الحجة في القراءات السبع ـ[الحجة في القراءات السبع]ـ
المؤلف: الحسين بن أحمد بن خالويه، أبو عبد الله (المتوفى:
370هـ)
المحقق: د. عبد العال سالم مكرم، الأستاذ المساعد بكلية الآداب
- جامعة الكويت
الناشر: دار الشروق - بيروت
الطبعة: الرابعة، 1401 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
__________
(تنبيه): ط دار الرسالة (الأولى،1421هـ - 2000م) لنفس المحقق
وبنفس ترقيم الصفحات
(/)
مقدّمة الطّبعة الأولى
ابن خالويه
ابن خالويه شخصية لم تظفر بالدراسة الواسعة بعد؛ لأنه في مجال
القراءات والنحو، واللغة لا يقل عن هؤلاء الأعلام الذين ظفروا
بمثل هذه الدراسة كأبي على الفارسي، وابن جني، وغيرهما.
ولعلّي بهذه الترجمة الموجزة أنير الطّريق أمام الباحثين
ليتّجهوا إلى تراث هذا الرجل المطبوع والمخطوط، ليقيموا في
ضوئه دراسات وبحوثا، تظهر مكانة الرجل في عصره، ومكانة تراثه
بين تراثنا الخالد.
نسبه:
سجّلت كتب الطبقات أن اسمه: الحسين بن أحمد بن خالويه بن
حمدان؛ وكنيته: أبو عبد الله «1».
نشأته
- ذكر ياقوت: أنه نشأ في (همذان)، ثم وفد إلى (بغداد) بعد ذلك،
ويشاركه في هذا الرأي السيوطي في البغية «2» وقد سجّل الرّواة
أنه في سنة أربع عشرة وثلاثمائة دخل بغداد ليتلقى عن شيوخها،
ويأخذ عن أعلامها.
هذا، ولم تتعرض كتب الرواة لسنة مولده، وإن تعرّضت لسنة وفاته،
فقد أجمعت على أنه توفي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة «3».
__________
(1) البغية 1 - 529، معجم الأدباء 9 - 200.
(2) البغية 1 - 529.
(3) البغية 1 - 529، معجم الأدباء 9 - 200، غاية النهاية 1 -
237.
(1/5)
شيوخه
- من شيوخه الذين كان لهم أثر كبير في تكوينه العلمي والثقافي.
1 - ابن مجاهد:
تلقى ابن خالويه، على ابن مجاهد علوم القرآن الكريم والقراءات
وهو: أحمد بن موسى بن العباس التميمي، كان يلقب في عصره بشيخ
الصنعة، ويكفيه فخرا أنه أوّل من سبّع السبعة، وكان إليه
المرجع في فن القراءات «1».
2 - ابن دريد:
وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي، تلقّى عليه ابن
خالويه النحو والأدب.
وكان ابن دريد شاعرا كثير الشّعر، ومن شعره «المقصورة»
المشهورة، والقصيدة المشهورة التي جمع فيها بين المقصور
والممدود «2». ولما مات هو وأبو هاشم الجبّائي في يوم واحد،
ودفنا في مقبرة (الخيزران)، قال الناس: مات علم اللغة والكلام
بموت ابن دريد والجبّائي.
وقد رثاه جحظة فقال:
فقدت بابن دريد كل منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والترب
قد كنت أبكي لفقد الجود آونة ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب
«3» 3 - ابن الأنباري:
هو أبو بكر محمد بن القاسم بن بشّار الأنباري النحوي، كان من
أعلم الناس وأفضلهم في نحو الكوفيين، وأكثرهم حفظا للغة.
وكان ابن الأنباري- كما يذكر الرّواة- مهتما بالدراسة
القرآنية، فقد ذكروا أنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد في
القرآن الكريم. «4»
وقال عنه: محمد بن جعفر التّميمي: «أما أبو بكر بن الأنباري
فما رأينا أحفظ منه، ولا أغزر منه في علمه». «5»
__________
(1) غاية النهاية 1 - 142.
(2) نزهة الألباء- 174.
(3) نزهة الألباء- 175.
(4) نزهة الألباء- 179.
(5) نزهة الألباء- 181
(1/6)
ويحكى أن الأنباري عن نفسه فيقول: إنه كان
يأخذ الرّطب ويشمه ويقول:
«أما إنّك طيّب، ولكن أطيب منك ما وهب الله عز وجل لي من
العلم» «1».
4 - أبو عمر الزّاهد:
هو أبو عمر: محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم اللغوي الزاهد كان
من أكابر أهل اللغة، وأحفظهم لها. أخذ عن أبي العباس ثعلب،
وكان يعرف بغلام ثعلب.
وقد قال عنه أبو القاسم عبد الواحد بن برهان الأسدي: «لم يتكلم
في علم اللغة من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمر
الزّاهد». وقال فيه أبو العباس اليشكري يمدحه
أبو عمر أوفى من العلم مرتقى ... يزل مساميه، ويردي مطاوله
فلو أنني أقسمت ما كنت كاذبا ... بأن لم ير الراءون حبرا
يعادله
إلى أن يقول:
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجّر حتى قلت هذي أوائله
«2» 5 - أبو سعيد السيرافي:
هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي النحوي،
كان من ألمع نجوم عصره، فسعى إليه ابن خالويه، وجلس في حلقته،
وتأثر به أثرا كبيرا ظهر في منهجه اللغوي والنحوي الذي سنتعرض
له فيما بعد، ذلك لأن أبا سعيد كان كما يقول المرحوم الأستاذ
أحمد أمين: «زعيم المحافظين في عصره» «3» حيث يرى أن اللغة
مرجعها الرواية والنقل، لا القياس والعقل. وبهذا المنهج استطاع
السيرافي أن يهزم (متّى) المنطقي في مناظرة مشهورة، جعلت
الوزير ابن الفرات- وكان مشاهدا لها- يقول في السيرافي: «عين
الله عليك أيها الشيخ، فقد ندّيت أكبادا، وأقررت عيونا، وبيّضت
وجوها، وحكت طرازا لا يبليه الزمان، ولا يتطرّق إليه الحدثان.
«4»
وبعد، فإذا كان التلميذ صنعة أستاذه، فقد كان حظ ابن خالويه في
تكوين شخصيته، وتربية عقله، وسموّ تفكيره، كبيرا، لأنه جلس في
حلقات هؤلاء الأعلام الذين ملئوا
__________
(1) نزهة الألباء- 181
(2) نزهة الألباء: 189.
(3) ظهر الإسلام: 2 - 91.
(4) الامتاع والمؤانسة: 1 - 128، 129.
(1/7)
الدنيا بآثارهم الفكرية، وإنتاجهم الأدبي،
الذي خلّد ذكرهم، وعطر في التاريخ سيرتهم.
رحلاته
- ذكر «إنباء الرواة»: أنه دخل اليمن، ونزل ديارها، وهي رواية
اللّحجي اليمني في كتابه «الأترجّة» «1» حين تعرّضه لابن
الحائك اليمني وشعره، قال ما نصه:
«ومن الشاهد على ذلك أن الحسين بن خالويه الإمام لما دخل
اليمن، ونزل ديارها، وأقام بها، شرح ديوان ابن الحائك، وعنى
به، وذكر غريبه وإعرابه».
قال صاحب الإنباه:
«ولم أعلم أن ابن خالويه دخل اليمن إلّا من كتاب «الأترجة»
هذا، وهو كتاب غريب، قليل الوجود اشتمل على ذكر شعر اليمن في
الجاهلية والإسلام إلى قريب من زماننا هذا، وما رأيت منه نسخة،
ولا من ذكره إلّا نسخة واحدة جاءت في كتاب الوالد أحضرت بعد
وفاته من أرض اليمن» «2».
على أية حال كانت إن صحّت هذه الرواية فمن المؤكد أن رحلته هذه
إلى اليمن كانت قبل رحلته إلى حلب حيث سكنها، وعاش في كنف سيف
الدولة بها، وهناك انتشر علمه. «3»
ويزيد «الإنباه» أنه تصدّر أيضا (بميّافارقين) و (حمص) للإفادة
والتصنيف «4» وأخيرا استقر به المقام في (حلب) حيث وافاه الأجل
المحتوم في سنة سبعين وثلاثمائة.
حياته الاجتماعية
- فيما يبدو أن ابن خالويه كانت معيشته ضنكا، فقد كان يجري
وراء المال ليسدّ العوز، ويبعد الفاقة، يدل على ذلك قوله لسيف
الدولة حينما سأل جماعة في مجلسه؛ هل تعرفون اسما ممدودا،
وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا. فقال ابن خالويه: أنا أعرف اسمين لا
أقولهما إلّا بألف درهم لئلا يؤخذا بلا شكر. «5»
ويدل على ذلك أيضا قوله:
وكم قائل ما لي رأيتك راجلا ... فقلت له من أجل أنك فارس
__________
(1) الأترج: بضمّ الهمزة، وتشديد الجيم: فاكهة معروفة،
الواحدة: «أترجّة».
(2) الإنباه: 1 - 326.
(3) البغية 1 - 529.
(4) الإنباه: 1 - 325
(5) البغية 1 - 530.
(1/8)
وقوله:
الجود طبعي، ولكن ليس لي مال ... فكيف يبذل من بالقرض يحتال
فهاك حظي فخذه اليوم تذكرة ... إلى اتساعي فلي في الغيب آمال
«1»
معاصروه:
1 - أبو علي الفارسي:
في عصر ابن خالويه ظهر رجل له شهرته، ومكانته في النحو واللغة
والقراءات، ذلك هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان
الفارسي.
