الحجة في القراءات السبع بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة الطبعة الثانية
بفضل الله وتوفيقه تمّ توزيع هذا الكتاب في أرجاء العالم
العربي والإسلامي، ونفدت طبعته الأولى في مدّة محدودة، تتجاوز
العام بأشهر معدودة.
ومن البدهي أنّ هذا يدلّ على مكانة هذا الكتاب في نفوس
المتعطشين إلى الدراسات القرآنية من ناحية، وعلى وعي أبناء
الأمة العربيّة والإسلاميّة حيث لم تفتنهم ما تخرجه دور النشر
العديدة عن تراثهم الأصيل من ناحية أخرى.
وقد رأى الأستاذ الفاضل محمد المعلّم مدير دار الشروق ببيروت
أن يسرع في إعادة طبعه من جديد ليسدّ حاجة القرّاء إلى هذا
اللون من الدراسات القرآنية. وطلب مني كتابة تقديم لهذه الطبعة
الثانية، فلم أجد خيرا من البحث النقدي الذي نشر في المجلد
التاسع، الجزء الأول ص 315 عدد يناير سنة 1972 من مجلة اللسان
العربي التي يصدرها مكتب التنسيق والتعريب في الوطن العربي
بالرباط بإشراف الجامعة العربية.
والله أشهد أن نقد الأخ الأستاذ العابد لنسبة كتاب الحجة لابن
خالويه دفعني مرّة أخرى لمعايشة ابن خالويه، واستطعت- بحمد
الله- أن أضيف جديدا من أدلة توثيق نسبة هذا الكتاب لصاحبه،
لهذا آثرت، لأجل أن ينتفع القارئ، أن يكون هذا البحث مقدمة
للطبعة الثانية. والله وليّ التوفيق.
(1/37)
حول نسبة كتاب الحجة
في القراءات السبع لابن خالويه
تفضل الأستاذ الكريم محمد العابد الفاسي، الأستاذ بجامعة
القرويين بالمغرب بنشر بحث قيّم في مجلة «اللسان العربي»،
المجلد الثامن، الجزء الأول ص 521، ينقد فيه توثيقي لكتاب
الحجّة، ونسبته إلى ابن خالويه، وقد نشر بحثي في المجلة نفسها،
والجزء نفسه ص 502.
وقد أسعدني هذا النّقد، لأن الحقيقة بنت البحث كما يقولون. وقد
اقتصر نقده على الفصل الذي كتبته، وأثبت فيه نسبة الكتاب إلى
ابن خالويه.
وإني لا أضيق ذرعا بالنّقد البناء، فاحتكاك الأفكار بعضها ببعض
ينمّي العلم، ويطوّر المعرفة، ويبعث في الفكر الحركة والحياة.
وكنت أودّ أن أبارك هذه الأدلة التي أوردها النّاقد الفاضل
لنفي نسبة الحجة إلى ابن خالويه، وأضع يدي في يده مسلّما له
بكلّ ما قال، ولكن الحقيقة التي دفعته إلى أن يكتب هذا النقد
هي الحقيقة نفسها التي دفعتني إلى أن أنقد هذا النقد، لأنه
قائم على أدلة لم تقتنع بها نفسي، وأنا طالب معرفة، فإذا
اقتنعت آمنت وسلّمت، وإذا لم أقتنع لا ألوذ بالصمت أو بالصّبر
فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
عليّ إذن أن أبيّن السبب في عدم اقتناعي من غير أن أسمح للحظوظ
النفسية أن تتدخّل في هذه المناقشة، لأن الحقيقة العلمية أكبر
منّي، ومن أخي الأستاذ العابد.
وقبل مناقشة أدلة سيادته أحب أن أشير هنا إلى أن بعض المعاصرين
الذين شكّوا في نسبة هذا الكتاب إلى ابن خالويه فريق من
أصدقائي ناقشوني مشافهة في هذه النسبة، وكل أدلتهم تنحصر في أن
كتب الطبقات لم تشر إلى ذلك، ولم يقدّم لنا هؤلاء الزملاء
دراسة مفصلة منشورة في نفي هذه النسبة، وليست هناك دراسة لابن
خالويه، ولكتابه الحجة تضمّها المكتبة العربية في الشرق أو في
الغرب غير الدّراسة التي قمت بها، وغير هذا التعليق
(1/38)
الذي تفضل به الأخ الأستاذ العابد على هذه
الدراسة.
وأمّا الأدلة التي ذكرها الأستاذ العابد ليناقض بها أدلتي،
فإني أنقدها على الوجه التالي:
(1) ذكرت أنّ تلمذة ابن خالويه لابن مجاهد فرضت عليه أن يحيا
في الدراسات القرآنية، ويتمكن منها، ويلم بالقراءات، ويدافع
عنها، وأنه ألّف الحجة في القراءات السّبع لينافس به كتاب
الحجة الذي ألّفه أبو عليّ الفارسيّ، وأنّ عدم ذكر الحجة لابن
خالويه في كتب الطبقات يرجع إلى أنّ الكتاب في القراءات،
فاستغنوا بذكرها عن كلمة الحجة.
ولكن هذا الدّليل لم يقنع الأستاذ العابد «لأن كونه من تلامذة
ابن مجاهد وكونه برع في الدراسات القرآنية، وألّف فيها كتبا لا
يكفي ذلك دليلا على إثبات نسبة كتاب الحجّة له، وأمّا كونه ليس
بدعا أن يؤلف في الموضوع كما فعل معاصروه أبو عليّ وغيره
فصحيح، ولكن المسألة مسألة إثبات لا مسألة احتمال وتخمين ...
».
أقول:
إن تلمذة ابن خالويه لابن مجاهد، وبراعة ابن خالويه في
الدّراسات القرآنية حيث ألف كتبا في هذا المجال نصّت عليها كتب
الطبقات ككتاب: إعراب ثلاثين سورة، والبديع في القراءات،
ومختصر شواذ القراءات، وكتاب مجدول في القراءات ألفه لعضد
الدولة، أقول: إن هذا كله يشير إلى أن كتاب الحجة موضع القضية
نسبته إلى ابن خالويه صحيحة.
وقد قلت في بحثي المنشور في مجلة «اللسان العربي» بصدد عدم ذكر
هذه التّسمية في كتب الطبقات: إن شهرة كتاب الحجة للفارسيّ
غطّت على شهرة الحجة لابن خالويه حيث اشتغل الناس به قراءة
وتلخيصا كما فعل أبو محمّد مكّي بن أبي طالب في كتابه:
المنتخب في اختصار كتاب الحجة للفارسي وغيره.
