الحجة للقراء السبعة فاتحة الكتاب
[الفاتحة: 4]
اختلفوا في إثبات الألف، وإسقاطها من قوله [عزّ وجلّ] «1»: ملك
«2» يوم الدين [الفاتحة/ 4].
فقرأ عاصم «3»، والكسائي «4»: (مالك) بألف، وقرأ الباقون «5»:
__________
(1) زيادة من: (ط).
(2) في (ط): مالك.
(3) هو أبو بكر عاصم بن أبي النّجود الجحدري الكوفي أحد القراء
السبعة.
أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزرّ بن حبيش، وأخذ عنه
أبو بكر ابن عياش وأبو عمرو البزار واختلفوا اختلافا شديدا في
حروف كثيرة. وكان أهل الكوفة يختارون قراءته، وتوفي سنة 127 هـ
بالكوفة، انظر ابن خلكان 3/ 9 وغاية النهاية في طبقات القراء
1/ 346.
(4) هو أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي أحد القراء السبعة،
انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات، وهو أيضا
إمام الكوفيين في النحو، روى الكسائي عن أبي بكر بن عياش وحمزة
الزيات وابن عيينة وغيرهم وروى عنه الفراء وأبو عبيد القاسم بن
سلام وغيرهما. وتوفي بالري سنة 189 هـ، انظر ابن خلكان 3/ 295
وطبقات القراء 1/ 535.
(5) المراد بالباقين بقية القراء السبعة، وهم:
أ- نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، وكنيته أبو رويم الليثي
مولاهم، المدني، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة، وكان له
راويان: ورش وقنبل، واختلف في وفاته، انظر طبقات القراء 2/
330، وابن خلكان
(1/7)
(ملك) بغير ألف، ولم يمل «1» أحد الألف من
(مالك) «2»
__________
5/ 368 وشذرات الذهب 1/ 330.
ب- عبد الله بن كثير، أبو معبد المكي الداري، إمام أهل مكة في
القراءة، وكان فصيحا بليغا مفوها عليما بالعربية، ولد بمكة سنة
45 هـ وتوفي بها سنة 120 هـ، انظر طبقات القراء 1/ 443 وابن
خلكان 3/ 41.
ج- عبد الله بن عامر الدمشقي، أبو عمران، إمام أهل الشام في
القراءة وكان أسن القراء السبعة وأعلاهم سندا، قرأ على جماعة
من الصحابة، وقيل إنه قرأ على عثمان بن عفان، ولد سنة 21 هـ
وتوفي بدمشق سنة 118 هـ، انظر طبقات القراء 1/ 423.
د- حمزة بن حبيب الزيات أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم، وقيل:
بل من صميمهم، وكان أحد القراء السبعة وعنه أخذ أبو الحسن
الكسائي القراءة، وأخذ هو عن الأعمش، ولد سنة 80 هـ، وأدرك بعض
الصحابة، وإليه صارت إمامة القراءة بعد عاصم في الكوفة، وتوفي
سنة 156 هـ، انظر طبقات القراء 1/ 261. وابن خلكان 2/ 216.
هـ- أبو عمرو بن العلاء وستأتي ترجمته.
(1) قول الفارسي: ولم يمل أحد الألف من مالك، الظاهر أنه يريد
أن أحدا من القراء السبعة، لم يمل ألف مالك، وهذا لا يمنع
الإمالة عند غير السبعة، وإذا فلا وجه لقول أبي حيان في البحر
1/ 20: «وجهل النقل- أعني في قراءة الإمالة- أبو علي الفارسي
فقال: لم يمل أحد من القراء ألف مالك، وذلك جائز إلا أنه لا
يقرأ بما يجوز إلا أن يأتي بذلك أثر مستفيض».
قال أبو حيان: وقد قرأ «مالك» بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر،
وأيوب السختياني، وبين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي. قلنا:
وهذه الرواية عن الكسائي ليست قراءته السبعية.
(2) في (ط): في مالك. وانظر السبعة في القراءات 104 فقد ذكره
من قوله:
اختلفوا.
(1/8)
قال أبو بكر محمد بن السريّ: قال أبو عمرو
«1» فيما أخذته عن اليزيديين «2»: إن «ملك» يجمع مالكا، أي:
ملك ذلك اليوم بما فيه، و «مالك» إنما يكون للشيء وحده، تقول:
هو مالك ذاك «3» الشيء، وقال الله سبحانه «4»: قُلِ اللَّهُمَّ
مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران/ 26] للشيء بعينه، فملك يجمع
مالكا، ومالك لا يجمع ملكا. وقال الله سبحانه «5»: مَلِكِ
النَّاسِ [الناس/ 2] والْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر/ 23].
__________
(1) هو زبان بن العلاء بن عمار بن عبد الله المازني أحد القراء
السبعة وأغزرهم علما، وكان إمام أهل العصر في القراءات والنحو
واللغة، وأخذ عنه خلق كثير منهم اليزيدي وأبو عبيدة والأصمعي،
وتوفي في المدة بين 148 و 157 هـ انظر ابن خلكان 3/ 466 وطبقات
القراء 1/ 288، ونزهة الألباء ص 24.
(2) القائل: «فيما أخذته عن اليزيديين» هو أبو بكر محمد بن
السري، واليزيديون نسبة إلى أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي:
نحوي مقرئ ثقة علامة كبير في النحو والعربية والقراءة، والمراد
أولاده وحفدته، وقد أخذوا عن أبيهم وجدهم علما كثيرا رواه عن
أبي عمرو بن العلاء، فقد كان اليزيدي خير رواة قراءة أبي عمرو
وعلمه، فقد أخذ القراءة عرضا عن أبي عمرو بن العلاء، وخلفه
بالقيام بها وهو أضبط أصحاب أبي عمرو عنه قيل إنه أملى عشرة
آلاف ورقة عن أبي عمرو خاصة. كما كان مؤدب أولاد يزيد بن منصور
الحميري خال المهدي، وإليه ينتسب، ثم اتصل بالرشيد فأدب ولده
المأمون. وكان له خمسة بنين كلهم ألف في اللغة والعربية، ولد
في سنة 123 هـ وتوفي سنة 202 هـ في خراسان أو مرو، انظر ابن
خلكان 6/ 183 وطبقات القراء 2/ 375. ومصادر ترجمته في نزهة
الألباء ص 81 والأعلام 9/ 205.
(3) في (ط): هذا.
(4) في (ط): عز.
(5) في (ط): عز وجل.
(1/9)
قال «1»: وحكي أن عاصما الجحدري قرأها
(ملك) «2» بغير ألف. فقال «3» محتجا على من قرأها «4» (مالك)
بألف «5»:
يلزمه أن يقرأ: قل أعوذ برب الناس مالك الناس [الناس/ 1، 2].
قال هارون «6»: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: نعم، أفلا يقرءون:
فتعالى الله المالك «7» الحق [المؤمنون/ 116]؟.
قال «8»: وقال بعض من اختار القراءة بملك: إن الله قد وصف نفسه
بأنه مالك كل شيء بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ فلا فائدة في
تكريره ذكر ما قد مضى ذكره من غير فصل بينهما بذكر «9» معنى
غيره. قال: وقال: وإن الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«10» بقراءته: ملك يوم الدين أصح إسنادا من الخبر بقراءته
(مالِكِ). وإنّ وصفه بالملك أبلغ في المدح، قال: وهي قراءة
__________
(1) أي أبو بكر ابن السراج.
(2) «ملك» على وزن سهل. ذكر أبو حيان أن عاصما الجحدري قرأها
كذلك، انظر البحر 1/ 20.
(3) أي: عاصم.
(4) في (ط): من قرأ.
(5) في (ط): بالألف.
(6) في (ط) حذف: الناس، وسقطت من (م): قال هارون هنا، وذكرت
بعد قوله: الحق، وهارون: هو ابن موسى، أبو عبد الله الأعور
العتكي البصري الأزدي مولاهم، صاحب القرآن والعربية، وأخذ عن
عاصم وابن كثير وأبي عمرو وغيرهم، وهو أول من تتبع وجوه
القراءات وألفها، وتتبع الشاذ منها وبحث عن إسناده، توفي في
حدود 170 هـ، انظر تاريخ بغداد 14/ 3 وبغية الوعاة 2/ 321
وطبقات القراء 2/ 348.
(7) في (م): الملك.
(8) أي: ابن السراج.
(9) في (ط): بذكره.
(10) في (ط): سقط: وسلّم.
(1/10)
أبي جعفر، والأعرج «1» وشيبة بن نصاح «2».
قال «3» أحمد بن يحيى: من حجة الكسائي أنه يقال:
مَلِكِ النَّاسِ مثل سيّد الناس، وربّ الناس، ومالك يوم الدين،
ولا يقال: سيد يوم الدين، فإذا كان مع الناس وما
__________
(1) في (م): أبي جعفر الأعرج بإسقاط الواو، والصواب ما أثبتناه
من (ط).
وأبو جعفر هو المخزومي، يزيد بن القعقاع المدني القارئ، أحد
القراء العشرة أي ثلاثة بعد السبعة. وهو تابعي مشهور جليل
القدر، ومن رواته نافع أحد السبعة، وكان إمام أهل المدينة في
القراءة فسمي القارئ بذلك، ويقول ابن الجزري في قراءته:
«والعجب ممن يطعن في هذه القراءة أو يجعلها من الشواذ، وهي لم
يكن بينها وبين غيرها من السبع فرق كما بيناه في كتابنا
المنجد» وتوفي سنة 130 هـ في أرجح الأقوال، انظر طبقات القراء
2/ 382.
والأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود المدني الأعرج، وهو
تابعي جليل روى عنه نافع أيضا، ومات بالإسكندرية ودفن بها سنة
117 هـ، انظر طبقات القراء 1/ 381.
(2) هو شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب، إمام ثقة كان مقرئ
المدينة مع أبي جعفر وقاضيها، ومولى أم سلمة أم المؤمنين رضي
الله عنها، وهو أول من ألف في وقوف القرآن وتوفي سنة 130 هـ،
قال الحافظ أبو العلاء: هو من قراء التابعين الذين أدركوا
أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وأدرك أمّي المؤمنين عائشة
وأم سلمة زوجي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعتا الله له أن
يعلمه القرآن.
انظر طبقات القراء 1/ 329. وتهذيب التهذيب 4/ 377.
(3) في (ط): وقال. وأحمد بن يحيى هو أبو العباس أحمد بن يحيى
بن يزيد بن سيار الشيباني بالولاء النحوي المعروف بثعلب، كان
إمام الكوفيين في النحو واللغة على عهد المبرد الذي كان إمام
البصريين وله كتاب في القراءات ومجالس ثعلب وكتاب الفصيح
وغيرها، ولد سنة 200 هـ وتوفي سنة 291 هـ، انظر ابن خلكان رقم
1/ 102، طبقات القراء 1/ 148.
(1/11)
يفضل عليهم كان «ملك» وإذا كان مع غير
الناس كان «مالك».
قال: وقال من احتجّ لمالك، وكره «ملك»: إن أول من قرأ «ملك»
مروان بن الحكم «1» وإنه قد يدخل في الملك ما لا يجوز، ولا يصح
دخوله في الملك، قالوا: وذلك أنه صحيح في الكلام أن يقال: فلان
مالك الدراهم والطير، وغير صحيح أن يقال: فلان ملك الدراهم
والدنانير. قالوا: فالوصف بالملك أعم من الوصف بالملك، والله
سبحانه «2» مالك كل شيء قالوا: والمعنى: أنه يملك الحكم يوم
الدين بين خلقه دون سائر الخلق الذين كانوا يحكمون بينهم في
الدنيا. قالوا: وقد وصف الله سبحانه «3» نفسه بأنّه مالك
الملك، فقال تعالى «4»: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ [آل عمران/ 26]، ولا يقال: هو
ملك الملك، قالوا: فوصفه بالملك. أبلغ في الثناء وأعمّ في
المدح من وصفه بالملك. وقرأها (مالِكِ) من متقدمي القرّاء
قتادة «5» والأعمش «6».
__________
(1) سيأتي رد الفارسي على ذلك قريبا ص 15 - 16.
(2) سقطت كلمة. سبحانه من (ط).
(3) في (ط): عز وجلّ.
(4) سقطت كلمة تعالى من (ط).
(5) هو قتادة بن دعامة السدوسي (60 - 117 هـ)، أبو الخطاب
الأعمى البصري المفسر، أحد الأئمة في حروف القرآن، وله اختيار،
وكان يضرب بحفظه المثل، كما كان خبيرا بالنسب وأيام العرب
والحديث والفقه. وكان يتكلم في القدر وفيه يقول أبو عمرو بن
العلاء: لولا كلامه في القدر لما عدلت به أحدا من أهل دهره،
انظر طبقات القرّاء 2/ 25 وابن خلكان 4/ 85.
(6) هو شيخ الإسلام سليمان بن مهران الأعمش (61 - 148 هـ)، أبو
محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي الإمام الجليل، كان من أقرأ
الناس
(1/12)
وقال أبو عبيد «1» في قوله: ملك يوم الدين
معناه:
الملك يومئذ ليس ملك غيره. ومن قرأ (مالِكِ) أراد: أنه يملك
الدين والحساب لا يليه سواه. قال: وكذلك يروى عن عمر «2».
قال «3» أبو بكر محمد بن السري: الاختيار عندي: «ملك يوم
الدين»، والحجة في ذلك: أن الملك والملك يجمعهما معنى واحد،
ويرجعان إلى أصل، وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين،
أي: شددته. وقال الشاعر:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
«4»
__________
للقرآن، قال الفلاس: كان الأعمش يسمى: المصحف من صدقه، وقرأ
عليه حمزة الزيات، أحد السبعة، وروى عنه أنه قال: إن الله زين
بالقرآن أقواما، وإني ممن زينه الله بالقرآن ولولا ذلك لكان
على عنقي دنّ أطوف به في سكك الكوفة، انظر طبقات القراء 1/
315. وتذكرة الحفاظ 1/ 154 ووفيات الأعيان 2/ 400.
(1) هو القاسم بن سلام، أبو عبيد الخراساني الأنصاري مولاهم
البغدادي الإمام الكبير الحافظ أحد الأعلام المجتهدين، وصاحب
التصانيف في القراءات والحديث والفقه واللغة والشعر، وله
اختيار في القراءة وافق فيه العربية والأثر، وقال فيه الداني:
إمام أهل دهره في جميع العلوم صاحب سنة، ثقة مأمون. توفي بمكة
224 هـ، انظر طبقات القراء 2/ 18. وتذكرة الحفاظ 2/ 417 وابن
خلكان 4/ 60 ونزهة الألباء ص 136.
(2) نقل أبو حيان أنه قرأ: مالك على وزن فاعل بالخفض عاصم
والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة
والزبير وقراءة كثير من الصحابة. كما نقل عن عمر بن عبد العزيز
أنه قرأ مالك على وزن فاعل أيضا ولكن بنصب الكاف. البحر 1/ 20.
(3) في (ط): قال أبو علي قال أبو بكر.
(4) البيت لقيس بن الخطيم الأوسي من قصيدة أولها:
(1/13)
يصف طعنة، يقول: شددت بها كفي. والإملاك من
هذا، إنما هو رباط الرجل بالمرأة، وكلام العرب بعضه مأخوذ من
بعض، فقد يكون الأصل واحدا ثم يخالف بالأبنية، فيلزم كل بناء
ضربا من ذلك الجنس، مثال ذلك العدل، يشتقّ منه:
العدل والعديل، فالعدل: ما كان متاعا، والعديل: الإنسان،
والأصل إنما هو العدل. وكذلك ملك، ومالك «1» فالملك الذي يملك
الكثير من الأشياء: ويشارك غيره من الناس، بأنه يشاركه في ملكه
بالحكم عليه فيه، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك،
ويسوسه به، ويجتمع مع ذلك أن الملك يملك على الناس أمورهم في
أنفسهم، وجميع متصرّفاتهم، فلا يستحق اسم الملك حتى يجتمع له
ملك هذا كله، فكل ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا.
وأما قوله تعالى: «2» مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران/ 26] فإنّ
الله سبحانه «3» يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، وإنّما تأويل
ذلك: أنّه يملك ملك الدنيا، فيؤتي الملك من يشاء. فأمّا يوم
الدين فليس إلّا ملكه، وهو ملك الملوك جلّ وعزّ يملكهم كلّهم،
وقد يستعمل هذا في الناس، فيقال: فلان ملك الملوك
__________
تذكّر ليلى حسنها وصفاءها ... وبانت فأمسى ما ينال لقاءها
والمعنى: أنه شد كفه بهذه الطعنة فأنهر، أي: وسع، فتقها، بحيث
يرى المرء من خلال هذه الطعنة ما وراء المطعون بها. انظر
ديوانه ص 8 والمعاني الكبير ص 978 والخزانة 3/ 168.
(1) في (ط): فكذلك مالك وملك.
(2) في (ط): عزّ وجلّ.
(3) في (ط): عزّ وجلّ.
(1/14)
وأمير الأمراء، يراد بذلك: أن من دونه
ملوكا وأمراء فيقال:
ملك الملوك وأمير الأمراء، ولا يقال: ملك الملك، ولا أمير
الإمارة، لأنّ أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، فلا معنى
لإضافتها إلى المصدر، فأمّا «1» إضافة ملك إلى الزمان فكما
يقال: ملك عام كذا، وملوك سنيّ كذا، وملوك الدهر الأوّل، وملك
زمانه، وسيّد زمانه، وهو في المدح أبلغ. والآية إنما نزلت
بالثناء والمدح لله سبحانه «2» والصفة له، ألا ترى قوله
[تعالى] «3»: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ،
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة/ 1 - 2]؟ فالربوبية والملك
متشابهان.
قال: وللمختار لمالك أن يقول: قرأت: (مالِكِ) لأنّ المعنى:
يملك يوم الدين، وهو يوم الجزاء، ولا يملك ذلك اليوم أن يأتي
به ولا سائر الأيام غير الله سبحانه «4»، وهذا ما لا يشاركه
فيه مخلوق في لفظ ولا معنى. فيقال: هذا الذي قلت حسن، ولولا
هذا المعنى وما يؤيّده ما جازت القراءة به، ولا بدّ للمعاني من
أن تتقارب، والملك في ذلك اليوم أيضا لا يكون إلا لله تعالى
«5»، فهو متفرد «6» بهذا الوصف، ويقوّي ذلك قوله: لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ «7» [غافر/ 16] وقوله: وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/ 19].
فإن احتجّ المختار لمالك بما روي من أنّ أوّل من قرأ
__________
(1) في (ط): وأما.
(2) في (ط): تعالى في مكان سبحانه.
(3) زيادة من (ط).
(4) «سبحانه» ليست في (ط).
(5) سقطت من (ط).
(6) في م «منفرد».
(7) في (ط): «لمن الملك اليوم لله».
(1/15)
«ملك» مروان بن الحكم، احتجّ عليه من
الأخبار بما يبطل ذلك، ولعل القائل لذلك أراد: أنّ «1» أول من
قرأ في ذلك العصر، أو من ضربه، لأنّ القراءة بذلك أعرض وأوسع
من ذلك بحسب ما انتهى إلينا. انتهت الحكاية عن أبي بكر «2».
قال أبو عليّ [الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار رضي الله عنه]
«3»: قال أبو الحسن الأخفش فيما روى محمد بن العباس عن عمه
عنه: يقال: ملك بيّن الملك، الميم مضمومة.
وتقول: مالك بيّن الملك والملك، بفتح الميم وكسرها.
وزعموا أن ضمّ الميم لغة في هذا المعنى.
وروى بعض رواة البغداذيين: يقال: طالت مملكتهم الناس ومملكتهم
«4» وطال ملكه وملكه إذا طال رقّه. وأعطاني من ملكه وملكه، وهو
ما يقدر عليه، ولي في هذا الوادي ملك وملك وملك. ويقال: نحن
عبيد مملكة، ولسنا بعبيد قنّ، أي:
سبينا، لم نملك في الأصل.
وقال أبو عثمان «5»: شهدنا إملاك فلان، وملكه، ولا يقال:
ملاكه.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) أي: ابن السراج المتقدم في ص 9.
(3) ما بين معقوفين لم يرد في (ط).
(4) اللسان (ملك) وفيه: الأخيرة نادرة لأن مفعلا ومفعلة قلما
يكونان مصدرا.
(5) هو أبو عثمان المازني بكر بن محمد بن بقية، أو ابن عدي بن
حبيب، الإمام النحوي البصري أستاذ المبرد، وقال المبرد: لم يكن
بعد سيبويه أعلم بالنحو من أبي عثمان. توفي سنة 248 هـ، انظر
بغية الوعاة 1/ 463.
(1/16)
وقال غيره:
ملكت بها كفي «1» ...
أي: شددت، وملكت العجين، أي: شددت عجنه.
قال أبو علي: وإملاك المرأة إنما هو العقد عليها، وقيل:
إملاك، كما قيل: عقدة النكاح، والملك للشيء: اختصاص من المالك
به، وخروجه عن أن يكون مباحا لغيره، ومعنى الإباحة في الشيء
كالاتساع فيه، وخلاف الحصر له، والقصر على شيء. ألا تراهم
قالوا: باح السرّ، وباحة الدار؟ وقال أوس بن حجر «2»:
فملّك بالليط الذي تحت قشرها ... كغرقيء بيض كنّه القيض من عل
ملّك أي «3»: شدّد أي: ترك شيئا من القشر على قلبها يتمالك «4»
به ويكنّها، لئلا يبدو قلب القوس فتنشق.
قال أبو علي «5»: وينبغي أن يكون موضع الذي: نصبا، بأنّه مفعول
به لملّك، ولا يكون جرّا على أنّه وصف لليط، لأنّ
__________
(1) هذا لقيس بن الخطيم. وقد سبق ص 13.
(2) ديوانه ص 97 وشرح أبيات المغني 3/ 359، 374، واللسان (ليط)
و (ملك).
يصف قوسا، والليط بكسر اللام: القشر، والغرقئ كزبرج: القشرة
الرقيقة فوق بياض البيض، والقيض: القشرة اليابسة العليا، أي:
أن القواس حين قشر عود القوس لم يستأصل قشره، بل أبقى الليط
الملتزق بالقشرة ليقويه بذلك ويملّكه، من ملكه إذا قواه، ديوان
أوس/ 97.
(3) سقطت «أي» من (ط).
(4) في (ط): تتمالك.
(5) سقطت: أبو علي من (ط).
(1/17)
الليط فوق القلب، ليس تحته، والمعنى: فملّك
بالقشر الذي فوق القلب الذي تحت القشرة «1» ليصون القشر القلب
فلا ينشقّ، ألا ترى أنّهم قالوا: إذا لم يكن عليها القشر
صنعوها عقبة «2».
قال أبو علي: فكأن العقب يصون القلب كما يصونها بترك القشر
عليه، ويدلّ على ذلك تشبيهه بالقيض والغرقئ.
قال أبو علي «3»: وأمّا ما حكاه أبو بكر عن بعض من اختار
القراءة بملك، من أنّ الله سبحانه قد وصف نفسه بأنّه مالك كلّ
شيء بقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ فلا فائدة في تكرير ذكر ما قد
مضى، فإنّه لا يرجّح قراءة ملك على مالك، لأنّ في التنزيل
أشياء على هذه الصورة قد تقدّمها العامّ، وذكر بعد العامّ
الخاصّ، كقوله «4» [عزّ وجلّ]: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الَّذِي خَلَقَ [العلق/ 1] [ثم قال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ
عَلَقٍ] «5» [العلق/ 2]. فالذي: وصف للمضاف إليه «6» دون الأول
المضاف لأنه كقوله: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر/
24] ثم خصّ ذكر الإنسان تنبيها على تأمل ما فيه من إتقان
الصنعة، ووجوه الحكمة، كما قال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ [الذاريات/ 21] وقال: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ
عَلَقٍ [العلق/ 2]
__________
(1) في (ط): القشر. والذي الأولى في موضع جر صفة، والثانية:
نصب مفعول به.
(2) العقبة: (بالتحريك) واحدة العقب (بالتحريك أيضا)، والعقب:
هو العصب الذي تعمل منه الأوتار.
(3) سقطت عبارة: «قال أبو علي» من (ط).
(4) زيادة من (ط).
(5) ما بين المعقوفين سقط من (ط).