كان الفارسي من أكابر أئمة النحو، وشغل الناس بآرائه في القياس
والعلّة والمنطق والجدل حتى فضله كثير من النحويين على أبي
العباس المبرد.
وقال فيه أبو طالب العبدي: ما كان بين سيبويه وأبي علي أفضل
منه «2».
هذه المنزلة التي وصل إليها أبو علي في النحو جعلت عضد الدولة
يقول: أنا غلام أبي علي في النحو. «3»
وكانت المنافسة بين ابن خالويه وأبي علي الفارسي على أشدّها.
فقد كتب أبو علي كتابه «الإغفال»، وذكر فيه ما أغفله شيخه أبو
إسحاق الزجاج في كتابه: «معاني القرآن»، ولكن هذا النقد الذي
وجهه أبو علي إلى أستاذه الزّجاج في (الإغفال) لم يرض ابن
خالويه، فتعقبه فيما كتب. وعقب على تعقيبه أبو على في كتاب
سماه «نقض الهاذور» وبسط الكلام فيه كل البسط. وقد أورد
البغدادي في «خزانته» طائفة من المسائل التي كانت موضع نقاش
بين أبي علي وابن خالويه، أذكر منها على سبيل المثال قول ابن
خالويه:
«إن الواو إذا كانت في أوائل القصائد نحو: وقاتم الأعماق ...
فإنها تدل على ربّ فقط، ولا تكون للعطف، لأنه لم يتقدم ما يعطف
عليه بالواو.
وقال الفارسي في «نقض الهاذور»: هذا شيء لم نعلم أحدا ممّن
حكينا قوله ذهب إليه، ولا قال به» «4».
__________
(1) البغية 1 - 530
(2) نزهة الألباء: 208
(3) معجم الأدباء 7 - 234
(4) خزانة الأدب: 1 - 39.
(1/9)
وقال ابن الأنباري في (نزهة الألباء): إنه
اجتمع هو وأبو علي الفارسي فجرى بينهما كلام، فقال لأبي علي:
نتكلّم في كتاب سيبويه، فقال له أبو عليّ: بل نتكلم في الفصيح.
ويحكى أنه قال لأبي علي: كم للسيف اسما؟ قال: اسم واحد، فقال
له ابن خالويه:
بل أسماء كثيرة، وأخذ يعدّدها نحو: الحسام، والمخذم، والقضيب
... فقال أبو علي:
هذه كلها صفات. «1»
ولم تكن منافسة ابن خالويه لأبي علي إلّا صدى لمنافسة أستاذه
أبي سعيد السيرافي لأبي علي الفارسي، فقد كان أبو علي- كما
يقول أبو حيان التوحيدي- «متقدا بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد
له، كيف تمّ له تفسير كتاب سيبويه من أوّله إلى آخره، بغريبه،
وأمثاله، وشواهده، وأبياته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن
هذا شيء ما تمّ للمبرد، ولا للزجاج، ولا لابن السراج، ولا لابن
درستويه مع سعة علمهم، وفيض كلامهم» «2».
ولمنزلة أبي سعيد السّيرافي في نفس تلميذه ابن خالويه أرسل إلى
سيف الدولة ليعلمه تطاول الفارسيّ على السّيرافيّ، وهو تطاول
غير محمود، لأن منزلة السّيرافي وبخاصة بعد هزيمة (متّى)
المنطقي نسجت حوله ثوبا من القدسية والمهابة، فلا يليق بأبي
علي أو غيره، أن ينال من هذه الشخصية التي أعلت لغة العرب،
وذلّلت مصاعب كتاب سيبويه.
ولم يسكت الفارسي حينما علم خبر هذه الرقعة- فأرسل إلى سيف
الدولة رقعة ينفي فيها عن نفسه التهمة، ويزيل اللّبس. ومن
العبارات التي ضمتها رسالة الفارسي قوله: «من ذلك بعض ما يدل
على قلة تحفظ هذا الرجل- يعني بذلك ابن خالويه فيما يقوله- هو
قوله:
لو يبقى عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السّيرافي مع علمه بأن
(ابن بهراذ) السّيرافي يقرأ عليه الصبيان ومعلموهم، أفلا أصلح
أن أقرأ على من يقرأ عليه الصبيان؟ هذا، مما لا خفاء فيه، كيف،
وقد خلط فيما حكاه عنّي؟. وأني قلت: إنّ السيرافي قد قرأ عليّ.
ولم أقل هذا، إنما قلت: تعلّم مني، أو أخذ منّي هو أو غيره
ممّن ينظر اليوم في شيء من هذا العلم. وليس قول القائل: تعلّم
منّي مثل قرأ عليّ، لأنه يقرأ عليه من لا يتعلّم منه، وقد
يتعلّم منه من لا يقرأ عليه. وتعلّم ابن بهراذ السيرافي منّي
في أيام محمد بن السّري وبعده
__________
(1) نزهة الألباء: 208.
(2) الإمتاع والمؤانسة: 131.
(1/10)
لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه كعليّ بن
الورّاق، ومحمد بن أحمد بن يونس، ومن كان يطلب هذا الشأن من
بني الأزرق الكتّاب وغيرهم. وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا
يرونه يغشاني في (صف شوينز) كعبد الله بن جعفر بن درستويه
النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر
أخوه، فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني» «1».
وإنّي حرصت على تسجيل هذا الجزء من هذه الرسالة، ليكون مثالا
واضحا يدلّ على مدى التّنافس الكبير الذي كان بين الرجلين،
ليظفر كلّ منهما بقلب سيف الدولة من ناحية، وازدهار هذا العصر
في مجالات اللغة والنحو من ناحية أخرى.
2 - المتنبي:
لم يكن أبو الطّيّب أحمد بن الحسين الجعفي شاعرا يملأ الدنيا
بأشعاره، وتسمع كلماته من به صمم فحسب، بل كان لغويا نحويّا
متضلّعا، يدلّ على ذلك أن أبا الطيب «اجتمع هو وأبو علي
الفارسيّ، فقال له أبو علي: كم جاء من الجمع على وزن فعلي؟
(بكسر الفاء) فقال المتنبي: حجلى وظربى، جمع: حجل وظربان. قال
أبو علي: فسهرت تلك الليلة ألتمس لهما ثالثا فلم أجد. وقال في
حقه: ما رأيت رجلا في معناه مثله» «2».
اتصل المتني بسيف الدولة يمدحه، ويكثر من المدح فيه، وكانت
بينه وبين ابن خالويه في مجلس سيف الدولة مناقشات توضح مدى
التنافس بين الرجلين.
يحكى أنه لما أنشد سيف الدولة بن حمدان قوله في مطلع بعض
قصائده:
وفاؤكما كالزبع أشجاه طاسمه.
كان هناك ابن خالويه، فقال له: يا أبا الطيّب: إنما يقال:
شجاه- توهّمه فعلا ماضيا- فقال أبو الطيّب: اسكت فما وصل الأمر
إليك. «3»
وقال له ابن خالويه النحوي يوما في مجلس سيف الدولة: لولا أن
أخي جاهل لما رضي أن يدعي بالمتنبي، لأن معنى المتنبي. كاذب،
ومن رضي أن يدعي بالكذب فهو جاهل فقال:
لست أرضى أن أدعي بذلك، وإنما يدعوني به من يريد الغض مني،
ولست أقدر على المنع. «4»
__________
(1) المسائل الحلبية: لأبي علي الفارسي، ورقة 114، مخطوط رقم
266 نحو. تيمور.
(2) نزهة الألباء: 201.
(3) نزهة الألباء: 201.
(4) نزهة الألباء: 200.
(1/11)
وذكر الرئيس أبو الحسن محمد بن علي بن نصر
الكاتب في كتاب: «المفاوضة»:
حدثني أبو الفرج عبد الواحد بن نصر الببغاء قال: وأذكر ليلة،
وقد استدعي سيف الدولة بدرة، فشقها بسكين الدواة، فمدّ ابن
خالويه جانب طيلسانه، وكان صوفا أزرق فحثا فيه سيف الدولة شيئا
صالحا، ومددت ذيل درّاعتي وكانت ديباجا، فحثا إليّ فيها، وأبو
الطيّب حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا، أو
يطلب شيئا منها، فما فعل، فغاظه ذلك، فنثرها كلها، فلما رأى
المتنبي أنها قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم، فغمزهم عليه
سيف الدولة، فداسوه وركبوه، وصارت عمامته وطرطوره في عنقه،
واستحيا، ومضت له ليلة عظيمة، وانصرف.
وخاطب أبو عبد الله بن خالويه سيف الدولة في ذلك، فقال: ما
يتعاظم تلك العظمة، ويتضع إلى مثل هذه المنزلة إلّا لحماقته.
«1»
3 - ابن جنّي:
أبو الفتح عثمان بن جنّى النحوي من معاصري ابن خالويه، فقد
توفي ابن جنى سنة 392 هـ.، على حين توفي ابن خالويه 370 هـ.
«2» وقد تتلمذ ابن جنى على أبي علي الفارسيّ، وصحبه أربعين
سنة. وكان سبب صحبته إياه أن أبا علي الفارسي سافر إلى
(الموصل)، فدخل الجامع، فوجد أبا الفتح عثمان بن جنى يقرأ
النحو، وهو شاب، وكان بين يديه متعلّم، وهو يكلّمه في قلب
الواو ألفا، نحو: قام، وقال، فاعترض عليه أبو علي فوجده
مقصّرا، فقال له أبو علي: زبّبت قبل أن تحصرم، ثم قام أبو علي
ولم يعرفه ابن جني، وسأل عنه، فقيل له: هو أبو علي الفارسي
النحوي فأخذ في طلبه، وصاحبه إلى أن مات أبو علي وخلفه ابن
جنّى ودرس النحو ببغداد بعده، وأخذ عنه. «3»
والذي يعنيني من هذه المعاصرة أن ابن جنّي تتلمذ على أبي علي
الفارسي، وأن ابن خالويه تتلمذ على أبي سعيد السيرافي.