ومن الجلي أن أصحاب كتب الطّبقات، وابن خالويه نفسه أشاروا إلى
أن له كتابا في القراءات، فأين ذهب هذا الكتاب؟ لا يمكن أن
يكون كتاب القراءات المصور بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية
رقم 52 قراءات، لأن منهج ابن خالويه فيه يقوم على الاستطراد
والإطناب، إذ يتحدث عن تفسير الآيات، وأسباب نزولها، ويحشد
قصصا عديدة في مناسبات مختلفة، وليست القراءات فيها، والاحتجاج
بها إلا جزءا يسيرا من هذا المنهج، فكتابه في حقيقة أمره كتاب
تفسير لا قراءات، شأنه شأن كتب التفسير التي تتعرض لهذه
(1/39)
الأغراض جميعا، وقد نسخ هذا الكتاب المصور
سنة 600 هـ بخطوط مختلفة آخرها خط صديق بن عرين محمد بن الحسين
«1».
على أننا نجد كتاب الحجّة موضوع الحديث نسخ بخط واحد سنة 496
هـ وهو موقوف على القراءات وحدها، والاحتجاج لها.
إن الذي يطمئن إليه القلب، ويرتضيه العقل أن كتاب القراءات
المنسوب إلى ابن خالويه في كتب الطّبقات هو كتاب الحجة نفسه،
لأنه لا يعقل أن يكرر ابن خالويه ما كتبه أستاذه ابن مجاهد في
القراءات، لأن ابن مجاهد كل عمله في القراءات أنه انتخب من
القراءات العديدة هذه القراءات السّبع، وليس فيه الاحتجاج
النّحوي أو اللّغوي لهذه القراءات، على حين يطالعنا كتاب الحجة
لابن خالويه بالتوجيه لكل قراءة، والاحتجاج لها في مجال النحو
واللغة وكذلك فعل أبو علي الفارسي في حجته، اعتمد على هذه
القراءات السّبع التي جمعها أستاذه ابن مجاهد، واحتج لها في
ميدان النحو واللغة.
يقول الفارسي في مقدّمته: «فإن هذا كتاب تذكر فيه وجوه قراءات
القراء الذين ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن
العباس بن مجاهد» «2»، فأبو علي الفارسيّ كما يبدو في مقدمته،
لم يرد أن يكون كتابه نسخة مكررة من كتاب أستاذه ابن مجاهد، بل
كان عمله التوجيه والاحتجاج. إذا كان الأمر كذلك فهل يعقل في
باب المنطق أن يأتي معاصر لأبي عليّ كانت بينهما منافسات علمية
خطيرة أشرت إليها في بحثي المنشور في مجلة «اللسان العربي» -
ليؤلف في القراءات وتكون مهمته تكرار كتاب أستاذه؟
إن العصر الذي ضمّ هؤلاء الأعلام كان عصر احتجاج للقراءات التي
ثبتت عن ابن مجاهد، ولم يكن الأمر مقصورا على أبي عليّ
الفارسيّ فقد شاركه في ذلك محمد بن الحسن الأنصاري المتوفي 351
حيث ألف كتاب السّبعة بعللها الكبير، وكتاب السّبعة الأوسط،
وكتاب السّبعة الأصغر «3» وألّف كذلك أبو محمد الحسن بن مقسم
المتوفي 362 هـ كتاب السّبعة بعللها: الكبير، والأوسط، والأصغر
«4».
__________
(1) فهرس مخطوطات الجامعة العربية 12، وفهرس المخطوطات، الجزء
الأول: 1 س/ 276.
(2) مقدمة الحجة لأبي علي الفارسي 1 - دار الكتاب العربي.
(3) الفهرست لابن النديم- 32 - 33.
(4) المرجع نفسه والصفحة ..
(1/40)
أيصح أن يقال إذن: إن ابن خالويه اللّغوي
الكبير كان عاجزا عن متابعة هذه الحركة القرآنية في عصره، وهو
من خيرة أعلامه، ومن أشهر تلاميذ ابن مجاهد؟.
الواقع أنّ العقل لا يسلّم بذلك، فإن الظروف المحيطة بهذا
اللون من الدراسات تلحّ على ابن خالويه أن يؤلف في القراءات،
ويوجّهها، ويحتجّ لها كما فعل معاصروه. وأكبر الظنّ أن الكتاب
كان عنوانه الحجّة في القراءات السّبع فعند النسخ سقطت كلمة
الحجة، وهو أمر يحدث كثيرا على يد النساخ، أو اختصر عنوانه
فأصبح: القراءات، واختصار العناوين ليس بدعا في مؤلفاتنا. وقد
أشار إلى ذلك محققو كتاب الحجة للفارسي حيث ذكروا أن كتاب
الحجة يرد «في الكتب التي تذكره بأسماء مختلفة منها: الحجّة،
والحجّة في علل القراءات السبع، والحجّة في شرح القراءات
السبع. «1»
ألا يدلّ ذلك على أن أبا عليّ لم يضع هذه الأسماء العديدة
لكتابه، وإنما وضع اسما واحدا فقط، فجاء الرّواة، أو
النّاسخون، فغيّروا وبدّلوا مما جعل اسم هذا الكتاب يتخذ صورا
متعددة.
على أن ابن خالويه كان في مقدمته صريحا، فقد ذكر أن الكتاب في
الاحتجاج وقد قلت: إن أنسب تسمية لهذا الكتاب هي الحجة، فكلمة
الحجة تطالعك في كل سطر من سطور هذا الكتاب.
(2) ذكرت أن كتب الطّبقات ليست حجّة قاطعة نرجع إليها في نفي
نسبة الكتاب إلى ابن خالويه حيث لم تشر إليه، ذلك لأن هذه
الكتب نفسها أغفلت ذكر كتب لابن خالويه، منها: كتاب أسماء الله
الحسنى الذي أشار إليه ابن خالويه نفسه في كتابه:
إعراب ثلاثين سورة حيث قال: وقد صنفتها في كتاب مفرد، واشتقاق
كلّ اسم منها ومعناه «2».
وقد علق الأستاذ الناقد على هذا القول بقوله: «هذا كلام من نمط
سابقه فإن كتابه الحجة جدير بأن يذكر في أول قائمة كتب ابن
خالويه لو صحت النسبة وحيث لم يذكر في كتب الطبقات، ولا ذكر في
باقي كتب ابن خالويه، فهذا دليل على عدم صحة نسبته إليه، لأن
كتب الطبقات لم تذكره، ولأن ابن خالويه لم يشر إليه في تضاعيف
كتبه».
__________
(1) انظر مقدمة الحجة للفارسي- 4.
(2) إعراب ثلاثين سورة- 14.
