التمهيد في علم التجويد

الباب الثاني: في معنى التجويد، وفيه فصول الفصل الأول في التجويد والتحقيق والترتيل
أما التجويد فهو مصدر من جود تجويدا إذا أتى بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الجور في النطق بها.
ومعناه انتهاء الغاية في إتقانه، وبلوغ النهاية في تحسينه، ولهذا يقال جود فلان في كذا إذا فعل ذلك جيداً، والاسم منه الجودة.
فالتجويد هو حلية التلاوة، وزينة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها، وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وإشباع لفظه، وتلطيف النطق به، على حال صيغته وهيئته، من غير إسراف ولا تعسف، ولا إفراط ولا تكلف، قال الداني: ليس بين التجويد وتركه إلا رياضة لمن تدبره بفكه.

(1/47)


وأما التحقيق فهو مصدر من حقق تحقيقاً، إذا أتى بالشيء على حقه، وجانب الباطل فيه، والعرب تقول: بلغت حقيقة هذا الأمر، أي بلغت يقين شأنه، والاسم منه الحق.
ومعناه أن يؤتى بالشيء على حقه، من غير زيادة فيه ولا نقصان منه.
وأما الترتيل فهو مصدر من رتل فلان كلامه، إذا أتبع بعضه بعضاً على مكث، والاسم منه الرتل، والعرب تقول: ثغر رتل، إذا كان مفرقاً لم يركب بعضه بعضاً، قال صاحب العين: رتلت الكلام تمهلت فيه.
وقال الأصمعي: في الأسنان الرتل، وهو أن يكون بين الأسنان الفرج، لايركب بعضها بعضاً.
وحده: ترتيب الحروف على حقها في تلاوتها، بتلبث فيها.

الفصل الثاني في معنى قوله تعالى: " ورتل القرآن ترتيلاً "
سئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن هذه الآية، فقال: الترتيل هو تجويد الحروف، ومعرفة الوقوف.
وروى ابن جريج، عن مجاهد، أنه قال: أي ترسل فيه ترسلاً.
وروى جبير عن الضحاك: أي أنبذه حرفاً حرفاً.
وروى مقسم عن

(1/48)


ابن عباس: أي بينه تبيينا.
وقال علماؤنا: أي تلبث في قراءته، وأفصل الحرف من الحرف الذي بعده، ولا تستعجل فتدخل بعض الحروف في بعض.
ولم يقتصر - سبحانه وتعالى - على الأمر بالفعل حتى أكده بمصدره، تعظيما لشأنه، وترغيبا في ثوابه.
وقال تعالى {ورتلناه ترتيلاً} أي أنزلناه على الترسل، وهو المكث، وهو ضد العجلة، وقال تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} أي على ترسل.

الفصل الثالث الفرق بين التحقيق والترتيل
الترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط.
والتحقيق يكون لرياضة الألسن، وترقيق الألفاظ الغليظة، وإقامة القراءة، وإعطاء كل حرف حقه، من المد والهمز والإشباع والتفكيك، ويؤمن معه تحريك ساكن واختلاس حركه.
وتفكيك الحروف وفكها بيانها وإخراج بعضها من بعض بيسر وترسل، ومن ذلك فك الرقبة، وفك الأسير، لأنه إخراجهما من الرق والأسر، وكذا فك الرهن هو إخراجه من الارتهان، وفك الكتاب هو استخراج ما فيه، وفك الأعضاء هو إخراجها من مواضعها.
قال الداني: الفرق بين الترتيل والتحقيق أن الترتيل يكون بالهمز وتركه والقصر لحرف المد والتخفيف والاختلاس، وليس ذلك في التحقيق.
وكذا قال أبو بكر الشذائي.

(1/49)


الفصل الرابع: في كيفية التلاوة
كتاب الله تعالى يقرأ بالترتيل والتحقيق، وبالحدر والتخفيف وبالهمز وتركه، وبالمد وقصره، وبالبيان والإدغام، وبالإمالة والتفخيم.
وإنما يستعمل الحدر والهدرمة، وهما سرعة [القراءة] .
مع تقويم الألفاظ، وتمكين الحروف، لتكثر حسناته، إذ كان له بكل حرف عشر حسنات.
وأن ينطق القارئ بالهمز من غير لكز، والمد من غير تمطيط، والتشديد من غير تمضيغ، والإشباع من غير تكلف.
هذه القراءة التي يقرأ بها كتاب الله تعالى.

الفصل الخامس في ذكر قراءة الأئمة
عن أبي جعفر أحمد بن هلال، قال: حدثني محمد بن سلمة العثماني، قال: إني قلت لورش: كيف كان يقرأ نافع؟ فقال: كان لا مشدداً ولا مرسلاً، بينا حسناً.
وقال ابن مجاهد: كان أبو عمرو سهل القراءة، غير متكلف، يؤثر التخفيف ما وجد إليه السبيل.

(1/50)


ووصف الشذائي قراءة أئمة القراءة السبعة، فقال: أما صفة قراءة ابن كثير فحسنة مجهورة، بتمكين بين.
وأما صفة قراءة نافع فسلسلة، لها أدنى تمديد.
وأما صفة قراءة عاصم فمترسلة جريشة ذات ترتيل، وكان عاصم نفسه موصوفاً بحسن الصوت وتجويد القراءة.
وأما صفة قراءة حمزة فأكثر من رأينا منهم لا ينبغي أن تحكى قراءته لفسادها، ولأنها مصنوعة من تلقاء أنفسهم، وأما من كان منهم يعدل في قراءته حدراً وتحقيقاً فصفتها المد العدل والقصر والهمز المقوم والتشديد المجود، بلا تمطيط ولا تشديق، ولا تعلية صوت، ولا ترعيد، فهذه صفة التحقيق.
وأما الحدر فسهل كاف، في أدنى ترتيل وأيسر تقطيع.
وأما وصف قراءة الكسائي فبين الوصفين في اعتدال.
وأما قراءة أصحاب ابن عامر فيضطربون في التقويم، ويخرجون عن الاعتدال.
وأما صفة قراءة أبي عمرو بن العلاء فالتوسط والتدوير، همزها سليم من اللكز، وتشديدها خارج عن التمضيغ، بترسل جزل بين سهل، يتلو بعضها بعضاً.
قال: وإلى هذا كان يذهب أبو بكر بن مجاهد في هذه القراءة وغيرها، وبه قرأنا عليه، وله كان يختار، وبمثله كان يأخذ ابن المنادى، رحمة الله عليهما.

(1/51)