والشيخان رأسان في عصرهما، عاشا في مجال النحو واللغة يبدعان
ما شاء لهما الإبداع، ولكنهما افترقا في المنهج والطريقة. وقد
أثرت هذه التفرقة في نفس تلميذيهما، فسارا على الدرب، وسلكا
نفس المنهج. فالفارسي وتلميذه
__________
(1) إنباه الرواة: 1 - 327.
(2) نزهة الألباء: 222.
(3) نزهة الألباء: 221.
(1/12)
يكثران من المنطق والعلة. وأبو سعيد
وتلميذه لا يحفلان بأهمية المنطق، ولا يعيران التعليل النحوي
هذا الاهتمام البالغ، وإنما يحفلان بالرواية، والأثر، والسماع،
وما نقل عن العرب يدلّ على ذلك قول بعض الأدباء في رءوس النحو
الثلاثة الفارسي، والرمّاني، والسيرافي:
«كنّا نحضر عند ثلاثة مشايخ من النحويين، فمنهم من لا نفهم من
كلامه شيئا، ومنهم من نفهم بعض كلامه دون البعض، ومنهم من نفهم
جميع كلامه، فأمّا من لا نفهم من كلامه شيئا، فأبو الحسن
الرمّاني، وأمّا من نفهم بعض كلامه دون البعض فأبو علي
الفارسيّ، وأمّا من نفهم جميع كلامه فأبو سعيد السّيرافيّ»
«1».
هذا، وقد كان بلاط سيف الدولة يشهد في كل المجالس العلميّة
والأدبيّة التي تعقد فيه مناظرات عديدة بين الفارسيّ وابن
خالويه من ناحية، وبين ابن خالويه والمتنبي من ناحية أخرى ...
وكان ابن جنى يشهد هذه المجالس، وتوثقت صلته بالمتنبي حتى قال
فيه المتنبي:
«هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس»، وهذا التقدير الأدبي من
جانب المتنبي جعل ابن جنى يشرح ديوانه شرحا كما يقول المرحوم
الأستاذ أحمد أمين: «استفاد منه كلّ من شرح الديوان بعده
لاتصاله بالمتنبي، ومعرفته بظروف شعره التي كثيرا ما تحدّد
المعنى، وتمنع التأويلات». «2»
وكما توثقت الصلة بين ابن جنّى العالم النحوي وبين المتنبي
الشاعر، كذلك توثقت الصلة بين ابن خالويه العالم النحوي وبين
الشاعر أبي فراس الحمداني الذي كان الرواية الوحيد لشعره
وديوانه. وقد صوّر هذه المنافسة المرحوم أحمد أمين حيث قال ما
نصه:
«فكان في القصر- يقصد قصر سيف الدولة- حزبان، حزب للمتنبي منه
ابن جنّى النحوي، وحزب عليه، منه ابن خالويه اللغوي وأبو فراس
الشاعر» «3».
مكانته اللغوية والنحوية:
ابن خالويه كانت له قدم راسخة في الدراسات اللغوية، فقد تتلمذ
على ابن دريد- كما ذكرنا- وابن دريد له في اللغة كتاب
«الجمهرة» وهو كتاب ثمين عرف قيمته أولو العلم، ورجالات الأدب
منذ تأليفه، فأبو علي القالي كان يملك نسخة من «الجمهرة» بخط
مؤلفها، وكان قد أعطى بها ثلاثمائة مثقال فأبى، فاشتدت
__________
(1) نزهة الألباء: 211.
(2) ظهر الإسلام: 1 - 186.
(3) ظهر الإسلام: 1 - 186.
(1/13)
به الحاجة فباعها بأربعين مثقالا وكتب
عليها هذه الأبيات:
أنست بها عشرين عاما وبعتها ... وقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنّني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لعجز وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهلّ شئوني
فقلت: ولم أملك سوى عبرتي ... مقالة مكوىّ الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم رب بهنّ ضنين
قال: فأرسلها الذي اشتراها، وأرسل معها أربعين دينارا أخرى.
«1»
وابن خالويه كان راويا لهذه الجمهرة. وقد كتب عليها حواشي من
استدراكه على مواضع منها، ونبه على بعض أوهام وتصحيفات. «2»
ولمكانة ابن خالويه اللغوية ردّ على ابن دريد، ونقده في مسائل
عديدة من جمهرته.
فمثلا: يقول السيوطي: ليس في الكلام كلمة صدّرت بثلاث واوات
إلّا أوّل.
قال في الجمهرة: هو فوعل ليس له فعل، والأصل: وولّ قلبت الواو
الأولى همزة، وادغمت إحدى الواوين في الأخرى، فقالوا: أوّل.
وقال ابن خالويه: الصّواب: أن أوّل: أفعل بدليل صحبة (من)
إيّاه، تقول:
«أول من كذا» «3».
ومما يدل على اتساعه في حفظ اللغة ردّه على ابن دريد حينما قال
في جمهرته: لم يجيء في الكلام فعل فعلا إلّا حرفان: حنق حنقا،
وضرط ضرطا.
قال ابن خالويه: وحكى الفرّاء: حلف حلفا، وحبق حبقا، وسرق
سرقا، ورضع رضعا. «4»
ولابن خالويه حسّ مرهف في إدراك أسرار اللغة وتذوّقه لها:
قال السيوطي: لم يأت اسم المفعول من أفعل على فاعل إلّا في حرف
واحد، وهو قول العرب: أسمت الماشية في المرعى، فهي سائمة، ولم
يقولوا مسامة، قال تعالى:
__________
(1) المزهر: 1 - 95.
(2) المزهر: 1 - 95.
(3) المزهر: 1 - 60.
(4) المزهر: 2 - 75.
(1/14)
«فِيهِ تُسِيمُونَ» «1»: من أسام يسيم.
قال ابن خالويه: أحسب المراد: أسمتها أنا، فسامت هي، فهي
سائمة، كما تقول:
أدخلته الدار فدخل، فهو داخل. «2»
وابن خالويه محيط بمعظم كلام العرب، حافظ له. قال في كتاب
«ليس»: قلت لسيف الدولة بن حمدان: قد استخرجت فضيلة ل (حمدان)
جدّ سيدنا لم أسبق إليها، وذلك أن النحويين زعموا أنه ليس في
الكلام مثل: رحيم وراحم، ورحمان، إلّا نديم، ونادم، وندمان.
وسليم، وسالم، وسلمان، فقلت: فكذلك: حميد، وحامد، وحمدان. «3»
ويؤمن بلغة الأعراب، يستشهد بها في مواطن الاستشهاد قال في شرح
«الدريدية»:
كل اسم على فعيل ثانية حرف حلق يجوز فيه اتباع الفاء العين نحو
بعير، شعير، رغيف، رحيم. أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن
الأصمعي أن شيخا من الأعراب سأل الناس، فقال: ارحموا شيخا
ضعيفا. «4»
والأمثلة عديدة على مكانته اللغوية اكتفى بما ذكرت منها حبّا
في الإيجاز.
والسؤال الذي يقال هنا إنّ لابن خالويه أثارا لغوية تشهد
بفضله، وتشير إلى قدره، وهي آثار لا تنكر، لأنها واقع ملموس،
فهل كان ابن خالويه في النحو كاللغة .. ؟ في رأيي أن ابن
الأنباري ظلم ابن خالويه حينما قال عنه في مجال النحو: «ولم
يكن في النحو بذاك» «5» لأن ابن خالويه له آراء في النحو لا
تقل عن آرائه في اللغة كما يبدو لنا ذلك عند دراستنا لكتاب
الحجّة.
ولعل السبب في عدم اشتهار ابن خالويه بالنحو هو أنه كان يؤمن
بأن اللغة تؤخذ سماعا، لا قياسا، والتأليف النحوي- كما جرت به
عادة النحاة- يدور حول العلّة والمعلول، والقياس والمنطق، ومن
أجل ذلك لم يؤلف كتبا عديدة في النحو، أو في أصوله كما فعل
الفارسي وتلميذه ابن جنى، ولكنه مع هذا كان معلّما نحويا
ولغويا، وقد سجّل له الرواة هذه الحقيقة فقالوا: «كان إماما
أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام العلم والأدب، وكان إليه
الرحلة من الآفاق، وكان آل حمدان يكرمونه» «6».
__________
(1) النحل: 10.
(2) المزهر: 2 - 88.
(3) المزهر: 2 - 90.
(4) المزهر: 2 - 90.
(5) نزهة الألباء: 208
(6) إنباه الرواة: 1 - 326.
(1/15)
عقيدته:
يذكر سالم الكرنوكي وهو مستشرق، حقق كتاب «إعراب ثلاثين سورة»:
أن ابن أبي طيّ: قال عنه: «كان إماميّا عالما بالمذهب» على حين
يرى الذهبى في تاريخه:
أنه كان صاحب سنّة، وابن حجر يؤيد تشيعه ويقول: «كان صاحب سنّة
في الظاهر فقط ليتقرّب إلى سيف الدولة الحمداني» «1».
وفي رأي سالم الكرنوكي أنه إماميّ لأنه ألف كتاب «الإمامة».