(1/41)
أقول لأخي الناقد:
لا أحب أن أكرّر ما قلت في شأن كتب الطبقات فليس أصحابها
معصومين من النسيان، وليست هذه الكتب بمأمن من الخطأ، ولا أدل
على ذلك من هذا التراث الضخم الذي حوته فهارس مكتباتنا في
الشرق والغرب، ولا تجد للكثير منه ذكرا في كتب الطبقات
المعروفة.
ألم أقل في بحثي لإنتاج ابن خالويه العلميّ: إنني استطعت أن
أنسب إلى ابن خالويه كتبا لم تضمها كتب الطبقات؟ وعددت من هذه
الكتب عشرة كتب أذكر منها: كتاب الريح. وكتاب أسماء الله
الحسنى، وكتاب الهاذور، وشرح ديوان أبي فراس الحمداني ..
أتسقط هذه الكتب لأنها لا توجد في البغية، أو في أنباء الرواة،
أو في معجم الأدباء ... الخ؟
لو فعلنا ذلك لأجهزنا على تراثنا بأيدينا من حيث لا نشعر.
ولا أسلم أيضا للناقد الفاضل بأن ابن خالويه لم يشر إليه في
تضاعيف كتبه، لأن ابن خالويه قد أشار إليه، أشار إليه في كتابه
«إعراب ثلاثين سورة» عند تعرضه للقراءات في قوله تعالى:
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قال: «أجمع العلماء على كسر الهاء في
التثنية إذا قلت: عليهما، قال الله عز وجل: يَخافُونَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمَا «1» إلا يعقوب الحضرمي فإنه ضم الهاء في
التثنية كما ضمّها في الجمع، وقد ذكرت علة ذلك في كتاب
«القراءات». «2» وهذا التّعليل تجده في الحجة «3». وأمّا عدم
ذكره باسم الحجة فقد بينت السّرّ في ذلك، وأن هذه التسمية جاءت
متأخرة عن عصر ابن خالويه.
إن ابن خالويه حينما يقول: ذكرت علة ذلك في كتاب «القراءات»
أليست هذه إشارة واضحة إلى أنّ المعنيّ بذلك هو كتاب الحجة؟
وما مدلول قوله: «علة ذلك»؟
أليست العلة هي التوجيه النحوي أو اللغوي؟ وما التوجيه النحوي
أو اللغوي إلا الاحتجاج، وما الاحتجاج إلا ذكر الحجة، والحجّة
تتكرر في كل قراءة يعرضها.
إنّ الذي يعنيني يا سيدي أوّلا وأخيرا هو المضمون لا الشكل،
والجوهر لا العرض، والمعنى لا اللفظ، وهذا كله يشير إلى أن
كتاب القراءات الذي أشار إليه ابن خالويه هو في الاحتجاج،
وبذلك لا نسلم للناقد الفاضل قوله: إنه لم يشر إليه في تضاعيف
كتبه.
__________
(1) المائدة- 23.
(2) إعراب ثلاثين سورة- 32.
(3) الحجة في القراءات السبع: تحقيق: عبد العال سالم مكرم- طبع
دار الشروق- بيروت.
(1/42)
(3) وحينما ذكرت أنّ التّسمية بالحجة قد
تكون من عمل المتأخرين، وحتى كتاب الحجة للفارسي لم يقدمه أبو
عليّ لعضد الدولة باسم الحجة.
يقول الأستاذ العابد معلّقا: «إننا نؤكّد أن النسخ العتيقة
التي توجد من كتاب الحجة لأبي عليّ الفارسيّ مكتوب بظهر أول
ورقة من أجزائه بخط عريق في القدم من نسخة كان يتملكها الحافظ
الحجة أبو الحسن عليّ بن محمد الشاري ما صورته: الجزء السابع
من كتاب الحجة لقراء الأمصار ... الخ. فمن أين الجزم بأن أبا
علي الفارسي لم يسم كتابه بالحجة؟
أقول:
أخي، إن الذي دفعني إلى هذا القول هو أن عنوان الكتاب على
الغلاف ليس هو الفيصل في القضية كما فهمت سيادتك .. فقد درج
المؤلفون أن يذكروا في مقدمة كتبهم أسماء هذه الكتب أو
موضوعاتها، ويقوم الناسخون بوضع هذه التسمية على الغلاف إن
كانت مذكورة في المقدمة، أو وضع اسم ينطبق على موضوع الكتاب إن
لم يكن اسمه مذكورا بنصه، على أن الغالب في مؤلفات القدامى
أنهم يذكرون موضوعات كتبهم في مقدماتهم، ولا يشيرون إلى
أسمائها، فعل ذلك أبو عليّ الفارسيّ حينما ذكر في مقدمة كتابه
الحجة ما نصه: فإن هذا كتاب تذكر فيه وجوه قراءات القراء الذين
ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن العباس بن
مجاهد «1» ولم يشر إلى هذه التسمية وإنما فهمت التسمية من
موضوع الكتاب، ولذلك اختلف الرواة فيها كما بينت آنفا.
وفعل ذلك ابن خالويه حينما ذكر في مقدّمته ما نصه: «وأنا بعون
الله ذاكر في كتابي هذا ما احتج به أهل صناعة النحو لهم في
معاني اختلافهم» «2» فكلمة «احتج» تجدها في مقدمة ابن خالويه
على حين تفتقدها في مقدمة الفارسي.
وفعل ذلك أيضا الفارسيّ في كتابه: «الإغفال» حيث يقول في
مقدّمته بصدد المسائل التي أغفلها الزجاج ما نصه: «ذكرناها لما
اقتضت عندنا من الإيضاح للإغفال الواقع فيها» وكتب على غلاف
النسخة المخطوطة «الإغفال لأبي عليّ الفارسيّ «3».
__________
(1) مقدمة الحجة للفارسي- 3.
(2) الحجة لابن خالويه- 62 - طبع دار الشروق- بيروت.
(3) الإغفال لأبي علي الفارسي مخطوط رقم 649 تفسير- دار الكتب
المصرية.
(1/43)
وكذلك فعل أبو محمد مكّي بن أبي طالب
الأندلسي في مقدمة كتابه «تفسير مشكل إعراب القرآن» حيث يقول:
«فقصدت في هذا الكتاب إلى تفسير مشكل الإعراب، وذكر علله،
وصعبه، ونادره، ليكون خفيف المحمل» «1» .. الخ. ولم يشر إلى أن
هذا الكتاب اسمه: «تفسير مشكل إعراب القرآن» وإنما ذكر
الموضوع، ولا يخفى على الراوية أو الناسخ لبّ هذا الموضوع،
فاستنتج الاسم منه ونسب إليه.
