البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة الفتح
ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات، وقد يغمض بعضها
منها: أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا"

(1/307)


وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله: "إن تنصروا الله ينصركم " استدعى ذلك تشوق النفوس إلى حال العاقبة فعرِّفوا بذلك في هذه السورة فقال تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .... الآيات "
فعرف تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.... الآيات " (آية: 4 وما بعدها) والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته - صلى الله عليه وسلم -، وحكم المخلفين من الأعراب، والحض على الجهاد، وبيان حال ذوى الأعذار، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ"
وأثابهم الفتح وأخذ المغانم، وبشارتهم بفتح مكة.
"لتدخلن السجد الحرام " (آية: 27) إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمه
عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة.
ووجه آخر وهو أنه لما قال تعالى في آخر سورة القتال (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
كان هذا إجمالا في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم، فتضمنت سورة الفتح - تفسير هذا الإجمال وبسطه وهذا يستدعى من بسط الكلام ما لم نعتمده في هذا التعليق، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول.

(1/308)


ووجه آخر مما قد يغمض وهو أن قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب، وقد أشار أيضا إلى هذا قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.... الآيات " (المائدة: 54) وأشار إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام) : "ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وعقد السبابة بالإبهام "، أشار عليه السلام إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين وإنما أشار عليه السلام بقوله: "اليوم إلى التقديم وتأخر
وقوع هذا الأمر إلى أيام أبي جعفر المنصور، فغلبت الفرس والأكراد وأهل
جهات الصين وصين الصين وهو ما يلى يأجوج ومأجوج، وكان فتحا وعزا وظهورا لكلمة الإسلام وغلبة هؤلاء في الخطط والتدبير الإمارى، وسادوا غيرهم، ولهذا جعل - صلى الله عليه وسلم - مجيئهم فتحا فقال: (فتح اليوم) ، ولو أراد غير هذا لم يعبر بفتح، ألا ترى قول عمر لحذيفة (رضى الله عنهما) في حديث الفتن حين قال له: "إن بينك وبينها بابا مغلقا فقال عمر أيفتح ذلك الباب أم يكسر فقال

(1/309)


بل يكسر"، ففرق بين الفتح والكسر، وإنما أشار إلى قتل عمر (رضى الله
عنهما) ، فلذا قال عليه الصلاة والسلام: "فتح " وقال: "من ردم
يأجوج ومأجوج "، وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم، لأن الفرس ومن أتى معهم، هم أهل تلك الجهات التي تلي الروم، فعلى تمهيد هذا يكون قوله تعالى: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ"،
إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات والخطط الدينية والمناصب العلمية.

(1/310)


ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصا وحطا، بين تعالى أنه
تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام فقال: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) .
ذكر القاضى أبو بكر بن العربي في تخليصُ التِّلخيص علماء المالكية مشيرا إلى تفاوت درجاتهم ثم قال: "وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان، العجم أنسابا وبلدانا العرب عقائدا وإيمانا، الذين تنجز
فيهم وعد الصادق المصدوق، وملكهم الله تعالى مقاليد التحقيق حين
أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها وأقبلت على الدنيا واستوثقت منها. قال أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله من هؤلاء الذين قال الله فيهم: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" فأشار عليه السلام إلى سلمان وقال: "لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء".
سورة الحجرات
لما وصف سبحانه عباده المصطفين من صحابة نبيه والمخصوصين بفضيلة
مشاهدته وكريم عشرته فقال: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) .

(1/311)


فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى لهم بذلك
في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفردوا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" (آل عمران: 115) وشهدت لهم بعظيم المنزلة لديه، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية (والجري قولا وفعلا وعملا ظاهرا وباطنا على أوضح عمل وأخلص نية، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل: "يا موسى ادع لنا ربك "
إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ".... الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ" إلى قوله "والله غفور رحيم"
فطولبوا بآداب تناسب عَليَّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في
درجتهم، وقد قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وكأن قد قيل لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب -
وسوء قصد في الجواب، وطابقوا بين بواطنكم وظواهركم، وليكن علنكم منبئا

(1/312)