وفي هذا الكتاب تظهر روح تشيّعه واضحة جليّة؛ ذلك لأنه ذكر في
كتابه أشياء لا يقولها أهل السنة.
وفي رأيي أن ابن خالويه لو كان إماميا لاشتهر أمره، وفضحه
أعداؤه ومنافسوه في وقت كانت تعدّ فيه الهفوات.
ولو كان المتنبي يحس بأنه إماميّ لهجاه، وأظهر عواره لسيف
الدولة السني، ليبعده من بلاطه، ويطرده من بلاده. ولو كان ابن
خالويه إماميا لما سكت عنه أبو علي الفارسي في رسائله التي كان
يبعث بها إلى سيف الدولة مدافعا عن التهم التي كان يوجهها إليه
ابن خالويه.
ولو كان ابن خالويه إماميا لما تعبّد على المذهب الشافعي، لأن
الشافعي سنّي، وقد ذكره السبكي في طبقات الشافعية.
وليس تأليفه لكتاب «الإمامية» يجعله إماميّا، فالرجل مولع
بالثقافة الواسعة، وبالتأليف في مجالاتها المختلفة. ومن ثم
ألّف كتابه ليدل على أنه ملمّ بأحداث عصره وبتاريخ مجتمعه.
إنتاجه العلمي:
السيوطي في «البغية» ينصّ على أنّ من تصانيفه: الجمل في النحو-
الاشتقاق- اطرغش- القراءات- إعراب ثلاثين سورة- شرح الدريدية-
المقصور والممدود- الألفات- المذكر والمؤنث- كتاب ليس- كتاب
اشتقاق خالويه- البديع في القراءات «2».
ويزيد كتاب الإنباه على البغية ما يأتي:
كتاب الأسد- تقفية ما اختلف لفظه واتفق معناه لليزيدي- المبتدأ
في النحو- تذكرته، وهو: مجموع ملكته بخطه. «3»
ومعجم الأدباء يزيد على ما ذكر:
__________
(1) انظر: مقدمة كتاب: «إعراب ثلاثين سورة».
(2) البغية 1 - 530.
(3) الإنباه: 1 - 325.
(1/16)
كتاب الآل: ذكر في أوّله أن الآل ينقسم إلى
خمسة وعشرين قسما، وذكر فيه الأئمة الاثني عشر ومواليدهم
ووفياتهم، وغير ذلك. «1»
«وغاية النهاية» يزيد ما يأتي:
حواشي البديع في القراءات- كتاب مجدول في القراءات ألفه لعضد
الدولة «2».
ومن قراءاتي في مجال دراسة ابن خالويه أزيد على هؤلاء الرواة
ما يأتي:
1 - كتاب الريح: وهو مخطوط، يتكون من ثلاث ورقات. مخطوط رقم
5252 هـ- دار الكتب المصرية.
أوله: قال الشيخ أبو عبد الله الحسين بن خالويه النحوي: الحمد
لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمّد وآله، وصحبه
أجمعين، وبعد، فإن الريح اسم مؤنثة .. الخ.
2 - كتاب أسماء الله الحسني:
فقد نص في كتابه: «إعراب ثلاثين سورة»: أن له كتابا في أسماء
الله الحسنى، وقد قال في ذلك ما نصه:
«وقد صنفتها في كتاب مفرد، واشتقاق كل اسم منها ومعناه» «3».
3 - رسالة في قوله: ربنا لك الحمد ملء السموات إلى آخره، وقد
أشار إلى هذه الرسالة الشيخ محي الدين يحيى النووي في كتابه:
(تصحيح التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي) للشيخ أبي
إسحاق الشيرازي.
وقال ما نصه قوله: ربنا لك الحمد ملء السموات، يجوز «ملء»
بالنصب والرفع، والنصب أشهر. وممّن حكاها ابن خالويه، وصنف في
المسألة. «4»
4 - شرح ديوان ابن الحائك حيث عني بغريبه وإعرابه. «5»
5 - كتاب مختصر في شواذ القراءات من كتاب «البديع» عني بنشره
المستشرق ج.
برجستراسر وطبع بالمطبعة الرحمانية بمصر 1934.
6 - كتاب الشجر: وينفي نسبة الكتاب إليه المستشرق ج. برجستراسر
فيقول: «ليس مصنّفه، بل الحقيقة مصنف اللغوي أبي زيد صاحب
كتاب: «النوادر في اللغة» «6»
__________
(1) معجم الأدباء 9 - 204.
(2) غاية النهاية: 1 - 237.
(3) إعراب ثلاثين سورة 14.
(4) مقدمة التنبيه في الفقه على مذهب الإمام الشافعي.
(5) انظر ص 7 من المقدمة
(6) مقدمة مختصر شواذ القراءات 6.
(1/17)
7 - العشرات في اللغات: أي اللغات التي لها
عشر معان وهو مخطوط بمكتبة مجيد موقر بطهران، ونسخ سنة 760 هـ.
«1»
8 - كتاب الهاذور الذي ردّ فيه على أبي علي الفارسي حينما ألف
كتاب «الإغفال» ليردّ على شيخه أبي إسحاق الزجاج. «2»
9 - شرح ديوان أبي فراس الحمداني:
وقد جاء في مقدمة شرحه للديوان ما نصه:
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه: من حلّ من الشرف
السامي، والفضل والكرم الذائع، والأدب البارع، والشجاعة
المشهورة، والسماحة المأثورة، أبو فراس:
الحارث بن سعيد بن حمدون بن الحارث العدوي. كان سيف الدولة ...
مثقفه ومتبنيه ...
وما زال يعاملني بالمحبّة ... يلقي إليّ شعره دون الناس، ويحظر
على نشره حتى سبقتني وإياه الركبان، فحملت منه ما ألقاه إليّ
وشرحته مما أرجو أن يقرنه الله عز وجل بالصواب والرشاد. «3»
وليس لابن خالويه عمل في هذا الديوان غير روايته، وبيان
المناسبات المختلفة للقصائد التي احتواها الديوان.
هذا، وقد قام الدكتور سامي الدهان بنشر الديوان وتحقيقه في
جزءين 1944 م وطبع في بيروت.
10 - كتاب شرح فصيح ثعلب، نقل عنه السيوطي في المزهر. «4»
وبعد، فإن هذا التراث الضخم الذي تركه ابن خالويه من ورائه
يشهد بقدرته الفائقة، وثقافته الواسعة، ومكانته السامية في
عصره، وفيما بعد عصره إلى يومنا هذا. ولم يبق من هذا التراث
غير القليل الذي دلّنا على نبوغ هذا الرجل، ومكانته في حقل
النحو واللغة.
__________
(1) انظر: مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الثالث 2: 13.
(2) خزانة الأدب: 1 - 352.
(3) مقدمة شرح ديوان أبي فراس الحمداني.
(4) المزهر: 1 - 213، وغيرها.
(1/18)
كتاب الحجّة توثيقه- منهجه
توثيقه:
كان من مراجعي في إعداد رسالة الدكتوراة: «القرآن الكريم وأثره
في الدراسات النحوية» كتاب الحجة لابن خالويه. قرأته، فراعني
فيه أسلوبه الجذل، وعبارته المختارة، وعرضه للقراءات في ضوء
النحو واللغة عرضا جذّابا، لا يبعد القارئ عنه، ولا يجعل الملل
يتسرّب إلى نفسه، يعطيك النتيجة في صراحة ووضوح من غير أن يجهد
نفسك، أو يتعب عقلك، من غير استطراد ينسيك موضوع الحديث كما
فعل الفارسي في حجّته.
لهذا، صمّم عزمي على أن أحقق هذا الكتاب بعد انتهائي من رسالة
الدكتوراة، لما فيه من النفع الكبير، والخير العميم.
وها أنا ذا أحقّق رغبتي في تحقيقه، وأفي بالدين الذي حملته على
عاتقي منذ أن عشت في هذا الكتاب أثناء دراستي للدكتوراه.
واقتضى منهج التحقيق أن أوثق هذا الكتاب، لأتأكّد من نسبته إلى
ابن خالويه، لأن هناك سحبا من الشك في نفوس بعض المعاصرين من
حيث نسبة هذا الكتاب إلى ابن خالويه. ودليلهم أنه لم يرد في
كتب الطبقات أنّ لابن خالويه كتابا يسمّى كتاب «الحجّة»، وإن
ذكرت أن له كتبا في القراءات حملت أسماء مختلفة، ولم يحمل واحد
منها اسم الحجّة. وبعد جهد استغرق ما يقرب من عامين في دراسة
هذا الكتاب ودراسة مؤلفات ابن خالويه استطعت أن أصدر حكمي في
ثقة لا تعرف التردّد، وبإيمان لا يعرف الشك أن هذا الكتاب
نسبته إلى ابن خالويه صحيحة، وإليك الدليل:
1 - تلمذة ابن خالويه لأستاذه ابن مجاهد فرضت عليه أن يحيا في
الدراسة القرآنية، ويتمكن منها، ويلمّ بالقراءات، ويدافع عنها،
وابن مجاهد- كما قدّمت سابقا- أول من سبّع السبعة وكان إليه
المرجع في فن القراءات كما يقول ابن الجزري «1»، وابن مجاهد
حينما سبّع السبعة، وألف كتابه القراءات السبع شرحه أبو علي
الفارسي وسمّي بالحجة. ثم اختصرها أبو محمد مكّي بن أبي طالب
المصري المتوفى 437 هـ.
ثم اختصر هذا الشرح أبو طاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي المتوفي
455 هـ. «2».
__________
(1) غاية النهاية 1 - 142.
(2) كشف الظنون م 2 نهر 1448.