ولا أبالغ إذا قلت: إن كتاب سيبويه أشهر كتاب انتشر في الآفاق
لم يسمه سيبويه بهذا الاسم، وإنما جاءت التسمية من الرواة أو
الدارسين أو الناسخين، يقول أستاذنا
المحقق الكبير الأستاذ عبد السلام هارون في مقدمته القيمة
لتحقيق كتاب سيبويه ما نصه:
«وقد عرف كتاب سيبويه من قديم الدهر إلى يومنا هذا باسم الكتاب
أو كتاب سيبويه، ومن المقطوع تاريخيا أن سيبويه لم يسمّه باسم
معين» «2».
وفي العصور المتأخرة نجد المؤلفين ينصون على تسمية كتبهم في
مقدماتها وبذلك يكون عنوان الغلاف وفق عنوان اسم الكتاب المشار
إليه في المقدمة فهذا ابن هشام في مقدمة كتابه المغنى يشير إلى
اسم كتابه فيقول: «سميته بمغنى اللبيب عن كتب الأعاريب».
والسيوطي في مقدمة كتابه الهمع يقول: «فتخيرت لهم هذه العجالة
الكاملة بحل مبانيه، وتوضيح معانيه إلى أن يقول: مسماة بهمع
الهوامع في شرح جمع الجوامع».
ولعل في هذا الدليل الشافي في أنّ عنوان الكتاب قد لا يكون في
بعض الأحيان من وضع المؤلف، أو من تسمية المؤلف.
(4) وقد ذكرت أنّ من الأدلة على أنّ الحجة لابن خالويه دليل
التنافس العلمي في هذا العصر، ولكن هذا الدليل لم يرق في نظر
الناقد فكتب يقول: «وأنا لا أدري ما وقع هذا الدليل. والتنافس
العلمي ولو بلغ ما بلغ لا ينتج مثل هذا الفرض المشكوك فيه من
أصله، وقد وقع التنافس في كثير من الفنون في عصره، ولم يؤلف
ابن خالويه في جميع تلك العلوم المتنافس فيها»؟.
أقول:
لعل الناقد الفاضل يذكر أن أهمّ ما كان يشغل ذهن ابن خالويه هو
العلوم القرآنية،
__________
(1) مشكل إعراب القرآن مخطوط رقم 232، تفسير- دار الكتب.
(2) مقدمة المحقق 1 - 23 - طبع دار القلم.
(1/44)
وإذا نافس فإنه ينافس في مجالها، أما ما
عدا ذلك من ألوان المعرفة كالطب والفلك، والمنطق والفلسفة،
والحساب والهندسة، فهذه علوم لا تدخل في حساب المنافسة.
وقد أشرت إلى منافسته للفارسيّ وابن جنيّ، وغيرهما كما سبق
بيانه في مجال الدراسات القرآنية.
(5) وقد قلت:
إنّ من أوضح أدلّة التوثيق لهذا الكتاب، ونسبته لابن خالويه
تشابه أسلوبه ومنهجه مع مؤلفات ابن خالويه الأخرى، وهذا
التشابه محصور في الإيجاز والاختصار، وموضوعات أخرى ذكرتها في
بحثي، واستدللت عليها بنصوص لا تقبل الجدل، ولا تحتمل الشك.
ولكن الأخ الناقد لم يعجبه هذا التدليل فقال: «إن الأسلوب
والمنهج الذي كان سائدا في عصر ابن خالويه لم يكن خاصا به بل
كان عاما لدى الشخصيّات التي تتلمذ لابن مجاهد، وأبو عليّ
الفارسي في كتابه لم يكن يتبع غير طريقة الإيجاز ولو نسبيا».
أقول:
لقد جعلني الناقد الفاضل أشك في أنه قرأ أو اطلع على كتاب
الحجة للفارسي الذي طبع منه الجزء الأول بتحقيق أستاذنا النجدي
ورفاقه، وقد أشار سيادته في نقده إلى هذا الجزء المطبوع.
من قال: إن أبا عليّ الفارسيّ في كتابه الحجة كان طابعه
الإيجاز ولو نسبيا؟ إن هذا قول لا تطمئن إليه النفس وإليك
الدليل:
إن الجزء الأول المطبوع من حجّة الفارسيّ يحتوي على 331 صفحة
من القطع الكبير، ابتداء بفاتحة الكتاب، وانتهاء بقوله تعالى:
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آية 20 من سورة البقرة. أي أنّ هذا
الجزء الضخم كله توجيه لقراءات الفاتحة، ولعشرين آية من سورة
البقرة، فهل هذا إيجاز يا سيدي؟
إن الأساتذة المحققين أحسوا أن نشر كتاب الحجة للفارسي قد يصل
إلى أربعين جزءا على غرار الجزء الأول مما يتطلّب وقتا طويلا،
وعمرا مديدا، ومنذ ثلاث سنوات لم ير النور من كتاب الحجة
للفارسي غير هذا الجزء الأول، مما دفعني دفعا قويّا إلى إخراج
كتاب الحجة لابن خالويه، لأنه يقدم للقارئ خلاصة موجزة
للاحتجاج النحوي واللغوي للقراءات السبع في أسلوب ممتع، وفي
عرض يشرق على القارئ بهاؤه، ويستولي على نفسه جماله، وقد جعل
الاختصار رائده ليحقق الهدف الأكبر من تأليفه، وهو انتفاع
الناس
(1/45)
به، أو كما يقول في مقدمته:
«قاصد قصد الإبانة في اقتصار من غير إطالة ولا إكثار، جامع ذلك
بلفظ بين جزل، ومقال واضح سهل، ليقرب على مريده، وليسهل على
مستفيده» «1».
ومن حسن الحظ أن كتاب الحجة لابن خالويه أصدرته ونشرته دار
الشروق ببيروت في أوائل أغسطس سنة 1971، وهو الآن يشق طريقه
إلى عقول القراء، لأنه الكتاب الوحيد في المكتبة العربية الآن
الذي يمكن للقارئ الرجوع إليه عند توجيه قراءة في مجال النحو
واللغة من القراءات السبع.
وإلى أخي الفاضل الأستاذ العابد أقدم دليلا ملموسا من كلام ابن
جنّى تلميذ الفارسي حول هذا الكتاب، ورأي ابن جني الذي امتص
ثقافة أستاذه الفارسي في هذا المجال رأي لا يتسرّب إليه الشك
أو الضعف لأنه شهادة على النفس، ولأن ابن جني من الفارسيّ
بمثابة الروح من الجسد. يقول ابن جني في المحتسب: «فإن أبا علي
رحمه الله عمل كتاب الحجة في القراءات فتجاوز فيه قدر حاجة
القراء، إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء» «2».
