البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة الممتحنة
افتتحت هذه السورة بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونههيهم
عن ذلك، وأمرهم بالتبري منهم وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ"
إلى آخر السورة"، وقد حصل منها أن هذه أسنى أحوال أهل الإيمان، وأعلى مناصبهم "أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ"
فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء، ووعظهم بقصة إبراهيم عليه السلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم
والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليها، واعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك بذكر ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة

(1/333)


رضى الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة، والقصة مشهورة، وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلب المعاداة للجميع واحد، فلهذا فصل بما هو من تمام الِإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث، وكثر في سورة الممتحنة ترداد الوصايا والعهود، وطلب الوفاء بذلك كله، ولهذه المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء، وما يشترط عليهن في ذلك، فبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحا واختتاما حسبما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة.
سورة الصف
افتتحت بالتسبيح لما ختمت به سورة الممتحنة من قوله: "لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ " وهم اليهود، وقد تقدم الإيماء إلى ما استوجبوا به هذا، فأتبع بالتنزيه لما تقدم بيانه، فإنه مما يعقب به ذكر جرائم المرتكبات ولا يرد في غير ذلك، ثم أتبع ذلك بأمر العباد بالوفاء، وهو الذي قدم لهم في الممتحنة ليتنزهوا عن حال مستوجبي الغضب بنقيض الوفاء والمخالفة
بالقلوب والألسنة "يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم "

(1/334)


"لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ" (النساء: 45) "مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ" (المائدة: 43) "وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ" (النور: 45) ،
وبمجموع هذا استجمعوا اللعنة والغضب فقيل للمؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)
احذروا أن تشبه أحوالكم حال من استحق المقت واللعنة والغضب، ثم أتبع بحسن الجزاء لمن وفى قولا وعقداً لسانا وضميرا، وثبت على ما أمر به فقال: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّ.... الآية "
ثم تناسج ما بعد.
ولما كان الوارد من هذا الغرض في سورة الممتحنة قد جاء على طريق الوصية
وسبيل النصح والإشفاق، أتبع في سورة الصف بصريح العتب في ذلك والإنكار ليكون ذكره بعد ما تمهد في السورة قبل أوقع في الزجر، وتأمل كم بين قوله سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ.... الآية. "
وما تضمنت من التلطف وبين قوله: "لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) .
سورة الجمعة
لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل
إيمانهم، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ"

(1/335)


كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فأتبع ذلك بذكر هذه الأمة والثناء عليها، فافتتحت السورة بالتنزيه كما أشار إليه قوله: "كفرت طائفة" (الصف: 14) فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال: "هو الذى بعث في الأميين رسولا منهم" إلى قوله "ذو الفضل العظيم "، ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لها نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها، ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة.... الآية".
وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمة الله إياه لئلا يكونوا فيما
يتلو عليهم نبيهم من الآيات، ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك المتحَنين فإنهم مُقتوا ولُعنوا بعد حملهم التوراة، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلا بمثالبهم لطفا من الله بهذه الأمة (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) .
سورة المنافقون
لما أعقب حال المؤمنين فيما خصهم الله به مما انطوت عليه الآيات
الثلاث في صدر سورة الجمعة إلى قوله: "والله ذو الفضل العظيم "
(بذكر حال من لم ينتفع بما حُمِّل حسبما تقدم، وكان في ذلك من المواعظ

(1/336)