(1/19)
فإذا كان أبو علي الفارسي يشرح القراءات
السبع لابن مجاهد فليس بدعا أن يتولى هذا الشرح أيضا تلميذه
ابن خالويه لأنه ابن عصره، ألّف في معظم فروع المعرفة السائدة
فيه. وقدّم لنا إنتاجا ضخما تحدثت عنه فيما سبق.
ومن أهمّ الفروع التي كانت تشغل أذهان العلماء إذ ذاك علم
القراءات، والاحتجاج بها في مجالي اللغة والنحو.
وقد أسهم في هذا الاحتجاج بالتأليف في عصر ابن خالويه محمد بن
الحسن الأنصاري المتوفي 351 هـ. حيث ألف كتاب السبعة بعللها
الكبير «1».
وأبو محمد بن الحسن بن مقسم العطار المتوفي 362 هـ. حيث ألف
كتاب احتجاج القراءات، وكتاب السبعة بعللها الكبير، وكتاب
السبعة الأوسط، وكتاب السبعة الأصغر «2».
هذا فضلا عن تأليف أبي علي للحجة كما قدمت، وابن جني للمحتسب
في القراءات الشاذة.
ومن أجل ذلك ألف ابن خالويه كتابه الحجة في القراءات السبع
ليدلي بدلوه بين الدّلاء، وليسهم في هذا العلم الذي شغل أذهان
العلماء في عصره.
وكل الذين ترجموا لابن خالويه أكدوا أنّ له كتبا في القراءات:
كتاب البديع- كتاب مختصر شواذ القراءات- كتاب مجدول في
القراءات ألفه لعضد الدولة، كما نصّ على
ذلك ابن الأثير في «غاية النهاية» «3»:
وقد أشار ابن خالويه إلى أن له كتابا في القراءات فيقول في
كتابه «إعراب ثلاثين سورة» عند تعرضه للقراءات في قوله تعالى:
«أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» «4»:
«أجمع القرّاء على كسر الهاء في التثنية إذا قلت: عليهما. قال
الله عز وجل: يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا «5» إلّا
يعقوب الحضرمي، فإنه ضمّ الهاء في التثنية، كما ضمّها في الجمع
وقد ذكرت علّة ذلك في كتاب القراءات» «6».
وفي كتابه الحجّة تجد هنا التعليل الذي أشار إليه «7». والسؤال
الذي يقال هنا: لم لم يشتهر
__________
(1) الفهرست: 433.
(2) الفهرست: 33.
(3) غاية النهاية 1 - 237
(4) الفاتحة: 7.
(5) المائدة: 23.
(6) إعراب ثلاثين سورة: 32.
(7) انظر: الحجة: 63.
(1/20)
ابن خالويه بالحجة؟ ولم لم يذكر في كتب
الرواة على حين ذكروا أن له كتبا في القراءات؟
أقول: قد يرجع ذلك إلى أن الكتاب في القراءات فاستغنوا بذكرها
عن كلمة:
«الحجّة»، مع أن تسمية الكتاب بالحجّة تسمية لا غبار عليها،
فهو في الاحتجاج بالقراءات، ودائما في كل مسألة يكرّر هذه
العبارة: والحجة لمن قرأ الخ.
هذا تعليل، وتعليل آخر، وهو أن حجة أبي علي الفارسي غطت شهرتها
على حجة ابن خالويه، فاحتفظوا للفارسي بهذه التسمية لإيمانهم
بأقسيته، وعللها واكتفوا بذكر القراءات لابن خالويه.
2 - وما لي أذهب بعيدا. وقد قدمت في إنتاجه العلمي، أن لابن
خالويه كتبا عديدة لم ترد في كتب الطبقات التي بين أيدينا،
ككتاب معجم الأدباء، والإنباه، والبغية، مع أن ابن خالويه أشار
إلى بعضها كإشارته إلى أن له كتابا في أسماء الله الحسنى، وذلك
في كتابه «إعراب ثلاثين سورة» «1».
3 - التسمية بالحجّة من عمل المتأخرين:
ولعل التسمية بالحجة جاءت متأخرة عن تأليف كتاب الحجة، وحتى
كتاب الحجة للفارسي لم يقدمه أبو علي لعضد الدولة باسم الحجة،
وإنما قدّمه بهذه العبارة:
«فإن هذا كتاب تذكر فيه وجوه قراءات القراء الذين ثبتت
قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد»
«2».
وابن خالويه لم يشر في مقدمته إلى هذه التسمية، وإن أشار إلى
أن كتابه في الاحتجاج.
يقول: «إنّي تدبّرت قراءة الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة
المعروفين بصحة النقل، وإتقان الحفظ، المأمونين على تأدية
الرواية ... إلى أن يقول: وأنا بعون الله ذاكر من كتابي هذا ما
احتجّ به أهل صناعة النحو لهم في معاني اختلافهم» «3».
ولما كان كتاب أبي عليّ في الاحتجاج سمّي بالحجة. وكذلك كانت
أنسب تسمية لكتاب ابن خالويه هي «الحجة» لأنه في الاحتجاج من
ناحية، ولأن عبارته في المقدّمة تستوجب هذه التسمية من ناحية
أخرى.
__________
(1) انظر ص 19
(2) مقدمة الحجة للفارسي، نسخة مصورة رقم 462 - قراءات دار
الكتب.
(3) مقدمة الحجة لابن خالويه: 62
(1/21)
4 - التنافس العلمي في عصر ابن خالويه يفرض
عليه أن يؤلف كتاب الحجة في القراءات، فقد كان ابن خالويه
منافسا للفارسي وابن جني، فلما ألف الفارسي الحجّة ألف ابن
خالويه الحجة، ولما ألف ابن جني المحتسب في القراءات الشاذة
ألف ابن خالويه كتابه في شواذ القراءات.
وطبيعة هذا العصر تقتضي هذا التنافس العلمي في التأليف وفي
موضوع بعينه في كثير من الأحيان.
والدليل على ذلك أن أبا بكر محمد بن الحسن بن مقسم ألف كتاب
السبعة بعللها الكبير- وكتاب السبعة الأوسط- وكتاب السبعة
الأصغر، كذلك ألف محمد بن الحسن الأنصاري في نفس الموضوع حيث
ألف كتاب السبعة بعللها الكبير، وكتاب السبعة الأوسط، وكتاب
السعة الأصغر «1».
وإذا كان الفارسي يقدّم كتاب الحجة لعضد الدولة حيث يقول في
المقدمة: أما بعد- أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجلّ
المنصور، ولى النعم عضد الدولة، وتاج الملّة،
إلى أن يقول: فإن هذا كتاب تذكر فيه وجوه قراءات القراء الذين
ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن
مجاهد ... «2».
أقول: إذا كان الفارسي يقدم كتابه الحجة لعضد الدولة فابن
خالويه يقدّم له أيضا كتابا مجدولا في القراءات. «3»
5 - ومن أوضح أدلّة التوثيق لهذا الكتاب، ونسبته إلى ابن
خالويه تشابه أسلوبه ومنهجه مع مؤلفات ابن خالويه الأخرى،
ويتمثل هذا التشابه في عدة ظواهر قلما تتخلف أجملها فيما يأتي:
أ- الإيجاز والاختصار فهو في مقدّمة الحجة يقول: «وأنا بعون
الله ذاكر في كتابي هذا ما احتج به أهل صناعة النحو لهم في
معاني اختلافهم، وتارك ذكر اجتماعهم وائتلافهم ... إلى أن
يقول: «جامعا ذلك بلفظ بين جزل، ومقال واضح سهل، ليقرب على
مريده، وليسهل على مستفيده «4».
__________
(1) الفهرست: 32، 33.
(2) الحجة لأبي علي الفارسي: ص: 3 نسخة مصوّرة رقم 462 -
قراءات دار الكتب.
(3) غاية النهاية: 1 - 237.
(4) الحجة: 1.
(1/22)
وفي كتابه: (إعراب ثلاثين سورة) يؤكد هذه
الظاهرة فيقول: «إني قد تحريت في هذا الكتاب الاختصار والإيجاز
ما وجدت إليه سبيلا ليعم الانتفاع به، ويسهل حفظه على من
أراده» «1».
ب- ومن الظواهر: إذا تحدّث عن مسألة، وحرّر القول فيها، ثم
عرضت مسألة أخرى تشبهها لا يعيد القول فيها، وإنما يحيل إليه.
وهذه الظاهرة واضحة في الحجة، وفي كتابه «القراءات» المخطوط
بالجامعة العربية، وفي «إعراب ثلاثين سورة».
ج- الإكثار في هذه الكتب من النقل عن ابن مجاهد وابن الأنباري،
وغيرهما من الأعلام الذين سبقوه.
6 - ومن أدلة التوثيق أن الأعلام الذين سجلهم ابن خالويه في
كتابه كانوا أسبق منه زمنا مما يدل على أن الكتاب نسبته إليه
أصيلة.
7 - ومن الأدلة تقارب بعض النصوص في مؤلفات ابن خالويه مع بعض
نصوص الحجة، ولا أبالغ إذا قلت: إن هناك نصوصا بأسلوبها
وكلماتها في هذه المؤلفات هي بعينها في كتاب الحجة، وإليك
الدليل:
من كتاب القراءات:
أ- ففي كتاب القراءات المخطوط بالجامعة العربية رقم 52 قراءات،
والمنسوب إلى ابن خالويه ورد ما نصه:
«أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ» «2» قرأ ابن عامر: «أأذهبتم»
بهمزتين: الأولى ألف توبيخ بلفظ الاستفهام، ولا يكون في القرآن
استفهام، لأن الاستفهام استعلام ما لا يعلم، والله تعالى يعلم
الأشياء قبل كونها. فإذا ورد عليك لفظ من ذلك فلا يخلو من أن
يكون توبيخا، أو تقريرا أو تعجّبا، أو تسوية، أو إيجابا، أو
أمرا.