بسليم سرائركم "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى "
ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"
ثم أمروا بالتثبت عند نزعة شيطان أو تقول ذى بهتان "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... الآية "
ثم أمرهم تعالى بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الايماني والتواضع، وأن الخير كله في التقوى " إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ " (آية: 13)
وكل ذلك محذر لِعَلِيِّ صفاتهم التى وصفوا بها في خاتمة سورة الفتح.
سورة ق
لما كانت سورة الحجرات قد انطوت على جملة من الألطاف التى خص بها
تعالى عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد
فاسق ""يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ.... الآية " وأمرهم
بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه وأن لا يعاملوه في الجهر

(1/313)


بالقول كمعاملة بعضهم بعضا، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن
التجسس والغيبة وأمرهم بالتواضع في قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"
وأخبرهم تعالى أن استجابتهم، وامتثال هذه الأوامر ليست بحولهم ولكن بفضله وإنعامه فقال: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.... الآية "
ثم أعقب تعالى بقوله: "يمنون عليك أن أسلموا.... الآية "
ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه، بل جعله في طرفٍ من حال مَنْ أمر ونهي في سورة الحجرات، مع المساواة في الخلق وتماثل الذوات فقال تعالى: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ.... الآيات "
ثم ذكر سبحانه وضوح الأدلة "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم ... الآيات "
ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم "كذبت قبلهم قوم نوح "
ليتذكر مجموع هذا من قدم ذكر حاله وأمره ونهيه في سورة الحجرات وليتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه منْ الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه، ثم التحمت الآي إلى قوله خاتمة السورة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) .

(1/314)


سورة الذاريات
لما ذكر سبحانه المواعد الأخراوية في سورة "ق " وعظيم تلك الأحوال
من لدن قوله: "وجاءت سكرة الموت بالحق" إلى آخر السورة"
ثم أتبع سبحانه ذلك بالقسم على صحة وقوعه وصدقه فقال تعالى: "وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا" إلى قوله "إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) "
والدين الجزاء أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " "إنما نملي لهم ليزدادوا إثما"،
ولما أقسم تعالى على صدق وعده ووقوع الجزاء أعقب ذلك
بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال: "يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) "
ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله: "وفي الأرض آيات للموقنين "
فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في
العالم من العجائب، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم
تكذيبهم وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)

(1/315)


ثم آنس نبيه عليه السلام) بقوله: "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " (آية: 32)
أي أن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاه بعضهم
إلى بعض فقال تعالى: "أتواصوا به بل هم قوم طاغون "
أي عجبا لهم في جريهم في التكذيب والعناد في مضمار واحد، ثم قال تعالى: "بل هم قوم طاغون " أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق " وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا " ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء لما ورد على طريقة تخييره عليه الصلاة والسلام في أمرهم من قوله تعالى: "فتول عنهم فما أنت بملوم " (آية: 34) ، ثم أشار تعالى بقوله: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " (آية: 35) إلى أن إحراز أجره عليه الصلاة والسلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة، (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)
ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن مكذبيه سينالهم قسط ونصيب مما نال
غيرهم ممن ارتكب مرتكبهم وسلك مسلكهم فقال تعالى: "فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ" إلى آخر السورة.

(1/316)


سورة الطور
لما توعد تعالى كفار قريش ومن كان على طريقتهم من سائر من كذب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سيصيبهم ما أصاب غيرهم من مكذبي الأمم المنبه على ذكرهم في السورة قبل، ثم أشار سبحانه إلى عظيم ما ينالهم من الخزي وأليم العذاب بقوله: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
أقسم سبحانه على صحة ذلك ووقوعه والعياذ بالله سبحانه من سخطه وأليم
عذابه فقال تعالى: "والطور" إلى قوله: "إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع"
ثم أومأ سبحانه إلى مستحقيه ومستوجبه فقال "فويل يومئذ للمكذبين "
ثم ذكرما يعنفون به ويوبخون على ما سلف منهم من نسبته عليه
السلام إلى السحر وتكذيبه فقال: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
ثم أعقب بذكره حال المومنين المستجيبين، ثم ذكر إثر إعلامه بحال الفريقين نعمته على نبيه عليه

(1/317)