ويقول في موضع آخر: «وقد كان شيخنا أبو عليّ عمل كتاب الحجة في
قراءة السبعة فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرا ممن يدّعي العربيّة
فضلا عن القراء، وأجفاهم عنه «3».
ألا يدل هذا على أنّ أبا علي الفارسي لم يكن رائده الإيجاز
والاختصار كما يقول الناقد.
بل كان رائده التطويل الممل، والاستطراد المخلّ، والأسلوب
المعقد كما أشار إلى ذلك تلميذه ابن جني.
وليقتنع الناقد الفاضل بما أقول فإليه هذا المثال من كتاب حجة
الفارسي:
قال أبو علي في قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. «اختلفوا
في إثبات الألف وإسقاطها من قوله: ملك يوم الدين ثم يبين قراءة
عاصم، وقراءة غيره وبعد ذلك ينقل عن أبي بكر محمد بن السرّي
نصا يستدلّ فيه على أن «ملك» يجمع (مالكا) أي ملك ذلك اليوم
بما فيه، ومالك إنما يكون للشيء وحده.
ولا يكتفي بهذا، بل ينقل حكاية عن عاصم الجحدري، وبعد ذلك ينقل
رواية
__________
(1) مقدمة ابن خالويه- 62.
(2) انظر: مقدمة المحتسب لابن جنى- طبع المجلس الأعلى للشئون
الإسلامية.
(3) مقدمة المحتسب المرجع السابق.
(1/46)
لثعلب يحتجّ فيها لقراءة الكسائي «ملك
الناس» ويستطرد إلى قول أبي عبيد في تفسير معنى ملك يوم الدين
ويبين أن المالك والملك يجمعهما معنى واحد ويرجعان إلى أصل وهو
الرّبط والشدة، ويستدل على ذلك بالشعر العربيّ، ويستطرد مرة
أخرى إلى تفسير معنى الاملاك، وهو ربط الرجل بالمرأة، ويعود من
حيث بدأ إلى قراءة «ملك»، وقراءة «مالك» وسرعان ما يترك توجيه
القراءة إلى موضوع آخر ليس منها فيقول: قال أبو الحسن الأخفش
يقال: ملك بيّن الملك: الميم مضمومة، وتقول: مالك بين الملك
والملك بفتح الميم وكسرها.
ولا يكتفي بهذا بل ينقل عن أبي عثمان فيقول: وقال أبو عثمان:
شهدنا أملاك فلان وملكه، ولا يقال: ملاكه، وينتقل إلى الحديث
عن إملاك المرأة وهو العقد عليها، وقد ذكره فيما قبل، ثم عاد
إليه.
ومن غير وحدة أو ترابط يرجع بعد ذلك إلى قراءة «ملك» أو «مالك»
فإذا فرغ من هذا اتّجه إلى الحديث عن إضافة مالك إلى يوم الدين
والإضافة باب من أبواب النحو، أخذ أبو علي يشقق الحديث عنها
إلى منتصف ص 36، أي أن الحديث عن مالك يوم الدين تناول 36 صفحة
من القطع الكبير. فهل هذا إيجاز أو اختصار؟
انظر إلى ما كتبه ابن خالويه في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال ما
نصه: «يقرأ بإثبات الألف وطرحها، فالحجة لمن أثبتها أن الملك
داخل تحت المالك، والدليل له قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ
مالِكَ الْمُلْكِ «1». والحجة لمن طرحها أن الملك أخص من
المالك وأمدح، لأنه قد يكون المالك غير ملك، ولا يكون الملك
إلا مالكا. «2»
وقد بلغت صفحات حجة ابن خالويه بعد طبعه 318 صفحة من القطع
الكبير خلاف المقدمة والفهارس مع أنه تناول توجيه القراءات
السبع في القرآن الكريم كله مبتدئا بفاتحة الكتاب، ومنتهيا
بسورة الناس.
(6) ومن أدلتي في أن كتاب الحجة تصح نسبته إلى ابن خالويه: أن
الاعلام الذين سجلهم ابن خالويه في كتابه كانوا أسبق منه زمنا
مما يدل على أن الكتاب لم يؤلف بعد عصر ابن خالويه، ولكن هذا
الدليل من الأدلة الواهية في نظر الناقد الفاضل حيث يقول:
«هذا من الاستدلالات الواهية، ومتى كان النقل عن أعلام سابقين
في الزمان دليلا على تثبيت نسبة الكتاب لشخص معيّن».
__________
(1) آل عمران- 26.
(2) الحجة لابن خالويه- 62.
(1/47)
أحبّ أن أذكّر الأستاذ النّاقد بما ذكره
أستاذنا المحقق عبد السلام هارون حيث قال ما نصه في كتابه
المبتكر «تحقيق النصوص ونشرها»: «وتعد الاعتبارات التاريخية من
أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها، فالكتاب الذي
تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه جدير
بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف. ومن أمثلة ذلك كتاب نسب إلى
الجاحظ وعنوانه «كتاب تنبيه الملوك والمكايد» ومنه صورة مودعة
بدار الكتب المصرية برقم 2345 (أدب) وهذا الكتاب زيف لا ريب في
ذلك، فإنك تجد من أبوابه باب «نكت من مكايد كافور الإخشيدي» و
«مكيدة توزون بالمتقي لله»، وكافور الإخشيدي كان يحيا بين سنتي
292، 357، والمتقي لله كان يحيا بين سنتي 297 و 357، فهذا كله
تاريخ بعد وفاة الجاحظ بعشرات من السنين «1» ومن الأمثلة على
ذلك أيضا ما ذكرته في كتابي «القرآن الكريم وأثره في الدراسات
النحوية» أن كتاب إعراب القرآن للزجاج المخطوط بدار الكتب
المصرية رقم 528 تفسير ليس للزجاج بأدلة ذكرتها، منها: ورود
عبارة في هذا الكتاب وقفت عندها طويلا وهي قوله في باب التقديم
والتأخير: «وقد تصالح الأستاذ والغلام على أن الظرف يعمل فيه
الوهم ورائحة الفعل». وذهبت أبحث من الأستاذ؟ ومن الغلام؟ لأنه
إذا تمّ التعرف عليهما أو على أحد منهما، وتبين أنهما عاشا في
عصر متأخر عن عصر الزجاج أمكن أن يكون ذلك دليلا يؤكد أن كتاب
إعراب القرآن هذا ليس للزجاج.