فالتوبيخ: «أأذهبتم»، والتقرير: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ».
والتعجب: «مَا الْقارِعَةُ» «مَا الْحَاقَّةُ؟» و «كَيْفَ
تَكْفُرُونَ؟» والتسوية: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ»، والإيجاب:
«أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها» والأمر:
«أَأَسْلَمْتُمْ». معناه: أسلموا «3».
__________
(1) إعراب ثلاثين سورة: 14.
(2) الأحقاف: 20.
(3) القراءات: نسخة مصورة ميكروفيلم رقم 52 قراءات: الجامعة
العربية.
(1/23)
وهذا النص مذكور في الحجة على الوجه
التالي:
«أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ».
«وكل لفظ استفهام ورد في كتاب الله عز وجل فلا يخلو من أحد ستة
اوجه:
إما أن يكون توبيخا أو تقريرا أو تعجبا أو تسوية أو إيجابا أو
أمرا؛ فأما استفهام صريح فلا يقع من الله تعالى في القرآن لأن
المستفهم مستعلم ما ليس عنده ... والله عالم بالأشياء قبل
كونها.
فالتوبيخ: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ». والتقرير: «أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ». والتعجب:
«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ». والتسوية: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ». والإيجاب: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ
فِيها».
والأمر: «أَأَسْلَمْتُمْ». فعلى هذا يجري ما في كتاب الله
فاعرف مواضعه» «1».
ب- «فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ «2»»:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «نحسات» بإسكان الحاء. وشاهدهم:
«فِي يَوْمِ نَحْسٍ» «3» أي في يوم شؤم وبلاء.
ويجوز أن يكون أراد: ونحسات مثل فخذات، فأسكنوا تخفيفا. وقرأ
الباقون بكسر الحاء. وحجتهم: أن النحسات صفة. تقول العرب: يوم
نحس مثل رجل هرم، قال الشاعر:
أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم ... طيّا وبهراء قوم نصرهم نحس
«4» وقال في الحجة:
«فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ»، يقرأ بإسكان الحاء وكسرها، فالحجة
لمن أسكن أنه أراد جمع نحس، ودليله قوله تعالى: «فِي يَوْمِ
نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» «5». ويحتمل أن يكون أراد كسر الحاء،
فأسكنها تخفيفا. والحجة لمن كسر أنه جعله جمعا للصفة من قول
العرب: هذا يوم نحس، وزن: هذا رجل هرم، قال الشاعر:
أبلغ جذاما ولخما أنّ إخوتهم ... طيّا وبهراء قوم نصرهم نحس
«6»
__________
(1) الحجة 197.
(2) فصلت: 16.
(3) القمر: 19.
(4) انظر: كتاب القراءات- المشار إليه- في هذه الآية.
(5) القمر: 19.
(6) الحجة: 317.
(1/24)
وبمقارنة هذه النصوص نتبين أن كتاب
القراءات يحتوي على نصوص كثيرة متقاربة من نصوص كتاب الحجة مما
يدل على ان مؤلف الكتابين واحد.
والكتابان مختلفان من الناحية المنهجية:
وذلك لأن «القراءات» المصور بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية
رقم 52 «قراءات» منهج ابن خالويه فيه: يقوم على الاستطراد،
والإطناب، فهو يسند القراءة لأصحابها في سلسلة طويلة. وهو
يتحدث عن تفسير معاني الآيات، وأسباب نزولها. ويحشد قصصا عديدة
في مناسبات مختلفة، وليست القراءات فيها، والاحتجاج بها إلّا
جزءا من هذا المنهج. فكتابه في حقيقة أمره كتاب تفسير لا
قراءات، شأنه شأن كتب التفسير التي تتعرض لهذه الأغراض جميعا.
أمّا كتاب الحجة فهو كتاب موقوف على القراءات وحدها في مجال
الاحتجاج، ولا يتعرّض لتفسير المعنى إلا في القليل النادر الذي
يعد على الأصابع.
ولعله من الجائز أن يكون كتاب القراءات أسبق في التأليف من
كتاب الحجة، ثم لخص هذا الكتاب، وهذّبه، وجعله مقصورا على
القراءات وحدها. وظاهرة التلخيص ليست غريبة على ابن خالويه،
فالمستشرق برجستراسر يقول عنه: «وكان من عادة ابن، خالويه أن
يهذب مصنفات مشايخه» «1». وأزيد فأقول: ومصنفاته أيضا، أليس
كتاب «مختصر في شواذ القراءات» الذي حققه ونشره المستشرق
برجستراسر هو تلخيص لكتابه (البديع) في القراءات الشاذة؟.
من كتاب إعراب ثلاثين سورة:
أ- قال ابن خالويه:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «2» قال أهل النحو: إن ملكا أمدح من
مالك، وذلك أن المالك قد يكون غير ملك ولا يكون الملك إلّا
مالكا. «3»
وقال في الحجة:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: والحجة لمن طرحها (أي الألف) أن الملك
أخص من المالك وأمدح، لأنه قد يكون المالك غير ملك، ولا يكون
الملك إلّا مالكا. «4»
ب- وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ «5»:
__________
(1) مختصر في شواذ القراءات 6.
(2) الفاتحة: 4.
(3) إعراب ثلاثين سورة 27.
(4) الحجة 62.
(5) الطارق: 2.
(1/25)
قال في إعراب ثلاثين سورة: «حدثني ابن
مجاهد عن السمري عن الفراء قال: كل ما في كتاب الله: وما أدراك
فقد أدراه وما يدريك فما أدراه بعد «1»».
وقال في الحجة: «وما كان في كتاب الله تعالى من قوله: «وَما
أَدْراكَ» فقد أدراه، وما كان فيه من قوله: وما يدريك؟ فلم
يدره بعد «2»».
من كتاب الريح:
قال ابن خالويه:
وأمهات الريح أربعة: الشمال وهي للروح والنسيم عند العرب،
والجنوب للأمطار والأنداء، والصّبا لإلقاح الأشجار، والدّبور
للعذاب والبلاء- نعوذ بالله منها- فلذلك كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا هبّت الريح يقول: «اللهم اجعلها رياحا، ولا
تجعلها ريحا .. «3»
وقال في الحجة: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ «4» ... فالحجة لمن أفرد
أنه جعلها عذابا، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم
اجعلها رياحا لا ريحا.
ثم قال: والأرواح أربعة أسست أسماؤها على الكعبة: فما استقبلها
منها فهي الصّبا والقبول، وما جاء عن يمينها فهي الجنوب، وما
جاء عن شمالها فهي الشمال، وما جاء من مؤخرها فهي الدبور، وهي
روح العذاب نعوذ بالله منها. «5»
8 - قدم النسخ:
وتاريخ نسخ الحجة الذي قمت بتحقيقه قديم لأنه نسخ سنة 496 هـ.
وهو تاريخ قريب من عصر المؤلف بمائة وستة وعشرين عاما على حين
نجد كتاب القراءات المصور بمعهد المخطوطات نسخ سنة 600 هـ
بخطوط مختلفة آخرها خط صديق بن عرين محمد ابن الحسن. «6»
__________
(1) إعراب ثلاثين سورة: 40.
(2) الحجة 365.
(3) كتاب الريح: 2.
(4) البقرة: 164.
(5) الحجة 91.
(6) فهرس مخطوطات الجامعة العربية 12 وفهرس المخطوطات القسم
الأول أ- س 276.
(1/26)
وكتاب إعراب ثلاثين سورة الذي نشرته دار
الكتب عام 1941 م اعتمدت فيه على النسخة التي ضمتها مكتبة
الشنقيطي رقم 7 تفسير دار الكتب، وقد تمت كتابة هذه النسخة في
العشر الأولى من شعبان الذي هو من شهور سنة اثنتين وتسعين
وسبعمائة، وملك بمدينة صنعاء المحروسة. «1»
وذلك يؤكد أن كتاب الحجة أقدم كتاب في مجال النسخ من الكتب
الأخرى التي وصلت إلينا أمثال: كتاب القراءات، وإعراب ثلاثين
سورة.
نعم، إن الكتاب نسخة فريدة احتفظت بها مكتبة طلعت رقم 134
قراءات. وقد أشار إليها (بروكلمان) في كتابه: تاريخ الأدب
العربي «2»، وقد حاولت العثور على نسخة أخرى لأقابلها بها حتى
يتيسّر التحقيق، وينكشف الغموض، ولكن لم يتيسّر لي ذلك على
الرغم من اطلاعي على فهارس المكتبات العربية والإفرنجية، لهذا
كانت هذه النسخة هي عمدتي في التحقيق، وقد يسرت لي مصاعبها
واستقام نصّها، بفضل الله وعونه، وإلهامه وتوفيقه. هذا،
وانفراد الحجة بنسخة واحدة في مكتبات العالم لا يغض من قدره،
ولا ينزل من مكانته، فتراثنا العربي ذهب معظمه بسبب الأحداث
الجسام، والفتن التي حلت بالعالم الإسلامي والعربي في العصور
المختلفة.
ولا أدل على ذلك من هذه العبارة التي ذيلت بها الصفحة الأخيرة
من الحجة، وهي:
«قوبل وصحح بأصله المكتوب منه» ولكن أين ذهب هذا الأصل؟.