السلام وعصمته ووقايته مما تقوله المفترون فقال تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) .
ثم جرت الآي على توبيخهم في مقالاتهم ووهن انتقالاتهم، فمرة يقولون
كاهن، ومرة يقولون مجنون، ومرة يقولون شاعر نترقب موته، فوبخهم على ذلك كله وبين كذبهم وأزعامهم وأسقط ما بأيديهم بقوله: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
وهذا هو المسقط لما تقولوه أولا وآخر، وهو الذي يجدوا عنه جوابا، ورضوا بالسيف والجلاء ولم يتعرضوا لتعاطي معارضته، وهذا هو الوارد في قوله تعالى في سورة البقرة: "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ...
فما نطقوا في جوابه ببنت شفة "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ".
فتبارك من جعله آية باهرة وحجة قاهرة.
سورة والنجم
لما قطع سبحانه تعلقهم بقولهم شاعر وساحر ومجنون إلى ما هزؤوا به مما

(1/318)


علموا أنه لا يقوم على ساق ولكن شأن المنقطع المبهوت أن يستريح إلى كل ما أمكنه وإن لم يغن عنه أعقب تعالى ذلك بقسمه على تنزيه نبيه وصفيه من
خلقه عما تقوله وتوهمه ضعفاؤهم فقال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)
ثم أتبع سبحانه هذا القسم ببسط الحال في تقريبه عليه السلام وإدنائه وتلقيه لما يتلقاه من ربه وعظيم منزلته لديه، وفي أثناء ذلك يحركهم جل وتعالى ويذكرهم ويوبخهم على سوء مرتكباتهم بتلطف واستدعاء كريم منعم فقال: "أفرايتم اللات والعزى"
والتحمت الآى على هذه الأغراض إلى الإعلام بانفراده سبحانه بالإيجاد والقهر والإعزاز والانتقام لا يشاركه في شىء من ذلك فقال تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
ولما بين كل ذلك قال: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
أي في أي نعمة تشكون أم بأية آية تكذبون، ثم قال: "هذا نذير
من النذر الأولى"
وإذا كان عليه الصلاة والسلام (نذير) فشأن مكذبيه شأن مكذبي غيره.
سورة القمر
لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى وأن عليه النشأة الأخرى وأن ذلك يقع
جزاء كل نفس بما أسلفت أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه

(1/319)


للازدجار فقال تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر"
ثم إن سورة (ص) تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم، وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما لا يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها.
وبعد الشبه في السور قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله
الله وخذله، أنبئت السور بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم تخل سورة
منها من توبيخهم وتقريعهم كقوله في الزمر "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما
نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" (آية: 3)
وقوله: "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء" (آية: 4) وقوله: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ"
وقوله مثلا لحالهم: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ.... الآية " إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ
وقوله في سورة غافر: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
وقوله: "ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا"
وقوله: "أولم يسيروا في الأرض.... الآية " (آية: 21)
وقوله: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (آية: 36)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) .
إلى قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)

(1/320)


وقوله تعالى: "أولم يسيروا في الأرض " إلى ما تخلل هذه الآي كقوله في السجدة: "فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ"
"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " "إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا" إلى قوله "أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
وقوله: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ" إلى خاتمة السورة
وقوله في الشورى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
"كبر على المشركين ما تدعوهم إليه "
"وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... الآية "
"أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ... الآية " (آية: 21) "فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا"
وقوله في الزخرف: "أفنضرب عنكم الذكر صفحا.... الآية "
"وجعلوا له من عباده جزءا"
إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها، وقوله في الدخان: "بل هم في شك يلعبون " إلى قوله: "يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون "
وقوله: "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين " إلى قوله: "إن هذا ما كنتم به تمترون"
وقوله في الشريعة: "فبأى حديث بعد الله وَآياته يؤمنون.... الآيات إلى قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
وقوله: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ" إلى آخر السورة
وقوله في الأحقاف: "والذين كفروا عما أنذروا معرضون "
ومعظم آي هذه السورة لم يخرج عن هذا إلى خاتمتها،
وكذا سورة القتال ولو لم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل خزيهم "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ"
وأما سورة الفتح فمما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به، ولم تخرج عن الغرض

(1/321)