(6) وهو رب الذي هو مضاف أيضا.
(1/18)
وكقوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
[البقرة/ 4] بعد قوله «1»: [عزّ وجلّ]: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ [البقرة/ 3] والغيب يعمّ الآخرة، وغيرها، فخصّوا
بالمدح بعلم ذلك والتيقن له، تفضيلا لهم على الكفار المنكرين
لها، في قولهم: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ/ 3]. وكقولهم «2»: ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية/ 32]،
وكقولهم:
ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا
[الجاثية/ 24] وكذلك قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ الرحمن أبلغ من الرحيم، بدلالة أنه لا يوصف به إلا
الله سبحانه «3». وذكر الرحيم بعده لتخصيص المسلمين به في قوله
تعالى «4»: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب/ 43]
فكما ذكرت هذه الأمور الخاصّة بعد الأشياء العامّة لها
ولغيرها، كذلك «5» يكون قوله مالك يوم الدين، فيمن قرأها
بالألف بعد قوله: الحمد لله رب العالمين.
وممّا يشهد لمن قرأ: (مالِكِ) من التنزيل قوله تعالى «6»:
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار/ 19] لأن قولك:
الأمر له، وهو مالك الأمر بمعنى. ألا ترى أن لام الجر معناها:
الملك والاستحقاق، وكذلك قوله [عزّ وجلّ] «7»: يَوْمَ لا
تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار/ 19] يقوّي ذلك؟
والتقدير: مالك يوم الدين من الأحكام ما لا تملكه نفس
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في (ط): وكقوله.
(3) في (ط): عزّ وجلّ.
(4) في (ط): عزّ وجلّ.
(5) في (ط): وكذلك.
(6) في (ط): سقطت كلمة: تعالى.
(7) زيادة من (ط).
(1/19)
لنفس. ففي هذا دلالة وتقوية لقراءة من قرأ:
(مالك). وإن كان قوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر/ 66]
أوضح دلالة. على قراءة من قرأ: ملك، من حيث كان اسم الفاعل من
الملك: الملك «1» فإذا قال: الملك له ذلك اليوم، كان بمنزلة:
هو ملك ذلك اليوم. هذا مع قوله: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ
الْحَقُّ [طه/ 114] والْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر/ 23]
ومَلِكِ النَّاسِ [الناس/ 2].
واعلم أن الإضافة إلى يوم الدين في كلتا القراءتين من باب:
يا سارق الليلة أهل الدار «2» اتّسع في الظرف فنصب نصب المفعول
به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحدّ، وليس إضافة اسم
الفاعل هاهنا إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة في قوله:
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [الزخرف/ 85]، لأن الساعة مفعول
بها على الحقيقة، وليس على أن جعل الظرف مفعولا به «3» على
السعة.
ألا ترى أن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه متّسعا فيه
معنى الظرف؟ فلو جعلته ظرفا لكان المعنى: يعلم في الساعة، فلم
يكن بالسهل، لأنّ القديم- سبحانه- يعلم في كل وقت، فإنّما معنى
يعلم الساعة: يعرفها، وهي حقّ، وليس
__________
(1) هذا نظير قول الزجاج والنحاس في تفسير «حرج» من قوله
تعالى: «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» على أنه اسم
فاعل. انظر القرطبي 7/ 82.
(2) رجز مجهول القائل وهو من شواهد سيبويه 1/ 89، والزمخشري
وشرح المفصل انظر ابن يعيش: 2/ 45، 46.
(3) سقطت كلمة: «به» من (ط).
(1/20)
الأمر على ما الكفار عليه من إنكارها
وردّها. وإذا كان كذلك فمن نصب: وَقِيلِهِ يا رَبِّ «1»
[الزخرف/ 88] جاز أن يكون حاملا له على المعنى، وموضع الساعة
«2»، لأن الاسم منصوب في المعنى بأنه مفعول به. وكذلك قوله:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ «3» [لقمان/ 34]،
وهذا كقوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا
مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة/ 65] وإذا كان كذلك، فالظرف في
قوله: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف/ 187]
وإِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف/ 187] لا يكون
متعلقا بمحذوف إلّا أن تجعله في موضع حال. ومما يمكن أن يكون
انتصابه على أنّه مفعول به على الاتساع وكان في الأصل ظرفا،
قوله «4»: (أَيَّاماً) في قوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة/ 183] فالعامل
__________
(1) وتمامها: «وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا
يُؤْمِنُونَ»، وفي الآيات قبل ذلك:
«وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ»، فقرأ عاصم وحمزة بجر «قِيلِهِ» على أنه معطوف
على الساعة في قوله: «عِلْمُ السَّاعَةِ»، وقرأ الباقون بالنصب
عطفا على محل الساعة التي هي مفعول في المعنى للمصدر، أي: يعلم
الساعة ويعلم قيله، والضمير في قيله يعود إلى محمد صلّى الله
عليه وسلّم. انظر البحر 8/ 30 والنشر 2/ 370.
(2) فمعنى موضع الساعة على ما سبق أنه محمول، أي معطوف على محل
الساعة بالنصب.
(3) قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ). زيادة من
(م).
(4) زاد في (ط): عز وجل، وقد خطأه في هذا الرأي أبو حيان، لأن
الكتابة ليست واقعة في الأيام، والصحيح أن أياما ظرف متعلق
بصوموا مقدرا بدلالة ما قبله، انظر البحر المحيط: 2/ 31.
(1/21)
في الأيام (كتب)، تقديره: كتب عليكم الصيام
أياما معدودات.
أي: في أيام [معدودات] «1».
وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به فتقول على هذا: يا مكتوب
أيام عليه، ولا يستقيم أن ينتصب أيام بالصيام على أن يكون
المعنى: كتب عليكم الصيام في أيام، لأنّ ذلك، وإن كان مستقيما
في المعنى فهو في اللفظ ليس كذلك، ألا ترى أنّك إن حملته على
ذلك فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي منهما! وذلك أن أياما
تصير من صلة الصيام، وقد فصلت بينهما بمصدر: كتب، لأنّ
التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم،
فالكاف في (كما) متعلقة بكتب، وقد فصلت بها بين المصدر وصلته،
وليس من واحد منهما. فإن قلت: أضمر (الصِّيامُ) لتقدّم ذكر
المتقدم عليه، كأنّه صيام أيّاما، فإنّ ذلك لا يستقيم، لأنّك
لا تحذف بعض الاسم، ألا ترى أنّه قد قال «2»: في قوله:
لعمر أبيك إلا الفرقدان «3»
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) أي: سيبويه، وما نقله الفارسي مستفاد من كلام سيبويه في
هذا الموطن ونص عبارته: «ولا يجوز رفع زيد- (في مثال تقدم عنده
وهو قوله: «ما أتاني أحد إلا زيد») - على: إلا أن يكون، لأنك
لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه لأنّ «أن» يكون اسما».
(3) صدر البيت: «وكلّ أخ مفارقه أخوه» وهو من قصيدة من الوافر
لحضرمي بن عامر الأسدي، وقيل: لعمرو بن معديكرب، الزبيدي،
وكلاهما صحابي. وذكره البغدادي في خزانة الأدب مع أبيات، انظر
الخزانة 2/ 52 وما بعدها. وشرح أبيات المغني له 2/ 105 - 108 و
4/ 293 وشعر عمرو ص 167.
(1/22)
إنه لا يكون على: إلا أن يكون الفرقدان،
لحذفك الموصول، فكذلك الآية. فأما قوله [عزّ وجلّ] «1»:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة/ 197] فإنّه يكون
على: أشهر الحجّ أشهر
معلومات، ليكون الثاني الأوّل في المعنى، ومعنى معلومات: أي
أشهر مؤقتة معيّنة لا يجوز فيها ما كان يفعله أهل الجاهليّة من
التبديل بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلهما النّسأة الذين
أنزل فيهم: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ،
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً) إلى
قوله: (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ) [التوبة/ 37] أو يكون:
الحجّ حجّ أشهر معلومات، أي: لا حجّ إلا في هذه الأشهر، ولا
يجوز في غيرها، ولا يجزئ كما كان أهل الجاهلية يستجيزونه في
غيرها من الأشهر. فالأشهر على هذا متّسع فيها مخرّجة عن
الظروف، والمعنى على ذلك، ألا ترى أن الحجّ في الأشهر: كما أن
الموعد في قوله: (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه/ 59] في
اليوم إلّا أنّه اتّسع فيه فجعل الأول لمّا كان فيه، كما فعل
ذلك في قوله «يوم الزينة».
وإن قلت: موعدكم موعد يوم الزينة، فقد أخرجته أيضا على هذا
التقدير عن أن يكون ظرفا، لأنك قد أضفت إليه، والإضافة إليه
تخرجه عن أن يكون ظرفا، كما أن رفعه كذلك.
ويدلّك على تأكد خروجه عن الظرف عطفك عليه ما لا يكون ظرفا،
وهو قوله: (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه/ 59]، ولو
نصبت اليوم على أنّه ظرف وأضمرت مبتدأ يكون قوله: (وَأَنْ
يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) خبرا له كأنّه قال: وموعدكم
__________
(1) زيادة من (ط).
(1/23)
أن يحشر الناس ضحى- لكان ذلك مستقيما في
قياس العربية.
وقد يجوز أن تجعل الحجّ: الأشهر على الاتساع، لكونه فيها
وكثرته من الفاعلين له، كما جعلتها الخنساء الإقبال والإدبار
لكثرتهما منها «1»، وكما قال «2»:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
ألا ترى أنّه جعل دهره الجزع. فإن قلت: إن ذات الإقبال
والإدبار فاعلة في المعنى، وليس الأشهر كذلك إنّما هي مفعول
فيها. فإنّ الأشهر بمنزلة الدهر في قوله: ولا جزع، أي:
وما دهري بجزع. فكما أجاز سيبويه ذلك في الدهر فكذلك
__________
(1) الضمير في جعلتها، للناقة، وكذلك في قوله: منها، وهو يشير
إلى بيت للخنساء من قصيدة لها في رثاء أخيها صخر، وتمام البيت
في سياقه من الشعر (ديوانها ص 50)
وما عجول على بوّ تحن له ... لها حنينان، إعلان وإسرار
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنّما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر، وللعيش إحلاء وإمرار
والعجول بالفتح الواله التي فقدت ولدها من النساء والإبل،
لعجلتها في جيئتها وذهابها، والبوّ على وزن جو: هو الحوار
كغراب، أي: ولد الناقة ساعة تضعه، أو إلى أن يفصل عن أمه، وهو
أيضا جلد الحوار يحشى تبنا أو نحوه لتعطف عليه الناقة إذا مات
ولدها، وهذا هو المراد هنا، انظر رغبة الآمل: 8/ 185 وما
بعدها.
(2) هو متمم بن نويرة اليربوعي الصحابي، والبيت أول قصيدة له
في رثاء مالك، الذي قتله ضرار بن الأزور الأسدي في حرب الردة
بأمر خالد بن الوليد، انظر القصيدة في المفضليات: برقم 67
والبيت من شواهد سيبويه 1/ 169 قال الأعلم: يقول: لا أرثي بعده
هالكا أو لا أبكي عليه، ولا أجزع من شيء يصيبني بعده، والتأبين
مدح الرجل ميتا، والتقريظ مدحه حيا.
(1/24)
يجوز في الأشهر في الآية، وإذا جاز ذلك في
الفاعل جاز في المفعول به، وفي الظرف، إذا جعل في الاتساع
مفعولا به، ألا ترى أنّ المصدر لمّا أضيف إلى الفاعل أضيف إلى
المفعول به أيضا في نحو [قوله تعالى] «1» مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ [فصلت/ 49] وبني الفعل للمفعول به كما بني للفاعل،
واختصّ المفعول به بأبنية قصرت عليه، نحو: وضع في تجارته «2»،
كما كان للفاعل أفعال لا تتعدّى إلى المفعول به، فكذلك إذا
اتسع في هذا النحو في الفاعل يتّسع في المفعول به، وما أجري
مجراه من الظروف. فأمّا قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) «3» [الأنعام/ 124]. فالقول في العامل في
«حيث» أنّه لا يخلو من أن يكون «أعلم» هذه المذكورة أو غيرها.
وإن عمل «أعلم» فيه فلا يخلو من أن يكون ظرفا، أو غير ظرف. فلا
يجوز أن يكون العامل فيه أعلم، على حسب ما عمل أحوج في ساعة في
قوله «4»:
فإنّا وجدنا العرض أحوج ساعة
__________
(1) «قوله» زيادة من (ط) و «تعالى» زيادة على الأصل.
(2) بصيغة المجهول، وفي القاموس (وضع): وضع في تجارته ضعة وضعة
ومضيعة، كعني: خسر فيها.
(3) قال أبو حيان في البحر 4/ 217: وقرأ ابن كثير وحفص
«رسالته» بالتوحيد، وباقي السبعة على الجمع.
(4) صدر بيت لأوس بن حجر، عجزه كما في الديوان ص 121:
إلى الصّون من ريط يمان مسهم وهو من قصيدة طويلة، والمعنى: أن
عرض المرء أحوج إلى الصون والحفظ من ملاءة يمانية مخططة.
والبيت من شواهد الرضي، انظر الخزانة 3/ 494.
(1/25)
لأنّ المعنى يصير: أعلم في هذا الموضع أو
هذا الوقت، ولا يوصف الله «1» بأنّه أعلم في مواضع أو أوقات،
كما تقول:
زيد أعلم في مكان كذا منه في مكان كذا، أو زمان كذا، فإذا كان
كذلك لم يجز أن يكون العامل «أعلم» هذه وإذا لم يجز أن يكون
إيّاه كان فعلا يدلّ عليه أعلم، وإذا لم يجز أن يكون «حيث»
ظرفا لما ذكرناه، كان اسما، وكان انتصابه انتصاب المفعول به
على الاتساع كما يكون ذلك في كم ومتى ونحوهما «2»، ويقوّي ذلك
دخول الجار عليها.
وقد حكى بعض البصريين فيها الإعراب، وكان الأصل: الله أعلم
بمواضع رسالاته، ثم حذف الحرف، كما قال: أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ «3» [النحل/ 125] وفي موضع آخر: أَعْلَمُ مَنْ
يَضِلُّ [الانعام/ 117] ف «من يضل» معمول فعل مضمر دلّ عليه
أعلم، ولا يجوز أن يكون معمول أعلم، لأن المعاني لا تعمل في
مواضع الاستفهام ونحوه، إنما تعمل فيها الأفعال التي تلغى،
فتعلّق كما تلغى. ومثل ذلك- في أنّه لا يكون إلا محمولا على
فعل- ما أنشده أبو زيد «4»:
__________
(1) في (ط) زيادة: عزّ وجلّ.
(2) في (ط): كم ونحوها.
(3) «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ
سَبِيلِهِ» في الآيات 125 من سورة النحل، 30 من سورة النجم، 7
من سورة القلم، وفي الأصل: بمن يضل عن سبيله، وهو سهو من
الناسخ.
(4) هو أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت الخزرجي الأنصاري، كان
إماما نحويا صاحب تصانيف أدبية ولغوية، وغلبت عليه اللغة
والنوادر والغريب، وهو
(1/26)
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا «1» فالقوانس
على مضمر دون أضرب الظاهر، لأنّ المعاني لا تعمل في المفعول به
وكان القياس ألّا تعمل في الحال.
ولا يجوز أن يكون موضع (من) في قوله: أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ
[الأنعام/ 117] جرّا لأن أفعل لا يضاف إلّا إلى ما هو بعض له،
وليس ربّنا من المضلّين عن سبيله، فيضاف إليهم، فإذا لم يجز أن
يكون جرّا، كان نصبا، كالقوانس في البيت.
وممّا يستقيم أن يكون انتصابه انتصاب المفعول به على السعة «2»
قوله تعالى «3»: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا
لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ
[القصص/ 42]. يحتمل أن يكون: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة،
ولعنة يوم القيامة،
__________
الذي يعنيه سيبويه حين يقول: «أخبرني الثقة» توفي سنة 215 هـ
انظر بغية الوعاة للسيوطي: 1/ 583.
(1) عجز بيت للعباس بن مرداس الصحابي، وصدره في سياقه من
الشعر:
فلم أر مثل الحيّ حيّا مصبّحا ... ولا مثلنا يوم التقينا
فوارسا
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منّا بالسيوف القوانسا
مصبحا: بصيغة المفعول أي: مغزوا في وقت الصباح، والحقيقة: ما
يجب على المرء الدفاع عنه، والقوانس جمع قونس كجعفر: أعلى
البيضة، والبيضة قلنسوة من حديد تلبس لحماية الرأس في الحرب
والبيت من إحدى المنصفات، وهي قصائد قد انصف قائلوها أعداءهم،
قال ابن جني في إعراب الحماسة: القوانس عندنا منصوب بفعل مضمر
يدل عليه أضرب، أي: ضربنا، أو نضرب القوانس. انظر شرح أبيات
المغني للبغدادي 7/ 292 والمنصفات ص 61 - 72. وخزانة الأدب: 3/
517 ونوادر أبي زيد/ 59.
(2) على السعة سقطت من (ط).
(3) في (ط) عز وجل.
(1/27)
فحذف المصدر وأقام يوما مقامه، فانتصب
انتصاب المفعول به، كما أنه لو لم يحذف المصدر وأضيف إلى اليوم
كان كذلك.
ويجوز فيه ثلاثة أضرب أخر:
أحدها: أن يكون محمولا على موضع «في هذه الحياة «1» الدنيا»
كما قال:
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا «2» ويشهد لذلك وللوجه الذي
قبله قوله في أخرى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
[النور/ 23] وقوله: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود/ 99] ويكون
قوله: (هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) جملة استغني عن حرف العطف
فيها بالذكر «3» الذي تضمنت ممّا «4» في الأولى، كما استغني
عنه بذلك في قوله: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف/ 22]
ولو كانت فيها «5» الواو لكان ذلك حسنا، كما قال تعالى:
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف/ 22].
__________
(1) الذي في الآية: في هذه الدنيا، ولكنه أظهر الموصوف المقدر.
(2) عجز بيت لكعب بن جعيل، وصدره:
ألا حيّ ندماني عمير بن عامر واستشهد به سيبويه في الكتاب: 1/
35. قال الأعلم: استشهد به على حمل غد على موضع اليوم لأن
معنى: تلاقينا من اليوم، وتلاقينا اليوم، واحد.
(3) يريد بالذكر الضمير.
(4) سقطت «مما» من (ط).
(5) سقطت فيها من (ط).
(1/28)
ويجوز أن يكون العامل فيه من المقبوحين،
لأنّ فيه معنى فعل، وإن كان الظرف متقدّما كما أجاز: «1» أكلّ
«2» يوم لك ثوب؟.
ويجوز أن يكون العامل فيه مضمرا يدل عليه قوله: (مِنَ
الْمَقْبُوحِينَ) كقوله: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا
بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ «3» [الفرقان/ 22]. ومن ذلك
قوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف/ 8] إن جعلت
الظرف من صلة المصدر جاز أن تنصبه نصب المفعول به، كقولك:
الوزن الدراهم حقّ، ويكون الحقّ على هذا خبر المبتدأ وإن جعلت
يومئذ خبر المصدر، لأنّ الوزن حدث، فيكون ظرف الزمان خبرا عنه
تعلّق بمحذوف.
وجاز «4» أن ينتصب انتصاب الظروف دون المفعول به.
ألا ترى أن المفعول به لا تعمل فيه المعاني؟ ويكون الحقّ على
هذا صفة للوزن، ويجوز أن يكون بدلا من الذكر المرفوع الذي في
الخبر. ولو قدمت (الْحَقُّ) في الوجه الثاني على (يَوْمَئِذٍ)
لاستقام، ولو قدمته عليه في الوجه الأول لم يجز
__________
(1) الضمير في أجاز يعود على سيبويه، غير أن مثاله: أكلّ يوم
ثوب تلبسه، وهو في غير ما ورد هنا. انظر الكتاب 1/ 65.
(2) في (ط): كل يوم.
(3) انظر البحر المحيط: 6/ 492 فقد فصل في إعرابها.
(4) سقطت الواو من (ط).
(1/29)
للفصل بين الصلة والموصول بصفة الموصول
«1».
وأمّا قوله (تعالى) «2»: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ [الفرقان/ 26] فيكون يومئذ من صلة المصدر كما كان
في التي قبلها، والحق صفة والظرف «3» الخبر. ويجوز أن يكون
يومئذ معمول الظرف وإن تقدّم عليه، فلا يتصل على هذا بالمصدر،
وكذلك قوله: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف/
44] يكون هنالك مستقرّا «4» فيكون قولك: (لِلَّهِ) حالا من
الولاية ومن الذكر الذي في هنالك، في قوله سيبويه وعلى «5» قول
أبي الحسن، ومن رفع بالظرف، من الولاية فقط «6» ويكون لله
مستقرّا، وهنالك ظرفا متعلقا بالمستقر، ومعمولا له، فأمّا قول
الشاعر:
حميت عليه الدّرع حتى وجهه ... من حرّها يوم الكريهة أسفع
«7»
__________
(1) في (ط) زيادة: «كذا قرئ عليه، وينبغي أن يكون للفصل بين
الصلة والموصول بالخبر لأن الحق في الوجه الأول خبر لا صفة».
(2) زيادة في (م).
(3) أراد بالظرف الجار والمجرور (للرحمن).
(4) بصيغة اسم المفعول على سبيل الحذف والإيصال، والأصل مستقرا
فيه، لاستقرار ضمير العامل فيه، وأراد بكونه مستقرا أنه متعلق
بمحذوف هو الخبر المقدم.
(5) في (ط) زيادة كلمة (من) بعد على.
(6) أي فيكون لفظ «الولاية» حينئذ مرفوعا بالجار والمجرور على
أنه فاعل له أو لمتعلقه عند الكوفيين وأبي الحسن الأخفش.
(7) من قصيدة أبي ذؤيب الهذلي في رثاء بنيه وقبله:
والدهر لا يبقى على حدثانه ... مستشعر حلق الحديد مقنّع
مستشعر حلق الحديد، أي جاعلها شعارا له لطول ما يلبس الدرع،
ومقنع
(1/30)
فإن جعلت «يوم الكريهة» ظرفا لأسفع لم «1»
ينتصب انتصاب المفعول به، وإن جعلته منتصبا بالمصدر جاز فيه ما
جاز في قوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف/ 8] من
الانتصاب على الظّرف، على أنه مفعول به على الاتّساع.
ألا ترى أن الفعل المتعدّي كالفعل غير المتعدي في جواز نصب
الظرف بعده نصب المفعول به؟ فكذلك مصادرهما، وكذلك إن جعلت
قوله: يوم الكريهة، ظرفا لحميت. وممّا لا يكون إلا ظرفا قوله
تعالى «2»: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ
فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت/ 19] ألا ترى أنه ليس في هذا الكلام
فعل ظاهر يجوز أن يتعلّق الظرف به؟
وإذا «3» كان كذلك تعلّق بما دلّ عليه قوله: فَهُمْ
يُوزَعُونَ.
- كما أن قوله: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ «4» [المؤمنون/ 82] الظرف فيه كذلك،
فكذلك «5» قوله: يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ/ 7]- لأن الظرف
من حيث كان مستقبلا كان بمنزلة إذا، ومن ثم أجيب بالفاء، كما
يجاب إذا بها.
__________
أي: على رأسه مغفر، وهو زرد ينسج على قدر الرأس يلبسه تحت
القلنسوة في الحرب، وحميت عليه الدرع، يروى صدئت، يريد أن
الدرع صدئت واحترقت من طول ما يلبسها فوجهه أسفع، أي أسود من
حرها وصدئها. انظر ديوان الهذليين 1/ 15 - 16 وشرح أشعارهم
للسكري 1/ 33.
(1) زاد في (ط) يكن.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): فإذا.
(4) في الآيات 82 من سورة المؤمنون، 16 من سورة الصافات، 47 من
سورة الواقعة.
(5) سقطت «فكذلك» من (ط).
(1/31)
وأمّا قوله سبحانه «1»: يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ [الإسراء/ 71] فقد يكون «2» مثل الذي تقدمت «3».