أقول: بعد بحث طويل وجدت في تاريخ الأدب العربي «لبروكلمان» ما
نصه:
«وكان أوفى تلاميذ ثعلب له، وأقربهم إليه أبو عمر محمد بن عبد
الواحد الزاهد المطرز الورّاق البارودي، ومن ثم سمي غلام ثعلب،
وتوفي غلام ثعلب ببغداد سنة 345 هـ» «2» على أنّ الزجاج
المنسوب إليه هذا الكتاب توفي عام 311 هـ «3» ولعلّ في هذا
القدر الكافي لإقناع الأخ الناقد.
(7) وأما الدليل السابع من أدلة النقد، فإنه ينصبّ على قولي:
«ومن الأدلة تقارب بعض النصوص في مؤلفات ابن خالويه الأخرى مع
بعض نصوص الحجة، وقلت: إنني لا أبالغ في أن هناك نصوصا
بأساليبها وكلماتها في هذه المؤلفات هي بعينها في كتاب الحجة».
__________
(1) تحقيق النصوص ونشرها- 43 طبعة ثانية (الحلبي).
(2) تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2 - 218، والقرآن الكريم
وأثره في الدراسات النحوية- 275.
(3) البقية 1 - 413.
(1/48)
ولكن الناقد لم يقتنع بهذا أيضا فيقول: «إن
هذه المشابهة أو المقارنة بين النصوص لا تفيد شيئا في الواقع،
ومجرّد إلقاء الباحث نظرة في كتاب الحجّة لأبي علي الفارسيّ
المعترف به من الجميع مع مراجعة ما قاله النحويون، والقراء
والمفسرون والمعاصرون، للفارسي ولابن خالويه يجد أنّ جميع تلك
النصوص متشابهة ومتقاربة في المعنى حتى وفي اللفظ في بعض
الأحيان، ومع ذلك التشابه، والتقارب لا يمكن أن نستدلّ بذلك
على إثبات نسبة كتاب معيّن لشخص معيّن بمجرّد التشابه
والتقارب».
أقول:
كنت أودّ من الزّميل الفاضل أن يذكر لي، ولو نصا واحدا من هذا
التشابه والتقارب المعنويّ أو اللفظي كما ذكر.
يا سيدي ... لقد علمتنا كتب التراث أمانة النقل فإذا رجع مفسّر
من المفسرين أو النحويين أو القراء إلى حجة أبي عليّ مثلا،
فإنه لا ينقل نصوصا متقاربة المعنى أو متشابهة اللفظ إلا بعد
أن يذكر قوله: (وقال الفارسيّ في الحجة) أما أن يعتدي على
المعاني، ويكسوها ألفاظا من عنده فهذه سرقة لا تليق بعالم
يعتدّ بقوله. ومن وقع فيها شهّر به، وسخر منه، والروايات على
ذلك عديدة. والمعاني يا سيدي ليست مطروحة على الطريق، وإنما هي
نتيجة كدّ الذهن، وإعمال الفكر، وبذل الطاقة، والاطّلاع الواسع
والإلهام المبدع. كيف تتقارب المعاني، ولكل مفسر منهجه وطريقته
ولكل كتاب من كتب القراءات في الاحتجاج وغيره أسلوبها الخاصّ،
وطريقتها الخاصة؟ نعم إن النقول قد تعدّدت في كتب التراث،
ولكنها نقول لها مصادر معروفة، وأشخاص معروفون صدرت عنهم،
ونقلت منهم، ولا يصحّ التصرف فيها بالتغيير أو التبديل. وما
عدا ذلك ففردية في الطّريقة، وفي المنهج وفي الأسلوب، وإلا كان
تكرارا أو سطوا وكلاهما لا يليق بأولي العلم والمعرفة، هذا في
مجال المعاني فما بالك في مجال تشابه اللّفظ. أظنّ أنّ توافق
الخواطر قد يحدث في جملة أو كلمة أمّا أن يحدث في نصّ تتعدّد
سطوره فذلك أمر لا يقبله المنطق. وقد ذكرت يا سيدي تشابه أسلوب
ابن خالويه في كتاب الحجّة بأساليبه في كتبه الأخرى، لأن
المؤلف واحد، والعقل واحد، والأسلوب واحد، وطريقة التفكير
واحدة. وقد بيّنت أنّ في الحجة من كتاب «إعراب ثلاثين سورة»
نصوصا بألفاظها ومعانيها، وأن في الحجة من كتاب «الريح» نصوصا
بألفاظها ومعانيها، وقد سجلت ذلك في بحثي المنشور في مجلة
اللسان العربي» نفس العدد الذي ذكر فيه نقد الأستاذ الفاضل.
ألا يكفي هذا دليلا واضحا على أنّ الحجة لابن خالويه لا لغيره.
(1/49)
(8) والناقد الفاضل لم يعترف بقدم النسخ،
«لأن الناسخ مجهول أمره، ولأن الخط ليس من الخطوط المتداولة في
القرن الخامس الهجري، يعرف هذا بالبداهة من له خبرة بالخطوط،
وتطوّراتها، والمقابلة المذكورة لا تفيد أي شيء، ولأن كاتبها
مجهول».
أقول:
إن هذا الدليل لا نسلّم للسيد الفاضل بصحته، لأن كثيرا من
الكتب المخطوطة لم تظفر بذكر اسم ناسخها، وجهل الناسخ لا يقلل
من قيمتها، لأن الدراسة التي تقوم حولها، وتحليل مناهجها
وطريقة تأليفها، والتمرس بأسلوب مؤلفها، والخبرة بالعصر الذي
نسخت فيه كل ذلك يزيل الغموض عنها، كما فعلت ذلك في دراستي
لكتاب الحجة.
على أن كتاب الحجة للفارسي لم تظفر النسخة الأصل التي اعتمد
عليها المحققون باسم الناسخ، فهل جهل الناسخ ينفي أنّ كتاب
الحجة للفارسي. أليس من التناقض أن أثبت أن كتاب الحجة منسوب
للفارسيّ مع جهل الناسخ، وأنفي نسبة كتاب الحجة لابن خالويه
لأن الناسخ مجهول؟
أما جهل ناسخ الحجة للفارسي فإليك الدليل:
قال المحققون: «اعتمدنا في تحقيق كتاب الحجة على نسختين، كتبت
أولاهما سنة 390 هـ بخطّ النسخ الواضح، وضبطت كلماتها بالشكل
ضبطا كاملا وهي في مكتبة بلدية الاسكندرية برقم 3570 ع، وفي
دار الكتب المصرية صورة منها برقم 462 قراءات.
وفي خزانة مجمع اللغة العربية مصورة منها كذلك، وقد جعل
المحققون هذه النسخة هي الأصل لأنها الأقدم في النسخ، ولم
يشيروا إلى اسم الناسخ لأنه غير موجود».
