرى على ما سبق في علمه تعالى بحكم المشيئة الأزلية "فريق في الجنة وفريق في السعير" (آية: 7) "وما أنت عليهم بوكيل " (آية: 6) "ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة" (آية: 8) "ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم " (آية: 14) "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " (آية: 15)

(1/298)


"ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم " (آية: 21) "وهو على جمعهم إذا يشاء قدير" "وما أنتم بمعجزين في الأرض " (آية: 31) "ومن يضلل الله فما له من سبيل " (آية: 46) "إن عليك إلا البلاغ " (آية: 48) "نهدي به من نشاء من عبادنا " (آية: 52) .
فتأمل هذه الآي وما التحم بها مما لم يجر في السورة المتقدمة منه إلا
النادر وبحكم ما استجره وبناء هذه السورة على ذلك ومدار آيها، يلح لك وجه اتصالها بما قبلها والتحامها بما جاورها.
ولما اختتمت سورة السجدة بقوله تعالى: "ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم "
(فصلت 54) أعقبها سبحانه بتنزيهه وتعاليه عن ريبهم وشكهم فقال
تعالى: "تكاد السمماوات يتفطرن من فوقهن " (آية: 5) كما أعقب بمثله في قوله: "وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدّا" (مريم: 88 - 89) فقال: "يكاد السماوات يتفطرن منه " (الآيات: 95) .
ولما تكرر في حم السجدة ذكر تكبر المشركين وبعد انقيادهم في قوله:
"فأعرض أكثرهم " (آية: 4) "وقالوا قلوبنا في أكنة" (آية: 5) إلى ما ذكر تعالى من حالهم المنبئة عن بعد استجابتهم فقال تعالى في سورة الشورى: "كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " (آية: 13) .
سورة الزخرف
لما أخبر سبحانه بامتحان خلف بنى إسرائيل في شكهم في كتابهم
بقولهم: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

(1/299)


ووصى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالتبري من سىء حالهم والتنزه عن سوء محالهم فقال تعالى "ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ... الآية " وتكرر الثناء على الكتاب العزيز كقوله: "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا" وقوله: "الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان "
(الشورى: 17) وقوله: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ... الآية " إلى آخر السورة (الشورى: 32 - 53) ، أعقب ذلك بالقسم به، وعضد الثناء. عليه
فقال: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده، ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال: (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
ولما قدم في الشورى قوله: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) .
فأعلم أن ذلك يكون بقدرته وإرادته والجاري على

(1/300)


هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار، عنف تعالى في هذه
السورة من اعتدى وزاغ فقال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
فكمل الواقع هنا بما تعلق به، وكذلك قوله تعالى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ" (الشورى: 27) وقوله في الزخرف: "وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ".
سورة الدخان
لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز مما
قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه وحصل من مجموع ذلك

(1/301)


الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وقوله "قرآناً عربيا" إلى ما ذكر تعالى من
خصائصه إلى قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، استفتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال: "إنا أنرلناه في ليلة مباركة"
ثم ذكر من فضلها فقال: "فيها يفرق كل أمر حكيم " فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى
سماء الدنيا، وتقدم الأهم في ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت نزوله إذ ليس في التأكيد كالمتقدم ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) وما تقدمه
من قوله تعالى: "أم ابرموا أمرا فإنا مبرمون " (الزخرف: 79) وقوله
سبحانه: "أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " (الزخرف: 80) وتنزيهه تعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان

(1/302)


(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
وقوله: "يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى.... الآية "
والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بفرعونهم في مقالته، "ما بين لابتيها أعز منى ولا أكرم " فذكر تعالى
شجرة الزقوم إلى قوله: "ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول ثم أتبع بذكر حال المتقين جريا على الطرد من شفع آية الترهيب بالترغيب ليبين حال الفريقين، وينهج على الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه عليه السلام (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه إنما يتذكر من يخشى ثم قال:فارتقب وعدك ووعيدهم إنهم مرتقبون.
سورة الشريعة
لما تضمنت السور الثلاث المتقدمة إيضاح أمر الكتاب وعظيم بيانه وأنه
شاف كاف وهدى ونور، وكان أمر من كفر من العرب أعظم شيء لانقطاعهم

(1/303)