ألا ترى أن قوله: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنا تَفْضِيلًا [الإسراء/ 70] ماض كما أن قوله:
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [فصلت/
18] كذلك. و (ندعو) مستقبل كما أن (يحشر أعداء الله) كذلك؟
فتجعل الظرف بمنزلة إذا، كما جعلته ثمّ بمنزلته، فيصير
التقدير: إذا دعي كل أناس بإمامهم لم يظلموا أو عدل عليهم
ونحوه.
فأمّا الباء في قوله: (بِإِمامِهِمْ) فيكون على ضربين:
أحدهما أن تكون متعلّقة بالفعل الذي هو: (نَدْعُوا) في موضع
المفعول الثاني كأنّه: كل أناس بشيعة إمامهم، يدلّ على هذا
قوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ
أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر/ 46] وعلى هذا فسّره ابن عباس فيما
روي، فقال:
برئيسهم «4».
وتكون متعلّقة بمحذوف في موضع الحال كأنّه: ندعو كلّ أناس
مختلطين بإمامهم، أي: يدعون وإمامهم فيهم، نحو:
__________
(1) زيادة في (م).
(2) في (ط): تكون.
(3) في (ط): التي تقدمت.
(4) في تفسير ابن عباس الدر المنثور 3/ 150: «يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» نبيهم، ويقال بكتابهم ويقال
بداعيهم إلى الهدى وإلى الضلالة.
وروى الطبري عن ابن عباس قال: الإمام: ما عمل وأملى، فكتب
عليه. انظر 15/ 126، والقرطبي 10/ 296.
(1/32)
ركب بثيابه، وجاء في جنوده، فيكون الدعاء
على هذا الوجه متعدّيا إلى مفعول واحد خلاف الوجه الأول.
ويقوّي هذا قوله «1»: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً [الزمر/ 71] وقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات/ 22] وروي عن الحسن «2»:
بإمامهم أي: بكتابهم الذي فيه أعمالهم «3»، فيكون التقدير على
هذا في قوله: بإمامهم، أي:
معهم كتابهم.
ومن ذلك قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر/ 8]. القول فيه أن (ذلك)
إشارة إلى النقر، كأنّه قال: فذلك النقر يومئذ يوم عسير، أي:
نقر يوم عسير، فقوله: يومئذ، على هذا متعلق بذلك، لأنّه في
المعنى مصدر، وفيه «4» معنى الفعل، فلا يمتنع أن يعمل في الظرف
كما عمل في الحال.
ويجوز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) ظرفا لقوله (يَوْمٌ)، ويكون يومئذ
بمنزلة حينئذ، ولا يكون اليوم الذي يعنى به وضح النهار، ويكون
اليوم الموصوف بأنّه عسير خلاف الليلة، فيكون التقدير:
__________
(1) زيادة في (ط).
(2) هو أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، إمام زمانه علما وعملا،
قال فيه الشافعي: لو أشاء أقول: إن القرآن نزل بلغة الحسن
لقلت، لفصاحته.
ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه سنة 21 هـ وتوفي
سنة 110 هـ، انظر طبقات القراء: 1/ 235.
(3) انظر تفسير الطبري 15/ 127 والقرطبي 10/ 296.
(4) في (ط): فيه.
(1/33)
فذلك اليوم يوم عسير حينئذ، أي: ذلك اليوم
يوم في ذلك الحين، فيكون متعلقا بمحذوف، ولا يتعلق بعسير، لأن
ما قبل الموصوف لا تعمل فيه الصفة. فأما (إذا) في قوله: فَإِذا
نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فالعامل فيه المعنى الذي دل عليه قوله:
يَوْمٌ عَسِيرٌ، تقديره: إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب
كما أن لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ «1» [الفرقان/ 22] يدل على
يحزنون.
فأمّا من قرأ: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة/ 4] فأضاف اسم
الفاعل إلى الظرف، فإنّه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة
عليه، وإن هذا المحذوف قد جاء مثبتا في قوله: يَوْمَ لا
تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار/ 19] فتقديره:
مالك يوم الدين الأحكام. وحسن هذا الاختصاص لتفرّد القديم «2»
سبحانه «3» في ذلك اليوم بالحكم. فأما في الدنيا فإنه يحكم
فيها «4» الولاة، والقضاة، والفقهاء.
وحذف المفعول على هذا النحو كثير واسع في التنزيل وغيره، ومثل
هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة/ 185]،
فالشهر ينتصب على أنّه ظرف، وليس بمفعول به، يدلك على ذلك أنه
لا يخلو من أن يكون ظرفا أو مفعولا به، فلو كان مفعولا به للزم
الصيام المسافر، كما لزم المقيم من حيث شهد المسافر
__________
(1) في (ط) زيادة: للمجرمين.
(2) في (ط): التقديم، وهو تصحيف ظاهر.
(3) زيادة في (م).
(4) في (ط): فيها أيضا.
(1/34)
الشهر شهادة المقيم إيّاه، فلمّا لم يلزم
المسافر علمت أن المعنى: فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولم يكن
(الشَّهْرَ) مفعولا به في الآية، كما كان يكون مفعولا به لو
قلت: أحببت شهر رمضان.
فإن قلت: فإذا كان الشهر في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ ظرفا ولم يكن مفعولا به، فكيف جاء ضميره متصلا في
قوله: (فَلْيَصُمْهُ)، وهلّا دلّ ذلك على أنه مفعول به؟ قيل:
لا يدلّ ذلك على ما ذكرته «1»، لأن الاتساع إنّما وقع فيه بعد
أن استعمل ظرفا، وذلك سائغ، ويدلّ «2» على أنّ: (شَهِدَ) متعد
إلى مفعول قوله:
ويوم «3» شهدناه سليما وعامرا «4» ومما حذف من المفعول به في
التنزيل قوله تعالى «5»:
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا «6» [السجدة/
14]
__________
(1) في (ط): ذكرت.
(2) في (ط): ويدلك.
(3) في (ط): ويوما.
(4) عجز بيت استشهد به سيبويه في الكتاب: 1/ 90 لرجل من بني
عامر وتمامه:
ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى الطعن النهال نوافله
قال الأعلم: الشاهد فيه نصب ضمير اليوم بالفعل تشبيها بالمفعول
به اتساعا ومجازا، والمعنى: شهدنا فيه، وسليم وعامر: قبيلتان
من قيس عيلان، والنوافل هنا: الغنائم، يقول: يوم لم يغنم فيه
إلا النفوس، لما أوليناهم من كثرة الطعن، والنهال المرتوية
بالدم. وانظر شرح أبيات المغني 7/ 84.
(5) في (ط): عزّ وجلّ.
(6) ولفظ (هذا) زيادة في (م).
(1/35)
والتقدير: ذوقوا العذاب، فاستغني عن ذكره
للعلم به، وكثرة تردّده في نحو: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ
[السجدة/ 14] وذُوقُوا عَذابَ النَّارِ [السجدة/ 20] [سبأ/
42]. ومن ذلك قوله «1» رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ
ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم/ 37] أي: ناسا
أو فريقا. وقال: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا
تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها [البقرة/ 61]
أي شيئا. ومن ذلك قوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم/ 48].
ومنه
الحديث: «لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «2»
المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما كان التقدير في الآية:
والسموات غير السموات. والمعنى: لا يقتل مؤمن بكافر حربيّ، ولا
ذو عهد في عهده بكافر. قال أبو يوسف
«3»
: ولو كان المعنى: لا يقتل مؤمن به، كان: ولا ذي عهد في عهده،
وممّا جاء في الشعر من ذلك قوله:
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه ... على أمّها وإن تحدّثك تبلت
«4»
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) رواه البخاري (في الفتح) 1/ 182، 183 و 12/ 230، وأبو داود
رقم 4530 في الديات والنسائي 8/ 19 في القسامة.
(3) هو القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري
صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما، أصله من الكوفة، وسكن بغداد،
وتولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي والرشيد، وهو
أول من سمي قاضي القضاة، وأول من جعل للعلماء زيا خاصا بهم،
وكان ملبوس الناس قبل ذلك شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد
بلباسه. ولد سنة 113 وتوفي سنة 182 هـ في بغداد، انظر ابن
خلكان 6/ 378.
(4) البيت للشنفرى من المفضلية رقم 20 ص 109 وفي شرح المفضليات
(1/36)
أي: تقطع الحديث، ومثل ذلك في المعنى
والحذف:
رخيمات الكلام مبتّلات ... جواعل في البرى قصبا خدالا
«1» ومن ذلك قول الآخر:
لا يعدلنّ أتاويّون تضربهم ... نكباء صرّ بأصحاب المحلّات
«2» أي: لا يعدلنّ بهم أحدا، والتقدير: لا يعدلنّ مجاورتهم
بمجاورة أحد، ومن ذلك قوله:
__________
ص 201: يقول: كأنها من شدة حيائها إذا مشت تطلب شيئا ضاع منها.
وتبلت: تنقطع في كلامها لا تطيله، وأمّها: قصدها. والنسي:
الفقد.
(1) البيت من قصيدة لذي الرمة يمدح بها بلال بن أبي بردة، وهو
يصف في البيت نساء، والمبتلات: المتكملات الأجسام دون ترهل ولا
استرخاء، والبرى: جمع برة، وهي الأسورة والخلاخيل، والقصب:
عظام الساق، والخدال جمع خدلة، والخدل المستدير الممتلئ، وانظر
ديوان ذي الرمة 3/ 1515 وفيه «رخيمات الكلام مبطّنات» أي خماص.
(2) ذكر اللسان هذا البيت في مادة «أتى»، ورواه «لا يعدلنّ»
بالبناء للمجهول، ثم قال: «قال الفارسي: لا يعدلنّ (بالبناء
للفاعل) أتاويون، فحذف المفعول، وأراد لا يعدلن أتاويون شأنهم
كذا أنفسهم» وأنشده ابن قتيبة في المعاني الكبير 374 برواية:
لا تعدلنّ أتاويين، والأتاوي كالأتي أصله السيل الذي لا يعرف
من أين أتى، وأطلق على الرجل الغريب عن القوم وليس منهم،
والنكباء: الريح التي تهب بين ريحين، ويراد بها الريح التي تهب
بين الصبا والشمال، وهي شديدة البرد، وريح صر: بكسر الصاد، أي:
شديدة البرد، والمعنى أن الغرباء الذين يجيئون تحت مهب الريح
تحيط بهم العواصف لا يعدلون أنفسهم بأصحاب الأرض، والمحلات:
القدر، والرحى، والدلو، والقربة والجفنة والسكين والفأس والزند
لأن من كانت هذه معه حل حيث شاء. وإلا فلا بد له من أن يجاور
الناس يستعير منهم بعض هذه الأشياء. انظر: اللسان/ حلل/.
(1/37)
ولا يتحشّى الفحل إن أعرضت به ... ولا يمنع
المرباع منها فصيلها
«1» روي: منها فصيلها، ومنه فصيلها، فمن روى منها، كان من هذا
الباب، وكان منها: حالا أو ظرفا. فأمّا قول الهذليّ «2»:
ضروب لهامات الرجال بسيفه ... إذا عجمت وسط الشئون شفارها
فإن شئت كان التقدير: إذا عجمت وسط الشئون شفارها الشئون، أو
مجتمع الشئون «3» كما قال المرار الفقعسيّ «4»:
فلا يستحمدون الناس شيئا ... ولكن ضرب مجتمع الشّئون
فحذفت المفعول، وإن شئت جعلت وسطا في الشعر اسما، وجعلته
المفعول به، كما جعله الفرزدق مبتدأ في قوله:
__________
(1) أنشده ابن قتيبة في المعاني الكبير في مكانين ص 392 و 1237
برواية:
«منه»، و «عنه فصيلها». ونسبه إلى رجل من بني عكل، ونقله
الأزهري في تهذيبه عنه 5/ 141 ونقله صاحب اللسان عن الأزهري
(حشا) قال ابن قتيبة: يتحشى: يباليه من حاشى يحاشي، أعرضت به:
جعلته في عرضها. والمرباع: التي تنتج في أول الربيع. يقول:
ينحرها ولا يمنعها منه ولدها فيدعها له فتغذوه.
(2) هو أبو ذؤيب، والبيت من قصيدة يرثي بها نشيبة بن محرث.
والعجم: العضّ:
والشفار: جمع شفرة وهي حد السيف. والشئون: أصل قبائل الرأس
انظر ديوان الهذليين ص 30، وشرح أشعارهم 1/ 83. وروايته
عندهما: «عجمت، وأعجمت» بالبناء للمفعول.
(3) زاد في (ط): شفارها.
(4) هو المرّار بن سعيد الفقعسي الشاعر من مخضرمي الدولتين:
الأموية والعباسية، وله ترجمة في الأغاني 10/ 324 وما بعدها.
والشئان: جمع شأن، وهو مجرى الدمع إلى العين.
(1/38)
أتته بمجلوم كأنّ جبينه ... صلاءة ورس
وسطها قد تفلّقا
«1» فكما حذف المفعول به من هذه الآي، وهذه الأبيات.
وغير ذلك مما تركنا ذكره كراهة الإطالة، كذلك حذف في «2» قوله:
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.
والدين: الجزاء في هذا الموضع بدلالة قوله: الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غافر/ 17] والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية/ 28] ولا تكون «3» الطاعة،
ولا العادة، وقيل في قول ابن مقبل:
يا دار سلمى خلاء لا أكلّفها ... إلّا المرانة حتى تعرف
الدّينا
«4» حتى تقوم القيامة، وتأويل هذا: حتى تعرف يوم الدين أي: يوم
الجزاء. والمرانة: اسم ناقة عن الأصمعي. وقال غيره:
اسم موضع. فأما قوله: تعرف فيستقيم أن يكون مسندا إلى
__________
(1) المجلوم المحلوق، أراد به هن المرأة، والصلاءة مدق الطيب،
والورس نبت أصفر وقد جعل الفرزدق لفظ «وسط» ساكن السين على أنه
اسم، وأخرجه عن الظرفية. النوادر/ 163 وورد في الديوان ص 596
برواية:
رمته بمجموش كأن جبينه ... صلاية ورس نصفها قد تفلقا
(2) في (ط): من قوله.
(3) في (ط): يكون.
(4) ديوان تميم 317 وهو في مشوبته التي رواها القرشي في جمهرة
أشعار العرب ص 306 والمعنى: على أن المرانة اسم الناقة، لا
أكلفها أي:
أجشمها وأثقل عليها إلا بالمرانة أي بوقوف الناقة عليها، وعلى
أنها اسم موضع يريد: لا أكلفها أن تبرح ذلك المكان وتذهب إلى
موضع آخر، وانظر اللسان في مادة «مرن».
(1/39)
المتكلم المذكور في أكلّف «1» ويستقيم أن
يكون للمؤنث الغائب.
والإمالة في (مالِكِ) في القياس لا تمتنع، لأنّه ليس في هذا
الاسم ممّا يمنع الإمالة شيء، وليس كلّ ما جاز في قياس العربية
تسوغ التلاوة به حتى ينضم إلى ذلك الأثر المستفيض بقراءة السلف
له، وأخذهم به لأنّ القراءة سنة «2».
فأمّا «3» إعراب ملك يوم الدين فالجرّ في القراءتين.
وهو صفة لاسم مجرور، والصفات تجري على موصوفيها، إذا لم تقطع
«4» عنهم لذمّ أو مدح.
فأمّا العامل فيها، فزعم أبو الحسن «5» أن الوصف يجري على ما
قبله، وليس معه لفظ عمل فيه، إنّما فيه أنّه نعت، فذلك هو الذي
يرفعه، وينصبه، ويجرّه، كما أن المبتدأ إنّما رفعه «6»
الابتداء، وإنّما الابتداء معنى عمل فيه وليس لفظا، فكذلك هذا.
فإن قلت: فلم لا يكون العامل في الوصف ما عمل في الموصوف؟ قيل:
ممّا يدل على أن العامل في الوصف لا يكون العامل في الموصوف أن
في هذه التوابع ما يتعرّب بإعراب ما
__________
(1) أي: على سبيل الالتفات.
(2) راجع ما ذكره أبو حيان في إمالة «مالك» في البحر 1/ 20.
وما قاله عن الفارسي، في هذا الحرف وانظر ص 8 مما سبق.
(3) في (ط): وأما.
(4) كذا في (ط). وفي (م): «يقطع».
(5) هو علي بن سليمان الأخفش.
(6) في (ط): إنما يرفعه.
(1/40)
يتبعه، ولا يصح أن يعمل فيه ما عمل في
موصوفه. وذلك نحو أجمع وجمع وجمعاء «1» وليست هذه الكلم ككلّ
الذي قد جوّز فيه أن يلي العوامل على استكراه. فلمّا صحّ وجود
هذا فيها، دلّ أنّ الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة في
نحو: مررت برجل قائم، وما أشبهه لاجتماعهما في أنّهما تابعان.
ويدلّ على ذلك أيضا أنّك قد تجد من الصفات ما إعرابه يخالف
الموصوف، نحو: يا زيد العاقل، فزيد مبني، وصفته مرتفعة ارتفاعا
صحيحا. فلو كان العامل في الصفة العامل في الموصوف، لم تختلف
حركتاهما، فكانت إحداهما إعرابا، والأخرى بناء، وكان مجيء هذا
في النداء دلالة على ما ذكرناه:
من أن الصفة ليست بمعمول لما يعمل في الموصوف.
فإن قال قائل: فلم لا تجعل الصفة- من حيث كانت كالجزء ممّا
تجري عليه- مع الموصوف بمنزلة شيء واحد؟
وتستجيز من أجل ذلك أن يعمل فيها «2» ما عمل في الموصوف،
وتستدل «3» على ذلك بأشياء من كلامهم، تقوي «4» هذا المسلك. من
ذلك: أنّهم جعلوه مع الموصوف كاسم واحد، في نحو لا رجل ظريف،
وكذلك قولهم: يا زيد بن عمرو وما أشبهه، وقال «5» الله سبحانه:
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلاقِيكُمْ [الجمعة/ 8]
__________
(1) كذا في (ط): وفي (م) جمعا.
(2) في (ط): أن يعمل فيه. فالمراد الوصف، وفي (م): تعمل.
والأظهر ما أثبتنا.
(3) في (ط): ويستدل.
(4) (م): يقوي.
(5) ثبت حرف العطف في (ط) وسقط من (م).
(1/41)
فلمّا وصف المبتدأ بالاسم الموصول دخلت
الفاء في الخبر، كما أنّه لمّا كان المبتدأ موصولا دخلت الفاء
فيه؟ قيل: إن ما أوردته من ذلك لا يدلّ شيء منه على كون الوصف
معمولا للعامل في الموصوف:
لأنّه يلزم من ذلك أن يكون في اسم واحد إعرابان، وهذا قد رفضوه
في كلامهم، يدل «1» على رفضهم إيّاه أنّهم إذا نسبوا إلى تثنية
أو جمع على حدّها حذفوا علامتي التثنية أو الجمع من الاسم؛
لئلا يجتمع في الاسم دلالتا إعراب، فإذا كانوا قد كرهوا ذلك في
التثنية والجمع مع أن التثنية قد جرت مجرى غير المعرب في قولهم
إذا عدّوا: واحد، اثنان، فأن يكره ذلك في الإعراب المحض الذي
لم يجر مجرى البناء أجدر.
ومن ثمّ ذهبوا في قولهم: يا زيد بن عمرو، لمّا جعل الموصوف مع
الصفة «2» بمنزلة اسم مفرد، إلى أنّه بمنزلة امرئ وابنم ونحو
ذلك من الأسماء التي يتبع ما قبل حرف الإعراب فيها حرف
الإعراب، ولم يجز فيها عندهم إلّا ذلك، لأنّ حركة آخر الاسم
الأول لو كانت إعرابا لوجب أن يكون في الاسم الواحد «3»
إعرابان، وذلك ممّا قد اطّرحوه في كلامهم فلم يستعملوه.
ومما يبيّن ذلك أنّهم حيث قالوا في المنفيّ: لا رجل ظريف لك،
جعلوا الأول منهما بمنزلة صدور الأشياء التي يضمّ
__________
(1) في (ط): يدلك.
(2) في (ط): لما جعل الصفة مع الموصوف.
(3) في (ط): في اسم واحد.
(1/42)
إليها ما يكون معها شيئا واحدا. وإذا كان
الأمر كذلك كان قول من قال في امرئ ونحوه: إنّه معرب من
مكانين، غير مستقيم، لما أريتكه من حذفهم علامة التثنية والجمع
في النسب. وأمّا «1» قوله: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة/ 8] فقد جوّز
أبو الحسن فيه: أن تكون الفاء فيه زائدة. وحكى أبو يعلى «2» عن
أبي عثمان «3» مثل ذلك. ووجه ذلك أن الفاء تدخل للعطف أو
للجزاء وزيادة «4»، فلمّا لم يكن للعطف مذهب من حيث لم يستقم
عطف الخبر على مبتدئة لم يصحّ حمله على العطف، ولم يستجز حمله
على أنها للجزاء لبعد ذلك في اللفظ والمعنى.
فأمّا اللفظ فلأن الجزاء الذي هو في الأصل شرط لازم غير مستغنى
عنه ولا يستقلّ الجزاء إلّا به. فلمّا كانت صورة الشرط على ما
ذكرنا، ولم يكن الوصف كذلك- لأنّك في أكثر الأمر مخيّر في ذكره
وتركه- لم يكن موضعا للجزاء كما يكون موضعا له مع المبتدأ
الموصول، والنكرة الموصوفة، كقوله تعالى: الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ ثم قال:
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ [البقرة/ 274]. وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ
__________
(1) في (ط): أما.
(2) هو أبو يعلى بن أبي زرعة من أصحاب المازني وكان مقدما
عالما بالنحو، ثقة فيما يرويه، وله من الكتب المصنفة «كتاب
الجامع في النحو» لم يتمه، ذكره ابن النديم في الفهرست ص 89
والأنباري في نزهة الألباء ص 219.
(3) هو أبو عثمان المازني وتقدمت ترجمته ص: 16.
(4) في (ط): أو زائدة.
(1/43)
[النحل/ 53] فلمّا لم يكن موضعا له ولا
للعطف حكم بزيادة الفاء، لأنّها قد ثبتت زائدة «1» حيث لا
إشكال في زيادتها، وذلك قوله:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته ... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
«2» ألا ترى أنّ إحدى الفاءين لا تكون إلّا زائدة، لأنّ (إذا)
إنّما يقتضي «3» جوابا واحدا. وأما بعد «4» الجزاء في المعنى،
فلأن الجزاء ما كان بإثبات معنى أو نفيه، فأمّا ما كان واقعا
لا محالة، فإنّه لا يكون من باب الجزاء، والموت ملاق لهم،
فرّوا أو لم يفرّوا.
فإن قلت: فقد تقول في الجزاء: لأضربنّك إن سكتّ أو نطقت،
ولأعطينك إن خرجت أو أقمت فإن هذا كلام متّسع فيه مخرج عن
أصله. وحكمه إذا استعمل حرف المجازاة أن يفعل الإعطاء إذا وقع
الخروج، ثم يبدو له أن يفعله في جميع الأحوال فيقول بعد: أو
أقمت. وقد يصحّ أن يحمل هذا الكلام
__________
(1) كذا في (ط). وفي (م) «زيادة».
(2) من قصيدة للنمر بن تولب، وقبله:
قامت تبكّي أن سبأت لفتية ... زقّا وخابية بعود مقطع
أي: بكت لأني اشتريت الخمر ببعير هزيل منقطع، فيقول لها: لا
تجزعي إن أهلكت متاعا نفيسا، والمنفس: الشيء الذي يتنافس فيه
ويرغب، بل لك أن تجزعي إذا هلكت أنا وقضيت. انظر شرح أبيات
المغني للبغدادي 4/ 52، الخزانة 1/ 152 وفيها: إن منفس.
(3) في (ط): تقتضي.
(4) في (ط): بعد.
(1/44)
على المعنى فيستقيم أن تكون الفاء جزاء.
وذلك أنّ معنى «1»:
(إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) ومعنى: إنّ الذي
تفرون منه من الموت واحد، فكما يصحّ الجزاء في هذا الاسم كذلك
يصحّ فيما كان بمعناه.
