التمهيد في علم التجويد الباب الأول في ذكر
قراءة هؤلاء القراء في هذا الزمان
إن مما ابتدع الناس في قراءة القران أصوات الغناء، وهي التي
أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها ستكون بعده،
ونهى عنها ويقال إن أول ما غني به من القرآن قوله عز وجل {أما
السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} ، نقلوا ذلك من تغنيهم
بقول الشاعر
أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتًا يوافق عندي بعض ما فيها
وقد قال رسول الله - ? - في هؤلاء: «مفتونه قلوبهم وقلوب من
يعجبهم شأنهم» .
(1/43)
وابتدعوا أيضاً شيئاً سموه الترقيص، وهو أن
يروم السكت على الساكن ثم ينفر مع الحركة في عدو وهرولة.
وآخر سموه الترعيد، وهو أن يرعد صوته كالذي يرعد من برد وألم،
وقد يخلط بشيء من ألحان الغناء.
وآخر يسمى التطريب، وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في
غير مواضع المد، ويزيد في المد على ما ينبغي لأجل التطريب،
فيأتي بما لا تجيزه العربية.
كثر هذا الضرب في قراء القرآن.
وآخر يسمى التحزين، وهو أن يترك طباعه وعادته في التلاوة،
ويأتي بالتلاوة على وجه آخر، كأنه حزين يكاد يبكي مع خشوع
وخضوع، ولا يأخذ الشيوخ بذلك، لما فيه من الرياء.
وآخر أحدثه هؤلاء الذين يجتمعون فيقرأون كلهم بصوت واحد،
فيقولون في نحو قوله: {أفلا يعقلون} ، {أو لا يعلمون} : أفل
يعقلون، أول يعلمون، فيحذفون الألف، وكذلك يحذفون الواو
فيقولون: قال' آمنا، والياء فيقولون: يوم الدن في {يوم الدين}
.
ويمدون ما لا يمد، ويحركون السواكن التي لم يجز تحريكها،
ليستقيم لهم الطريق التي سلكوها، وينبغي أن يسمى هذا التحريف.
(1/44)
وأما قراءتنا التي نقرأ ونأخذ بها، فهي
القراءة السهله المرتله العذبه الألفاظ، التي لا تخرج عن طباع
العرب وكلام الفصحاء، على وجه من وجوه القراءات، فنقرأ لكل
إمام بما نقل عنه، من مد أو قصر أوهمز أو تخفيف همز أو تشديد
أو تخفيف أو إماله أوفتح أو إشباع أو نحو ذلك.
فصل فيما يستفاد بتهذيب الألفاظ
وما تكون الثمرة الحاصلة عند تقويم اللسان
اعلم أن المستفاد بذلك حصول التدبر لمعاني كتاب الله تعالى،
والتفكر في غوامضه، والتبحر في مقاصده، وتحقيق مراده - جل اسمه
- من ذلك.
فانه تعالى قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته
وليتذكر أولو الألباب} ، وذلك أن الألفاظ إذا أجليت على
الأسماع في أحسن معارضها، وأحلى جهات النطق بها، حسب ما حث
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «زينوا القرآن
بأصواتكم» - كان تلقي القلوب وإقبال النفوس عليها بمقتضى
زيادتها في الحلاوة والحسن، على ما لم يبلغ ذلك المبلغ منها،
فيحصل حينئذ الامتثال لأوامره، والانتهاء عن مناهيه، والرغبة
في وعده، والرهبة من وعيده، والطمع في ترغيبه، والارتجاء
بتخويفه، والتصديق بخبره، والحذر من إهماله، ومعرفة الحلال
والحرام.
وتلك فائدة جسيمة، ونعمه لايهمل ارتباطها إلا محروم، ولهذا
المعنى شرع الإنصات إلى قراءة القرآن في الصلاة وغيرها،
(1/45)
وندب الإصغاء إلى الخطبة في يوم الجمعة،
وسقطت القراءة عن المأموم ما عدا الفاتحة، ومن أجل ذلك دأب
الأئمة في السكوت على التام من الكلام، أو ما يستحسن الوقف
عليه، لما في ذلك من سرعة وصول المعاني إلى الأفهام، واشتمالها
عليها، بغير مقارعة للفكر، ولا احتمال مشقة لا فائدة فيها غير
ما ذكرناه.
وبالله التوفيق.
(1/46)
|