المتقدم وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتعزيز النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضا من ائتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وموقع هذا من العدو بحيث لا يخفى على أحد، وأما سورة "والذاريات "، "والطور"، "والنجم "، فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء، وبذلك افتتحت كل سورة منها، فتأمل مطالعها، ففي ذلك كفاية في الغرض، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغت الآي في هذه
السور من ذلك أقصى غاية، تمحض باطلهم وانقطع دابرهم، ولم يجدوا جوابا، عرض عليهم سبحانه في سورة القمر أحوال الأمم مع أنبيائهم وكان القصد من ذلك - والله أعلم مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم، وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم، وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر، لهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
وختمها بقوله: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ"
وهذا يبين ما قدمناه، وكأن قد قيل أى فرق بينكم وبين من
تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنون أنكم ستفوزون بعظيم جرأتكم، فذكر
سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد
وأفحم عبارة وألطف إشارة فبدأ بقصة قوم نوح "كذبت قبلهم قوم نوح "
إلى قوله: "ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابى ونذر"
ثم استمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسب ما ذكروا في السور الواردة

(1/322)


فيها أخبارهم من ذكر أمة بعد أمة، إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرف في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ختمت كل قصة بقوله: " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ " وتخلل هذه القصص قوله تعالى: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وهى إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الوقوف على زواجره وتنبيهاته ومواعظه، ويدعى بعد ذلك استغلاقه إنه ميسر قريب المرام، وهذا فيما يحصل منه التنبيه
والتذكير لما عنه تكون الاستجابة بإذن الله، ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره، وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجمعيه، والعمل بمحكمه، ثم يفتح الله تعالى ففي ذلك على من شرفه به وأعلى درجته فيبين له بحسب ما يشرح الله صدره "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"
ومن تيسير المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور
أيُّ حفظ منها أطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم، ثم إذا ضم ذلك بعضه إلى بعض اجتمع فيه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السور فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهانا قاطعا على صدق الآي به، وصراطا مستقيما ونورا مبينا.
ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ"
ومن هذا النمط قول شعيب عليه الصلاة والسلام: "وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ.... الآية " (هود: 89)
ثم قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
أي إنكم إن تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر، وقتل صناديدكم فما

(1/323)


حجتكم بعد هذا وقد أنبأ مساق القصص في هذه السور واعتماد التعريف
بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم.
ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام إلى مشركي العرب في قوله: "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ"
وليس في شىء من السور المذكور فيها قصص الأمم على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود ونظائرهما، ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر
مشركى العرب على الصفة الوارة هنا، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ
والتحريك بذكره، وانقضى هذا الغرض، وذلك أنهم ذكروا أولا بعرض
أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة ممن إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم بل يفهم من كلامه الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم، ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يتبين فظاعة التهديد وشدة الوعيد، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ، ثم لو كان لاغتفر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الوعظة فلم تغن، فهنا يحل الغضب وشدة الوعيد، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنون والظلة والصافات، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف، وأميل إلى الزجر والتعنيف، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى: "وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون "

(1/324)


وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه على الفوز وهو الذى "أخلد الى الأرض واتبع هواه، فقال بعد ذلك "فاقصص القصص لعلهم
يتفكرون "
وتذكيره إياه بمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة، وقال تعالى بعد قصص سورة هود "وكذلك أخذ
ربك.... الآية "
وقال بعد "فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ" إلى قوله: "وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ"
وتكررت آى إلى آخر السورة تجاري ما ذكر، وكم بين هذه وآى الأعراف في تلطف الاستدعاء.
وقال تعالى في آخر قصص سورة المؤمنين "فذرهم في غمرتهم حتى حين " إلى قوله "لا يشعرون " (الآيات: 54 - 56) ، ثم قال تعالى بعد "وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) .
استمرت آى على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضا إلى قوله:.
"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا"
وقوله تعالى بعد "إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ "
وكم بين هذه الآي الواقعة عقب قصص سورة هود
"وقال في آخر قصص الظلة "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى قوله خاتمة السورة "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ".
فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه عليه الصلاة والسلام عن سوء توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم وكل هذا تعنيف وزجر لم يتقدم لهم مثله في السور المذكورة، ثم هو صريح في مشركى العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى: "إن في ذلك لآية" وفيه تهديد ووعيد بين، فقال تعالى في آخر قصص والصافات (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) .
وهذا أعظم تقريع وأشد توبيخ، ثم نزه نفسه سبحانه عن بهتان
مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم بقوله سبحانه (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) .