ألا ترى أنّك قد جازيت حيث كانت الصلة ظرفا لمّا كان الظرف
متضمّنا لمعنى الفعل؟ كقوله: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ
اللَّهِ [النمل/ 53] ودخلت الفاء في الخبر، كما دخلت في الصلة،
والصلة فعل محض، وكل ذلك حمل على المعنى، لأنّ الجزاء المحض لا
يكون بالظرف، ولذلك قال سيبويه: إنّ عندك ونحوه لا يبنى على
إن. فأمّا دخول معنى الجزاء في الآية وصحته، فعلى أن ينزل
الكلام كأنه خوطب به من ظنّ أنّ فراره من الموت ينجيه، وقد جاء
الجزاء المحض في ذلك، قال الشاعر:
ومن هاب أسباب المنيّة يلقها ... ولو رام أسباب السماء بسلّم
«2» فإذا جاز في الجزاء المحض في البيت فكذلك تكون الآية،
والتصحيح لمعنى الجزاء في ذلك قول محمد بن يزيد «3». فإن قلت:
فهلّا استدللت بعمل إنّ في الاسم على أن
__________
(1) في (ط): معنى الجزاء.
(2) هو من معلقة زهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 30 برواية:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلم
وانظر المعلقات/ 87 وجمهرة أشعار العرب/ 110.
(3) هو أبو العباس محمد بن يزيد المبرد تلميذ المازني وأبي
حاتم السجستاني، وإمام نحاة البصرة في زمنه، وقرين أحمد بن
يحيى ثعلب إمام أهل الكوفة، وكان يفضل عليه بحسن العبارة
وفصاحة اللسان، ولد
(1/45)
معنى المجازاة لا يصحّ في الآية، لأنّ إنّ
لا يدخل «1» على الجزاء المحض، فكذلك لا يدخل «2» على هذا
الضرب من حيث كان مثل المحض في كونه جزاء. قيل: لا يمتنع دخول
إنّ على هذا الضرب وإن كان قد تضمّن الاسم معنى الجزاء، كما
امتنعت من الدخول على الجزاء المحض، لأنّ الذي يدخله «3» اسم،
لم يقم مقام الحرف، كما كان ذلك في الجزاء الجازم، والكلام
خبر، فإن كان كذلك، لم يكن شيء يمنع من إعمال إنّ، ألا ترى
أنّها قد دخلت في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج/ 10] فعملت في الموصول الذي دخلت
الفاء في خبره، كما تعمل فيما لا تدخل «4» الفاء خبره «5». فما
«6» دخلت عليه إنّ، ممّا في خبره الفاء من صحّة معنى الجزاء
فيه كما لم تدخل عليه إنّ، كقوله «7»: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ ...
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ «8» [البقرة/ 274]، ولو ألحقت هذا الضرب
من
__________
المبرد سنة 210، وتوفي سنة 286 هـ ببغداد. انظر ابن خلكان 4/
313.
(1) في (ط): لا تدخل.
(2) في (ط): لا تدخل.
(3) في (ط): تدخله.
(4) في (ط): فيما لم تدخل.
(5) في (ط): في خبره.
(6) في (ط): فمما.
(7) في (ط): قوله.
(8) وتمامها: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
(1/46)
الأسماء: «ليت ولعل» لم يجز دخول الفاء
لأنّ الشرط والجزاء خبر، وما يدخل «1» عليه إنّ مثله.
فأمّا «ليت ولعلّ» فإنهما إذا دخلتا أبطلتا معنى الخبر، وإذا
بطل الخبر لم يكن موضع مجازاة، وإذا لم يكن موضع مجازاة لم
يصحّ دخول الفاء، فصحّة دخول معنى الجزاء مع دخول إنّ كصحته
إذا لم يدخل «2»، ومن ثم قال «3» فيمن قال:
المرأة التي أتزوّجها فهي طالق. إنه من تزوّج من النساء طلق
لدخول معنى الجزاء الكلام ولحاق الفاء من أجله، والجزاء يوجب
الشياع والإبهام واستغراق الجميع لذلك. وإذا جاز هذا الذي
ذكرناه في قوله تعالى: قُلْ «4» إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ «5» [الجمعة/ 8] ... لم يكن لمن
زعم أن الصفة في حكم الموصوف- من أجل أن الفاء دخلت والفعل في
صلة الصفة دون المبتدأ- دلالة على قوله، لاحتماله غير ذلك مما
ذكرت «6».
فأمّا قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ
__________
(1) في (ط): تدخل.
(2) في (ط): تدخل.
(3) في (ط): «قال محمد بن الحسن» والمراد محمد بن الحسن بن
فرقد الشيباني بالولاء صاحب أبي حنيفة، وأبي يوسف، وله
التصانيف الكثيرة النادرة التي نشر بها علم أبي حنيفة، وكان من
أفصح الناس، ولد سنة 135 وتوفي مع الكسائي في يوم واحد بالري،
وكانا في صحبة الرشيد، فقال الرشيد: دفنت الفقه والعربية
بالري، وذلك سنة 189 هـ انظر ابن خلكان 4/ 184.
(4) في (ط): بحذف «قل».
(5) زاد في (ط): «ملاقيكم».
(6) في (ط): ذكرته.
(1/47)
ثم جاء: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
«1» [البقرة/ 185] فإن شئت جعلته مثل قوله: قُلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ، وإن شئت جعلته مبتدأ
محذوف الخبر، كأنّه لمّا تقدم: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
[البقرة/ 183] قيل: فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان، أي
صيامه، كما قال:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور/ 2] أي: فيما فرض
عليكم الزانية والزاني، أي: حكمهما. وكذلك مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «2» [محمد/ 15]. وإن شئت جعلته
ابتداء «3» وجعلت خبره الموصول كقولك: زيد الذي في الدار. فإن
قلت: إذا جعلت الذي وصفا في قوله: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ) فكيف لم يكن «4» عن الشهر كقولك: شهر رمضان
المبارك من شهده فليصمه؟ فإنّ ذلك يكون كقوله: الْحَاقَّةُ مَا
الْحَاقَّةُ [الحاقة/ 1]، والْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ
[القارعة/ 1] ونحو ذلك.
وأمّا جواز دخول معنى الجزاء فيه فلأنّ شهر رمضان وإن كان
معرفة فليس بمعرفة معيّنة، ألا ترى أنه شائع في جميع هذا
القبيل لا يراد به واحد بعينه، فلا يمتنع من أجل ذلك من معنى
الجزاء، كما يمتنع ما يشار به إلى واحد مخصوص، ومن ثم لم يمتنع
ذلك «5» في صفة الموت في قوله: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ لأنّ الموت ليس يراد به موت بعينه، إنّما
يراد
__________
(1) زاد في (ط): «فليصمه».
(2) زاد في (ط): «فيها».
(3) في (ط): مبتدأ.
(4) في (ط): لم تكن. أي: لم يعد عليه الضمير فيقال: فمن شهده
بدلا من الاسم الظاهر.
(5) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(1/48)
به الشياع، ومعنى الجنس، وخلاف الخصوص.
وأشبه الوجوه أن يكون الذي وصفا، ليكون النصّ قد وقع على الأمر
بصيام الشهر.
ومن قال: إن الفاء في قوله: فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ زيادة،
فقياس قوله في هذه الفاء أن تكون زائدة أيضا، وهو «1» قول أبي
الحسن وأبي عثمان «2» فيما روى عنه أبو يعلى بن أبي زرعة «3».
[الفاتحة: 6]
اختلفوا في قوله تعالى: الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «4»
[الفاتحة/ 6] فروي عن ابن كثير: السين والصاد. وروي عن أبي
عمرو: السين، والصاد، والمضارعة «5» بين الزاي والصاد، رواه
عنه العريان بن أبي سفيان، وروى عنه الأصمعي «الزراط» بالزاي،
والباقون بالصاد، غير أن حمزة يلفظ بها بين الصاد والزاي.
قال أبو بكر «6»: للقارئ بالسين أن يقول: هو أصل الكلمة، ولو
لزم لغة من يجعلها صادا مع الطاء لم يعلم ما أصلها.
ويقول من يقرأ بالصاد: إنّها أخفّ على اللسان، لأنّ
__________
(1) في (ط): وهذا قول.
(2) هو أبو عثمان المازني وتقدمت ترجمته ص: 16.
(3) تقدم ذكره ص: 43.
(4) انظر السبعة في القراءات ص 105 وما بعدها.
(5) المضارعة: المشابهة والمقاربة، اللسان/ ضر/.
(6) هو أبو بكر محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج،
وتقدمت ترجمته، وانظر خطبة الكتاب ص 6.
(1/49)
الصاد حرف مطبق كالطاء فتتقاربان، وتحسنان
«1» في السمع، والسين حرف مهموس، فهو أبعد من الطاء، وهي قراءة
أبي جعفر «2» والأعرج «3» وشيبة «4» وقتادة «5».
ويقول من قرأ بالزاي: أبدلت منها حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء
في الجهر، ورمت الخفّة، ويحتجّ بقول العرب:
صقر، وسقر، وزقر.
ويقول من قرأ بالمضارعة التي بين الزاي والصاد «6»:
رمت الخفة، ولم أجعلها زاء خالصة، ولا صادا خالصة فيلتبس «7»
بأحدهما.
قال أبو بكر: والاختيار عندي الصاد، للخفّة، والحسن في السمع،
وهو غير ملبس «8»، لأنّ من لغته هذا إذا كان يتجنّب السين مع
الطاء لم يقع عليه لبس، لأنّ السين كأنّها مهملة في الاستعمال
عنده مع الطاء، وإنّما يقع الإلباس «9» لو التبست كلمة بالسين
بكلمة بالصاد في معنيين مختلفين، ومع ذلك فهي قراءة الأكثر،
ألا ترى أنّ من رويت عنه القراءة بالسين منهم قد رويت عنه
بالصاد؟
__________
(1) في (ط): فيتقاربان ويحسنان.
(2) هو أبو جعفر المخزومي يزيد بن القعقاع المدني، تقدمت
ترجمته ص 11.
(3) هو عبد الرحمن بن هرمز المدني الأعرج، تقدمت ترجمته ص 11.
(4) هو شيبة بن نصاح المدني، تقدمت ترجمته ص 11.
(5) هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة السدوسي، تقدمت ترجمته ص 12.
(6) في (ط): بين الصاد والزاي.
(7) في (ط): فتلتبس.
(8) في (ط): غير ملتبس.
(9) في (ط): الالتباس.
(1/50)
وقال «1»: وأما الزاي فأحسب الأصمعيّ لم
يضبط عن أبي عمرو، لأنّ الأصمعي كان غير نحويّ، ولست أحبّ أن
تحمل القراءة على هذه اللغة، وأحسب أنه سمع أبا عمرو يقرأ
بالمضارعة للزاي فتوهّمها زاء.
وأمّا القراءة بالمضارعة التي بين الزاي والصاد «2» فعدلت عن
القراءة بها، لأنّه تكلّف حرف بين حرفين، وذاك أصعب على
اللسان، لأنّه إنّما استعمل في هذه الحال فقط، وليس هو بحرف
يبنى عليه الكلم، ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنّه من
كلام الفصحاء من العرب، إلا أنّ الصاد أفصح وأوسع وأكثر على
ألسنتهم. والسين والصاد والزاي أخوات، والصاد أشبههنّ بالطاء،
لأنّها مطبقة مثلها، والزاي أقرب أيضا إلى الطاء من السين، لأن
الزاي حرف مجهور. قال أبو حاتم «3»: ليست الزاي الخالصة
بمعروفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ بالصاد أن القراءة بالسين مضارعة
لما أجمعوا على رفضه من كلامهم، ألا ترى أنّهم تركوا إمالة
«واقد» ونحوه كراهة أن يصعّدوا بالمستعلي
بعد التسفل بالإمالة؟ فكذلك يكره على هذا أن يتسفّل ثم يتصعّد
بالطاء في سراط، وإذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع
__________
(1) في (ط): قال.
(2) في (ط): بين الصاد والزاي.
(3) هو أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني اللغوي النحوي المقرئ،
كان إماما في علوم الأدب، وأخذ عنه علماء عصره كالمبرد وابن
دريد وغيرهما، وتوفي سنة 248 هـ، انظر ابن خلكان 2/ 430.
(1/51)
القاف في صقت، وصويق، ليجعلوها في استعلاء
القاف مع بعد القاف من السين وقرب الطاء منها، فأن يبدلوا منها
الصاد مع الطاء أجدر من حيث كانت الصاد إلى الطاء أقرب. ألا
ترى أنّهما جميعا من حروف طرف اللسان، وأصول الثنايا، وأن
الطاء تدغم في الصاد؟
ويدلّك على أنّ حسن إبدال الصاد من السين «1» في «سراط» لما
ذكرت لك «2» من كراهة التصعّد بعد التسفّل، أنّ من يقول: صويق،
وصقت إذا قال: قست وقسوت لم يبدل الصاد منها، لأنّه الآن ينحدر
بعد الإصعاد، وهذا يستخفّ ولا يستثقل كما استثقل عكسه، ألا ترى
أنّهم لم يميلوا نائق، وأمالوا، نحو قادر، وقارب؟
فإن قلت: إنّ السين الأصل بدلالة قولهم: سرطم «3» وسرطراط «4»
والأخذ سرّيط «5». قيل: الألف أيضا أصلها ألّا تمال، ولكن لمّا
وقعت مع الكسرة والياء فأريد مجانسة
__________
(1) في (ط): السين من الصاد.
(2) زيادة في (م).
(3) سرطم على وزن زبزج وجعفر: الأكول، وهو أيضا المتكلم
البليغ.
(4) السرطراط بكسرتين وبفتحتين الفالوذج والخبيص وهو طعام يعمل
من التمر والسمن.
(5) الأخذ سرّيط بضم السين وتشديد الراء المفتوحة وهو مثل،
يقال: الأخذ سريط والأداء ضريط، على وزنه أيضا، ويروى أيضا:
الأخذ سرّيطى والأداء ضرّيطى، بالقصر فيهما، وسريط وضريط
بالتصغير والتخفيف، وسريطى وضريطى بكسر الأول وتشديد الراء
المكسورة، يضرب لمن يأخذ الدين ويبتلعه، فإذا طولب للقضاء عنى
وأتعب، انظر جمهرة الأمثال 1/ 170 واللسان، والقاموس/ سرط/.
(1/52)
الصوتين وملاءمتهما أميلت، وترك الأصل الذي
هو التفخيم والتحقيق لها.
فكذلك في باب صراط وصويق وصالخ «1» وصالغ «2» لمّا أريد فيه
«3» ذلك ترك الأصل إلى تشاكل الصوتين وتجانسهما، وقد تركوا في
غير هذا- لما ذكرت لك- ما هو أصل في كلامهم إلى ما ليس بأصل،
طلبا لاتّفاق الصوتين، ألا تراهم قالوا: شمباء، ومم بك «4»،
فلم يبينوا النون التي هي الأصل في الشّنب، ومن عامر؟ لمّا
أرادوا أن يوفّقوا بين الصوتين. ولم يستجيزوا إدغام النون في
الباء من حيث كان متشابها «5» ما لم يدغم في الباء وهو الميم،
فكما تركوا الأصل هاهنا طلبا للمشاكلة، كذلك يترك الأصل في
سراط، ويختار إبدال الصاد من السين.
فأمّا القراءة بالزاي فليس بالوجه. وذلك أن من قال في أصدرت:
أزدرت، وفي القصد: القزد، فأبدل من الصاد الزاي، فإنه إذا
تحركت الصاد في نحو: صدرت، وصدقت، لم يبدل. فإذا لم يبدلوا
الصاد زاء إذا تحركت مع الدال، وكانت الطاء في الصراط، مثل
الدال في القصد في حكم
__________
(1) أصلها: سالخ. والسالخ: جرب يسلخ منها الجمل، واسم الأسود
من الحيات، للأنثى: أسودة، ولا توصف بسالخة. كذا في القاموس/
سلخ/.
(2) يقال: بقرة سالغ ونعجة سالغ: إذا خرج ناباهما، وولد البقرة
يقال له:
سالغ في السنة السابعة. اللسان/ سلغ/.
(3) في (ط): منه.
(4) في (ط): شنباء، ومن بك.
(5) يريد النون التي تظهر إذا كان بعدها حرف حلقي. وانظر
الكتاب 2/ 414.
(1/53)
الجهر، فكذلك ينبغي ألّا تبدل من السين
الزاي في سراط من أجل الطاء، لأنها قد تحرّكت كما تحركت في
صدقت، مع أنّ بينهما في «سراط» حاجزين، وقد قال سيبويه «1»:
إذا قال:
مصادر فجعل بينهما حرفا ازداد التحقيق حسنا وكثرة. يريد يزداد
التحقيق للصاد كثرة إذا وقع الفصل بالحرف على التحقيق إذا وقع
الفصل بحركة نحو: صدق.
وإنما لم تبدل «2» في الموضعين لمّا فصلت الحركة أو الحرف،
لأنّ التبيين وتصحيح الصاد في قصد وأصدرت «3» قد كان يجوز ولا
حاجز بينهما، فلمّا وقع الفصل وحجزت الحركة أو الحرف امتنع ما
كان يجوز من قبل.
ألا ترى أن المتقاربين إذا وقعا في كلمة واحدة ففصل بينهما
الحركة بيّن، وذلك نحو وتد. ومن أدغم قدّر فيه الإسكان، مثل
فخذ فأدغم على ذلك؟ فكما لم يقو الإدغام ولم يكثر مع حجز
الحركة كذلك لا يقوى البدل مع حجز الحركة، لاجتماع الموضعين في
أن القصد فيهما تقريب حرف من حرف. فأمّا القراءة بالمضارعة،
فأحسن من القراءة
بإبدال الزاي من السين، لأنّ من لم يبدل من الصاد الزاي إذا
تحركت قد يضارع بنحو صاد صدقت، ويضارع بها إذا بعدت نحو مصادر،
والصراط كما قالوا: حلبلاب «4» فوفّقوا بين الحرفين مع حجز ما
حجز بينهما من الحروف، وكأنّه أحبّ أن يشاكل بهذه
__________
(1) انظر الكتاب: 2/ 427.
(2) في (ط): لم يبدل.
(3) في (ط): والصراط.
(4) الحلبلاب: بكسر الحاء واللام هو اللبلاب بفتح اللام.
(1/54)
المضارعة ليكثر بذلك تناسب أحد الحرفين إلى
الآخر. فأشرب الصاد صوت الزاي لذلك.
ومما يقوّي مضارعة الصاد في الصراط بالزاي أنّهم حيث وجدوا
الشين مشبهة للصاد والسين في الهمس والرخاوة والاستطالة إلى
أعلى الثّنيّتين ضارعوا بها الزاي، لمّا وقع بعده «1» الدال
ليتفقا في الجهر، وذلك نحو قولهم: أزدق في الأشدق، وكذلك فعلوا
بالجيم قبل الدال لقربها من الشين، وذلك قولهم: أزدر في
الأجدر، فإذا ضارعوا بهذين الحرفين الزاي ليقرّبوها بذلك من
الدال مع تباعد مخارجهما من الزاي فأن يضارعوا بها الصاد أجدر،
لقربها منها واتفاقهما في المخرج. ويؤكّد هذه المضارعة أنّهم
قالوا: اجدرءوا «2» واجدمعوا، فأبدلوا من تاء الافتعال الدال
لمّا أشرب صوت الزّاي، كما أبدل «3» في مزدجر ونحوه، ولا يجوز
أن تخلص الشين، والجيم «4» زاء كما فعلت ذلك في الصاد والسين
في:
القصد، ويسدل ثوبه، لأنهما لم تقربا «5» من الزاي قرب الصاد
والسين «6» منها.
ويقوي اتساع ذلك في الاستعمال أن سيبويه قال: زعم هارون «7»
أنها قراءة الأعرج، قال: وقراءة أهل مكة اليوم:
__________
(1) في (ط): بعدها.
(2) كذا في (ط)، وفي (م): اجدوروا.
(3) في (ط): كما أبدلوا.
(4) في (ط): الجيم والشين.
(5) في (ط): لم يقربا.
(6) في (ط): السين والصاد.
(7) هو أبو عبد الله هارون بن موسى القارئ الأعور النحوي سبقت
ترجمته ص 10.
(1/55)
حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ [القصص/ 23] بين
الصاد والزاي «1» قال: والمضارعة في الصاد يعني إذا كانت مع
الدال أكثر وأعرف منها في السين، يعني في نحو: يزدل ثوبه.
وممّا يحتجّ به من أخلص الصاد وحققها على من ضارع بها الزاي أن
يقول: الحرف «2» قد أعلّ مرة بالقلب فلا تستقيم المضارعة،
لأنّها إعلال آخر، وقد رأيتهم كرهوا الإعلال في الحرفين إذا
تواليا، فإذا لم يوالوا بين إعلالين في حرفين مفترقين فألّا
يوالوا بين إعلالين في حرف واحد أجدر.
ويقوّي ذلك أنهم حذفوا النون من نحو بلعنبر، وبلحرث، ولم
يحذفوا من بني النجار مع توالي النونات حيث كانت اللام قد
اعتلّت «3» بالقلب لئلا يتوالى إعلالان: الحذف والقلب، وإن
كانا من كلمتين مفترقتين فإذا كره في هذا النحو كان توالي
إعلالين في حرف واحد أبعد.
وممّا يحتجّون به على من ضارع بها الزاي، أنّ هذه المضارعة
تشبه الإدغام في أنّه تقريب الحرف الأول من الثاني، فكما أنّ
الصاد لا تدغم في الطاء، لانتقاص صوتها بذلك، فكذلك «4» لا
ينبغي أن يضارع بها لأنّ هذه المضارعة في حكم الإبدال، بدلالة
أنّهم حيث ضارعوا بالجيم الزاي في قولهم:
اجدرءوا واجدمعوا أبدلوا من تاء الافتعال الدال كما أبدلوا في
__________
(1) إشمام الصاد الزاي هو قراءة حمزة الزيات والكسائي وخلف
ووافقهم رويس، وكلهم كوفيون، والأعرج مدني، انظر النشر 2/ 250
و 341 وسيبويه 2/ 294.
(2) في (ط): أن الحرف.
(3) ف (ط): قد أعلت.
(4) في (ط): كذلك.
(1/56)
مزدجر. وقال سيبويه: لم تكن المضارعة هنا
«1» الوجه، يعني في الصراط «2».
[الفاتحة: 7]
اختلفوا في ضمّ الهاء من (عَلَيْهِمْ) «3» [الفاتحة/ 7] فقرأ
حمزة وحده (عليهم) بضم الهاء وكذلك (لديهم)، (وإليهم) هذه
الثلاثة الأحرف بالضم وإسكان الميم وقرأ الباقون: (عَلَيْهِمْ)
وأخواتها بكسر الهاء.
واختلفوا في الميم:
فكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو، انضمّت الهاء قبلها أو
انكسرت، فيقول: عليهمو غير المغضوب عليهمو ولا الضالين، وعلى
قلوبهمو، وعلى سمعهمو، وعلى أبصارهمو غشاوة [البقرة/ 7].
واختلف «4» عن نافع في الميم. فقال إسماعيل بن جعفر «5» وابن
جمّاز «6» وقالون «7» والمسيّبي «8»: الهاء مكسورة،
__________
(1) في (ط): هاهنا.
(2) انظر الكتاب 2/ 427.
(3) انظر السبعة في القراءات ص/ 108.
(4) في (ط): واختلفوا.
(5) ستأتي ترجمته ص 413.
(6) هو سليمان بن مسلم بن جماز، أبو الربيع الزهري مولاهم
المدني، مقرئ جليل ضابط، عرض على أبي جعفر المدني وشيبة ثم على
نافع، مات بعد السبعين ومائة انظر طبقات القراء: 1/ 315.
(7) هو عيسى بن مينا بن وردان، أبو موسى المري مولى بني زهرة،
قارئ المدينة ونحويها، كان ربيب نافع واختص به كثيرا، وهو الذي
سماه قالون لجودة قراءته. توفي سنة 220 هـ انظر طبقات القراء:
1/ 615.
(8) ستأتي ترجمته ص 375.
(1/57)
والميم مضمومة، أو منجزمة، أنت فيها مخيّر.
وقال أحمد بن قالون عن أبيه: كان نافع لا يعيب ضمّ الميم، فهذا
يدلّ على أن قراءته كانت بالإسكان. قال أحمد بن موسى «1»:
والذي قرأت به الإسكان. وقال ورش «2»: الهاء مكسورة والميم
موقوفة إلّا أن تلقى الميم ألف أصلية، فإذا لقيتها ألف أصلية
ألحق في اللفظ واوا، مثل قوله: سواء عليهموء أنذرتهمو أم لم
تنذرهمو «3» [البقرة/ 6].
وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي يكسرون الهاء،
ويسكّنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا: فكان ابن
كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر يمضون على كسر الهاء، ويضمّون
الميم إذا لقيها ساكن، مثل قوله:
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة/ 61، آل عمران/ 112]، ومِنْ
دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ [القصص/ 23]، وما أشبه ذلك.
وكان أبو عمرو يكسر الهاء أيضا ويكسر الميم، فيقول:
عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وإِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس/ 14] وما
أشبهه.
وكان حمزة والكسائي يضمّان الهاء والميم معا، فيقولان: عليهم
الذلة ومن دونهم امرأتين وما أشبه ذلك.
__________
(1) هو أبو بكر بن مجاهد، وتقدمت ترجمته ص/ 6.
(2) هو عثمان بن سعيد، أبو القاسم القرشي مولاهم القبطي المصري
شيخ القراء المحققين، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار
المصرية في زمانه، وهو أشهر رواة نافع ولد سنة 110 بمصر وتوفي
سنة 197 هـ فيها، انظر طبقات القراء: 1/ 502.
(3) في (ط): سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ.
(1/58)
وقال «1» أبو بكر أحمد بن موسى: وكل «2»
هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنّما هو في الهاء التي قبلها
كسرة، أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا
الضّم. وإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم
يجز في الميم إلّا الضم أو التسكين مثل قوله: (مِنْكُمْ)، و
(أَنْتُمْ).
قال أبو بكر: فيمن «3» قرأ عليهم بكسر الهاء ووصل الميم بالواو
«4» - وهو قول ابن كثير ونافع في أحد قوليه-: قال سيبويه «5»:
قال بعضهم: (عليهمو) أتبع الياء ما أشبهها، وترك ما لا يشبه
الياء ولا الألف على الأصل. وقال أبو حاتم «6»: هي قراءة
الأعرج «7». قال أبو بكر «8»: وقال بعض من احتجّ لذلك:
إن الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء، فوجب
لذلك إتباع الهاء الياء.
وحجّة من قرأ عليهم- فكسر الهاء وأسكن الميم «9» - وهو قول
عاصم، وأبي عمرو، والكسائي، وابن عامر «10» - أن يقول: إنّه
أمن اللبس، إذ كانت الألف في التثنية قد
دلّت على
__________
(1) في (ط): قال.
(2) في (ط): كل.
(3) في (ط): في حجة من قرأ. وعبارة السبعة في القراءات (ص 109
- 110) فيها اختلاف عمّا هنا.
(4) في (ط): فكسر الهاء، ووصل الميم بواو.
(5) انظر الكتاب 2/ 294.
(6) هو السجستاني وتقدمت ترجمته ص: 51.
(7) هو عبد الرحمن بن هرمز المدني وتقدمت ترجمته ص/ 11.
(8) هو ابن السراج النحوي وتقدمت ترجمته ص/ 6، وسقط هذا الاسم
من (ط).
(9) في (ط): بكسر الهاء وإسكان الميم.
(10) في (ط): وابن عامر والكسائي.
(1/59)
الاثنين، ولا ميم في الواحد، فلما لزمت
الميم الجمع حذفوا الواو، وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف، إذ كان
لا يشكل.
قال: وقال: لمّا كانت الهاء في (عَلَيْهِمْ) هي الهاء التي
كانت «1» في عليه وجب إقرارها «2» على ما كانت عليه من الكسر
قبل دخول الميم «3»، إذ كانت العلة واحدة.
وحجة من قرأ عليهم- وهو قول حمزة- أنّهم قالوا: ضمّ الهاء هو
الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتّصل بها قيل: هم
فعلوا. والواو هي القراءة القديمة، ولغة قريش، وأهل الحجاز،
ومن حولهم من فصحاء اليمن.
قالوا: وإنّما خصّ حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم- وهي (عليهم)
و (إليهم) و (لديهم) - لأنّهنّ إن أولاهنّ ظاهرا صارت ياءاتهنّ
ألفات مثل: على القوم، ولدى القوم، وإلى القوم، ولا يجوز كسر
الهاء إذا كان قبلها ألف.
وحجّة من ضمّ الميم إذا لقيها ساكن بعد الهاء المكسورة أن
يقول: إني لمّا احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت،
وتركت الهاء على كسرها، لأنّه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردّها إلى
الأصل، ولأنّ الهاء إنّما تبعت الياء، لأنّها شبّهت بها ولم
تتبعها الميم لبعدها منها. قال أبو حاتم:
وهي «4» لغة فاشية بالحرمين.
__________
(1) سقطت من (ط) كانت.
(2) في (ط): إقرارهما.
(3): كذا في (ط)، وفي (م): قبل دخول الميم عليه.
(4) في (ط): هي.
(1/60)
وحجّة من كسر الميم للساكن الذي لقيها
والهاء مكسورة أن يقول: أتبعت الكسر الكسر، لثقل الضم بعد
الكسر، كما استثقلوا ضمّ الهاء بعد الكسرة، وكذلك استثقلوا
ضمّة الميم بعد الهاء «1». ألا ترى أنه ليس في كلامهم مثل فعل،
وأنّهم يضمون ألف الوصل في مثل: اقتل، فرارا من الضم بعد
الكسر.
وحجّة من كسر الهاء إذا لم يلق الميم ساكن، وضمّها إذا لقي
الميم ساكن- وهو قول الكسائي- أنّه يقول: إذا ردّ الميم إلى
أصلها ردّ الهاء أيضا إلى أصلها، وأتبع الضمّ الضمّ استثقالا
للخروج من الكسر إلى الضمّ.
قال: والاختيار (عَلَيْهِمْ) بالكسر، لأنّها أخفّ على اللسان،
وهي قراءة الأكثر.
قال سيبويه: الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، لأنّها
خفيّة، كما أن الياء خفيّة، وهي من حروف الزيادة، كما أن الياء
من حروف الزيادة، وهي من موضع الألف، وهي أشبه الحروف بالياء.
فكما أمالوا الألف في مواضع استخفافا، كذلك كسروا هذه الهاء
وقلبوا الواو ياء، لأنّه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة. وذلك
قولك: مررت بهي [قبل]، ولديهي مال، ومررت بدارهي قبل، وأهل
الحجاز يقولون: مررت بهو قبل، ولديهو مال، ويقرءون: فخسفنا بهو
وبدارهو «2» الأرض [القصص/ 81]، فإن لحقت «3» الهاء الميم في
علامة الجمع
__________
(1) في (ط): بعد كسر الهاء.
(2) في (ط): وبداره.
(3) في (ط): ألحقت.
(1/61)
كسرتها كراهية «1» الضمة بعد الكسرة. ألا
ترى أنّهما لا تلزمان «2» حرفا أبدا؟ - يعني أنّه ليس في
الكلام مثل فعل- فإذا كسرت الميم قلبت الواو ياء كما فعلت ذلك
في الهاء. ومن قال: (وبدارهو الأرض) قال: عليهمو مال «3».
قال: والاختيار- إذا لقيها ساكن- كسر الميم، وذلك أنه أخفّ،
وهذه الكسرة ليست بالكسرة التي تأتي لالتقاء الساكنين، ولا أصل
لها في الكلمة، لأن هذا الحرف له حركة في الأصل فحقّه أن يردّ-
متى احتيج إلى حركته- إلى الأصل، وكأنّ من يكسر يقدّر أن أصل
الحرف: (عليهمي)، روي عن الحسن «4» أنه كان يقرأ (عليهمي)
بكسرتين ويثبت الياء في الوصل. وقال أبو حاتم «5»: لم أسمع
أحدا يقرأ بكسر الميم إلّا ألحق الياء في الوصل، ولا أحدا يضمّ
الميم إلّا ألحق واوا في الوصل، والواو والياء تسقطان في
الوقف. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ: (عَلَيْهِمْ) بكسر الهاء أن
الهاء من مخرج الألف وهي في الخفاء نحوها، فكما أنّ الكسرة أو
الياء إذا وقعت إحداهما قبل الألف أميلت الألف نحوها، وقرّبت
منها، كذلك إذا وقعت قبل الهاء قرّبت الهاء منها بإبدال ضمّتها
كسرة، كإمالتهم الألف نحو الياء. وممّا يؤكّد شبهها بالألف،
أنّهم قد قالوا: أخذت أخذه «6» وضربت ضربه،
__________
(1) في (ط): كراهة.
(2) في (ط): لا يلزمان.
(3) انتهى النقل عن سيبويه 2/ 294 وما بين معقوفين منه.
(4) هو الحسن البصري وتقدمت ترجمته ص/ 33.
(5) هو السجستاني وتقدمت ترجمته ص/ 51.
(6) في (ط) رسم الإمالة هكذا (أخذه). أي بفتحة مقلوبة وهكذا
فعل بالأمثلة الآتية.
(1/62)
فأمالوا الفتحة التي قبلها نحو الكسرة، كما
أمالوها إذا كانت قبل الألف نحو الكسرة، لتميل الألف نحو
الياء.
فإن قلت: إنّه لا شيء في قولهم: ضربت ضربه، يوجب الإمالة «1»
من كسرة ولا ياء ولا غيرهما مما يوجب الإمالة، فكيف استدللت
بقولهم: ضربت ضربه على ما يوجب كسر الهاء في عليهم، وليس في
«ضربه» شيء يوجب الإمالة؟ قيل:
إنّ ذلك يشبه من الإمالة ما أميل لغير سبب موجب للإمالة «2»،
كقولهم في العلم: الحجّاج، والناس، وكقولهم: طلبنا، ورأيت
عنتا. فعلى هذا الحد أمالوا في قولهم: ضربت ضربه، ألا ترى أنهم
لم يميلوا إذا جاوزت الياء والكسرة حرفا سوى الهاء.
وكان إمالة الفتحة مع الهاء ساكنة أكثر في الاستعمال من باب
طلبنا، وأقيس، لأنّ الهاء قد أجريت متحركة مجرى الألف فيما
ستراه بعد، إن شاء الله، فإذا كانت ساكنة كانت أن تجرى مجرى
الألف أجدر وأسهل.
وممّا يؤكّد شبه الهاء بالألف اجتماعهما في تبيين الحركة نحو:
(أنا) و (حيّ هلا) كتبيينهم إيّاها بالهاء في: (كِتابِيَهْ) و
(حِسابِيَهْ). ولو لفظت بالباء من ضرب، لقلت في قول الخليل إن
شئت: به وإن شئت با. فكما جرتا مجرى واحدا في هذا، كذلك جعل في
عليهم بمنزلة الألف في أن أبدل من ضمتها كسرة ليوفّق بين
الصوتين فيكونا من جهة واحدة.
فإن قلت: ما وجه استجازة الخليل التخيير بين الهاء
__________
(1) في (ط): يوجب إمالة الألف.
(2) في (ط): يوجب الإمالة.
(1/63)
والألف في إلحاق الحرف الملفوظ به «1»،
وهلّا ألحق الهاء دون الألف، لقلة إلحاق الألف في الوقف، وكثرة
إلحاقهم الهاء فيه؟ قيل: جمع بينهما لمشابهة كلّ واحد منهما
الآخر فيما ذكرنا، ولقيام كل واحد منهما مقام الآخر، ولأنّهم
قد ألحقوا هذه الحروف الألف في قولهم با، تا، ثا ونحوه، فكثر
في هذا الباب وإن لم يكثر في غيره.
فإن قلت: فإنّ الهاء لا يجري فيها الصوت كما يجري في الألف
وأختيها. فإنّها وإن كانت كذلك، فإنّها توافقها في الخفاء،
والضعف، واتّفاق المخرج، فلا ينكر- وإن اختلفا من حيث ذكرت- أن
يتفقا في تقريب إحداهما من الأخرى، كما قربت الباء من الميم في
قولهم: (اصحب مطرا)، لاتفاقهما في المخرج، وإن كانتا قد
اختلفتا في غير ذلك.
ومما يبيّن شبه الهاء بالألف أنّهم قد غيّروا بها بعض الحروف
في الوقف، وأبدلوها منه كما فعلوا ذلك بالألف في:
رأيت رجلأ «2».
وممّا يدلّ على خفاء الهاء ومشابهتها الألف والياء أنّها إذا
كانت إضمار مذكّر بعد حرف ساكن أو مجزوم، حرّكوا الساكن، أو
المجزوم بالضمّ، وذلك قولهم في الوقف: «لم يضربه، وقده، ومنه»
«3» وقد كسروا أيضا قبله التاء التي
__________
(1) سقطت: «به» من (ط).
(2) في سيبويه 2/ 285: زعم الخليل أن بعضهم يقول: رأيت رجلأ
فيهمز ... فهمز لقرب الألف من الهمزة.
(3) قال زياد الأعجم شعره ص 69:
عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزيّ سبني لم أضربه
وانظر سيبويه 2/ 287.
(1/64)
للتأنيث، وذلك قولهم: ضربته. ومثل هذا في
قول أبي الحسن قول بعضهم: ادعه، فكسروا العين للساكن الثاني
الذي هو هاء الوقف، فإذا وصلت أسكنت كلّ ذلك، لأنّك تحرك هاء
الضمير فتبيّن الحركة «1».
قال أبو زيد: قال- يعني رجلا عربيا-: لم أضربهما، فكسر الهاء
مع الباء. قال أبو علي: فهذا على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف
نحو: «سبسبّا» «2»، ولا تحمله على «3» أجوءك «4» ونحوه، لأنّ
سكون الإعراب مثل حركته، فلا يتبع «5» غيره، كما أن حركة
الإعراب لا يبدل «6» منها للإتباع، كما لا تسكن في حال السعة
والاختيار، ألا ترى أن من قال:
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة/ 34] لم يكن مصيبا، ولم يجز
كما جاز «منتن» وكما جاز وَعَذابٍ ارْكُضْ «7» [ص/ 41 - 42]،
__________
(1) في (ط): فتبين بالحركة.
(2) إشارة إلى بيت نسبه ابن السيرافي وغيره إلى رؤبة في أبيات
وردت في زيادات ديوانه ص 169 منها:
لقد خشيت أن أرى جدبّا ... في عامنا ذا بعد ما اخصبّا
وفيها:
وهبت الريح بمور هبّا ... تترك ما أبقى الدبا سبسبا
المور بضم الميم: الغبار، والسبسب: القفر، والدّبا بتشديد
الدال المفتوحة الجراد، انظر شرح شواهد الشافية: 254 وما
بعدها. وسيبويه 2/ 282 وشرح أبياته لابن السيرافي 2/ 379.
(3) في (ط): على باب.
(4) أجوءك يريد: أجيئك انظر سيبويه 2/ 255 - 256.
(5) كذا في (ط): وفي (م): «تتبع».
(6) في (ط): سقطت كلمة «الاعراب»، وفي (م) «تبدل».
(7) في (م): «بعذابن اركض».
(1/65)
وليس قوله: لم أضربهما مثل:
... لم يلده أبوان «1» لأنّ التحريك لالتقاء الساكنين، وذلك
أنّه لمّا أسكن العين التي وليت حرف المضارعة حيث كان مثل:
كبد، كما أسكن «تفخا» من قوله: أراك منتفخا، التقى ساكنان
فحرّك لذلك، ومثل ذلك قوله سبحانه: وَيَخْشَ اللَّهَ
وَيَتَّقْهِ [النور/ 52] ومثل «لم يلده» ما أنشده أبو زيد:
أجرّه الرّمح ولا تهاله «2»
__________
(1) إشارة إلى بيت لرجل من أزد السراة، وتمامه:
ألا ربّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
قال ابن السيرافي: أراد بالمولود الذي لا أب له عيسى، وبذي
الولد الذي لم يلده أبوان آدم، عليهما السلام، انظر الكتاب: 1/
341، 2/ 257، 258 باب ما يسكن استخفافا وهو عندهم متحرك. وشرح
شواهد الشافية 4/ 22.
(2) صدره: «مهلا فداء لك يا فضاله» أجره: طعنه وترك الرمح فيه
يجره. ولا تهاله، أراد: لا تهل بالجزم على البناء للمجهول، أي:
لا يفزعك شيء، والهاء للوقف. وروى هذا البيت ابن يعيش في شرح
المفصل: 9/ 29 وانظر نوادر أبي زيد/ 13. وسر الصناعة ص 92.
واللسان/ هول وفدى/.
قال أبو زيد: كسر الراء لالتقاء الساكنين، ولو فتح كان أجود.
وقال: قال أبو حاتم. ولا تهاله: فتح اللام، أراد النون الخفيفة
فحذفها. وفي سر صناعة الإعراب: قالوا فتح اللام لسكونها وسكون
الألف قبلها. واختار الفتحة لأنها من جنس الألف التي قبلها،
فلما تحركت اللام لم يلتق ساكنان، فتحذف الألف لالتقائهما.
وانظر شرح أبيات المغني 7/ 358 ففيه فضل بيان.
(1/66)
ألا تراه حرّك اللام المنجزمة بالفتح،
لالتقاء الساكنين، كما فعل ذلك في «لم يلده». إلّا أنّ اللام
في «تهاله» حرّكت للساكن الثاني فكان القياس ألّا تردّ الألف
التي هي ردف،
كما لم تردّ فيما حكاه سيبويه من قولهم: لم أبله. وليس قول من
قال: (ويتقه) كما أنشده أبو زيد «1»:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا لأنّ هذا إمّا أن يكون على سبسبّا
«2» أو على: لم يك «3».
ووجه ثالث: وهو أن يجرى الوصل في قوله: اشتر لنا، مجرى الوقف.
ومن ذلك «4» أنّهم حذفوها لاما كما حذفوا الياء وأختها، وذلك
نحو: شاة وشفة وسنة فيمن «5» قال: سنهاء، وفم.
فبحسب كثرة الشبه يحسن إجراؤها مجرى ما قام فيها الشبه منه،
ألا ترى أنّ الشيء إذا أشبه في كلامهم شيئا من وجهين
__________
(1) في النوادر ص 308 وهو من رجز لرجل من كندة يقال له:
العذافر- بضم العين وكسر الفاء- وبعده وهات برّ البخس أو دقيقا
والبخس بفتح الباء: أرض تنبت من غير سقي، وانظر شرح شواهد
الشافية: 226 للبغدادي.
(2) أي: على أنه وقف ثم وصل.
(3) أي: حذف الآخر تخفيفا.
(4) ومن ذلك، أي: ومما يدل على خفاء الهاء ومشابهتها الياء،
وهو عطف على قوله: ومما يدل ص/ 64.
(5) كذا في (ط): وفي (م): فمن: وهو تحريف.
(1/67)
فقد تجري عليه أيضا «1» أشياء من أحكامه،
نحو أبواب ما لا ينصرف، ونحو شبه «ما» ب «ليس». فإذا زاد على
ذلك كان تشبيهه بالمشابهة له «2» من جهات كثيرة أجدر.
ومن ذلك أنهم «3» أبدلوها من الياء، كما أبدلوا منها الألف في
«طائيّ» ونحوه. وذلك قولهم: ذه أمة الله «4». في ذي «5». تسكن
في الوصل كما أسكنت ميم عليهم وعليكم فيه، من حيث لزم ما قبلها
ضرب واحد من الحركة، وتلحق هذه الهاء التي هي بدل من الياء في
الوصل الياء، وذلك قوله تعالى: قل هذهي سبيلي [يوسف/ 108] فإذا
وقفت قلت:
هذه تحذفها كما حذفتها في عليه وبه في الوقف، وهذا على لغة أهل
الحجاز، فأما بنو تميم فإنهم يقولون في الوقف «6»:
هذه، فإذا وصلوا قالوا: هذي فلانة.
ومن ذلك أنهم أبدلوا الياء منها في التضعيف، كما أبدلوا الألف
من الياء في حاحيت، وذلك قولهم في دهدهت «7»:
دهديت، وقالوا: دهدوهة كدحروجة. وقالوا: دهديّة، فأبدلوا. ومن
ذلك أنّهم أبدلوا الهمزة منها لاما كما يبدلونها من حروف
اللين، وذلك قولهم: ماء. قال أبو زيد: قالوا: ماهت الركيّة
تموه وتميه وأماهها صاحبها إماهة. وأنشد أحمد بن يحيى «8»:
__________
(1) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(2) في (ط): بالمشابه له.
(3) في (ط): كما أنهم.
(4) انظر سيبويه 2/ 295.
(5) في (ط): ذي أمة.
(6) في (ط): فإنهم في الوقف يقولون.
(7) كذا في (ط)، وسقطت «في» من (م).
(8) هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار النحوي
الشيباني
(1/68)
إنّك يا جهضم ماه القلب ... ضخم عريض
مجرئشّ الجنب
«1» ومما يقوّي شبهها بالألف أنّ ناسا كسروها مع حجز الحرف
بينها وبين الكسرة، فقالوا: منهم، كأنّهم لمّا رأوها جارية
مجرى الألف جعلوها بمنزلة جلباب وحلبلاب «2»، فإذا كانوا قد
كسروا مع هذا الحاجز فأن يكسروا إذا لم يحجز بين الكسرة والياء
شيء أجدر، وهذه اللغة وإن كان سيبويه «3» قد سماها اللغة
الرديئة فلها من وجه القياس ما ذكرته.
ويقوّيه أيضا من جهة القياس قول الجميع: هو ابن عمي دنيا فقلب
«4» من أجل الكسرة، وإن كانت العين قد حجزت، وقولهم: قنية،
وزيد من العلية.
ويقويه أيضا ما حكاه أبو زيد من أن رجلا من بني «5» بكر بن
وائل قال: أخذت هذا منه ومنهما ومنهمي. قال أبو زيد: فكسر
الاسم المضمر في الإدراج والوقف.
__________
بالولاء، المعروف بثعلب، وتقدمت ترجمته ص/ 11.
(1) رواه في اللسان في مادة «جرش».
إنك يا جهضم ما هي القلب ... جاف عريض مجرئش الجنب
كما رواه أيضا في مادة «موه»: ما هي القلب، وقال في معناه:
جبان كأن قلبه في ماء، ورواه فيها أيضا: ماه القلب بضم الهاء
كما هنا، ومعناه: كثير ماء القلب، وماه القلب: بليد. والمجرئش
المنتفخ الجنبين.
(2) حلبلاب بكسر الحاء واللام: اللبلاب بفتح اللام، والمراد
أنهم أمالوا الالف في كلا اللفظين مع الحاجز بينهما وبين
الكسرة، فكذلك الهاء.
(3) انظر الكتاب 2/ 294.
(4) أي: فقلب الواو ياء لأن أصله دنوا.
(5) سقطت كلمة بني من (ط).
(1/69)
قال أبو زيد: وقال يعني هذا الرجل: عليكم،
فضمّ الكاف.
ومما يؤكد كسر الهاء أن ناسا من بكر بن وائل قالوا:
بكم، و «فضل أحلامكم» «1»، فكسروا تشبيها لها بالهاء من حيث
اجتمعا في الهمس وعلامة الضمير، فإذا أجروا هذا مجرى الهاء
لقيام شبهين من الهاء فيه، فإتباع الهاء الكسرة للمشابهات التي
فيها من حروف اللين وكثرتها أولى، واستجازة غيره أبعد.
ومن ثمّ ألحق الكاف حرف اللين من ألحق، فقال:
أعطيتكاه للمذكّر، وأعطيتكيه للمؤنث، كما ألحقه الهاء في
أعطيتهاه، وأعطيتهوه، لاجتماعهما فيما ذكرت لك «2»، فكسرهم
للكاف في بكم «3» يدلّ على استحكام الكسرة في الهاء وكثرتها
فيها.
فإن قال قائل: إنّ الضمة هي الأصل في عليهم وبهم ونحو ذلك
بدلالة أن علامة المضمر المجرور كعلامة المضمر المنصوب المتصل،
وأنّ ما جاز فيه الكسر جاز فيه الضمّ، نحو (بهو وبدارهو الأرض)
وليس كل ما جاز فيه الضم يجوز فيه الكسر، تقول: هذا له، وسكنت
داره، ولا يجوز كسر الهاء في شيء من ذلك. وإذا كان استعمال
الضمّ فيه أعمّ وكان الأصل، وجب أن يكون أوجه من الكسر. قيل:
إن كون الضمّ الأصل ليس ممّا يجب من أجله أن يختار على الكسر
مع مجاورة الكسرة أو الياء، لأنّه قد تحدث أشياء توجب تقديم
غير الأصل
__________
(1) قطعة من بيت للحطيئة في ديوانه ص 140، والكامل للمبرد ص
534، وتمامه:
وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الدهر ردّوا فضل أحلامكم
ردّوا
(2) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(3) في (ط): في نحو بكم.
