البرهان فى تناسب سور القرآن سورة الطارق
لما قال تعالى في سورة البروج، والله على كل شىء شهيد".
"والله من ورائهم محيط "
وكان في ذلك تعريف العباد بأنه سبحانه
(1/360)
لا يغيب عنه شيء، ولا يفوته هارب أردف ذلك
بتفصيل يزيد إيضاح ذلك
التعريف الجملي من شهادته سبحانه على كل شيء وإحاطته به فقال:
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) .
فأعلم سبحانه بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها، ما يلفظ من قول
إلا لديه رقيب عتيد" (ق: 18)
ليعلم العبد أنه ليس بمهل ولا مضيع، وهو سبحانه الغني عن كتب
الحفظة وإحصائهم ولكن هي سنة حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق،
وأقسم تعالى على ذلك تحقيقا وتاكيدا. يناسب القصد المذكور..
سورة الأعلى
لما قال سبحان مخبرا عن عَمَه الكفار في ظلام حيرتهم أنهم
يكيدون
كيدا، وكان وقوع ذلك من العبيد المحاط بأعمالهم ودقائق أنفساهم
وأحوالهم من أقبح مرتكب وأبعده عن المعرفة بشىء من عظيم أمر
الخالق جل جلاله وتعالى علاؤأه وشأنه، أتبع سبحانه ذلك بأمر
نبيه عليه الصلاة والسلام بتنزيه ربه الأعلى عن شنيع اعتدائهم
وإفك افترائهم فقال: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) .
أي نزهه عن قبيح مقالهم، وقدم التنبيه على التنزيه في أمثال
هذا ونظائره، ووقع ذلك أثناء السور وفيما بين سورة وأخرى،
وأتبع سبحانه من التعريف بعظيم قدرته وعليِّ حكمته بما يبين
ضلالهم فقال: "الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى (3) "
" فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " وتنزه عما
يتقوله المفترون.
(1/361)
سورة الغاشية
لما تقدم تنزيهه سبحانه عما توهمه الظالمون، واستمرت آي السورة
على ما
يوضح تنزيه الخالق جل جلاله عن عظيم مقالهم، أتبع ذلك بذكر
الغاشية
بعد افتتاح السورة بصورة الاستفهام تعظيما لأمرها فقال لنبيه -
صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
وهي القيامة فكأنه سبحانه يقول: في ذلك اليوم يشاهدون
جزاءهم ويشتد تحسرهم حين لا يغني عنهم، ثم عَرف بعظيم امتحانهم
في قوله: "لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
مع ما بعد ذلك وما قبله، ثم عرف بذكر حال من كان في نقيض حالهم
إذ ذاك أزيد في القرع وأدهى ثم أردف بذكر ما نصب من الدلائل
كيف لم تغن فقال: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت..... الآيات
" (17)
أى أفلا يعتبرون بكل ذلك ويستدلون على الصانع
ثم أمره بالتذكار.
سورة الفجر
أبدى سبحانه لمن تقدم ذكره وجها آخر من الاعتبار، وهو أن
يتذكروا حال
من تقدمهم من الأمم وما أعقب تكذيبهم واجترائهم فقال: "أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ (7) ... إلى قوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
(14)
أي لا يخفى عليه شىء من مرتكبات الخلائق، ولا يغيب عنه ما
أكنوه
(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ)
.
(1/362)
فهلا اعتبر هؤلاء بما يعانونه ويشاهدونه من
خلق الابل ورفع السماء ونصب الجبال وسطح الأرض وكل ذلك
لمصالحهم ومنافعهم، فالإبل لأثقالهم وانتقالهم، والسماء لسقيهم
وإظلالهم، والجبال لاختزان مياههم وإقلالهم، والأرض لحلولهم،
وارتحالهم، فلا بهذه استبصروا، ولا بمن خلا من
القرون اعتبروا "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ"
(الآية: 6)
على عظيم طغيانها وصميم بهتانها "إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ" (آية: 14)
سيتذكرون حين لا ينفع التذكر
(إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى
لَهُ الذِّكْرَى (23) .