والتنبيه مما ينتفع به من سبقت له السعادة أتبع بما هو أوقع في الغرض، وأبلغ في المقصود وهو ذكر طائفة ممن أظهر الإيمان - ممن قدم الثناء عليهم ومن أقرانهم وأترابهم أقارربهم تلبست في الظاهر بالإيمان وأظهرت الانقياد والإذعان، وتعرضت فأعرضت وتنصلت فما وصلت، بل عاقتها الأقدار فعميت البصائر والأبصار.
ومن المطرد المعلوم أن اتعاظ الإنسان بأقرب الناس إليه وبأهل زمانه أغلب
من اتعاظه بمن بعد عنه زمانا ونسبا، فأتبعت سورة الجمعة بسورة المنافقين وعظا للمؤمنين بحال أهل النفاق، وبَسَط من قصصهم ما يلائم ما ذكرناه، وكأن قد قيل لهم ليس من أظهر الانقياد والاستجابة في بني إسرائيل، ثم كان فيما حمل كمثل الحمار يحمل أسفارا بأعجب من حال إخوانكم زمانا وقرابة، وأنتم أعرف الناس بهم، وأنهم كانوا في الجاهلية موصوفين بجودة الرأى وحسن النظر "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ" "وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) .
قلت: "وقد مر في الخطبة ما رويناه في مصنف ابن أبي شيبة من قول
أناس من المؤمنين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين

(1/337)


فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم وأما سورة المنافقين فيؤيس بها
المنافقين ويوبخهم وهذا نحو ما ذكرناه أولا.
سورة التغابن
لما بسط في السورتين قبل من حال مَن حمل التوراة في بني إسرائيل، ثم لم
يحملها، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام وقلوبهم كفر وعناد متكاثفة الإظلام وما بين خروج الفرقتين عن سواء السبيل المستقيم، وتنكبهم عن هَديِ الدين القويم، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم في الكفر بوسم الانفراد وسم ينبئء عن عظيم ذلك الإبعاد سوى ما تناول غيرهم من أضراب الكفار، فأنبأ تعالى عن أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق، وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقتين، فقال تعالى: "هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ"
وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات وأهل الكفر
ذوو طبقات، وأهل النفاق أدونهم حالا وأسوأهم كفرا وضلالاً "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" (النساء: 143)
وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم، ولولم تنطو سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"
وقد أشار قوله تعالى: "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ "

(1/338)


"والله عليم بذات الصدور" إلى ما قبله وما بعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم ما لم تنطو عليه قلوبهم "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون "
واتخاذهم إيمانهم جُنّة إلى ما وصفهم سبحانه به، فافتتح تعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه -
سبحانه "ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " (التوبة: 78) ثم قال تعالى:
"ويعلم ما تسرون وما تعلنون " (التغابن: 4) فقرع ووبخ في عدة آيات، ثم أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات وصدهم عن اعتبار المعجزات وأنه الكبر المهلك غيرهم، فقال تعالى مخبرا عن سلفهم في هذا المرتكب ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب "ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا"
ثم تناسج الكلام معرفا بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله "وبئس
المصير" (التغابن: 15) ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله.
سورة الطلاق
لما تقدم قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ"
وقوله في التغابن: "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ"
وقوله تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ"
والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه على فتنته وعظيم محنته،
وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق، وموضحة أحكام الطلاق، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة وإن اضطرمت، لا توجب التبري بالجملة وقطع المعروف "لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"
ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله: "أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ".

(1/339)


وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به فهذا الرفق المطلوب بإيقاع
الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيرا من وقوع
الطلاق في الحيض الموجب طول العدة وتكثير المدة، وأكد سبحانه هذا بقوله:"واتقوا الله ربكم " ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء
في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال: "لا تخرجوهن من
بيوتهن "
إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله، ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع والله أعلم.
سورة التحريم
لا خفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب
معناهما: وقد ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه حين اعتزل في الشرفة حتى سأله عمر رضى الله عنه، والقصة معروفة، وتخييره - صلى الله عليه وسلم - إياهن إثر ذلك وبعد اعتزالهن شهرا كاملا، وعتب الله تعالى عليهن في قوله: "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ "
وقوله: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ..... الآية ".
فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأنسبه لسورة الأنفال
وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد.

(1/340)


سورة الملك
ورود ما افتتحت بهذ السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقب
تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى: "فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) .