(1/70)
على الأصل، طلبا للتشاكل وما يوجب
الموافقة، ألا ترى أنّ الأصل الذي هو السين في الصراط الصاد
أحسن منه، وأن النون التي هي الأصل في شنباء قد رفضت وترك
استعمالها، وكذلك الأصل في شقرة «1» ونمر «2» في باب الإضافة
«3» قد رفض، وكذلك الأصل في حنيفة وجديلة فيها «4» قد رفض، ولم
يستعمل إلّا في أحرف يسيرة. والأصل في يرى قد رفض مع جميع حروف
المضارعة في حال السعة والاختيار.
والأصل في عيد كذلك أيضا، ومن ثمّ كسّر على أعياد، ولم يكن
كالأرواح. والأصل في الدنيا قد رفض في جميع بابه إلا في
القصوى، كما رفض الأصل في تقوى وشروى، والأصل في فاء آدم وآخر
أن يكون «5» همزة، وقد ترك ذلك بدلالة أوادم وأواخر، وإجرائهم
إيّاه مجرى ضوارب. وكذلك جاء في قولي «6» الخليل والنحويين.
والأصل في قسيّ أن يكون على فعول، وأن يكون في الفاء الضم
والكسر مثل حقي وعصيّ. وحقيّ وعصيّ. ولم نعلم أحدا ممّن يوثق
بروايته حكى الضمّ في فاء هذه الكلمة، والأصل تقديم حرف العلة
على السين التي هي لام، وأن تكون الواو مصحّحة كما صحت في
العتوّ ونحوه من المصادر، فترك
__________
(1) الشّقر ككتف: شقائق النعمان، واحدتها: شقرة.
(2) في (ط): ونمرة.
(3) أي النسب.
(4) في (ط): فهذا.
(5) كذا في (ط). وفي (م): «تكون».
(6) في (ط): قول، ويريد بقول الخليل أن الأصل: جايئ فقدم
الهمزة، وبقول النحويين أن الأصل: جائئ، ثم قلبت همزة اللام
ياء.
(1/71)
ذلك إلّا في نحو ونحو ونحوّ. فهذه كلمة قد
ترك الأصل فيها في ثلاثة مواضع. وهذا ممّا يقوّي قراءة حمزة في
(بيوت) «1» ونحو ذلك «2» على أن سيبويه حكى في تحقير
بيت: بييت «3»، فإذا جاز إبدال الضمة كسرة في التحقير لمكان
الياء، فكذلك يجوز أن تبدل من ضمّة فاء فعول، في الجمع، الكسرة
من أجل الياء. ألا ترى أنه قد قال: إنّ التحقير والتكسير من
واد واحد.
فإذا رأيت هذه الأشياء وغيرها قد تركت فيها الأصول، واطّرحت في
كثير منها، واختير عليها غيرها لمشابهات تعرض، أو تخفيف يطلب
أو غير ذلك، لم ينكر أن يترك الأصل الذي هو الضمّ في عليهم،
ويؤثر عليه الكسر ليتشابه الصوتان ويتّفقا ويكون مع ذلك أخفّ
في اللفظ.
فإن قال: إنّ الألف التي شبّهت بها الهاء في عليهم ودارهم لا
تكون إلا ساكنة، وهذه الهاء متحركة فكيف وفّقت بينهما مع
اختلافها من حيث ذكرنا؟ قيل: إنّ هذا الذي ذكرت من الخلاف
بينهما لا يوجب لهما اختلاف حكم بينها وبين الألف فيما ذكرنا،
لأنّهم قد جعلوا الهاء متحركة بمنزلة الألف الساكنة، ألا ترى
أن قول الأعشى «4»:
رحلت سميّة غدوة أجمالها اللام فيه حرف الرويّ، والهاء وصل،
فجعلت الهاء مع
__________
(1) من قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في الآية 36 من سورة النور.
(2) في (ط): ونحوه.
(3) بكسر الباء انظر الكتاب: 2/ 136.
(4) صدر بيت في ديوانه ص 27، وعجزه:
غضبى عليك فما تقول بدا لها
(1/72)
تحركها بمنزلة الألف والواو والياء والهاء
والسواكن في نحو:
عاذل والعتابا «1» ونحو:
حبيب ومنزلي «2» وإن لام لائمو «3» والهاء في:
أعارتكهما الظبية «4» وبكّي النساء على حمزة «5»
__________
(1) إشارة إلى مطلع قصيدة لجرير في ديوانه 2/ 813، وتمامه:
أقلي اللوم عاذل والعتابا ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
والبيت من شواهد سيبويه 2/ 298، 299 ومن شواهد شرح المغني
للبغدادي 6/ 46.
(2) إشارة إلى مطلع معلقة امرئ القيس في ديوانه ص 143، وتمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 4/ 21.
(3) من مطلع قصيدة للأعشى، وتمامه:
هريرة ودّعها وإن لام لائم ... غداة غد أم أنت للبين واجم
واستشهد به سيبويه في الكتاب: 2/ 298، وانظر الديوان/ 77. وشرح
أبيات المغني 7/ 94.
(4) من قوله:
رميتيه فأقصدت ... وما أخطأت الرميه
بسهمين مليحين ... أعارتكيهما الظبية
والأكثر أن يقال: رميته بكسر التاء دون ياء. وأنشد البيتين أبو
حيان في تذكرته عن أبي الفتح بن جني. قاله البغدادي في الخزانة
2/ 401.
(5) عجز بيت لكعب بن مالك من أبيات يبكي بها حمزة، وصدره:
صفية قومي ولا تعجزي انظر سيرة ابن هشام: 2/ 158.
(1/73)
فكما جرت وهي وصل متحركة مجرى السواكن
بدلالة أنّه لا شيء في هذه الحروف يكون متحركا وصلا إلّا
إيّاها، وما كان منها متحركا غيرها كان رويّا، ولم يكن وصلا
كالواو في قوله:
وعينيك تبدي أنّ قلبك لي دوي «1» والياء في:
وإنّما يبكي الصّبا الصّبيّ «2» وكقوله «3»:
فقد كان مأنوسا فأصبح خاليا «4» كذلك يكون في قولهم «5»: بهي
وعليهي، وإن كانت متحركة بمنزلة الألف فتتبع الياء أو الكسرة
كما تتبعها الألف.
وليست الهاء في قول القائل «6»:
__________
(1) عجز بيت ليزيد بن الحكم الثقفي، مطلع قصيدة له، وتمامه في
رواية القالي والفارسي في المسائل البصرية، كما ذكره البغدادي:
تكاشرني كرها كأنك ناصح ... وعينك تبدي أن صدرك لي دوي
والدوي: المريض، وهنا بالحقد والكراهية، انظر الأمالي: 1/ 68.
وشرح المفصل لابن يعيش 3/ 119 وشرح أبيات المغني 5/ 181 وقد
أورد له القصيدة بتمامها عن الفارسي.
(2) من أرجوزة للعجاج أولها:
بكيت والمحتزن البكيّ ... وإنّما يأتي الصّبا الصبيّ
انظر ديوانه 1/ 480، وأراجيز العرب للبكري ص 174. وشرح أبيات
المغني 1/ 55.
(3) في (ط): ونحو.
(4) لم نعثر على قائله.
(5) في (ط): قوله.
(6) البيتان من مشطور الرجز في الخصائص 2/ 246 عن أبي علي
الفارسي وبعدهما:
(1/74)
شلّت يدا فارية فرتها ... وفقئت عين التي
أرتها
كالتي في قوله:
غدوة أجمالها «1»:
وإنّما هي بمنزلة التاء فيما أنشده أبو زيد:
ألا آذنتني بالتّفرّق جارتي ... وأصعد أهلي منجدين وغارت
«2» فالألف في الأبيات تأسيس، وليست «3» بردف، وإن كان قد لزم
الراء التي لا تلزمه [في الأبيات] «4»، ألا ترى أنّه لو قال:
عاجت مع غارت كان مستقيما.
ومما يدل على أنّ الهاء وإن كانت متحركة لم تخرج بحركتها عن
الخفاء ومشابهة الألف والياء الساكنة: أنّهم لم
__________
مسك شبوب ثم وفّرتها ... لو خافت النزع لأصغرتها
وفي الصحاح واللسان والتاج (صغر- فرى) ما عدا قوله:
«وفقئت عين التي أرتها» وزاد الصاغاني في التكملة (صغر)
مشطورين آخرين، وذكر الشعر أيضا في (فرى) من دون زيادة،
والأبيات منسوبة عند الصاغاني وصاحب التاج إلى صريع الركبان.
قال الصاغاني: واسمه جعل. وفي بعضها اختلاف في الرواية.
والأبيات في وصف دلو.
قوله: فرتها، أي: عملتها. والشبوب: الشاب من الثيران. والمسك:
الجلد. وأصغرتها، من قولهم: أصغرت القربة: إذا خرزتها صغيرة.
(1) سبق تخريجه ص 72.
(2) من أبيات خمسة لزهير بن مسعود. في نوادر أبي زيد/ 38.
(3) في (ط): وليس.
(4) زيادة من (ط).
(1/75)
يعتدّوا بها وهي متحركة، فصلا، بل جعلوا
ثباتها كسقوطها.
وذلك قولهم: يريد أن يضربها وينزعها وبيني وبينها، فأمالوا
الفتحة التي قبل الهاء كما يميلها إذا قال: يريد أن ينزعا،
وعلى هذا قالوا: مهاري فأمالوا فتحة الميم كما يميل إذا قال
ماري، فإذا لم يعتدّ بها متحركة في هذا الموضع، فأن تجرى مجرى
الألف في دارهم «1» وعليهم وبهم، فتقرّب من الياء أو الكسرة
بأن تكسر بعد كل واحد منهما، أسهل من ذلك.
ويدل «2» على ذلك أيضا أنّ من قال: ردّ أو ردّ إذا قال:
ردّها، اجتمعوا على فتح الدال فيما حكى من يوثق به، كما يجمعون
على فتحها إذا لم يحل بينها وبين الألف شيء في ردّا، فإذا صنع
بها هذا وما ذكرته قبل، علمت أن إجراءها مجرى الألف في السكون
أسهل. ومن هاهنا كان الوجه في القراءة:
فِيهِ هُدىً [البقرة/ 2]، وخُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ [الحاقة/
30 - 31] أن يحذف «3» الحرف اللّين اللاحق للهاء، لأن الاعتداد
في هذين الموضعين لم يقع بها متحركة وفي «أجمالها» «4» لم يقع
الاعتداد بحركتها فيحصل من اعتبار كلا الموضعين أنّك كأنّك
جمعت بين ساكنين.
فإن قال: فما وجه حذف حرف الليّن بعد الميم واختياره على وصلها
بحرف اللين؟ فإن وجه ذلك أن هذه الحروف قد تستثقل فتحذف في
مواضع لا يحذف فيها غيرها، ألا ترى أنّهم حذفوا اللام من
قولهم: ما باليت به بالة، وحانة. ولا تجد هذا
__________
(1) في (ط): دراهم، وهو تحريف.
(2) في (ط): ويدلك.
(3) في (ط): يحذف معه الحرف.
(4) من بيت الأعشى السابق ص 72.
(1/76)
الحذف إلا فيه وفيما جانسه، وأجمعوا على
حذف ما انقلب «1» عن اللام في نحو مرامى في الإضافة. وحذفوا
الياء عندنا من نحو: جوار وغَواشٍ [الأعراف/ 41] وحذفوا الياء
والواو من نحو: حنيفة، وشنوءة في الإضافة، وجعلوا الأصل في
تحيّة فيها «2» بمنزلتهما، ورفضوا فيها الإتمام الذي هو في
الأصل فيمن قلب «3» فقالوا: أسيدي، وحذفوهما في الفواصل
والقوافي. ولما استمر ذلك فيها وكثر، جعلوا ما كان اسما بمنزلة
غيره في استجازة حذفها. قال:
لا يبعد الله أصحابا تركتهم ... لم أدر بعد غداة الأمس ما صنع
«4» وقال:
لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها ... سوف العيوف لراح الرّكب قد قنع
«5» رواية الكتاب: ساوفتنا، وقد روي: لو ساعفتنا،
__________
(1) أي: حذف الألف التي أصلها ياء لام الكلمة.
(2) أي في الإضافة، يريد أن ياء تحية الأصلية حذفت في النسب
كياء حنيفة.
(3) المراد عند من قلب في تصغير أسود فقال: أسيّد، وإلا فبعضهم
يقول:
أسيود، في تصغيره فلا يحذف في الإضافة.
(4) البيت لتميم بن مقبل من قصيدة في ديوانه 168 وهو من شواهد
سيبويه 2/ 301 وشرح شواهد الشافية 4/ 236.
(5) أنشده سيبويه في الكتاب: 2/ 301، وهو لتميم في ديوانه 172
والبيت مع سابقة من قصيدة واحدة له، وساوفتنا أي: وعدتنا وعدا
مستأنفا، وبسوف: من التسويف، أي: لو وعدتنا بتحية فيما يستقبل
وإن لم تف بها لقنعنا بذلك.
(1/77)
السوف: الشمّ والعيوف تسوف ولا تشرب. يريد:
صنعوا قنعوا «1». وقال:
يا دار عبلة بالجواء تكلم «2» فكما حذفوهما في هذه المواضع،
كذلك حذفوهما في عليهم ونحوه، للخفّة في اللفظ، وأمن اللبس،
ألا ترى أن هذه الميم إنّما تلحقها الألف أو الواو أو الياء
المنقلبة عنها [و] «3» الألف لا تحذف كما تحذفان، لأنّ من قال
«ما صنع» يريد صنعوا «4» قالوا: ومن قال «5» «تكلم» يريد:
تكلمي. يقول:
خليليّ طيرا بالتفرّق أوقعا «6» فلا يحذف الألف كما حذف الواو
والياء، ومن قال:
وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر/ 4] وذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ
[الكهف/ 64] قال: واللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا
تَجَلَّى [الليل/ 1 - 2] فلا يحذف الألف من الفواصل كما يحذف
الياء، وكذلك لا يحذفها من القوافي في نحو:
داينت أروى، والدّيون تقضى ... فمطلت بعضا، وأدّت بعضا
«7»
__________
(1) وهما رواية الديوان.
(2) من معلقة عنترة، وتمامه: «وعمي صباحا دار عبلة واسلمي»
ديوانه/ 183 وانظر الكتاب لسيبويه 2/ 302 وشرح القصائد السبع
الطوال الجاهليات للأنباري/ 296.
(3) سقطت الواو من (م).
(4) كلمة «صنعوا» مطموسة في (م).
(5) في (ط): وقال.
(6) أنشده سيبويه 2/ 302 عن الخليل، وانظر شرح شواهد الشافية/
239.
(7) من أرجوزة لرؤبة بن العجاج في ديوانه/ 79 وورد في الكتاب:
2/ 300 بدون عزو، وانظر شرح شواهد الشافية 233.
(1/78)
فكما لا تحذف ألف «بعضا» كذلك لا تحذف ألف
«تقضى» «1». فأمّا ما حذفه من قوله:
رهط مرجوم ورهط ابن المعل «2» فللضّرورة، والتشبيه بالياء
لإقامة القافية، وليس ذلك ولا ما أشبهه ممّا يستقيم الاعتراض
به. فإذا كانت هذه الميم لا تلحقها إلا الألف أو الواو، أو
الياء. والألف لا تحذف، علم أنّ الذي يلحقه الحذف الواو أو
الياء المنقلبة عنها من أجل الكسرة، فلم يقع لبس، وحصل التخفيف
في اللفظ، ولم تخل هذه الواو أو الياء في عليهم ونحوه من أن
تكون بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، أو ممّا لحق لمعنى، فإذا
كانوا قد حذفوا القبيلين جميعا، وحذفوا التي للضمير، ولم «3»
يبق في لفظ الكلمة المحذوف منها شيء يدلّ عليها، كان أن يحذف
من نحو: «عليهم» للدلالة عليه أحسن وأولى.
فإن قلت: فإذا حذفت الواو والياء اللتان كانتا تتصلان
__________
(1) في (ط): فكما لا تحذف ألف تقضى، كذلك لا تحذف ألف بعضا.
(2) في (ط): من رهط مرجوم ... ونسب هذا البيت في اللسان
والتاج/ رجم/ إلى لبيد، ونسبه أبو علي في هذا الكتاب في ص 141
له، وليس في ديوانه، وتمامه:
وقبيل من لكيز شاهد ... رهط مرجوم ورهط ابن المعلّ
يريد: ابن المعلّى انظر الكتاب: 2/ 291، والخصائص: 2/ 293.
وشرح شواهد الشافية ص 207.
والقبيل: العريف والكفيل. لكيز: أبو قبيلة. مرجوم وابن المعلى:
سيدان من لكيز.
(3) في (ط): وإن لم.
(1/79)
بالميم فلم حذفت حركة الميم في الوصل من
نحو: عليهم وبهم؟ قيل: لمّا حذفت الواو والياء «1» للتخفيف
ولما قام على لزوم حذفهما من الدلالة، كره أن تبقى الكسرة أو
الضمة، لأنّهما قد يكونان بمنزلة الياء والواو، في باب الدلالة
عليهما، ألا ترى أنّك تقول في النداء: يا غلام أقبل، فيكون
ثبات الكسرة كثبات الياء وتقول: أنت تغزين يا هذه، فتشمّ الزاي
ليكون ذلك دلالة على الواو المحذوفة، فكما كانتا في هذه
المواضع بمنزلة الياء والواو، كذلك لو لم تحذفا مع الميم من
عليهمي «2» وعليهمو كان إثباتهما بمنزلة إثباتهما، ودالّا
عليهما، فيصير بإثباتهما كأنّه لم يحذف الحرفين، كما كان
إثباتهما حين ذكرتا بمنزلة إثبات الحرفين.
ويدلّ على وجوب إسكان الميم أنّ الحركة لو أثبتت، ولم تحذف كان
فيها استجلاب بإثباتهما للمحذوف، ألا ترى أن الضمة والكسرة إذا
ثبتتا «3» قد يشبعان «4» فيلحقهما الواو والياء، فمن إشباع
الضمة قول الشاعر- أنشده أحمد بن يحيى-:
وأنّني حوثما يسري الهوى بصري ... من حوثما سلكوا أثني فأنظور
«5»
__________
(1) في (ط): أو الياء.
(2) في (ط): في عليهمي.
(3) في (ط): إذا أثبتتا.
(4) في (ط): قد تشبعان.
(5) قال ابن جني في سر الصناعة (1/ 29) أنشدني أبو علي:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور
وأنني حيثما يثني الهوى بصري ... من حوثما سلكوا أدنو فأنظور
يريد فأنظر فأشبع ضمة الظاء، فنشأت عنها واو. وانظر شرح أبيات
المغني للبغدادي 6/ 140.
(1/80)
ومن إشباع الكسرة:
لما نزلنا نصبنا ظلّ أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل
«1» فلو أتيت ما يجلبهما في بعض الأحوال كان ذلك كالنقض لما
قصد من التخفيف بحذفهما. وقد جرت الفتحة في ذلك مجرى أختيها،
قال ابن هرمة «2»:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح
وإذا أسكن أمن هذا، ألا ترى أنهم لم يصلوا القوافي الساكنة،
ومن ثم كانت الهاء رويّا في: «فرتها» «3» ولم تكن وصلا كما
كانت إيّاه في: «أجمالها» «4».
فإن قلت: فهلّا أثبتت حركتها، كما أثبتت حركة الهاء في
__________
(1) من مفضلية عبدة بن الطبيب الشاعر المخضرم، ورواية
المفضليات:
لما وردنا رفعنا ظلّ أردية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
والمراجيل جمع مرجل وهو القدر، وانظر المفضليات ص 141 وشرحها ص
284.
(2) من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد، أحد القرشيين، وكان
قاضيا لجعفر بن سليمان. وأولها:
أعبد الواحد المحمود إني ... أغص حذار سخطك بالقراح
وانظر الحماسة البصرية 1/ 190، وشرح شواهد الشافية: 25.
(3) إشارة إلى البيت: «شلت يدا فارية فرتها» وتقدم في ص/ 75.
(4) إشارة إلى البيت:
رحلت سمية غدوة أجمالها وقد تقدم في ص/ 72.
(1/81)
عليه ونحوه بعد حذف حرف اللين «1»، ليتفقا
في التحرك، كما اتفقا في حذف حرف اللين منهما وكما اتفقا في
الحذف في الوقف. قيل: الفصل بينهما أن الميم في عليهم، وعليكم،
ودارهم، وبهم، لا يخلو ما قبلها من أن يكون ضما أو كسرا فما
يستثقل لازم له، والهاء في الإفراد لا تكون كذلك، لأن ما قبلها
قد يكون مفتوحا في نحو: رفعت حجره، وقدت جمله.
وقد يكون ساكنا في نحو: عصاه، وعليه، واضربه، فهذه الهاء إذا
تصرف ما قبلها هذا التصرف، علمت أنّها لا تكون بمنزلة هاء
الجميع التي لا تخلو من الضمة والكسرة وهما يستثقلان فخفّف
بحذف الحركة وإلزامها ذلك كما خفّف نحو: عضد وكتف، ولم يخفّف
نحو: جمل.
فأمّا اتّفاقهما في الحذف في الوقف فلأنّهما قد حذفا في الوصل
في: عليهم وعليكم، فلما اتفقا في الحذف في الوصل وكان الوقف
يحذف فيه ما لا يحذف في الوصل نحو الحركات، وجب أن يلزم فيه
الحذف ما يحذف في الوصل، لأنّ الوقف موضع تغيير.
وممّا يقوّي حذف هذه الحركة من الميم في «عليهم» ونحوه أنّها
لو أثبتت ولم تحذف لأدّى ذلك إلى اجتماع أربع متحركات وخمس،
وذلك ممّا قد كرهوه حتى لم يأخذوا به في أصول أبنيتهم، إلا أن
يكون قد حذف منه شيء «2»، ولا في أوزان الشعر إلّا أن يلحقه
ذلك أيضا، وقد رفضوا أن تجتمع
__________
(1) في (ط): بعد حذف اللين.
(2) أي: في نحو علبط، وهو: الضخم. والأصل علابط.
(1/82)
خمس متحركات في شيء من أوزان الشعر. ومن
ثمّ تعاقبت السين والفاء في مستفعلن التي هي عروض البيت الأول
من المنسرح، لأنّهما لو حذفا جميعا وقبلها تاء مفعولات لاجتمع
خمس متحركات، فلما كان يؤدّي إلى ما قد تركوه، واطّرحوه، حذفوا
الحركة فيه.
ألا ترى أنهم تركوا الابتداء بأنّ الثقيلة المفتوحة لما كان
يؤدي إليه من اجتماع حرفين لمعنى «1» وتركوا أن يخرموا من أول
الكامل كما خرموا من أول الطويل والوافر ونحوهما لما كان الخرم
فيه يؤدّي إلى الابتداء بالساكن؟ فكذلك حذفت الحركة في الميم
من «عليهم» ونحوه لمّا كان يؤدّي إلى ما قد رفضوه في كلامهم من
توالي المتحركات، وجعل غير اللازم في هذا كاللازم، كما جعل
مثله في: فعل لبيد، و (لا تناجوا) «2» ومررت بمال لك، ونحو
ذلك.
الحجة لحمزة في قراءته (عَلَيْهِمْ):
فأمّا قراءة حمزة: (عليهم) وأختيها بالضم فليس على أنّه لم
يتبع الهاء الياء مع المشابهات التي بينهما، ولكنّه لمّا وجد
هذه الياءات غير لازمة، وما كان غير لازم من الحروف فقد لا يقع
الاعتداد به في الحكم وإن ثبت في اللفظ، وكانت الياء
__________
(1) أي: لاحتمال أن تكون بفتح الهمزة أو كسرها، إذا صح
الابتداء بأن المفتوحة فيلزم اجتماع حرفين لمعنى.
(2) في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ في الآية 9 من سورة المجادلة، وإدغام
تاء تتناجوا في التاء بعدها قراءة ابن محيصن، وليست من السبع.