سورة البلد
ْلما أوضح سبحانه حال من تقدم ذكره في السورتين في عظيم
حيرتهما
وسوء غفلتهم وما أعقبهم ذلك من التذكر تحسرا حين لا ينفع الندم
ولات حين مطمع، أتبع ذلك بتعريف نبيه علي الصلاة والسلام بأن
وقوع ذلك منهم إنما جرى على حكم السابقة التى شاءها والحكمة
التى قدرها كما جاء في الموضع الآخر
"وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا"
فأشار تعالى إلى هذا بقوله: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ
فِي كَبَدٍ (4)
أي إنا خلقناه كذلك ابتلاء ليكون ذلك قاطعا لمن سبق له الشقاء
عن التفكر والاعتبار، "وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى
فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
فأعماهم بما خلقهم فيه من الكبد، وأعقل قلوبهم
(1/363)
فحسبوا أنهم لا يقدر عليهم أحد، وقد بين
سبحانه فعله هذا بهم في قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام "وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ " "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعًا"
فأنت تشاهدهم يا محمد ذوى أبصار وآلات يعتبر بها النظار،
"أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
(9) .
فلا أخذ في خلاص نفسه واعتبر بحاله وأمسه "فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ"
ولكن "وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ
لَهُ ".
سورة الشمس
لما تقدم في سورة البلد تعريفه تعالى بما خلق فيه الإنسان من
الكبد مع ما
جعل له سبحانه من آلات النظر وبسط له من الدلائل والعبر،
وأظهره في صورة من مَلك قياده وميز رشده وعناده وهذا بيان
النجدين "إنا هديناه السبيل "
وذلك بما جعل له من القدرة الكسبية التى حقيقتها اهتمام أو كد
أو ألم وأتى بالاستبداد والاستقلال ثم "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ"
أقسم سبحانه في هذه السورة على فلاح من اختار رشده واستعمل
جهده، وأنفق وجده "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) " وخيبة
من عاب هداه فاتبع هواه، "وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) .
فبين حال الفريقين وسلوك الطريقين.
ْسورة الليل
لما بين قبل حالهم في الافتراق وأقسم سبحانه على ذلك الشأن في
الخلائق
بحسب تقديره أزلا "لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"
فقال تعالى:
(1/364)
"إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى"، فاتصل بقوله
تعالى: "قد أفلح من زكاها وقد خاب
من دساها"، ثم ان قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى -
إلى - العسرى" (5 - 15) يلائمه تفسيرا وتذكيرا - بما الأمر
عليه من كون
الخير والشر بإرادته وإلهامه بحسب السوابق -
قوله: "فألهمها فجورها وتقواها"
فهو سبحانه أهَّلهم للإعطاء وللاتقاء والتصدق، والمقدر للبخل
والاستغناء والتكذيب، "والله خلقكم وما تعملون " "لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ "، ثم زاد ذلك إيضاحا بقوله تعالى: "إِنَّ
عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ
وَالْأُولَى (13)
فتَبًّا للقدرية والمعتزلة (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ
عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) .
سورة الضحى
لما قال تعالى: "فألهمها فجورها وتقواها"، ثم اتبعه بقوله:
"فسنيسره " وبقوله: "إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ
لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
(1/365)
فلزم الخوف، واشتد الفزع وتعين على الموحد
الإذعان
بالتسليم والتضرع في التخلص والتجاؤه إلى السميع العليم، آنس
تعالى أحب عباده إليه وأعظم منزلة لديه، وذكر له ما منحه من
تقريبه واجتبائه وجمع خير الدارين له فقال: (وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
ثم عدد تعالى عليه نعمه بعد وعده الكريم له بقوله:
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
وأعقب ذلك بقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) فقد آويتك قبل تعرضك
وأعطيتك قبل سؤالك، فلا تقابله بقهر من تعرض وقهر من سأل وقد
حاشاه سبحانه عما نهاه عنه، ولكنه تذكير بالنعم، وليستوضح
الطريق من وفق من أمته - صلى الله عليه وسلم -، أما هو
- صلى الله عليه وسلم - فحسبك من تعرف رحمته ورفعه قوله: "وكان
بالمؤمنين رحيما"، "عزيز عليه ما عنتم - إلى - رحيم ".