وعجزهم وقيام الحجة به عليهم حتى رضوا بالقتل والخزي العاجل وما فاهوا بادعاء معارضة ولا تشوفوا إلى الاستناد إلى عظيم تلك المعارضة، أتبع ذلك تعالى تنبيه نبيه والمؤمنين إلى ما قد نصبه من الدلائل سواء مما صد المعرض عن
الاعتبار بها أو ببعضها مجرد هواه، ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله
فقال تعالى بعد القسم بالكتاب المبين ... "إن في السماوات والأرض لآيات
للمومنين "
أى لو لم تجئهم يا محمد بعظيم آية الكتاب فقد كان لهم
فيما نصبنا من الأدلة أعظم برهان وأعظم تبيان "أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى" (الروم: 8) .
فلما نبه بخلق السماوات والأرض أتبع بذكر ما بث في الأرض فقال: "وفي
خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار"
أي في دخول أحدهما على الآخر بألطف اتصال وأربط انفصال، "لا
الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار" ثم نبه على
الاعتبار بإنزال الماء من السماء وسماه رزقا.... فقال: "وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" ثم قال: "وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"
والاستدلال بهذه الآي يستدعي بسطا يطول ثم قال: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق " أي علاماته ودلائله "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ "
ثم قال: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
بعد ما شاهدوه من شاهد الكتاب وما تضمنه خلق السماوات والأرض
وما فيها وما بينهن من عجائب الدلائل الواضحة لأولى الألباب، فإذا لم يعتبروا بشيء من ذلك فبماذا يعتبر، ثم أردف تعالى بتقريعهم وتوبيخهم في تصحيحهم

(1/304)


مع وضوح الأمر فقال: "ويل لكل أفاك أثيم.... الآيات الثلاث " (7 - 9) ثم قال: "هذا هدى" (آية: 11) وأشار إلى الكتاب وجعله نفس الهدى لتحمله كل أسباب الهدى في جميع جهاته ثم توعد من كفر به ثم أردف ذلك بذكر نعمه وآلائه ليكون ذلك زائدا في توبيخهم، والتحمت الآي عاضدة هذا الغرض تقريعا وتوبيخا ووعيدا وتهديدا إلى آخر السورة.
سورة الأحقاف
لما قدم ذكر الكتاب وعظيم الرحمة به وجليل بيانه وأردف ذلك بما
تضمنته سورة الشريعة من توبيخ من كذب به وقطع تعلقهم وأنه سبحانه قد
نصب من دلائل السماوات والأرض ما ذكر في صدر السورة ما كل قسم منها كاف في الدلالة وقائم بالحجة ومع ذلك فلم يجر عليهم إلا التمادي
على ضلالهم والانهماك في سوء حالهم وسيء محالهم، أردفت بسورة الأحقاف
تسجيلا بسوء مرتكبهم وإعلاما بأليم منقلبهم فقال تعالى: " مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى "،
ولو اعتبروا بعظيم ذلك الخلق وإحكامه وإتقانه لعلموا أنه لم يوجد عبثا ولكنهم عموا عن الآيات، وتنكبوا عن انتهاج الدلالات "والذين كفروا عما أنذروا معرضون ".

(1/305)


ثم أخذ سبحانه في تعنيفهم وتقريعهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع فقال:
"قل أرأيتم ما تدعون من دون الله" إلى قوله: "وكانوا بعبادتهم كافرين
"الآيات: 4 - 6) ثم ذكر عنادهم عند سماع الآيات فقال: "وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات.... الآيات "
ثم التحم الكلام وتناسج إلى آخر السورة.
سورة القتال
لما أنبنت سورة الأحقاف على ما ذكر من. مآل من كذب وكفر،
وافتتحت السورة بإعراضهم، ختمت بما قد تكرر من تقريعهم وتوبيخهم فقال

(1/306)


تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)
أي لو اعتبروا بالبداءة لتيسر عليهم أمر العودة، ثم ذكر عرضهم على النار إلى قوله: "فهل يهلك إلا القوم الفاسقون "
فلما ختم بذكر هلاكهم، افتتح السورة الأخرى بعاجل ذلك اللاحق
لهم في دنياهم فقال تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.... الآية "
بعد ابتداء السورة بقوله تعالى: "الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم "، فنبه على أن أصل محنتهم إنما هو بما أراده تعالى بهم في سابق علمه ليعلم المؤمنون أن الهدى والضلال بيده، فنبه على الطرفين بقوله: "وأضل أعمالهم ") وقوله في الآخر: "كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم " (آية: 2) ثم بين أنه تعالى لو شاء لانتصر منهم ولكن أمر المؤمنين بقتالهم ابتلاء واختبارا ثم حض المؤمنين على ما أمرهم به من ذلك فقال: "إن تنصروا الله ينصركم " ثم التحمت الآى.