(1/83)
بمنزلة الألف في قرب المخرج والاجتماع في
اللين وإبدال إحداهما من الأخرى في نحو:
لنضربن بسيفنا قفيكا «1» أجرى الياء مجرى الألف، فضمّ الهاء
بعد الياء، كما يضمّها بعد الألف، وقوّى ما رآه من ذلك عندنا
أن سيبويه حكى «2» عن الخليل: أن قوما يجرونها مع المضمر
مجراها مع المظهر، فيقولون: علاك وإلاك. فهذا يقوّي أن الياء
لمّا لم تلزم لم يكن لها حكم اللازم، كما أن الواو في ضوء «3»
إذا خففت الهمزة فلم تلزم لم يلزمه القلب، كما «4» أن التاء في
قائمة وطويلة لمّا لم تلزم لم يكن لها «5» حكم اللازم، والياء
لما كانت أقرب مخرجا إلى الألف من الواو إليها «6» أبدلت هي من
الألف، كما أبدلت الألف منها، ولم تبدل الألف من الواو على هذا
الحدّ.
ألا ترى أنهم قالوا: حاحيت، وعاعيت، وقالوا في النسب إلى طيئ:
طائيّ وفي الحيرة: حاريّ، وفي زبينة: زباني «7»،
__________
(1) من رجز لرجل من حمير يخاطب عبد الله بن الزبير، وتمامه:
يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنيتنا إليكا
لنضربن بسيفنا قفيكا انظر شرح شواهد المغني للبغدادي الشاهد
رقم/ 249 ج 3/ 347.
وعنيتنا: اتعبتنا.
(2) في (ط): يحكي.
(3) أي: في لغة من يقول ضو دون همز.
(4) في (ط): وكما أن.
(5) في (ط): لم يكن له.
(6) في (م): والهاء، وهو خطأ.
(7) بنو زبينة كسفينة: حي من العرب، والنسبة إليهم زباني على
غير قياس.
(1/84)
وذهب سيبويه في آية وغاية إلى أن الألف «1»
بدل من الياء الساكنة التي كانت «2» في أيّة «3» ولم نعلم
الألف أبدلت من الواو على هذه الصورة إلّا قليلا كياجل في بعض
اللغات.
فأمّا ما يقوله بعض البغداذيّين من أن الألف في داويّة بدل من
الواو في دوّيّة فقد يمكن أن يكون الأمر على خلاف ما ذهب إليه،
وذلك أنه يجوز أن يكون بنى من الدوّ فاعلا كالكاهل والغارب، ثم
أضاف إليه على من قال: حانيّ، ويقوّي ذلك أن أبا زيد أنشد:
والخيل قد تجشم أربابها الشّقّ «4» * وقد تعتسف الداويه «5»
فإن قلت: إنه قد يمكن أن يكون خفف ياء النسب في الداويه لأنّها
قد تخفّف في الشعر، كما أنشده أبو زيد:
بكّي بعينك واكف القطر ... ابن الحواري العالي الذكر
«6»
__________
(1) في (ط): وذهب سيبويه إلى أن الألف في آية وغاية.
(2) سقطت «كانت» من (ط).
(3) بناء على قول سيبويه: إن أصل آية أيّة بالتشديد.
(4) صدر البيت زيادة من (ط).
(5) من شعر نسبه أبو زيد في النوادر ص 62 إلى عمرو بن ملقط،
وانظر شرح المفصل لابن يعيش 10/ 19، وشرح أبيات المغني 2/ 363.
واللسان (شق).
والمعنى: أن الخيل قد تكلف أصحابها المشقة، وقد تقطع الفلاة،
فتمشي على طريق غير مسلوكة.
(6) رواه في اللسان عن ابن دريد في مادة «حور»، ونسبه أبو زيد
في النوادر:
(1/85)
فإن الحمل على القياس والأمر العامّ أولى،
حتى يحوج إلى الخروج عنه أمر يضطرّ إلى خلافه، ويخرج عن الشائع
الواسع.
وممّا يؤكد ذلك أنّ أبا الحسن قال: زعم أبو زيد أنّه لقي
أعرابيا فصيحا: يقول: ضربت يداه، ووضعته علاه. وحكى «1» أبو
عثمان عن أبي زيد أنّه سأل الخليل عمن قال: رأيت يداك، فحمله
على هذا الوجه.
ومن الدلالة على صحّة ما اعتبره حمزة في ذلك، أنّ الياء في
الأواخر في غير هذا الموضع، وقعت موضع الألف في الوصل، والوقف،
وذلك لغة طيئ فيما حكاه عن أبي الخطّاب «2» وغيره من العرب،
وذلك قولهم في أفعا: أفعي «3» فكما جرت الياء مجرى الألف في
هذا عندهم، كذلك أجرى الياء في «عليهم» مجرى الألف، معها، كما
ضمّها مع الألف، إذ كانت الياء في حكمها، وإن لم تكن من لفظها.
وتوافق هذه اللغة في إبدال الياء من الألف قول ناس في
__________
205 إلى ابن الرقيات، وعنه في الديوان 183.
(1) في (ط): ويحكي.
(2) حكاه أي سيبويه: وأبو الخطاب هو عبد الحميد بن عبد المجيد
الأخفش الأكبر مولى قيس بن ثعلبة، كان إماما في العربية، لقي
الأعراب وأخذ عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء وطبقته، وأخذ عنه
سيبويه والكسائي وغيرهما، وهو أول من فسر الشعر تحت كل بيت.
وأنظر البغية للسيوطي:
2/ 74.
(3) هي إحدى لغتي طيئ، والأخرى أفعو بفتح العين وسكون الواو.
(1/86)
الإضافة إلى الياء: (يا بُشْرى) «1». و:
سبقوا هويّ وأعنقوا «2» ...
وممّا يثبت هذه اللغة التي استشهدنا له بها من القياس، أنّها
على قياس ما اجتمع عليه أهل الحجاز وغيرهم من قيس، وذلك أن
بني، تميم يبدلون من الياء الهاء في الوقف في «هذه» فإذا وصلوا
قالوا:
فهذي شهور الصيف «3» ..
كما أن ناسا يقولون: أفعي في الوقف، فإذا وصلوا قالوا:
رأيت الأفعى، فاعلم.
__________
(1) في قوله تعالى: «يا بشراي هذا غلام» في الآية 19 من سورة
يوسف، وإدغام الألف في الياء هي قراءة أبي الطفيل عن النبي
صلّى الله عليه وسلّم كما في طبقات القراء 1/ 177 والمحتسب 1/
76 وعن أبي الطفيل والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم
الجحدري كما في البحر المحيط 5/ 290. وأضاف في البحر 1/ 169
عيسى بن أبي عمر، وهي لغة شائعة لهذيل كما ذكرته المصادر.
(2) من مرثية أبي ذؤيب لأولاده، وتمام البيت:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع
انظر ديوان الهذليين: 1/ 2 وشرح أشعارهم 1/ 7 والبحر المحيط 1/
169.
وقوله هوي: لغة هذيل، يريد: هواي. وأعنقوا: تبع بعضهم بعضا.
أي:
ماتوا قبلي.
(3) لمجنون بني عامر من قوله:
وخبرتماني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت ... فما للنوى ترمي بليلى
المراميا؟
الأغاني: 2/ 10 وديوانه/ 300.
(1/87)
وجعلت طيئ الحرف في الوصل والوقف ياء كما
جعل أهل الحجاز وغيرهم من قيس آخر الكلمة في الوصل والوقف هاء
فقالوا: هذه وهذهي أمة الله، وقالوا في الوقف: هذه، فاجتمعوا
على إبدال الياء هاء كما فعلت طيئ ذلك بالألف فيهما. فإذا عضد
ما ذكرنا من السماع الذي وصفناه من القياس، ثبت بذلك توجّه هذه
اللغة وتقدّمها، وساغ من أجل ذلك التشبيه بها والترجيح لها على
غيرها.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: أفعو، فأبدل الواو من الألف، كما أبدل
الياء منها. فالقول أن إبدال الواو منها ليس بقويّ من جهة
القياس قوة إبدال الياء لما تقدم ذكره، وليس هو أيضا من طريق
السماع في كثرة إبدال الياء منها، لأنّ الياء يبدلها «1» من
الألف في الوقف فيما حكاه عن الخليل وأبي الخطّاب فزارة وناس
من قيس، وفي الوقف والوصل يبدلها «2» منها طيّئ والواو يبدلها
منها بعض طيئ، فما كثر في الاستعمال وعضده قياس لم يكن كما كان
بخلاف هذا الوصف. على أن مشابهة بعض هذه الحروف لبعض لا تنكر
«3»، وإن كانت الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو.
فإن قلت: فإن الياء قد اجتمعت مع الواو في أشياء لم تجتمع
الألف فيها معها، كوقوعها في الردف في نحو: صدود وعميد،
وامتناع الألف من مشاركتهما «4»، وكاجتماعهما في الإدغام في
سيّد ونحو ذلك. فالقول في ذلك أن الشعر يعتبر
__________
(1) في (ط): تبدلها.
(2) في (ط): تبدلها.
(3) في (ط): لا ينكر.
(4) في (ط): مشاركتها، وهو تحريف.
(1/88)
فيه التعديل في الأجزاء، لما يدخله من
الغناء والحداء، فلمّا كان المدّ في الألف أكثر من المدّ الذي
في كل واحد منهما لم تجتمع معهما الألف في الردف، كما لم تقع
واحدة
منهما مع الألف في التأسيس. ويدلّك على أن امتناع الألف في
الاجتماع معهما في الردف لذلك، أنّ الفتحة لمّا لم تكن في مدّ
الألف، لم يمتنع أن تقع «1» قبل حرف الروي مع الضمة والكسرة في
نحو:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... تفليل ما قارعن من سمر الطرق
إذا الدليل استاف أخلاق الطرق ... ألّف شتّى ليس بالرّاعي
الحمق
«2» ألا ترى أن الفتحة لمّا خالفت الألف فيما ذكرنا لم تمتنع
«3» في قول أبي الحسن من أن تجتمع مع الضمة والكسرة. ومما
يدلّك على زيادة المدّ في الألف، استجازتهم تخفيف الهمزة بعدها
في هباءة والمسائل وجزاء أمّه «4»، ولم يفعلوا ذلك بها مع
الواو والياء «5». ولكن قلبوها إلى لفظها في: مقروّ
__________
(1) في (ط): لم تمتنع من أن تقع.
(2) مطلع أرجوزة لرؤبة بن العجاج، والأرجوزة بتمامها في ديوانه
ص 104 - 106، وفي أراجيز العرب/ 22. وقد أورد أشطارا غير متصلة
في الرواية، إذ يعنيه حركة ما قبل الروي ففي الشطرين الأولين
الحركة فتحة وفي الثالث ضمة وفي الرابع كسرة. والطرق: الحجارة.
(3) في (م): بل يمتنع.
(4) وقعت «جزاء أمه» في (ط) على الهامش.
(5) في (ط): مع الياء والواو.
(1/89)
والنسيّ. ومن ثم استجاز يونس إيقاع الخفيفة
بعدها في فعل الاثنين وجماعة النساء، وقرأ بعضهم فيما روي لنا:
وَمَحْيايَ وَمَماتِي «1» [الأنعام/ 162].
وأما امتناعها من الإدغام وجوازه فيهما فإن إدغامها لم يجز في
واحدة منهما لما فيها من زيادة المد «2»: ألا ترى أن الصاد
والسين والزاي «3» لم يدغمن في الطاء والتاء والدال، ولا في
الظاء والثاء والذال، لما فيهنّ من زيادة الصوت التي ليست «4»
في هذه الستة وهو الصفير «5»، وأدغمن فيهنّ. ولم يجز إدغام
الياء والواو في الألف لأنها لا تكون إلا ساكنة والمدغم فيه
تلزمه الحركة، ولأن الحروف المجانسة لها يكره فيها الإدغام.
ومما يقوّي قراءته بالضم في هذه الحروف أنّه قد اعتبر في بعض
الحروف المنقلبة حكم المنقلب عنه، ألا ترى أن الألف إذا كانت
منقلبة عن الياء قرّبت منها فصارت مشابهة لها، ولا يفعل بها
ذلك في الأمر العام إذا كانت منقلبة عن غيرها، وكذلك هذه الياء
في عليهم إذا كانت منقلبة عن الألف جعلت
__________
(1) سكون ياء المتكلم في «محياي» هو جمع بين ساكنين، أجرى
الوصل فيه مجرى الوقف، والأحسن في العربية الفتح.
قال أبو علي: هي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين وشاذة
في الاستعمال. ثم قال: وروى أبو خالد عن نافع: (وَمَحْيايَ)
بكسر الياء انظر البحر 4/ 262.
(2) أي فلو أدغمت فيها لزال المد، وهو مزية للألف.
(3) في (ط): والزاي والسين.
(4) في (ط): الذي ليس.
(5) أي: والصفير مزية لا يجوز إهدارها بالإدغام.
(1/90)
بمنزلة الألف فضمّت معها الهاء ضمك إيّاها
مع الألف، كما قرّبت الألف من الياء لمّا كانت منقلبة عنها.
وقد أريتك فيما تقدم أن المقرّب من الحروف قد يكون في حكم
الحرف المقرّب منه عندهم بدلالة قولهم اجدرءوا «1» واجدمعوا،
وإبدالهم تاء الافتعال مع المقرب إبدالهم إياها مع الحرف
المقرّب منه.
ومما يؤكد ذلك أنّهم قالوا. رويا وروية ونوي «2» فجعلوا [حكم
الواو] «3» حكم الحرف المنقلب عنه، فلم يدغموه في الأمر العام
الشائع، كما لم يدغموا في هذه الياء ما الواو بدل منه، فكذلك
يكون حكم الياء في عليهم حكم الحرف المنقلب عنه.
ومن ذلك أنهم قالوا: بيس فلم يحقق الهمزة، وأقرّ مع ذلك كسرة
الباء فيها، كما كان يكسرها لو حقق الهمزة، أفلا ترى أنّه جعل
حكم الحرف المغير حكمه قبل أن يغيره، فكذلك يضم الهاء مع الياء
المنقلبة عن الألف، كما يضمّها مع الألف.
ومن تشابه الياء والألف أنّ الياء قد أجريت مجرى الألف، فأسكنت
في موضع النصب، فصارت في الأحوال الثلاث «4» على صورة واحدة،
كما أنّ الألف في مثنّى «5» ومعلّى كذلك، وقد كثر هذا «6» في
الشعر، وجاء في الكلام منه أيضا.
وذلك قولهم: أيادي سبا، وأيدي سبا، وبادي بدا وبادي بدي «7»
__________
(1) في (م): اجدرءوا وانظر ص 55.
(2) يريد النؤي، وهو الحفير حول الخباء.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من ط.
(4) يريد أن المنقوص قد تسكن ياؤه نصبا.
(5) في (ط): كما أن ألف مثنى.
(6) أي تسكين الياء.
(7) انظر سيبويه 2/ 54.
(1/91)
وقالي قلا، ومعدي كرب. فالأول من هذه
الأشياء في موضع فتح، لأنّه لا يخلو من أن يكون ككفّة كفّة أو
كفّة كفّة. فأمّا قولهم: لا أكلمك حيري دهر، فإن شئت قلت: إن
الياء للإضافة فلما حذفت المدغم فيها «1» بقيت الأولى على
السكون كقوله:
............. أيهما ... عليّ من الغيث استهلّت مواطره
«2» وإن شئت قلت: إنّه لمّا حذف الثانية جعل الأولى كالتي في
أيدي سبا، ولم يجعله مثل رأيت يمانيا «3». وإن شئت «4» جعله
فعلي «5» وكان في موضع نصب.
فإن قلت: إنّه قد قال: إن هذا البناء لا يكون إلّا بالهاء «6»
فإن شئت «7» جعلته مثل انقحل «8»، وإن شئت قلت:
إن الهاء حذفت للإضافة كما حذفت معها حيث، لم تحذف مع غيرها،
وأن تجعلها للنسب أولى، لأنّهم قد شدّدوها. وكما
__________
(1) في (ط): منها. وقوله: حيري دهر: أي طول الدهر. انظر اللسان
(حير). ويقال: لقيته كفة كفة، أي: استقبلته مواجهة.
(2) بقية بيت للفرزدق في ديوانه 1/ 347، ورواه في اللسان في
مادة «حير» و «أيا» وتمامه:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما ... عليّ من الغيث استهلّت
مواطره
وفي (ط): سقطت عبارة: «استهلت مواطره».
(3) في (ط): ثمانيا.
(4) في (ط): وإن شئت قلت.
(5) أي: بالياء المخففة دون نسبة.
(6) أي: بتاء التأنيث على وزن «فعلية» بكسر الفاء واللام.
(7) في (ط) فإن شئت قلت.
(8) انقحل: وصف من قحل الشيخ كفرح يبس جلده على عظمه فهو قحل
بالفتح والسكون وقحل ككتف وانقحل، والمعنى أنه نادر مثله.
(1/92)
شبّهت الياء بالألف في هذا، كذلك شبّهت
الألف بالياء في نحو ما أنشده أبو زيد:
إذا العجوز غضبت فطلّق ... ولا ترضّاها ولا تملّق
«1» فهذا إنما هو على تشبيه الألف بالياء، ألا ترى ما قدّر من
إثبات الحركة في «ألم يأتيك ... » «2» وحذفها للجزم لا يستقيم
هاهنا لمنع اللام بانقلابها ألفا من ذلك، من حيث لو لم يقدّر
ثبات الحركة لصحّ الحرف ولم ينقلب كما لم ينقلب في نحو كي وأي
ولو وأو. فأمّا قول الشاعر:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا
«3» فإنه ينشد تري وترى. فمن أنشده تري بالياء كان مثل قوله:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ «4» [الفاتحة/ 4] بعد الحمد لله، وقد يكون
على هذا قول الأعشى:
__________
(1) البيتان لرؤبة بن العجاج، وبعدهما:
واعمد لأخرى ذات دل مونق ... لينة المس كمس الخرنق
والخرنق بكسر الخاء والنون ولد الأرنب، وانظر شرح المفصل لابن
يعيش 10/ 106 وشرح أبيات المغني 2/ 355.
(2) من قول قيس بن زهير العبسي:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
انظر الكتاب: 2/ 59 والبيت من شواهد شرح أبيات المغني للبغدادي
2/ 353.
(3) من قصيدة عبد يغوث بن وقاص الحارثي، وأولها:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا ... فما لكما في اللوم خير
ولا ليا
وانظر القصيدة في ذيل الأمالي/ 133، والخزانة 1/ 316 وشرح
أبيات المغني 5/ 133 - 138 والبيت من شواهده.
(4) أي: فهو من قبيل الالتفات.
(1/93)
حتى تلاقي محمدا بعد قوله:
فآليت لا أرثي لها من كلالة «1».
وقد تكون على: هي تفعل، إلّا أنّه أسكن اللام في موضع نصب «2».
ومن أنشد: كأن لم ترى، كان مثل لا ترضّاها.
فإن قلت: فلم لا «3» يكون على التخفيف «4» على قياس من قال:
المراة والكماة. قيل إن التخفيف على ضربين:
تخفيف قياس وتخفيف قلب على غير القياس «5» وهذا الضرب حكم
الحرف فيه حكم حروف اللين التي ليست أصولهن الهمز، ألا ترى أن
من قال: أرجيت قال: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ [التوبة/ 106] مثل
معطون، ومن لم يقلب جعلها بين بين، فكذلك: «لم ترى» إذا لم يكن
تخفيفه تخفيف قياس كان كما قلنا، فلا يجوز لتوالي الإعلالين
ألا ترى أنّهم قالوا: طويت وقويت وحييت فأجروا الأول في جميع
ذلك مجرى العين من
__________
(1) من قصيدة الأعشى في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتمام
البيت:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
انظر الديوان/ 135، وفيه: تزور مكان تلاقي، وانظر شرح أبيات
المغني 5/ 104. واستشهد به في البحر 3/ 188 على معنى «كلالة».
(2) في (ط): في موضع النصب. أي بدلا من فتحها، والأصل حتى
تلاقي بفتح الياء.
(3) في (ط): لم لا.
(4) أي والأصل: لم ترأ بالهمز، ثم خففها.
(5) في (ط): على غير قياس.
(1/94)
اخشوا، وقالوا: نوا وحيا، فجعلوه بمنزلة
قطا، وقالوا: آية. فإن قلت: فقد قالوا: استحيت. فإن ذلك من
النادر الذي لا يحمل عليه «1». فإن قلت: فلم لا تجعله مثل لم
يك ولم أبل كأنه حذف أولا اللام للجزم، كما حذف الحركة من «2»
يكون، ثم خفف على تخفيف الكماة والمراة، وأقرّ الألف كما أقرّ
في «لا ترضّاها». فإن ذلك يعرض فيه ما ذكرنا من توالي
الإعلالين، ويدخل فيه شيء آخر لا نظير له، وهو أنّه إذا حذف
الألف من «لم ترى» على هذا الحدّ، فقد حذف للجزم حرفين، وليس
لم يك ولم أبل كذلك، لأنّه إنّما حذف فيه «3» حركة وحرف. وممّا
يبعد التخفيف في «ترى» على حد الكماة والمراة، أنّهم قد حذفوا
الألف من هذه الكلمة في قولهم: ولو تر أهل مكّة، لكثرة
الاستعمال، كما حذفوها «4» في قول من قرأ:
حاشَ لِلَّهِ «5» [يوسف/ 31 - 51]. فإذا حذف الألف كما حذف من
حاش لله «6» وجب أن تكون العين في حكم الصحيح والتخفيف القياسي
ليكون كحاش لله.
الحجة لابن كثير في قراءته: (عليهمو ولا) «7» وأما قول ابن
كثير: «عليهمو ولا الضالين» فوجهه أنّه أتبع
__________
(1) أي لا يحمل على استحيت لأن فيه الجمع بين إعلالين: النقل
والحذف.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): منه.
(4) كذا في (ط)، وفي (م): حذفوا الهاء، وهو خطأ.
(5) قرأ أبو عمرو بألف بعد الشين لفظا في حالة الوصل. وقرأ
الباقون بحذفها انظر النشر 2/ 295 وفي البحر 5/ 303: قرأ
الجمهور «حاش لله» بغير ألف بعد الشين.
(6) في (ط): من حاش وجب؟؟؟.
(7) في (ط): ولا الضالين.
(1/95)
الياء ما أشبهها، والذي يشبهها الهاء، وترك
ما لا يشبه الياء والألف- وهو الميم- على أصله وهو الضم، كما
أنّ الذين قالوا: شعير، ورغيف، ورجل جئز «1» وماضغ لهم «2»،
وشهد.
ولعب أتبعوا الفتحة الكسرة في جميع ذلك لقربها منها كقرب الألف
من الياء، وشبهها بها. ولم يتبعوا الفتحة الضمّة فيقلبوها «3»
ضمّة في رءوف ورؤف «4» كما أتبعوا الفتحة الكسرة في جئز وشعير
حيث لم تقرب الواو من الألف قرب الياء منها، فكذلك أتبع الهاء
الياء لما قرب «5» منها، ولم يتبعها الميم لما لم تقرب منها،
كما لم يتبع الفتحة في رءوف الضمة حيث لم تقرب الفتحة من الضمة
قربها من الكسرة.
فأما قولهم: مغيرة ومغير فليس على حدّ شعير ورغيف، ولكن على
قولهم. منتن في منتن وأجوءك في أجيئك «6».
ومما يقوّي قوله في ذلك، أنّهم قالوا: قرأ يقرأ، وجأر يجأر،
فأتبعوا الهمزة وأخواتها ما جانسها من الحركات، وما كان من
حيزها، وهي الفتحة، ولم يفعلوا ذلك مع الحروف المرتفعة عن
الحلق. حيث لم يقربن من الفتحة قرب الحلقيّة منها.
فكذلك أتبع في قوله: (عليهمو ولا) الياء ما قرب من الياء «7»،
وهو الهاء، ولم يتبعه ما لم يقرب منها وهو الميم.
__________
(1) جئز بالماء يجأز، إذا غص به فهو جئز وجئيز. اللسان (جأز).
(2) لهم: أكول، والفعل كسمع.
(3) في (م) فقلبوها.
(4) في (ط): في رؤف، ورءوف.
(5) في (ط): لما قربت منها.