ثم تأمل استفتاح هذه السورة ومناسبة ذلك المقصود، وكذلك السورة
قبلها
برفع القسم في الأولى بقوله: "والليل إذا يغشى"
تنبيها على إبهام الأمر في السلوك على المكلفين وغيبة حكم
العواقب، وليناسب هذا حال التذكر بالآيات وما يلحقه من الخوف
مما أمره غائب عنه من تيسيره ومصيره واستعصاء ما به يحصل
اليقين واستصغار درجة المتقين، ثم لما لم يكن هذا غائب بالجملة
عن آحاد المكلفين أعني ما يثمر العلم اليقين ويعلي من أهِّل
للترقي في درجات المتقين، بل قد يطلع سبحانه خواص عباده
بملازمة التقوى والاعتبار على واضحة السبيل ويريهم مشاهدة
وعيانا ما قد انتهجوا قبل سبيله بمشقة النظر في الدليل، قال -
صلى الله عليه وسلم -
(1/366)
لحارثة: (عرفت فالزم)
وقال مثله للصديق، وقال تعالى: "لَهُمُ الْبُشْرَى فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ"، "إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ"
فلم يبق في حق هؤلاء ذلك الإبهام ولا كدر خواطرهم بتكاثف ذلك
الإظلام بما منحهم سبحانه من نعمة الإحسان بما وعدهم في قوله:
"يجعل لكم فرقانا" "ويجعل لكم نورا تمشون به "
"أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا"
فعمل هؤلاء على بصيرة، واستدلوا اجتهادا بتوفيق ربهم على أعمال
جليلة خطيرة فقطعوا عن الدنيا الآمال وتأهبوا لآخرتهم بأوضح
الأعمال "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ"، "فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ"
، فلابتداء الأمر وشدة الإبهام والإظلام ما أشار إليه قوله
سبحانه
وتعالى: "والليل إذا يغشى" ولما تؤول إليه الحال في حق من كتب
في حقه الإيمان وأيده بروح منه أشار قوله سبحانه: "والنهار إذا
تجلى" ولانحصار السبيل وإن تشعبت في طريقين: "فمنكم كافر ومنكم
مؤمن "
"فريق في الجنة وفريق في السعير"
أشار قوله تعالى: "وما خلق الذكر والأنثى"، "ومن كل شىء خلقنا
زوجين "، ففروا إلى الله الواحد مطلقا، فقد وضح لك إن شاء الله
بعض ما ليس من تخصيص هذا القسم والله أعلم.
أما سورة الضحى فلا إشكال في مناسبة استفتاح القسم بالضحى بما
يسره
له سبحانه لا سيما إذا اعتبرت ما ذكر من سبب نرول السورة، وأنه
- صلى الله عليه وسلم - فتر عنه الوحى حتى قال بعض الكفار: قلا
محمدا ربُّه، فنزلت السورة مسفرة عن هذه النعمة والبشارة.
(1/367)
سورة الشرح
معنى هذه السورة من معنى السورة التي قبلها، وحاصل السورتين
تعداد نعمه
عليه سبحانه، فإن قلت فلم فصلت سورة "ألم نشرح " ولم ينسق ذكر
هذه النعم في سورة واحدة قلت: من المعهود في البشر فيمن عدد
على ولده أو عبده نعماء أن يذكر له أولا ما شاهد الحصول عليه
منها بكسبه مما يمكن أن يتعلق في بعضها بأن ذلك وقع جزاء لا
ابتداء، فإذا استوفى له ما قصده من هذا، أتبعه بذكر نعم
ابتدائية قد كان ابتداؤه لها قبل وجوده كقول الأب مثلا لابنه:
ألم أختر لأجلك الأم، والبقعة، حيث استولدتك وأعددت من مصالحك
كذا وكذا، ونظير ما أشرنا إليه قوله سبحانه لزكرياء عليه
الصلاة والسلام "ولم تك شيئا"
وقد قدم له: "إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى"
وتوهم استبداد الكسبية في وجود الولد غير خافية في حق من قَصر
نظره ولم يوَّفق، فابتدأ بذكرها، ثم أعقب ما لا يمكن أن يتوهم
فيه ذلك وهو قوله: " وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ
تَكُ شَيْئًا "
وله نظائر من الكتاب وعليه جاء ما ورد في هاتين السورتين والله
أعلم.
(1/368)
سورة التين
هذه سورة موضحة ومتممة للمقصود في السورتين قبلها، فبان لك أن
الصور الإنسانية بظاهر الأمر مما هىْ عليه من الترتيب
والإتقان، قد كانت تقتضي الاتفاق بظاهر ارتباط الكمال بها من
حيث إنها في أحسن تقويم والافتراق يبعد في الظاهر،فكيف افترق
الحكم واختلف السلوك، فمن صاعد بالاستيضاح والامتثال، ونازل
أسفل سافلين فضلا عن ترقي درجات الكمال، فإذن ليس يرقى من خص
بمزيه التقرب إلا أنه نودي من قريب فأسرع في إجابة مناديه
وأصاخ، وما اعتل بحاديه
فسلك من واضحات السبيل ما رسم له وبنى على ما كتب له من ذلك
عمله، "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا"
فعلى العاقل المنصف في نفسه أن يعلم أن كلا ميسر لما خلق له،
فيضرع إلى خالقه في طلب الخلاص، من وجد خيرا فليحمد الله.