أقول: ذهب هذا الأصل، لأن ظاهرة ضياع الكتب وفقدها ليست غريبة
على تراثنا العربي، فهذا هو أبو علي الفارسي ذكر «أن بعض
إخوانه سأله بفارس إملاء شيء من ذلك فأملي عليه صدرا كبيرا،
وتقصّى القول فيه، وأنه هلك في جملة ما فقده، وأصيب من كتبه.
قال عثمان بن جنّى: وإن وجدت نسخة، وأمكن الوقت عملت بإذن الله
كتابا أذكر فيه جميع المعتلات في كلام العرب. «3» ولم يكتف ابن
جنى بما حدّث عن شيخه عن ضياع كتابه الذي أملاه بفارس، بل بين
في وضوح أكثر «أنه وقع حريق بمدينة (السلام)
__________
(1) فهرس دار الكتب.
(2) تاريخ الأدب العربي: بروكلمان 2 - 140.
(3) معجم الأدباء: 7 - 256.
(1/27)
فذهب به جميع علم البصريين. قال: وكنت قد
كتبت ذلك كله بخطي، وقرأته على أصحابنا، فلم أجد من الصندوق
الذي احترق شيئا البتّة إلّا نصف كتاب الطلاق عن محمد ابن
الحسن» «1».
إذن، فظاهرة ضياع الكتب ظاهرة سائدة حتى في عصر المؤلفين
أنفسهم، وقد بلى بهذه الظاهرة المجتمع الإسلامي منذ أن أصبحت
الدولة دويلات، وزاد خطرها أكثر
حينما زحف التتار على بغداد، فالتهم تراث الأجداد.
وما لي أذهب بعيدا، وهذا السيوطي جمّاعة الكتب الذي لا يخلو
مؤلف من مؤلفاته من ذكرها والتعريف بها يقول في كتاب: (ليس)
لابن خالويه ي: «إنه كتاب حافل في ثلاث مجلدات ضخمات، وقد
طالعته قديما، وانتقيت منه فوائد، وليس هو بحاضر عندي الآن»
«2».
مع أن كتاب «ليس» المطبوع بمطبعة السعادة بتصحيح أحمد بن
الأمين الشنقيطي ليست فيه هذه الضخامة التي ذكرها السيوطي مما
يدل على أن الكتاب ضاع معظمه.
على أية حال، نحن- نحمد الله- إذ حفظ لنا كتاب الحجة من ألفه
إلى يائه لم يضع منه شيء، ونحمده إذ وفقنا إلى تحقيقه، ويسّر
لنا أمره حتى جاء، وقد رضيت عنه نفسي كل الرضا. وأسأل الله أن
يتمّ النفع به.
مقارنة بين حجة أبي عليّ، وحجة ابن خالويه:
قدمت أن ابن مجاهد هو أول من سبع السبعة، وأنه بهذا العمل الذي
انفرد به استطاع أن يفتح باب الاحتجاج بالقراءات في مجال اللغة
والنحو، فتسابق تلاميذه ومعاصروه في التأليف في هذا الفن.
وأوّل من شرع في هذا من معاصريه «أبو بكر محمد بن السّريّ شرع
في تفسير صدر من ذلك في كتاب كان ابتدأ بإملائه ولكنه لم يتمه»
«3».
__________
(1) معجم الأدباء: 7 - 256.
(2) المزهر: 2 - 3.
(3) انظر مقدمة الحجة رقم 462 - قراءات نسخة مصوّرة بدار
الكتب. وانظر مقدمة: المحتسب لابن جنى مطبوعات المجلس الأعلى
للشئون الإسلامية.
(1/28)
وأمكن لأبي علي الفارسي أن ينجح فيما قصر
فيه محمد بن السّريّ فألف كتابه:
«الحجة» في الاحتجاج بالقراءات.
وكتاب الحجة بين أيدينا مخطوطا حيث تضم دار الكتب والمكتبة
الأزهرية نسخا منه، ومطبوعا منه الجزء الأول الذي قام بتحقيقه
أستاذنا علي النجدي، والمرحوم الدكتور النجار والدكتور عبد
الفتاح شلبي، وهم في هذا التحقيق قدّموا جهدا جبّارا يتناسب مع
هذا العمل الخالد.
وبمقارنة كتاب الحجة للفارسي بكتاب الحجة لابن خالويه نتبيّن
اختلاف المنهجين، وتباين الطريقتين:
فأبو علي في حجته يغوص إلى الأعماق، فمن لم يكن ذا مقدرة على
الغوص، لا يستطيع أن يتابع الفارسي، ولا يستطيع أن يصل إلى
الجوهر المنشود، فكثرة الاستطرادات، وضخامة التعليلات، قد تحول
بينه وبين ما يريد.
ومن هنا كان كتاب الحجة للفارسي كتابا لا يفهمه إلّا القلة.
ولا تهضمه إلّا فئة خاصة تسلحت بما تسلح به أبو علي من عقلية
منطقية، تؤمن بالقياس، وتجري وراء العلّة.
وحتى في عصره، عصر الازدهار الفكري، عصر المنطق والجدل، عصر
المناظرات التي كانت تتعدّد حلقاتها في بلاط الأمراء، لم يلق
هذا الكتاب قبولا حسنا، ولم يصادف في نفوس معاصريه التقدير
اللازم لهذا الجهد المبذول فيه:
ويكفينا في هذا المقام شهادة تلميذه ابن جني في ذلك وهي شهادة
على النفس؛ لأن أبا علي من ابن جني بمثابة الروح من الجسد.
يقول ابن جني في كتاب: «المحتسب» ما نصه: «فإن أبا علي رحمه
الله عمل كتاب الحجة في القراءات فتجاوز فيه قدر حاجة القراء
إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء» «1».
ويقول في موضع آخر عند تعرضه لقوله تعالى في سورة الأنعام:
تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ «2».
«وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة، في قراءة السبعة،
فأغمضه وأطاله
__________
(1) انظر مقدمة الحجة المصور، وانظر مقدمة المحتسب من مطبوعات
المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
(2) الأنعام: 154.
(1/29)
حتى منع كثيرا ممن يدّعي العربية. فضلا عن
القرّاء، وأجفاهم عنه» «1».
وأما كتاب الحجة لابن خالويه، فإن ابن خالويه في حجته نهج نهجا
آخر، نهجا يقوم على الرواية والسماع، فليست اللغة في نظره تؤخذ
من المنطق، أو تقوم على الأقيسة كما كان يفعل أبو علي في
الحجّة.
ولعل السرّ في تأليف الحجة لابن خالويه أنه أحسّ في مرارة أن
كتاب أبي عليّ، لا ينتفع به الخاصة فضلا عن العامّة، فحفزه ذلك
إلى تأليف كتابه في أسلوب سهل ممتع، وفي عرض يشرق عليك بهاؤه،
ويستولي على نفسك جماله. وقد جعل الاختصار رائده ليتحقق الهدف
الأكبر من تأليفه، وهو انتفاع الناس به أو كما يقول: «قاصد قصد
الإبانة، في اختصار من غير إطالة ولا إكثار ... جامعا ذلك بلفظ
بيّن جزل، ومقال واضح سهل، ليقرب على مريده، وليسهل على
مستفيده «2».
قيمة كتاب الحجة لابن خالويه في
عصرنا الحاضر:
ونحن نعيش في عصر السرعة، ومن متطلبات السرعة الصراحة والوضوح،
صراحة الأفكار، ووضوح المعاني وتحديد الألفاظ، والوصول إلى
الهدف من أقرب طريق وأيسر سبيل.
وكل ذلك تجده في الحجة متمثلا في كل صفحة من صفحاته بل في كل
سطر من سطوره.
ولا أخفي سرا إذا قلت: إن هذا المنهج الذي التزمه ابن خالويه
أعجبني وسحرني، أعجبني لأني استطعت أن أقف على كل مسائل
الاحتجاج في وقت قصير، وسحرني لأنه يقدّم لي خلاصة مهذبة،
واضحة المعالم، بيّنة السمات في قراءات القرآن الكريم،
والاحتجاج بها.
فنحن إذا في أشد الحاجة إلى هذا الكتاب للوقوف على القراءات
القرآنية في ضوء النحو واللغة من ناحية، ولأنه أقدم كتاب ظهر
في القراءات السبع هو وحجة الفارسي من ناحية أخرى.
__________
(1) مقدّمة المحتسب لابن جنى من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون
الإسلامية.
(2) مقدّمة كتاب الحجة ص: 62.
(1/30)
وصف كتاب الحجة لابن
خالويه
في الصفحة الأولى من الحجة نجد ما
يأتي:
كتاب الحجة في قراءات الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة
المعروفين بصحة النقل، وإتقان الحفظ، المأمونين في الرواية
للعلامة المحقق إمام النحو واللغة أبي عبد الله الحسين بن خالد
بن خالويه رحمه الله، وحباه من الخير ما يتوالى.
قراءات 134 - طلعت وفي هامش الصفحة تجد تملكا لهذه النسخة، فهي
قد دخلت في نوبة العبد الفقير إلى الله إبراهيم السدي المصري
سنة 1191 هـ، وكتب أنه اطلع على النسخة. ومن غير شك، فان هذه
التملكات العديدة تدل على قيمة هذه النسخة، وتسابق العلماء في
اقتنائها إلى أن وصلت إلى مكتبة طلعت.
وفي آخر صفحة من الكتاب ذيلت بهذه العبارة:
وقع الفراغ من نسخه كله في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة.
وتحت هذا التذييل تذييل آخر، وهو:
«قوبل وصحح بأصله المكتوب منه».