من هذا، يتبيّن أنّ ظاهرة كتابة اسم الناسخ قد تتخلف في كثير
من الكتب المخطوطة وليس الجهل بالناسخ ينقص من قدر المخطوط،
ويقلل من قيمته، وإلا لما اعترفنا بكتاب الحجّة للفارسيّ، وهو
لا يتطرّق إليه الشك.
مع أنّ هذه النسخة كما يقول المحققون كتبت بخطوط مختلفة فقد
ذكروا ما نصه:
«ويلاحظ أن خطّ الصفحتين الأولى والثانية مخالف لخط سائر
الصفحات في كلّ من الجزء الأول، والثاني، والسابع، وخط الصفحات
الأولى والثانية والأخيرة مخالف
لخط سائر صفحات الجزء الثالث، وخط الصفحتين الأوليين والصفحتين
الأخيرتين مخالف لخط سائر صفحات الجزء الرابع، وخط الصفحة
الأخيرة مخالف لخط سائر
(1/50)
صفحات الجزء السادس» «1».
وكتاب الحجة لابن خالويه كتب بخط واحد، لم يتخلف في صفحة واحدة
من صفحات هذا الكتاب.
وأحب أن أطمئن الأخ الفاضل إلى أن هذا الخط الذي كتبت به نسخة
الحجة من الخطوط المتداولة في القرن الخامس، وقد رجعت إلى
أستاذنا المحقق عبد السلام هارون، وعرضت عليه صفحات مصورة من
هذه النسخة، فأقر بما لا يدع مجالا للشك أنها من خطوط القرن
الخامس الهجري. وكذلك أقر هذا الزميل المحقق الأستاذ عبد
الستار فراج رئيس قسم التراث بوزارة الثقافة بالكويت.
ومما يجدر ذكره أن الأستاذ الدكتور شوقي ضيف رغب في أن يقوم
طالب من طلاب الدراسات العليا لتحقيق نسخة الحجة لابن خالويه
للحصول على الدكتوراة تحت إشرافه وفعلا بدأ الطّالب يستعد
لتسجيل هذا الموضوع في كلية الآداب- جامعة القاهرة، ولما علم
الدكتور الفاضل أني قمت بتحقيقه، وفرغت منه، عدل عنه، اكتفاء
بتحقيقي.
ولا أنسى أن أذكر للناقد أن خبراء الخطوط بدار الكتب المصرية
عرضوا هذا الكتاب في معرض الخطوط العربية القديمة على أنه واحد
من الكتب التي تبيّن معالم الخطوط في القرن الخامس الهجري.
ولعلّي بهذا أكون قد بينت للناقد الفاضل وجهة نظري في أدلته
مؤيدة بالدليل بعيدة عن هوى النفس، أو عن داء التعصّب للرأي.
بقيت ملاحظات أخرى عامة، أحب أن أوجه نظر الناقد الفاضل إليها:
(1) تناقض الناقد مع نفسه: فعنوان تعقيبه حمل العبارة التالية:
(نسبة الحجة إلى ابن خالويه لا تصحّ) ثم ذكر بعد ذلك في السطور
الأخيرة من تعقيبه أنه (لا يمكن أن ننفيه عنه نفيا قاطعا).
ومن حقّي أن أسأل الناقد: هل يجوز في مجال البحث العلمي أن
تنفي ثم تنفي هذا النفي ولو بدرجة ما؟ لأن نفي النفي إثبات،
كان الأجدر أن يكون عنوان نقدك: «نسبة الحجة إلى ابن خالويه
فيها نظر» أو ليست مؤكدة، أو يتطرق إليها الشك، أما أن تنفي
__________
(1) مقدمة الحجة للمحققين- 33.
(1/51)
هذه النسبة بلا النافية، ثم تعود بعد ذلك
لتنفي ما نفيت، هذا أمر لا يتلاءم مع منهج البحث.
(2) أثبت الناقد في السطور الأخيرة من نقده: «أن الذي تميل
إليه النفس هو أن كتاب الحجة هذا هو أحد المختصرات التي اختصر
بها كتاب الحجة الأصلي لأبي علي الفارسي لعالم مجهول».
أقول:
إن الناقد الفاضل نقد نفسه بهذا القول، ألم يقل بعد ذلك بسطور
«والذي يجعلنا نميل إلى نفي هذه النسبة هو أن جميع المصادر
التي ترجمت لابن خالويه لم تذكر في قائمة كتبه تأليفه الحجة،
ولم يعرّج أصحاب المعاجم والفهارس وطبقات القراء عليه» هذا
القول ذاته موجه إليك يا سيدي، فإذا كان حجّة ابن خالويه
مختصرا لحجة الفارسي فلم لم تشر إليه المعاجم والفهارس وطبقات
القراء مع شدة اعتناء العلماء بحجة الفارسي، فقد ذكروا أن مكّي
ابن أبي طالب المتوفي 437 هـ اختصره في كتاب سماه: منتخب
الحجّة في القراءات، واختصره أيضا أبو طاهر اسماعيل بن خلف
الأندلسي المتوفي 455 هـ، ومحمد بن شريح الرعيني المتوفي 476
هـ. «1»
ولم يشر أحد إلى أن عالما مجهولا لخّص حجه الفارسيّ، وبذلك
يكون الناقد وقع فيما نقد به غيره.
والحقيقة أن حجة ابن خالويه تبعد كل البعد أن تكون تلخيصا أو
اختصارا لحجة الفارسي، وذلك لأمرين:
أ- إن مقدمة حجة ابن خالويه تختلف في منهجها عن مقدّمة الحجة
للفارسي، فابن خالويه يقول في مقدمته: «وبعد، فإني قد تدبّرت
قراءة الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة المعروفين بصحة
النقل، واتقان الحفظ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ،
فرأيت كلّا منهم قد ذهب في إعراب ما انفرد به من حرفه مذهبا من
مذاهب العربية لا يدفع. وقصد من القياس وجها لا يمنع فوافق
باللفظ والحكاية طريق النقل والرواية، إلى أن يقول: وأنا بعون
الله ذاكر في كتابي هذا ما احتجّ به أهل صناعة النحو لهم في
__________
(1) البقية: 297 - 195، وكشف الظنون 2 - 244.
(1/52)
معاني اختلافهم، وتارك ذكر اجتماعهم
وائتلافهم إلى أن يقول: وقاصد قصد الإبانة في اقتصار من غير
إطالة ولا إكثار، إلى أن يقول: جامعا ذلك بلفظ بين جزل، ومقال
واضح سهل ليقرب على مريده، وليسهل على مستفيده» «1».