فأوضحت هذه السورة أن ما أعطى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم
- وخصه به من ضروب الكرامات وابتدأه به من عظيم الآلاء مما
تضمنت السورتان إلى ما منحه من خير الدارين، وما تضمن قسمه
سبحانه أنه ما ودعه ولا قلاه من الملاطفة والتأني
ودلائل الحب والتقريب، كل ذلك فضل منه تعالى وإحسان لا لعمل
تقدم
(1/369)
يستوجب ذلك أو بعضه، ولو تقدم عمل لم يقع
إلا بمشيئته وتوفيقه وإرادته ولا يستوجب أحد عليه شيئاً وإنما
هو فضله يوتيه من يشاء، فقال سبحانه منبها على ما وقع الإيماء
إلى بعضه "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) . ومع ذلك لا ينفعه وقوع صورته الظاهرة في عالم
الشهادة على أكمل خلق وأتم وضع، بل إذا لم يصحبه توفيق وسبقية
سعادة من خالقه ولم يجعل له نورا يمشي به لم ير غير نفسه، ولا
عرف إلا أبناء جنسه فقصر نظره على أول ما شاهد، ووقف عندما
عاين من غير اعتبار يجره إلى تحقيق مآله وتبيين حاله أنه لم
يكن شيئا مذكورا، فلما قصر وما أبصر اعتقد لنفسه الكمال وعمي
عن المبدأ والمآل، فصار أسفل سافلين حيث لم ينتفع بآلات نظره
ولا تعرف حقيقة خبره، "أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا
خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ".
ثم قال تعالى: "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات "
فهم الذين هداهم ربهم بإيمانهم فجروا بسنة من خلقهم في أحسن
تقويم، واستوضحوا الصراط المستقيم، واستبصروا، فأبصروا ونظروا
فاعتبروا، وقالوا ربنا الله ثم استقاموا، "فلهم أجر غير ممنون
".
سورة العلق
لما قال سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (فَمَا
يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ
بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) .
وكان معنى ذلك على هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه، وقد نزهه
تعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل
(1/370)
هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى: "لَئِنْ
أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ"
وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد
بالحقيقة به من أمته - صلى الله عليه وسلم - من حيث عدم عصمتهم
وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم
فتقدير الكلام أي شىء يمن فيه أن يحملكم على التوقف والتكذيب
بأمر
الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، فلم تعلموا
أن ربكم أحكم الحاكمين، أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل
اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم، أيحسن أن
يفعل ذلك عبثا وقد قال تعالى: "وما خلقنا السماء والأرض وما
بينهما باطلا" (ص: 27) فلما قرر سبحانه للعبيد على أنه أحكم
الحاكمين مع ما تقدم من موجب نفي الاسترابة في وقوع الجزاء إذا
اعتبر ونظر، وقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع
الشقاء، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء أوهو كتابه المبين الذي
جعله تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمحسنين، فأمر بقراءته
ليتدبروا آياته فقال: "اقرأ باسم ربك "
أي مستعينا به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليك، "تَبَارَكَ
الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ
لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"
وأيضا فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان "في أحسن تقويم ثم
رددناه أسفل سافلين "
وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين المتقابلين،
كل ذلك بسابق حكمته وإرادته "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ
نَفْسٍ هُدَاهَا".
وقد بين سبحانه أقصر غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من
الصنف الإنساني وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا
المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجليل وعده الكريم له في قوله:
"ولسوف يعطيك ربك فترضى"
وفصل حال ابتداء "ألم نشرح " على ما تقدم سؤال "رب اشرح لي
صدري "
إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة وذلك أعلى
مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع تعقيب ذلك بسورة تضمنت الإشارة
إلى حال من جعل في الطرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال
من، أشير من لدن قوله تعالى: "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)
عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) - إلى قوله -: كَلَّا لَا تُطِعْهُ
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) .
(1/371)
ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين
الحالتين وهي العادة المطردة في
الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الطرف الآخر
ليطابق المقصود، ولعل بعض من يتفطن، يعترض هنا بأن هذه السورة
من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما
تأخر عنها نزولا، فيقال له وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما
تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني ومقتضى
تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في
مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيما بعد من المكي ما لا يحصى،
فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور
على ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام كان ذلك
بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم على ما قدمناه،
فارجع بصرك وأعد في الخطبة نظرك والله يوفقنا إلى اعتبار
بيناته وتدبر آياته ويحملنا في ذلك ما يقربنا إليه بمنه وفضله.