ومن ناحية الخط، فإنه كتب بخط النسخ الذي كانت تسود الكتابة به
في هذا العصر، وقد وقفت على ذلك بعد مقارنة قمت بها في مخطوطات
القرن الخامس الهجري.
وقد نسخت من هذه النسخة القديمة نسخة أخرى، «بقلم معتاد تمت
كتابتها في 28 شوال سنة 1355 هـ، وهذه النسخة مخطوطة برقم
19523 ب دار الكتب المصرية «1» ولم اعتمد عليها، بل اعتمدت على
الأصل الذي نسخت منه وهو النسخة التي نسخت في 496 هـ.
منهج ابن خالويه في الحجة، وآراؤه:
1 - اعتمد في حجته على القراءات المشهورة، تاركا الروايات
الشاذة المنكورة. «2»
2 - الإيجاز والاختصار حتى يفهم القارئ أو الدارس المراد من
غير استطراد مملّ،
__________
(1) انظر: فهرس المخطوطات: القسم الأول أ- س. ص 276.
(2) مقدمة كتاب الحجة 62.
(1/31)
أو أسلوب معقّد. يقول في المقدّمة: «وقاصد
قصد الإبانة في اقتصار من غير إطالة ولا إكثار».
3 - عرض القراءات من غير سند الرواية، لأن هدفه الإيجاز ولا
يلجأ إلى نسبة القراءات إلى أصحابها إلّا إذا دعت الضرورة
لذلك، ليبيّن مكانة من قرأ بها في حقل الدراسات القرآنية.
4 - وإذا عرض لمسألة، وبيّن وجه التعليل والحجة فيها ثم تكرّر
نظيرها، لا يعيد القول فيها، وإنما يحيلك إلى الموضع حرصا على
الوقت، وإيمانا بالإيجاز.
5 - اللغة في نظره لا تقاس، وتؤخذ سماعا يقول في قوله تعالى
الْمُتَعالِ «1». والدليل على أن اللغة لا تقاس، وإنما تؤخذ
سماعا قولهم: الله متعال من: تعالى، ولا يقال:
متبارك من: تبارك. «2»
وفي قوله تعالى: فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ «3» يقول:
فأمّا إمالة الكسائي رحمه الله قوله تعالى: فِي آذانِهِمْ مِنَ
الصَّواعِقِ فإن كان أماله سماعا من العرب، فالسؤال عنه ويل
«4».
6 - ومن منهجه أن لغة العرب، وإن اختلفت حجّة، يؤخذ بها ويعتمد
عليها، يقول في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا
تَعْبُرُونَ «5» وروي عن الكسائي أنه أمال هذه وفتح قوله:
لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ
«6» فإن كان فعل ذلك، ليفرّق بين النصب والخفض فقد وهم، وإن
كان أراد الدلالة على جواز اللغتين فقد أصاب «7».
7 - ويميل إلى لغة أهل الحجاز:
يقول في قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ «8»: يقرأ بكسر
القاف وضمّها، وهما لغتان فصيحتان. والضمّ أكثر لأنه لغة أهل
الحجاز. «9»
8 - ومن منهجه أن القرآن الكريم لا يحمل على الضرورة، فقد أنكر
الخفض على الجوار في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ «10».
__________
(1) الرعد: 9.
(2) الحجة: 201.
(3) البقرة: 19.
(4) الحجة: 70.
(5) يوسف: 43.
(6) يوسف: 5.
(7) الحجة: 193.
(8) الإسراء: 5
(9) الحجة: 217.
(10) المائدة؛ 6. انظر ص 129 من الحجة
(1/32)
9 - لا يرجع إلى تفسير المعنى إلّا في
القليل النادر لتفسيره قوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما
آتاهُما «1».
10 - من النادر تعرّضه لإعراب الشواهد التي يحتج بها، ولكنه في
بيت:
يا ربّ سار بات لن يوسّدا ... تحت ذراع العنس أو كفّ اليدا
فإنه يتعرض لإعراب مواضع من البيت، مفسرا بعض كلماته. «2»
11 - يعتد برسم المصحف: انظر ص 72 من الحجة عند قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «3».
وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ «4» حيث ذكر أن من أظهر أتى
بالكلمة على أصلها، واغتنم الثواب في كل حرف منها «5».
12 - وابن خالويه يستشهد بالحديث الشريف في عدة مواضع من كتابه
الحجة انظر مثلا:
ص 53 و 57 و 64 و 117 و 141.
13 - وهو في الحجة مستقل التفكير، متحرر النزعة، لا يتعصب
للبصريين ولا للكوفيين، وقد يعرض آراء المدرستين وحجة كل منهما
من غير ترجيح، وقد يرجح بأدلّة يراها، وقد يختلف عنهما بآراء
متحرّرة.
وظهور هذه النزعة التجديدية في ابن خالويه جعلت المستشرق
برجستراسر يقول عنه:
«في حلب أخذ ابن خالويه يدرس النحو وعلم اللغة، ونهج فيها نهجا
جديدا، لأنه لم يتبع طريقة الكوفيين، ولا طريقة البصريين،
ولكنه اختار من كليهما ما كان أحلى وأحسن» «6»
قراءات لم ترد إلا عن طريقه:
1 - وذلك في قوله تعالى: «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» «7».
قال: يقرأ بالتنوين، ونصب الأمثال، وبطرحه والخفض. فالحجة لمن
نصب: أن التنوين يمنع من الإضافة، فنصب على خلاف المضاف.
والحجة لمن أضاف: أنه أراد فله عشر حسنات، فأقام الأمثال مقام
الحسنات. «8»
__________
(1) الأعراف: 190، وانظر ص 168 من الحجة.
(2) الحجة: 204.
(3) البقرة: 20.
(4) البقرة: 51.
(5) الحجة: 77.
(6) مقدمة مختصر في شواذ القرآن: 6
(7) الأنعام: 160.
(8) الحجة: 152.
(1/33)
وليس في كتب القراءات التي بين أيدينا إلّا
حذف التنوين وجرّ اللام بالإضافة، وهي قراءة جميع القراء في
الأمصار ما عدا «الحسن البصري» فانه كان يقرأ عشر بالتنوين،
وأمثالها بالرفع، وذلك وجه صحيح في العربية غير أن إجماع قراء
الأمصار على خلافها.
أمّا رواية النصب، فلم أجدها إلّا عند ابن خالويه.
2 - ينسب إلى حفص قراءات لا وجود لها في المصحف الذي بين
أيدينا.
يقول في قوله تعالى: بِنُصْبٍ «1» أجمع القراء على ضمّ النون
إلّا ما رواه حفص عن عاصم بالفتح، وهما لغتان «2». كذلك ينسب
إليه قراءة أخرى لا نراها في المصحف الذي بين أيدينا عند قوله
تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «3»:
قال: إسكان الياء إجماع إلا ما رواه حفص عن عاصم بالفتح لقلة
الاسم، وكذلك قوله «وَعَزَّنِي» بالتشديد إجماع الّا ما رواه
أيضا عنه بالتشديد وإثبات الألف وهما لغتان «4».
نقد منهجه:
وابن خالويه لم يلتزم منهجه فقد خرج عنه في عدة مواضع:
1 - مع الأمثلة المتعدّدة التي تدلّ على اعتداده برسم المصحف
فإنه قد خرج عن هذه القاعدة في قوله تعالى:
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ «5». قال: يقرأ بالألف، وبالواو في
موضع الألف، مع إسكان الدال. ثم قال: «والحجة لمن قرأ بالواو:
أنه اتبع الخط، لأنها في السواد بالواو، وليس هذا بحجة قاطعة،
لأنها إنما كتبت بالواو كما كتبت الصلاة والزكاة. «6»
وفي هذا مخالفة صريحة للمنهج مع أن هذه القراءة قراءة ابن
عامر، وابن عامر من القراء السبعة.
2 - ومع احترامه للسماع، وإيمانه بالرواية، إلّا أنه أحيانا لا
يستطيع أن يتخلص
__________
(1) ص: 41.
(2) الحجة: 304.
(3) ص: 23.
(4) الحجة: 305.
(5) الأنعام: 52.
(6) الحجة: 140.
(1/34)
من النزعة النحوية التي تؤمن بالعلة،
وتقدّس المنطق. يقول في قوله تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ «1»:
فإن قيل: لم اختص ما يعقل بجمع السلامة دون ما لا يعقل؟ فقل
لفضيلة ما يعقل على ما لا يعقل، فضل في اللفظ بهذا الجمع كما
فضّل بالأسماء الأعلام في المعنى. وحمل ما لا يعقل من الجمع
على مؤنث ما يعقل، لأن المؤنث العاقل فرع على المذكر، والمؤنث
مما لا يعقل فرع على المؤنث العاقل فتجانسا بالفرعية، فاجتمعا
في لفظ الجمع بالألف والتاء. «2»
وبعد، فهذا عمل متواضع بذلت فيه الجهد، وعشت في مجاله أجمل
الساعات، تغمرني نشوة روحيّة لأنها دراسة في رحاب القرآن، فإن
جاء هذا العمل وافيا بالغرض، محققا للهدف، فبتوفيق الله
وإلهامه، وإن جاء غير ذلك فقد اجتهدت وبذلت، والمجتهد إن أصاب
فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
أرجو من الله أن ينفع به، وأن ينير الطريق أمام الدراسين في
القراءات، والنحو، واللغة؛ ليسهموا في استمرار هذه الدراسات
ونشرها حتى لا يبتلعها سيل الماديّة الجارف في عصرنا الحاضر.
إنه نعم المولى، ونعم النصير.
عبد العال سالم مكرم الكويت
__________
(1) النمل: 87.
(2) الحجة: 275.
(1/35)
|