البرهان فى تناسب سور القرآن

سورة النازعات
لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله: "يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا"
عند نظره ما قدمت يداه، ومعاينته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد
ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك بما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر "وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ"

(1/355)


وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شىء أهون من شيء " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"
فقال تعالى: "وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) ... إلى قوله: "يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
إذ يستعبدون ذلك ويستدفعونه، "فإنما هى زجرة واحدة" أي صيحة "فإذا هم بالساهرة" أي الأرض قياما ينظرون ما قدمت أيديهم، ويتمنون أن لو كانوا ترابا ولا ينفعهم ذلك، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) .
سورة عبس
لما قال سبحانه: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) .
وقال بعد "إنما أنت منذر من يخشاها"
افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهَّله لطاعته وإجابة رسوله صلى الله عليهم وسلم، وأعلى منزلته لديه "رب أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره "
ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت
بطريق العتب وصاة لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - وتنبيها على أن يحمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن أم مكتوم وأن لا يحتقره وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك، ولكن التحذير من هذا وإن لم يكن وقع يشعر بعظيم الاعتناء بمن حذر، ومنه قوله

(1/356)


سبحانه: "لئن أشركت ليحبطن عملك " (الزمر: 65) "ولا تدع مع الله إلها
آخر" (القصص: 88) ولا تمش في الأرض مرحا"
وهو كثير، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق.
لما دخل عليه - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم رضي الله عنه سائلا ومسترشدا وهو - صلى الله عليه وسلم - يكلم رجلا من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجا إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه فتمادى على مكالمة هذا الرجل لما كان يرجوه، ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه، فأغفل فورية مجاوبته، وشق عليه الحاجة خوفا من تفلت الآخر ومضيه على عقبه وهلاكه، عتب سبحانه عليه فقال: "عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
وهى منه سبحانه واجبة، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: "هل لك إلى أن تزكى"
فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعده صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها، وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال: "مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
"وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ" (غافر: 37)
فأنى يزكى ولو سبقت له سعادة لأبصر من حاله عين اللهو واللعب حين مقالته الشنعاء "أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ" (الزخرف: 52)
ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره الصيت الدنيوي ولا أخل به عماه بل عظم ربه شأنه لما نزل في حقه "وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
فيا له صيتا ما أجله بخلاف من قدم ذكره من طرد فلم يَتَزَكَّ ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها "إنما أنت منذر من يخشاها"
(النازعات: 45) كابن أم مكتوم رضى الله عنه، ومن نمط ما نزل في ابن أم مكتوم رضي الله عنه قوله تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" (الكهف: 28)
فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك.

(1/357)


سورة التكوير
لما قال سبحانه: "فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه.... الآيات
إلى آخر السورة"
كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع ومتى يكون فقال تعالى: "إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) .
ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كان ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه إلى ما ذكر إلى آخر السورة، لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة فيصح أن يكون أمارة للأول وعلما عليه.
سورة الانفطار
هذه السورة كأنها من تمام سورة التكوير لاتحاد القصد فاتصالها بها واضح
وقد مضى نظير هذا.
سورة التطفيف
لما قال سبحانه في سورة الانفطار "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) .
وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات
الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا" (الأنبياء: 47) أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم، وذلك التطفيف في المكيال والانحراف عن إقامة القسط في ذلك فقال تعالى: "ويل للمطففين " (1) ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال:

(1/358)


"أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى خاتمتها.
سورة الانشقاق
لما تقدم في الانفطار التعريف بالحفظة وإحصائهم على العباد في كتبهم
وعاد الكلام إلى ذكر ما يكتب على البر والفاجر واستقرار ذلك في قوله تعالى: "إن كتاب الأبرار لفي عليين " (18) وقوله: "إن كتاب الفجار لفى سجين"
أتبع ذالك بذكر التعريف بأخذ هذه الكتب في القيامة عند العرض، وأن
أخذها بالأيمان عنوان السعادة، وأخذها وراء الظهر عنوان الشقاء، إذ قد تقدم في السورتين قبل ذكر الكتب واستقرارها بحسب اختلاف مضمناتها فمنها في عليين ومنها في سجين إلى يوم العرض فيؤتى كل كتابه فآخذ بيمينه وهو عنوان سعادته، وآخذ وراء ظهره وهو عنوان هلاكه، فتحصل الِإخبار بهذه الكتب ابتداء واستقرارا

(1/359)


وتفريقا يوم العرض، وافتتحت السورة بذكر انشقاق السماء، ومد الأرض وإلقائها ما فيها وتخليها، تعريفا بهذا اليوم العظيم بما يتذكر به من سبقت سعادته والمناسبة بينة.
سورة البروج
وردت هذه السورة في قصة أصحاب الأخدود وقد تقدم هذا الضرب في
سورة المجادلة وسورة النبأ وبينا وقوعه في أنفس السور ومتونها وهو أقرب فيما بين السورتين وأوضح.