سورة القدر
وردت تعريفا بإنزال ما تقدم الأمر بقراءته لما قدمت الإشارة
إلى عظيم أمر
الكتاب وأن السلوك إليه سبحانه إنما هو من ذلك الباب، أعلم
سبحانه بليلة إنزاله وعرفنا بقدرها لنعتمدها في مظان دعائنا
وتعلق رجائنا ونبحث على الاجتهاد في العمل لعلنا نوافقها وهي
كالساعة في يوم الجمعة في إبهام أمرها مع جليل قدرها، ومن قبيل
الصلاة الوسطى، ولله سبحانه في إخفاء ذلك رحمة وكأن في التعريف
بعظيم قدر هذه الليلة التعريف بجلالة المنزل فيها، فصارت سورة
القدر من تمام ما تقدم ووضح اتصالها.
(1/372)
سورة البينة
هي من تمام ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بأن
هذا الكتاب
هو الذي كانت يهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر
الآتي به حتى إذا حصل ذلك مشاهدا لهم كانوا أول كافر به فقال
تعالى: "لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ (1) .. إلى قوله (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) .
وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج
بإذن
الله التسليم والتبري من ادعاء حول أو قوة، فإن هؤلاء كانوا قد
قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به ما يجدونه مكتوبا عندهم في
التوارة والإنجيل، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة
والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه، فرحم الله من لم يكن
عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضى الله عنهم، وحرم
هؤلاء الذين قد كانوا على بصيرة من أمره وجعلهم بكفرهم شر
البرية ورضي عن الآخرين ورضوا عنه، وأسكنهم في جواره ومنحهم
الفوز الكببر والحياة الأبدية، وإن كانوا قبل بعثه عليه الصلاة
والسلام على جهالة وعمى فلم يضرهم إذ قد سبق لهم في الأزل
"أولئك هم خير البريئة".
سورة الزلزلة
وردت عقب سورة البينة ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل
الصنفين
المذكورين في قوله: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب".. إلى
قوله: شر البريئة"
(1/373)
وقوله: "إن الذين آمنوا".. إلى خاتمة
السورة
ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين
أحوالهم، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل
ذكرهم فقال تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) .
سورة العاديات
أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو، فقال: "إِنَّ
الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
أى لكفور يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازى ولا يحاسب
على قليل ذلك كثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما جمع
بقوله: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره "، "وإنه لحب الخير" أى
المال "لشديد"
لبخيل "وإنه على ذلك لشهيد"
وأن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله (إِذَا
بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ
(10) ، أى ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه "إِنَّ
رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
لا يخفى عليه شىء من أمرهم "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهُ (8) .
سورة القارعة
لما قال تعالى: "أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي
الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) "
وكان ذلك مظنة لأن يسأل متى ذلك، فقيل يوم القيامة
الهائل الأمر، الفظيع الحال، الشديد البأس والقيامة هي
القارعة، وكررت تعظيما
(1/374)
لأمرها كما ورد في قوله تعالى: "الحاقة ما
الحاقة"
وقوله. تعالى: "فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
(78)
ثم زاد عظيم هولها إيضاحا بقوله تعالى:
(يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) .
والفراش: ما تهافت في النار من البعوض، والمبثوث المنتشر
(وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) .
والعهن: الصوف المصبوغ، وخص لإعداده للغزل، إذ لا يصبغ بخلاف
الأبيض فإنه لا يلزم فيه ذلك، ثم ذكر حال الخلق في وزن الأعمال
وصيرورة كل فريق ما كتب له وقدر.
سورة التكاثر
لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها أعقب بذكر ما شغل وصد عن
الاستعداد لها وألهى عن ذكرها وهو التكاثر بالعدد والقربات
والأهلين فقال: ألهاكم التكاثر"
وهو في معرض التهديد والتقريع، وقد أعقب بما يعضد ذلك
وهو قوله: "كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون " ثم قال: "كلا
لو
تعلمون علم اليقين "
وحذف جواب لو، والتقدير لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم
التكاثر،
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا
ولبكيتم كثيرا ... الحديث)
وقوله تعالى: "لترون الجحيم "
جواب لقسم مقدر أى والله لترون الجحيم وتأكد بها التهديد وكذا
ما بعد إلى آخر السورة.