(1/325)


فلما أخذوا كل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم، قال تعالى
لنبيه - صلى الله عليه وسلم - "فتول عنهم" وتمامها، "حتى حين"
ولم يقع أمره - صلى الله عليه وسلم - بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلا بعد حصول القصص في السور المذكورة
وأخذهم بكل طريق، وأول أمره بذلك - صلى الله عليه وسلم - في سورة السجدة "فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
ثم في سورة الذاريات "فتول عنهم فما أنت بملوم "
ثم في قوله هنا "فتول عنهم " (آية: 6) ، فتأمل ذلك، ثم ذكر
تعالى قصص الأمم إثر قوله تعالى هنا "فتول عنهم " بأشد وعيد وأعظم تهديد
يعقب كل قصة بقوله تعالى: "وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"
وقوله " فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ "
ثم صرف الكلام إليهم بما تقدم في قوله "أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ"
فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان والإعذار، ثم قال تعالى: "وكل شيء فعلوه في الزبر"
فعرف سبحانه بسابق حكمته فيهم إنا كل شيء خلقناه بقدر وانقضى ذكر القصص، فلم يتعرض لها مستوفاة على هذا المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية باهرة إلى يوم الدين، وقطع به عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بيانا كافيا ونورا هاديا وواعظا شافيا، جعلنا الله ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة.
سورة الرحمن
من المعلوم أن الكتاب العزيز وإن كانت آياته كلها معجزة باهرة وسوره في
جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة، فبعضها أوضح من بعض في

(1/326)


تبين إعجازها. وتظاهر بلاغتها وإيجازها، ألا ترى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى: "وقيل يا أرض ابلعى ماءك " (هود: 44) وقوله: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
لا يتوقف في أمر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه، أو صُد عنه باب الفهم جملة، فأنى له بولوجه وقرعه؟ وسورة القمر من هذا النمط، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها وما
جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار، ولولا أني لم أقصد التعليق - إلا ما بنيته عليه من ترتيب السور - لأوضحت ما أشرت إليه ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير يفتح الله به وييسر فيه.
فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبأن فيها عظيم الرحمة في ذكر
القصص ونفع العظات، وظهرت حجة الله على الخلق وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر الكتاب ووفقه لفهمه واعتباره أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تعالى: "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعارا برحمته بالكتاب وعظيم
إحسانه "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"
ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار، ومن أين للعباد بجميل هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يزدادوا إلى

(1/327)


بسط الدلالات، وإيضاح البينات إن يعذر إليهم زيادة في الإبلاع فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال: "الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصا ببني آدم، بل بمشركى العرب منهم فقط فأتبعت بسورة الرحمن تنبيها للثقلين وإعذارا إليهم وتقريرا للجنس على ما أودع الله تعالى في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى: "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" خطابا للجنسين وإعذارا للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان.
سورة الواقعة
لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين وأعلم
في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) . "وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وأعلمهم سبحانه في الواقعة بانقسامهم الأخروي فافتتح بذكر الساعة "إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
إِلى قوله "وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) "
فتجردت هذه السورة للتعريف بأحوالهم

(1/328)


الأخروية وصدرت بذلك عما جرد في السورتين قبل التعريف بحالهم في هذه الدار، وما انجر في السور الثلاث جاريا على غير هذا الأسلوب فبحكم استدعاء الترغيب والترهيب لطفا بالعباد ورحمة، ومطالعها مبنية على ما ذكرته تصريحا لا تلويحا، وعلى الاستيفاء لا بالإشارة والإيحاء، ولهذا قال تعالى في آخر قصص افتراق أحوالهم الأخروية في هذه السورة "هذا نزلهم يوم الدين " (الواقعة: 36) فأخبر أن هذا حالهم يوم الجزاء، وقد قدم حالهم الدنيوى في السورتين قبل وتأكد التعريف المتقدم فيما بعد وذلك قوله: "فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) .
إلى خاتمتها.
سورة الحديد
لما تقدم قوله تعالى: "نحن خلقناكم فلولا تصدقون "
وفيه من التقريع والتوبيخ لمن قرع به ما لاخفاء به، ثم أتبع بقوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) ... الآيات إلى قوله: "وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
فنذروا ووبخوا على سوء جهلهم وقبح ضلالهم ثم قال بعد ذلك "أفبهذا الحديث أنتم مدهنون "
واستمر توبيخهم إلى قوله: "إن كنتم صادقين ".
فلما أشارت هذه الآيات إلى قبائح مرتكباتهم أعقب تعالى ذلك بتنزيه عز
وجل من سوء ما انتحلوه وضلالهم فيما جهلوه فقال تعالى: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ"
أى نزهه عن عظيم ضلالهم وسوء اجترامهم، ثم أعقب