(1/341)


عقب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقا آخر، وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء آى قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي والجلال.
ولما كان أوقع في سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر وأعلى آية لمن
استبصر من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة
لعباده "واجتهادا في دعاء الخلق فحرم الاستنارة بنورهما، والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه، ولا أكثر مشاهدة لما مدَّا به من الآيات وعظيم المعجزات، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يضرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته، مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت: "رب ابن لي عندك بيتا في الجنة"
وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك بها أولى
الناس في ظاهر الأمر، وتقديم سبب امتحان سلم منه أقرب الناس إلى التورط
فيه، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين السببين، وانفصلت في
مقدماتها عن تينك القصتين وهو ذكر مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب، أعقب تعالى ذلك بقوله الحق "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شىء قدير" وإذا كان الملك بيده سبحانه فهو الذى يؤتي الملك والفضل من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها، ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسط التفسير.

(1/342)


سورة ن
لما تضمنت سورة الملك من عظيم البراهين ما تعجز العقول من استيفاء
الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السمماوات في قوله تعالى: "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا" أي يطابق بعضها بعضا، من طابق النعل إذا خصفها طبقا
عن طبق، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها والله
أعلم، ووقع الوصف بالمصدر ليشعر باستحكام مطابقة بعضها بعضا من
غير زيادة ولا نقص "مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ"
أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض، إنما هي مستوية مستقيمة، وجيء بالظاهر في قوله: "مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ" ولم يقل ما ترى فيه من تفاوت ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا، كل شكل يناسب شكله لا تفاوت في شىء من ذلك ولا اضطراب، فأعطى الظاهر من التعميم ما لم يكن يعطيه الإضمار، كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذه الأدلة المبسوطة من الرحمة للخلائق لمن رُزْق الاعتبار، ثم نبه تعالى على ما يدفع الريب ويزيح الإشكال فقال: "فارجع البصر"
أي عاود البصر والتأمل مما تشاهده من المخلوقات

(1/343)


حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا يبقى معك في ذلك شبهة "فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" أى صدوع وشقوق ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحا
ومتمتعا، هل تجد عيبا أو خللا "يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا"
أي أنك إذا فعلت هذا رفع بصرك بعيدا عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والإعياء وبالكلال لطول الإجالة والترديد، وأمر برجوع البصر ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي يمكن فيها الغفلة والذهول، إلا أن يحسر بصره من طول المعاودة إذ معنى التنبيه في قوله: "كرتين " التكرير، كقوله لبيك وسعديك، فيحسر البصر من طول التكرار ولا يعثر على شيء من فطور، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان ذلك أعظم معتبر وأوضح دليل لمن استبصر، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات، ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة، ثم قد تكون في السورة دلالات كقوله:
"وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" وقوله: "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ"
إلى آخر السورة، وأدناها كاف في الاعتبار، فأنى يصدر نقص عن متصف
ببعض ما هزؤوا به في قولهم: مجنون وساحر وشاعر، "بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ".
فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين، أتبعت بتنزيه الآتي به -
- صلى الله عليه وسلم - مما تقوَّله المبطلون، مقسما على ذلك زيادة في التعظيم وتأكيدا في التعزيز والتكريم فقال تعالى: "ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون "
وأنى يصح تَصوُّّر بعد تلك البراهين وقد انقطعت دونك أنظار العقلاء،
فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز، ونظم معجز، وتلاؤم حير العقول، وعبارة تفوق كل مقول، تعرف، ولا تدرك، ويستوضحِ سبيلها فلا يسلك "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ".
فقوله سبحانه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ"
جواب لقوله تعالى في آخر

(1/344)


السورة "وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) "، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ليكون أبلغ في إجلاله - صلى الله عليه وسلم -، وأخف وقعا عليه وأبسط لحاله في تلقى ذلك منهم، ولذا قدم مدحه - صلى الله عليه وسلم - بما خص به من الخلق العظيم، فكان هذا أوقع
في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده، إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزه عنها أتم في الغرض وأكمل، ولا موضع أليق بذكر تنزيهه عليه الصلاة والسلام ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته سورة الملك مما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل منصف بصحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - وجليل صدقه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
فقد تبين موقع هذه السورة هنا، وتلاؤم ما بعد من آيها يذكر في التفسير.