(1/375)
سورة العصر
لما قال تعالى: "ألهاكم التكاثر"، وتضمن ذلك الإشارة إلى قصور
نظر الإنسان وحصر إدراكه في العاجل دون الآجل الذي فيه فوزه
وفلاحه
وذلك لبعده عن العلم بموجب الطبع أنه كان ظلوما جهولا، أخبر
سبحانه أن
ذلك شأن الإنسان بما هو إنسان فقال: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ، فالقصور شأنه والظلم طبعه
والجهل جبلته فيحق أن يلهيه التكاثر ولا
يدخل الله عليه روح الإيمان
"إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.. إلى
آخرها"
فهؤلاء الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
سورة الهمزة
لما قال سبحانه "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ"، أتبعه
بمثال من
ذكر نقصه وقصوره واغتراره وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره،
واعتماده على ما جمعه من المال ظنا أنه يخلده وينجيه، وهذا كله
عين النقص الذي هو شأن الإنسان وهو المذكور في السورة قبل فقال
تعالى: "ويل لكل همزة لمزة"
فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه
ولمزه
الذي أتم حسده، والهمزة: العياب الطعان، واللمزة مثله، ثم ذكر
تعالى مآله ومستقره بقوله: "لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ"
أي ليطرحن في النار جزاء على اغتراره وطعنه.
(1/376)
سورة الفيل
لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه
يخلده، وما
أعقبه ذلك أتبع هذا بأصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم وخدعهم
امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم
فتعجلوا النقمة وجعل الله كيدهم في تضليل وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) : أي جماعات متفرقة
(تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) ، حتى استأصلهم
وقُطعت دابرهم (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) ، وأثمر
لهم ذلك، اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم.
سورة قريش
لا خفاء باتصالهما أى أنه تعالى فعل ذلك بأصحاب الفيل ومنعهم
عن بيته
وحرمه لانتظام شمل قريش وهم سكان الحرم وقطان بيت الله
وليؤلفهم بهاتين
الرحلتين فيقيموا بمكة وتأمن ساحتهم.
(1/377)
سورة الماعون
لما تضمنت السورة المتقدمة من الوعيد لمن انطوى على ما ذكر
فيها مما هو
جار على حكم الجهل والظلم الكائنين في جبلة الإنسان ما تضمنت
كقوله
تعالى: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
"إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ، "يَحْسَبُ أَنَّ
مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) .
وانجر أثناء ذلك مما تثيره هذه الصفات الأولية إلى ما ذكر أيضا
فيها كالشغل بالتكاثر والطعن على الناس ولمزهم والاغترار
المهلك أصحاب الفيل أتبع ذلك بذكر صفات قد توجد في المنتمين
إلى الإسلام أو يوجد بعضها، وأعمال ممن يتصف بها وإن لم يكن من
أهلها. كدع اليتيم وهو دفعه عن حقه وعدم الرفق به وعدم الحض
على إطعام السكين والتغافل عن الصلاة والسهو عنها والرياء
بالأعمال ومنع الزكاة والحاجات التي يضطر فيها الناس بعضهم إلى
بعض، ويمكن أن يتضمن إيهام الماعون هذا كله.
ولا شك أن هذه الصفات توجد في المنتمين إلى الإسلام فأخبر
سبحانه
أنها من صفات من يكذب بيوم الدين ولا ينتظر الجزاء والحساب،
إشارة إلى أن هؤلاء هم أهلها ومن هذا القبيل قوله - صلى الله
عليه وسلم -: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا".
وقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
"،
وهذا الباب كثير في الكتاب والسنة، وقد بسطته في كتاب: "إيضاح
السبيل من حديث سؤال جبريل "،
فمن هذا القبيل والله أعلم قوله: "أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ
(2) .
أى إن هذه الصفات من دفع اليتيم،
(1/378)
وبعد الشفقة عليه، وعدم الحض على إطعامه
والسهو عن الصلاة والمراءاة
بالأعمال، ومنع الحاجات كلها من شأن المكذب بالحساب والجزاء،
لأن نفي البعد عنها إنما يكون إذ ذاك، فمن صدق به جرى في هذه
الخصال على السنن المشكور والسعى المبرور، ومن كذب به لم يبال
بها وتأبط جميعها، فتنزهوا أيها المؤمنون عنها فليست من صفاتكم
في أصل إيمانكم الذي بايعتم عليه، فمن تشبه بقوم فهو منهم،
فاحذروا هذه الرذائل فإن دع اليتيم من الكبر الذى أهلك أصحاب
الفيل وعدم الحض على إطعامه فإنما هو فعل البخيل الذي يحسب أن
ماله أخلده، والسهو عن الصلاة من ثمرات ألهاكم التكاثر والشغل
بالأموال والأولاد، فنهى عباده عن هذه الرذائل التي يثمرها ما
تقدم والتحمت السور.