والفارسي يقول في مقدمته: «فإن هذا كتاب تذكر فيه وجوه قراءات
القراء الذين ثبتت قراءاتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى بن
العباس بن مجاهد المترجم بمعرفة قراءات أهل الأمصار والحجاز،
والعراق، والشام بعد أن نقدم ذكر كل حرف من ذلك على حسب ما
رواه، وأخذناه عنه، وقد كان أبو بكر محمد بن السرّي شرع في
تفسير صدر من ذلك في كتاب كان ابتدأ باملائه، وارتفع منه تبييض
ما في سورة البقرة من وجوه الاختلاف عنهم، وأنا أسند إليه ما
فسر من ذلك في كتابي هذا، وإلى الله أرغب في تيسير ما قصدته»
«2». وبمقارنة المقدمتين نتبين في وضوح وجلاء أن المنهجين
مختلفان، ولا يليق بعالم مختصر أن يتطاول هذا التطاول، ويكتب
هذه المقدمة بهذا المنهج الذي رسمه، وكتابه تلخيص لكتاب معروف،
وما الدافع إلى عدم الإشارة إلى هذا التلخيص.
ب- ولو كانت حجة ابن خالويه تلخيصا لحجة الفارسي لرأينا تشابها
في اللفظ وتقاربا في المعنى، واتحادا في الفكرة مع أن الكتابين
مختلفان لفظا ومعنى، وفكرة ومنهجا، وإن اتحد موضوعهما، (3) أود
أن أقول لأخي الفاضل إن كتب المعاجم والفهارس لا يعتمد عليها
كل الاعتماد، لأن بعضا منها نسب كتبا إلى غير أصحابها، وفهارس
المخطوطات في دور الكتب العربية تحتاج إلى نظر، لتفهرس من
جديد، فكثير من المخطوطات قالوا عنها: إنها مجهولة النسبة،
وكثير من المخطوطات نسبت إلى غير أصحابها، ولا أدل على ذلك من
هذا التصحيح الذي قمت به لبعض المخطوطات: وهذه أمثلة منها:
1) إعراب القرآن المؤلف مجهول ..
جاء في فهارس المخطوطات لمصورة لمعهد إحياء المخطوطات العربية
بالجامعة العربية ما نصه: «إعراب القرآن لمؤلف مجهول. الجزء
الثاني من نسخة كتبت في القرن التاسع، يبتدئ من أول سورة
الأنعام، وينتهي بآخر سورة الاسراء. «3»
__________
(1) الحجة 61 - 62.
(2) مقدمة حجة الفارسي- 4.
(3). 1 - 20.
(1/53)
وبعد بحث طويل استطعت أن أثبت أن هذا الجزء
ليس لمؤلف مجهول، وإنما هو لمؤلف معلوم، وهو السّمين الحلبي،
حيث قارنت نصوصه بنصوص النسخة المخطوطة بدار الكتب المصرية رقم
321 - تفسير- فوجدت النصوص متحدة متماثلة. نفس النصوص ونفس
الأسلوب، ونفس الألفاظ «1».
2) معاني للقرآن للزجاج ..
تضم دار الكتب المصرية نسختين مخطوطتين من هذا الكتاب.
- نسخة رقم 111 - تفسير، وقد وثقتها برجوعي إلى كتاب «الإغفال»
لأبي علي الفارسي لأنه ضم كثيرا من نصوص معاني القرآن للزجاج
ثم علق عليها مصلحا ما أخطأ فيه الزجاج، فرأيت أن نسبة هذه
النسخة إلى الزجاج صحيحة، لأن النصوص التي أوردها الفارسيّ في
الاغفال هي نفس النصوص التي أوردها الزجاج في المعاني.
- نسخة رقم 636 - تفسير، وبعد تمحيص استطعت أن أثبت هذه النسخة
ليست للزجاج، والزجاج منها بريء «2».
3) إعراب القرآن للزجاج رقم 528 - تفسير- دار الكتب المصرية
ليست للزجاج كما بينت سابقا في هذا البحث.
4) البرهان في علوم القرآن للحوفي: نسخة رقم 20503 بدار الكتب
المصرية. وقد صورت منها النسخة رقم 20784 ب والنسخة رقم 20785
ب.
ومع مجهود التصوير المكرر لهذه النسخة، فإنها ليست للحوفي، بل
هي نسخة من إعراب القرآن لأبي جعفر النحاس. «3»
وبتوفيق الله لم يسبقني أحد إلى هذه التصحيحات أو التحقيقات،
ولا فخر في ذلك، فإن ما يبذل حول الدراسات القرآنية قليل
بالنسبة لما يجب أن يكون. وقد ألقت هذه التحقيقات على هذه
المخطوطات ضوءا كاشفا يحملنا على أن نعيد النظر في هذه
المخطوطات لتقويمها من جديد حتى لا تختلط القيم، وتضطرب
الأمور.
__________
(1) - القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية: عبد العال
سالم مكرم- 253.
(2) انظر الأدلة في ذلك المرجع السابق- 252.
(3) انظر الأدلة في ذلك المرجع السابق- 284.
(1/54)
وبعد فإني أقدم شكري العميق للأخ الفاضل
الأستاذ العابد، على هذا النقد البريء الذي تفضل به مشكورا.
أشكره لأنه أتاح لي فرصة طيّبة لبيان وجهة نظري في نسبة كتاب
الحجة إلى صاحبه وأشكره لأنه أثار القراء نحو هذا الكتاب
ليطلعوا على ما فيه بأنفسهم، والقارئ شريك الناقد والباحث في
أن يكون له رأي والفكر ليس وقفا على أحد.
ومن حسن الحظ فإن الكتاب قد تمّ طبعه في دار الشروق ببيروت،
وقد رأى النور بنشره، وأسعده الحظ في أن يبعث من جديد بعد إحدى
وعشرين وألف سنة ...
والله أسأل أن يجنّبنا الخطأ، وأن يهدينا سواء السّبيل.
ومن حسن الحظّ بعد نشر هذه المقدّمة رأيت في مقدّمة الزّبيري
لكتابه: «تاج العروس» أنّ من المراجع التي اعتمد عليها في
كتابه: كتاب الحجة في القراءات السّبع لابن خالويه.
وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب.
عبد العال سالم مكرم- الكويت
__________
نشرت في مجلة اللسان العربي، المجلد التاسع الجزء الأول
للدكتور عبد العال سالم مكرم ص 315.
(1/55)
صورة لغلاف كتاب الحجة
(1/56)
صورة الصفحة الأولى من كتاب الحجة
(1/57)
صورة الصفحة الثانية من كتاب الحجة
(1/58)
صورة الصفحة الأخيرة لكتاب الحجّة
(1/59)
|