(1/329)


ذلك بقوله: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "
ثم أتبع ذلك بقوله له: "له الملك وله الحمد"
فبين تعالى انفراده بصفة الجلال ونعوت الكمال، وأنه المنفرد بالملك والحمد، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن إلى قوله: "وهو عليم بذات الصدور" (الحديد: 6) فتضمنت هذه الآي إرغام من أشير إلى حاله في الآي المتقدمة في سورة الواقعة وقطع ضلالهم والتعريف بما جهلوه من صفاته العلى وأسمائه الحسنى جل وتعالى، والتحمت آى السورتين واتصلت معانيها ثم صرف الخطاب إلى عباده المؤمنين فقال تعالى: "آمنوا بالله ورسوله "
(الحديد: 7) واستمرت الآي على خطابهم إلى آخر السورة.
سورة المجادلة
لما نزه سبحانه نفسه عن مقول الملحدين وأعلم أن العالم بأسره ينزهه
عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها لا يمكن أن يشبه شيئا منها بل يتنزه عن أوصافها ويتقدس عن سماتها فقال: "سبح لله ما في السماوات والأرض "
ومضت آى تعرف بعظيم سلطانه وعلي ملكه، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله: "آمنوا بالله ورسوله"

(1/330)


إلى ما بعد ذلك من الآي، وكان ذلك ضرب من الالتفات الواقع منه هنا أشبه شيء بقوله سبحانه في سورة ابقرة "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ"
فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم، وحال من تشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده "يا أيها الناس اعبدوا ربكم " (البقرة: 21) ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام ببدء الخلق "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" فجاء ضربا من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم وبخهم في عدة سور غالب آيها جار على ذلك ومجرد له، أولها سورة (ص) ، كما نبه عليه في سورة القمر وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه، وكذا في سورة الرحمن بعدها.
ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزول الأخروي في سورة الواقعة مع زيادة
تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم، فأتبعت بسورة الحديد ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين، واستمر ذلك إلى آخر السورة، وجرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفا خطابها إلى نازلة يتشوف المؤمنون إلى تعرف حكمها وهو الظهار المبين أمره فيها، فلم يعدل بالكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله: "آمنوا بالله ورسوله " (الحديد: 7) بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم.
ثم إن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض
لانقضاء ما قصد في التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية، وتقريع من عاند وتوبيخه، وذكر مآل الخلق واستقرارهم الأخروي، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه خلاصهم ومعظم آي السورة بعد هذا شأنها، وإن انجر غيرها فلاستدعاء وموجب وهو الأقل كما بينا.

(1/331)


سورة الحشر
لا خفاء باتصال آيها بما تأخر من آى سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله
تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ"
إنما يراد به يهود، فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم، ثم قال في آخر السورة: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"
فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين منهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان
وودهم من النفاق لقبح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه.
فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر اتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما
عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وتمكين المسلمين منهم جرى على ما تقدم الإيماء إليه من سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه وتناسخ الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم، إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب، وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب، وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم "أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة: 60) وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) .

(1/332)


فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداؤهم أيضا في مواضع، فلما كان الغضب مشيرا إلى ما ذكر من عظيم الشرك أتبعه سبحانه تنزيه نفسه جل وتعالى فقال: "سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ"
وإنما يرد التنزيه في الكتاب إثر جريمة تقع من العباد، وعظيمة يرتكبونها، وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد إلى الِإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم ثم تناسبت الآي.