سورة الكوثر
لما نهى عباده عما يلتذ به من أراد الدنيا وزينتها من الإكثار
والكبر والتغرر
بالمال والجاه وطلب الدنيا، أتبع ذلك بما منح نبيه مما هو خير
مما يجمعون وهو
الكوثر وهو الخير الكثير، ومنه الحوض الذي ترده أمته في
القيامة، لا يظمأ من شرب منه، ومنه مقامه المحمود الذي يحمده
فيه الأولون والآخرون عند شفاعته العامة للخلق وإراحتهم من هول
الموقف، ومن هذا الخير قدم له في دنياه كتحليل الغنائم والنصر
بالرعب والخلق العظيم، إلى ما لا يحصى من خير الدنيا والآخرة
مما بعض ذلك خير من الدنيا وما فيها واحدة من هذه العطايا
"قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
ومن الكوثر والخير الذى أعطاه الله كتابه المبين الجامع لعلم
الأولين والآخرين، والشفاء لما في الصدور، ولما كمل له
(1/379)
سبحانه من النعم مالا يأتي عليه حصر مما لا
ينايسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها قال له منبها على عظيم ما
أعطاه "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ... إلى قوله "وَرِزْقُ
رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى"
فقد اضمحل في جانب نعمة الكوثر الذى أوتي كل ما ذكره تعالى
في كتابه من نعيم أهل الدنيا، تمكن من تمكن منهم وهذا أحد
موجبات تأخير
هذه السورة، فلم يقع بعدها ذكر شيء من نعيمِ الدنيا ولا ذكر
أحد المتنعمين بها لانقضاء هذا الغرض وتمامه، وسورة الدين آخر
ما تضمن الإشارة إلى شىء من ذلك كما تقدم من إشارتها وتبين
بهذا وجه تعقيبها والله أعلم.
سورة الكافرون
لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من
أوله إلى آخره
على اختلاف أحوال كل فريق وشتي درجاتهم وأعني بالفريقين من
أشير إليه في قوله سبحانه "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ"
، فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ" إشارة إلى طريق من كان في
الطرف الآخر من حال أولئك الفريق، إذ ليس إلا طريق السلامة أو
طريق الهلاك، "فريق في الجنة وفريق في
السعير" "فمنكم كافر ومنكم مومن "
والسالكون طريق السلامة على درجات، فأعلى درجاتهم مقامات الرسل
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي
العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل
(1/380)
الخصوص منهم والقرب، ثم أحوال من تمسك بهم
ورتبتهم مختلفة، وإن جمعهم جامع وهو قوله: "فريق في الجنة"،
وأما أهل التنكب عن هذه الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضا،
ويضم جميعهم طريق واحد، فكيف ما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من
الطريقين مرجعهما وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت
ذكره تفصيلا لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله
بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن
"هدى للمتقين " (البقرة: 2) إلى قوله: "إن شانئك هو الأبتر"
(الكوثر: 3) أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل
فقال تعالى: "قل يل أيها الكافرون"
فبين سبحانه أن من قضى عليه بالكفر والموافاة عليه لا سبيل إلى
خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبدا (وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ
الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا
كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
(1/381)
ولو أنهم بعد عذاب الآخرة، ومعاينة البعث
وعظيم تلك الأهوال، وسؤالهم
الرجوع إلى الدنيا وقولهم "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ
صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ "
فلو أجيبوا إلى هذا وأرجعوا لعادوا إلى حالهم الأول، "وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ". تصديقا لكلمة الله
وإحكاما لسابق قدره "أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
فقال لهم "لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) . إلى آخرها" فبان أمر الفريقين
وارتفع الإشكال واستمر كل على طريقه "فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ"، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ "
(الشورى: 48)
فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما فصل في الكتاب يلح لك
وجه تأخيرها. والله أعلم.
سورة النصر
لما كمل دينه واتضحت شريعته واستقر أمره - صلى الله عليه وسلم
-، وأدى أمانة رسالته حق أدائها عرف عليه السلام نفاذ عمره
وانقضاء أجله، وجعلت على ذلك علامة دخول الناس في دين الله
جماعات بعد التوقف والتثبط حكمة بالغة "ولو شاء الله لجمعهم
على الهدى" (الأنعام: 33) ، وأمِر بالإكثار من الاستغفار
المشروع في أعقاب المجالس وفي أطراف النهار وخواتم الأخذ مما
عسى أن يتخلل من لغو أو فتور، فشرع سبحانه الاستغفار ليحرز
لعباده من حفظ أحوالهم ورعي أوقاتهم ما
(1/382)
يكفي بعلي أجورهم كما وعدهم "وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ
لِكَلِمَاتِهِ"
وقد بسطت ما أشارت إليه هذه السورة العظيمة، وكل كلام ربنا
عظيم فيما قيدته في غير هذا، وأن أبا بكر رضي الله عنه عرف
منها
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعيت إليه نفسه الكريمة
على ربه، وعرف بدنو أجله، وقد أشار إليه هذا الغرض أيضا بأبعد
من الواقع في هذه السورة قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ ... "
وسورة براءة، وأفعاله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، لكن
لم يبلغنا استشعار أحد من الصحابة رضي الله عنهم يقين الأمر
إلا من هذه السورة، وهي عرفت بإشارة براءة وآية المائدة تعريفا
شافيا واستشعر
الناس عام حجة الوداع وعند نزول براءة ذلك لكن لم يستيقنوه،
وغلبوا رجاءهم في حياته - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم من
توقف، فلما نزلت (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)
استيقن أبو بكر رضي الله عنه ذلك استيقانا حمله على البكاء لما
قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
سورة المسد
هذه السورة وإن نزلت على سبب خاص وفي قصة معلومة فهي مع ما
تقدمها واتصل بها في قوة أن لو قيل قد انقضى عمرك يا محمد
وانتهى مما قلدته من عظيم أمانة الرسالة أمرك، وتأدية ما
تحملته وحان أجلك، وأمارة ذلك دخول الناس في دين الله أفواجا
واستجابتهم بعد تلكؤهم، والويل لمن عاندك وعدل عن متابعتك، وإن
كان أقرب الناس إليك، فقد فصلت سورة "قل يا أيها الكافرون "
بين أوليائك وأعدائك، وبان بها حكم من اتبعك ومن عاداك ولهذا
سماها - صلى الله عليه وسلم.
(1/383)
المبرئة من النفاق، ليعلم كفار قريش وغيرهم
أنه لا اعتصام
لأحد من النار إلا بالإيمان وأن القرابات غير نافعة ولا تجديه
شيئا إلا مع الإيمان
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ، (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) ،
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ)
وها هنا انتهى أمر الكتاب بجملته.
سورة الإخلاص
لما انقضى مقصود الكتاب العزيز بجملته عاد الأمر إلى ما كان
وأشعر العالم
بحالهم من ترددهم بين عدمين ثم الله ينشىء النشأة الآخرة،
فوجودهم منه سبحانه وبقاؤهم به وهم وجميع ما يصدر عنهم من
أفعالهم وأقوالهم، كل ذلك خلقه واختراعه، وقد كان سبحانه ولا
عالم ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان لا يفتقر
إلى أحد ولا يحتاج إلى معين، ولا يتقيد بالزمان ولا يتحيز
بالمكان، فالحمد لله رب العالمين أهل الحمد ومستحقه مطلقا، له
الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
(4) .
الموجود الحق وكلامه الصدق، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، فطوبى لمن استوضح آى كتاب الله وأتى
الأمر
(1/384)
من بابه وعرف نفسه ودنياه وأجاب داعي الله
ولم ير فاعلا في الوجود حقيقة إلا هو سبحانه، ولما كمل مقصود
الكتاب واتضح عظيم رحمة الله به لمن تدبر واعتبر وأناب كان
مظنة الاستعاذة واللجأ من شر الحاسد وكيد الأعداء، فختم
بالمعوذتين من شر ما خلق وذرأ، وشر الثقلين.
سورة الفلق
قد أشير، أى في الكلام على ارتباط الإخلاص إلى وجه ارتباطها
آنفا وذلك
أوضح ان شاء الله.
سورة الناس
وجه تأخيرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية، ألا ترى
عموم
قوله "من شر ما خلق " (الفلق: 2) وإبهام (ما) وتنكير غاسق
وحاسد، والعهد فيما استعيذ من شره في سورة الناس " وتعريفه
ونعته، فبدأ بالعموم، ثم أتبع
(1/385)
بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت
الاستعاذة منه وأوفى بالمقصود،
ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص ليتناول
الدقائق والجلائل قوله سبحانه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ" فمعنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد إلا في عموم الصفة
الأولى وكونها في المبالغة وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك
نظائر.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة.
(1/386)
|