(6) انظر ص 65 وانظر سيبويه 2/ 255.
(7) في (ط) منها.
(1/96)
ومثل قوله: (عليهمو) - في أنّه أتبع الياء
ما يشبهها، وترك ما لا يشبهها على أصله- قولهم (يُصْدِرَ) «1»
فقرّب الصاد من أشبه الحروف من موضعها بالدال وهو الزاي. ألا
ترى أنهما يجتمعان في الجهر؟ فلما أراد تقريب الأول من الثاني،
ولم يجز ذلك بالإدغام لما يدخل الحرف من انتقاص صوته، قرّبه من
هذا الوجه الذي قرّب منه دون الإدغام.
ولو كان موضع الدال في (يُصْدِرَ) حرف آخر لا يقرب من الصاد
قرب الدال منها- كاللام والراء ونحوهما- لم تغيّر الصاد له كما
غيرت من أجل الدال لقربها منها، فكذلك قرّب الهاء في عليهمو من
الياء، لقربها منها ولم يغير الميم لبعدها منها، كما لم تقرّب
الصاد من الزاي مع اللام ونحوها، لمّا لم يقربن منها قربها من
الدال.
فإن قلت: هلّا رغب عن ذلك لما يعترض في قراءته «2» من ضم بعد
كسر، والضم بعد الكسر في كلامهم مكروه؟ قيل له «3»: إن الضم
بعد الكسر على ضربين، أحدهما: أن يكون في بناء الكلمة وأصلها،
كالضم بعد الفتح في عضد، (والآخر: أن يكون عارضا في الكلمة غير
لازم لها) «4»، فما كان من الضرب الأول فهو مرفوض في أبنية
الأسماء والأفعال كما كان فعل في أبنية الأسماء مرفوضا. وما
كان من الضرب الثاني فمستعمل، نحو قولهم: فرق، ونزق في الرفع،
وقالوا في
__________
(1) في قوله تعالى من سورة القصص/ 23: (حَتَّى يُصْدِرَ
الرِّعاءُ) انظر ص 56.
(2) في (ط): به.
(3) سقطت كلمة «له» من ط.
(4) كذا في (ط)، والعبارة في (م) مضطربة.
(1/97)
الوقف على الرّدء في الرفع في قوله:
فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي [القصص/ 34] هو
الرّدؤ مثل الرّدع «1»، كما قالوا في البطء: من البطىء
فحرّكوه- كراهة لالتقاء الساكنين- بالحركة التي كانت تكون
للإعراب، كما قال:
... إذ جدّ النّقر «2».
وقد أعلمتك فيما تقدّم أن كثيرا ممّا لا يلزم الكلمة لا يقع
الاعتداد به. فإذا كان الأمر في وقوع الضمة بعد الكسرة على ما
ذكرنا لم يصحّ أن يرغب عن قراءته (عليهمو ولا) من حيث لحقت
فيها ضمة بعد كسرة. لأن هذه الضمة تشبه ما ذكرنا. من ضمة
الإعراب وما استعملوه في الوقف، وذلك أنّها غير لازمة، ألا نرى
أنّ الكسرة في الهاء إنّما تكون إذا جاورت الكسرة أو الياء،
فإذا زالت هذه المجاورة زالت الكسرة. كما أن ضمّة الإعراب في
قولهم: هذا نزق يا فتى «3» إذا زال عاملها زالت. وكما أن
الرّدؤ إذا زال الوقف فيه في الرفع زالت الضمة
__________
(1) انظر سيبويه 2/ 287. والردء: الصاحب.
(2) قطعة من بيت من الرجز وتمامه:
أنا ابن ماوية إذ جدّ النّقر وبعده:
وجاءت الخيل أثابيّ زمر وفي سيبويه (2/ 284): أنه لبعض
السعديين، وفي اللسان (نقر): أنه لعبيد بن ماوية الطائي، وفي
القاموس: أنه لفدكي المنقري. النقر: أن تلزق طرف لسانك بحنكك
وتفتح، ثم
تصوت. وقد نقر بالدابة نقرا، وهو صوت يزعجه. الأثابي:
الجماعات، الواحد أثبية بشد الياء.
(3) في (ط): يا هذا.
(1/98)
فإن قلت: فإنّ قوما كرهوا أن يقولوا: هو
الرّدؤ في الوقف على المرفوع، فقالوا: هو الرّدىء، وقالوا هذا
عدل، لكراهة الضمّة بعد الكسرة. فهلّا كره (عليهمو) كما كره
هؤلاء ما ذكرت. قيل له «1»: إنّ هؤلاء إنّما عدلوا عن الضمة
إلى الكسرة حيث وجدوا عنها مندوحة، بأن أتبعوا الساكن الحركة
التي قبله، كما أتبعوه الحركة التي قبله في مدّ ونحوه. والذي
يقرأ (عليهمو) لو لم يكسر الهاء هاهنا لم يشاكل بها الياء،
والمشاكلة بها واجبة، لما تقدّم من الحجة في ذلك. ولو لم يضمّ
الميم لأتبع الياء والكسرة «2» في عليهم ما لا يشبهها من كسرة
الميم لو كسرها، وكأنّ ذلك إنّما يجوز على نحو مغيرة وأجوءك،
ونحو ذلك ممّا ليس بالكثير في الاستعمال ولا المتّجه في
القياس، ألا ترى أنّ القياس تقرير هذه الحركات على أصولها، ومن
ثمّ لم يجز في مدير ومغير ما جاز في مغيرة من كسر الأوّل. على
أن ما ذكرته من قولهم «3»: هو الرّدء، يشبه ألّا يكون الأكثر،
لأنّه قال «4»: وأمّا ناس من بني تميم فيقولون:
هو الرّدىء، كرهوا الضمّة بعد الكسرة، لأنه ليس في الكلام فعل،
فتنكّبوه لذلك واستنكروه.
قال أبو علي: والقياس قول الأكثر: لأنّ هذه الحركة في أنّها لا
تلزم كقولهم: نزق في الرفع، فكما لا مذهب عن ذلك في الرفع
فكذلك ينبغي أن يكون الوقف لاجتماع الوقف مع الإعراب في أنّه
لا يلزم الكلمة، فلا ينبغي أن يسام ترك القياس
__________
(1) في (ط): قيل إن.
(2) في (ط): والكسر.
(3) في (ط): في قولهم.
(4) سيبويه: 2/ 286.
(1/99)
على الأكثر في الاستعمال والأصحّ في القياس
إلى ما كان بخلاف هذه الصفة. وكأنّ هؤلاء الذين قالوا: هذا
الرّدىء، كراهة الضمة بعد الكسرة شبّهوا الحركة التي تشبه
حركات الإعراب بحركة البناء التي لا تفارق، وليس هذا
بالمستقيم. ألا ترى أنّهم قالوا: يا زيد العاقل، ولا رجل صاحب
امرأة عندك؟
فجعلوا الحركة المشابهة للإعراب بمنزلة الإعراب. وكذلك «1»
ينبغي أن تجعل الحركة المشابهة للإعراب في الوقف بمنزلة
الإعراب فلا يكره فيه هو الرّدؤ، كما لم يكره فرق، ولا يتبع
الأول، لأن إتباع الحركة ليس بمستمرّ استمرار حركة الإعراب
التي الحركة في الرّدؤ في قياسها ومشابهة لها من حيث وصفنا.
على أنهم قالوا في الوقف: رأيت الرّدىء، ومن البطؤ، ورأيت
العكم، ورأيت الحجر، فأتبعوا الأوسط تحريك الأول، فكذلك يكون
قولهم: هذا الرّدؤ على هذا الحدّ، لا لكراهة الضمّة بعد
الكسرة، فكما لا يكون في رأيت الحجر إلّا على الإتباع لما
قبله، كذلك لا يكون في هذا عدل إلا كذلك، لا لكراهة الضمّة بعد
الكسرة. ومثل قوله (عليهمو ولا الضالين) في أنّه جعل حركة
البناء بمنزلة الإعراب في وقوع الضمّة بعد الكسرة لمشابهتها
حركة الإعراب في أنّها لا تلزم، ويتعاقب على الموضع غيرها قول
العرب من غير أهل الحجاز في ردّ، وعضّ، وفرّ، واستعدّ «2» ألا
ترى أنهم أدغموا في الساكن المبنيّ كما أدغموا في المعرب نحو:
هو يردّ ويستعدّ، لمّا كان
__________
(1) في (ط): فكذلك.
(2) في (ط): رد، وفر، وعض، واستعد.
(1/100)
المبنيّ تتعاقب عليه الحركات «1» وإن كن
لغير الإعراب كالتحريك لالتقاء الساكنين، وإلقاء حركة الهمزة
عليه في التخفيف، وإلحاقهم الثقيلة أو الخفيفة به، والتحريك
للإطلاق.
أدغموا كما أدغموا المعرب لمشابهته له في تعاقب هذه الحركات
عليه، فكما صار غير المعرب بمنزلة المعرب لاجتماعهما في الشّبه
الذي ذكرنا، كذلك استجاز أن يوقع الضمة بعد الكسرة في (عليهمو)
كما وقعت بعدها في المعرب، لمشابهته المعرب لتعاقب الحركات
عليه، وإن لم يكن لاختلاف عامل.
والدليل على أن الإدغام في باب ردّ ونحوه إنما هو لما ذكرناه
«2» من مشابهته المعرب لتعاقب الحركات عليه- وإن كانت لغير
الإعراب- امتناعهم من الإدغام حيث عري من هذه المشابهة التي
وصفنا. وذلك قولهم: رددت، ورددنا، ويرددن.
فالذين أدغموا ردّ في الأمر بيّنوا هذا الذي وصفناه من التضعيف
المتّصل بالضمير لمّا كان موضعا لا تصل الحركة إليه. فأمّا قول
بعضهم ردّت وردّنا يريدون «3». رددت ورددنا فمن النادر الذي إن
لم يعتدّ به كان مذهبا. لقلته في الاستعمال. وأنّه غير قويّ في
القياس. فهو كالمقارب: لليجدّع «4».
__________
(1) في (ط): حركات.
(2) في (ط): لما ذكرنا.
(3) في (ط): يريد.
(4) من قول ذي الخرق الطهوي:
يقول الخنا وأبغض العجم ناطقا ... إلى ربّنا صوت الحمار
اليجدّع
اليجدع: أراد الذي يجدع، فحذف الذال والياء. (انظر النوادر/
67، والخزانة 1/ 15، 16 وشرح أبيات مغني اللبيب 1/ 292).
(1/101)
ومن حجّة من قرأ (عليهمو) أن كسرة الهاء
أصلها الضمة، وإنّما أبدل منها الكسرة للاعتلال من أجل الإتباع
«1»، كما أن الكسرة في التقاضي والترامي والتداعي ونحو ذلك
أصلها الضمّ، من حيث كان مصدر تفاعل. فكما أن هذه الكسرة في
حكم الضمّة، والضمّة التي هي الأصل تراعى في المعنى بدلالة
صرفهم له وامتناعهم من أن يجعلوه من باب حذار: جمع حذرية «2»
وغواش، كذلك تكون الضمّة التي هي الأصل في (عليهمو) مراعاة في
المعنى. فلا ينبغي أن يكره ذلك كما كره فعل، ولا يكون بمنزلته،
كما لم يكن الترامي بمنزلة الغواشي والحذاري، لمّا كان الأصل
مراعى في ذلك.
وإذا كانت الضمّة المرفوضة في الاستعمال مراعاة في اللفظ
للدليل الذي ذكرنا، فأن تراعى الضمة في (عليهمو) أجدر، لأنّها
لم ترفض كما رفضت في باب التفاعل، ألا ترى أنّ أهل الحجاز
يستعملونه، وأنّ من قال: بهو، (وبدارهو) قال: (عليهمو)، ومن
قال: (عليهمو) ضمّ إذا عدا الياء «3» والكسرة.
ومما يقوّي ذلك أنهم قد اعتبروا الحركات التي هي أصول في غير
هذا الموضع، وإن لم تكن في اللفظ مستعملة، فجعلوا الحكم لها.
وذلك قولهم: عدت المريض، وقلت الحق، فعدّوه إلى المفعول، وإن
كان اللفظ على فعلت، لأن
__________
(1) في (ط): للاعتلال من الإتباع.
(2) الحذرية: الأرض الخشنة.
(3) في (م) الباء، وهو تصحيف.
(1/102)
الأصل فعلت. ولولا أن تلك الحركة مراعاة
معتبرة لم يتعدّ هذا النحو: ألا ترى أنا لم نعلم شيئا على فعل
جاء متعديا إلى المفعول «1».
ومما يؤكّد ذلك أن النقل وقع بالزيادة منه «2» وذلك نحو:
أقلته إذا جعلته يقول، وأبعت الفرس، وأخفت زيدا. وممّا يدلّ
على ذلك أنّهم قالوا: يسع، ويطأ، فحذفوا الواو التي هي فاء كما
يحذفونها في باب يعد ويزن، لمّا كان الأصل الكسر، وإنّما فتح
لحرف الحلق، فكما أن الفتحة هاهنا في حكم الكسر لمّا لم تكن
الأصل، كذلك تكون الكسرة في (عليهمو) في حكم الضمّ، فلا يكون
مكروها من حيث لم يجيء فعل ونحوه في أصول الأبنية إذ كان الأصل
الضمّ، كما كان الأصل الكسر في يطأ ويسع ونحوه.
ومما يبيّن ذلك أن ما كان على فعل لم يذكر سيبويه منه «3» إلا
«إبلا» «4» وإذا جمعت «5» قربة وسدرة ونحوهما «6» قلت: قربات
وسدرات، فاستمرّ فيه توالي الكسرتين من أجل الجمع، ولم يرفض
ذلك، ولم يكره كما كره في أصل المقرر قبل الجمع. فكذلك
(عليهمو) لا تكره فيه الكسرة قبل الضمة من أجل إعلال الإتباع
وإن كان قد كره في بناء الآحاد، كما لم يكره توالي الكسرتين في
سدرات من أجل الجمع «7»، وإن كان
__________
(1) في (ط): إلى المفعول به.
(2) منه: ساقطة من (ط).
(3) في (ط): فيه.
(4) في (م): إبل.
(5) في (ط): نحو قربة وسدرة.
(6) كذا في (ط)، وفي (م) نحوها.
(7) في (ط): من الجمع.
(1/103)
كره ذلك في الآحاد، لأن الضمة بعد الكسرة
ليس من أصل الكلمة وإنما اجتلبه الاعتلال، كما اجتلب توالي
الكسرتين الجمع.
ويؤكّد ذلك أنّهم قالوا في شقرة: شقريّ «1»، وفي نمر نمريّ.
ولم يجيء في شيء من هذا النحو إلّا فتح العين.
وقالوا: صعقيّ، فكسروا الفاء مع العين لمّا كان للاعتلال، ولم
يكن من أصل البناء.
فأمّا وصل ابن كثير الميم بالواو في (عليهمو) فلأن الأصل
الواو، وإنّما أتبع الياء ما يشبهها وترك ما لا يشبهها على
الأصل، وكان تقرير الأصل أولى عنده «2» من إتباع الكسرة
الكسرة، لأنّ إتباع الحركة الحركة على هذا النحر «3» ليس
بالمستمرّ.
فإن قلت: فقد جاء في ظلمات وسدرات وحفنات «4».
قيل: هذا التحريك ليس الغرض فيه الإتباع فقط. ألا ترى أنّه «5»
يفصل به بين الاسم والصفة، وكذلك عصيّ وحليّ يفصل به بين
الواحد والجميع، ولا يلزم الكسر. ومع ذلك فقد أبدل فيه ناس
الفتحة من الضمة، والكسرة، فقالوا: ركبات وسدرات.
وقد أسكن المفتوح في الشعر قال لبيد: «6»
__________
(1) الشّقرة: واحدة الشقر، وهو شقائق النعمان، ويقال: نبت
أحمر.
(2) في (ط): عنده أولى.
(3) في (ط): في هذا النحو.
(4) في (ط): جفنات.
(5) في (ط): أنه قد.
(6) الديوان/ 185 والخزانة 3/ 423. الوغرات: جمع وغرة، وهي شدة
الحر، وغرت الهاجرة كوعد. ونصبن في الديوان مكان نصبن.
(1/104)
رحلن لشقّة ونصبن نصبا ... لوغرات الهواجر
والسّموم
وقال ذو الرمة «1».
أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه ... خفوقا ورفضات الهوى في المفاصل
فكأنّه رأى ترك الحرف على أصله أولى من أن يصير به إلى ما لا
يطرد. فإن قلت: فقد حكي عن الخليل وهارون، أنّ ناسا يقولون:
(مُرْدِفِينَ) «2» وقال: فهؤلاء يقولون: مقتّلين، فقاس على
قولهم. قيل «3»: قد يمكن أن يقال: إنّ ذلك من قوله لا يدلّ على
أنّه يرى القياس عليه، وإنّما أراد أنّ القياس «4» على ما ذكر
لو قيس. فأمّا اطّراده فلا يستقيم، بدلالة أن نحو مغيرة ومنتن
لا يطّرد، وإنما يقتصر به على ما جاء فكذلك (مُرْدِفِينَ).
وإن شئت قلت: إن هذا تحريك «5» لالتقاء الساكنين، كما أن
قولهم، مدّ كذلك، فيكون هذا مستمرّا على لغتهم، كما أن ردّ
كذلك، وإن كان الساكن في مردّفين متقدما. وقد قال: إنّها أقل
اللغات.
ولم يحذف الواو في عليهمو في الوصل كما حذفها
__________
(1) الديوان 2/ 1337 والخزانة 3/ 423. خفوقا: اضطرابا. رفضات
الهوى:
ما تفرق من هواها في قلبه.
(2) الأصل: مرتدفين، أي: مترادفين، فأدغمت تاء الافتعال في
الدال، فالتقى ساكنان، فحركت الراء بالضم اتباعا لضمة الميم.
(انظر الكتاب:
2/ 410، والكشاف: 2/ 157، وفي البحر المحيط (4/ 465): أنها
مروية عن الخليل.
(3) في (ط): قيل له.
(4) في (ط): أن قياسه.
(5) في (ط): تحرك.
(1/105)
غيره، لأنّها الأصل، وليس إثباتها من
الأصول المرفوضة المطّرحة عندهم، كالواو إذا وقعت طرفا في
الأسماء وقبلها ضمة، لكنه مراد في التقدير وإن كان محذوفا من
«1» اللفظ عند قوم.
والدليل على ذلك اتّفاق الجمهور على إثباتها إذا اتّصل الضمير
بها. وبذلك جاء التنزيل في قوله: أَنُلْزِمُكُمُوها [هود/ 28].
وهذا أقوى في القياس، وأشيع في الاستعمال ممّا حكاه عن يونس:
من أنه يقول أعطيتكمه، لأن مواضع الضمير وما يتّصل به قد ردّت
فيها أشياء إلى أصولها في غير هذا، كقولهم: والله، وحقك. فإذا
وصلوه بالضمير قالوا بك لأفعلن. أنشد أبو زيد:
رأى برقا فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أغاما
«2»
__________
(1) في (ط): في.
(2) البيت لعمرو بن يربوع بن حنظلة، وكان عمرو فيما يزعمون
تزوج السعلاة، فقال له أهلها: إنك تجدها خير امرأة ما لم تر
برقا، فستّر بيتك ما خفت ذلك، فمكثت عنده حتى ولدت بنين،
فأبصرت ذات يوم برقا، فقالت:
الزم بنيك عمرو إني آبق ... برق على أرض السعالى آلق
فقال عمرو: «ألا لله ضيفك يا أماما» وسقط الشطر الثاني من هذا
البيت من الرواة.
أوضع: أسرع. البكر: الفتي من الإبل. الضيف- بكسر الضاد:
الناحية والمحلة. ورواية النوادر (146، 147): وما أغاما.
ورواية الحيوان 1/ 186 والخصائص 2/ 19 كما هنا.
(1/106)
ويدلّ «1» على ذلك أيضا أنّ ضمير المؤنث
الذي بإزائه على حرفين، وذلك نحو عليكنّ وبكنّ. فالأول من
التضعيف بإزاء الميم، والثاني بإزاء حرف اللين. فهذا مما يقوي
أنّه لم يحذفه على وجه الاطّراح والرفض، إنّما حذفه للتخفيف
معتدّا به في الحكم وإن كان محذوفا في اللفظ.
فأمّا ما انفرد به ورش في روايته عن نافع: من أن الهاء مكسورة
والميم موقوفة، إلّا أن تلقى «2» الميم ألف أصليّة مثل:
سواء عليهمو أأنذرتهمو أم لم تنذرهم لا يؤمنون [البقرة/ 6]
فالقياس فيها إذا لقيت الألف الأصلية وإذا لقيت غيرها سواء.
وكأنه أحبّ الأخذ باللغتين مثل: (لا يألتكم) و (لا يَلِتْكُمْ)
«3». فإن قلت: إنّه لمّا أمن سقوطها لالتقاء الساكنين، كما
تسقط إذا كانت بعدها همزة وصل، وكان المد قبل الهمزة مستحبا
بدلالة أن القرّاء قد مدّوا نحو: كَما آمَنَ النَّاسُ [البقرة/
13] أكثر مما مدّوا: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل/ 96]-
ويقوي ذلك اجتلاب من اجتلب الألف بين الهمزتين في نحو (أاأنت)
«4» [الأنبياء/ 62]- فهو قول. وقال «5» أبو الحسن: إنّما وقعت
هذه القراءة «6» بالمدّ ليفهّموا المتعلمين فيمدّوا الهمزة إذا
كانت
__________
(1) في (ط): ويدلك.
(2) في (ط) يلقى.
(3) سورة الحجرات/ 14، يقرؤها البصريان (يألتكم) بهمزة ساكنة
بين الياء واللام، ويقرؤها الباقون بكسر اللام من غير همز.
(انظر النشر:
2/ 376).
(4) اجتلاب الألف بين الهمزتين قراءة أبي عمرو، وأبي جعفر
وقالون (انظر النشر: 1/ 358، 359).
(5) في (ط): قال.
(6) في (ط): إنما وضعت القراءة.
(1/107)
قبلها ألف أو ياء [أو واو] «1» نحو: حتّى
إذا «2»، ونحو: قالُوا أَأَنْتَ [الأنبياء/ 62] قال: والعرب
تفعل هذا في حال التطريب، وإذا أراد أحدهم الرقّة والترتيل.
الحجة «3» لاختلافهم إذا حركوا الميم لساكن يلقاها:
كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر يضمّون الميم إذا لقيها
ساكن، مثل قوله تعالى: عليهمو الذلة [البقرة/ 61]، ومن دونهمو
امرأتين [القصص/ 23]، فأمّا ضمّ ابن كثير ونافع لذلك «4» فهو
على قولهما بيّن، لأنّ ابن كثير في ذلك يتبع الميم واوا تثبت
في اللفظ إذا لم تلق ساكنا، وكذلك نافع في رواية الأكثر عنه،
لأن من روى عنه أن الميم مضمومة، فكأنه قد روى عنه إثبات
الواو، ألا ترى أنه ليس أحد يضمّ الميم ولا يتبعه الواو في
نحو: عليهمو «5» وعليهمو، فإذا لقي الواو ساكن حذفت وبقيت
الميم على ضمها.
وأمّا عاصم وابن عامر فكأنهما يريان أن حرف اللين الذي يتبع
الميم- الواو، دون الياء- وإن كانا قد حذفاه في اللفظ طلبا
للخفة «6»، فإذا لزم التحريك لالتقاء الساكنين ردّا حركة الأصل
عندهما، وإن كانا قد حذفا الواو من اللفظ، وأثبتها ابن كثير
ونافع، لأن حذف من حذفها ليس على جهة الرفض
__________
(1) زيادة في (ط).
(2) لعله يشير إلى آية. «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ» الآية 73 من سورة الزمر.
(3) في (ط): القول في اختلافهم.
(4) لذلك ساقطة في (ط).
(5) في (ط): في نحو قوله عليهمو.
(6) في (ط): للتخفيف.
(1/108)
- بدلالة أن كثيرا منهم يقولون: كنتموا
فاعلين [يوسف/ 10] «1» وعليهمو مال- فإذا احتاجا إلى التحريك
ردّا حركة الأصل كما رد الجميع حركة الأصل التي هي الضم في
قولهم: مذ اليوم لمّا احتيج إلى التحريك «2» لالتقاء الساكنين،
ويدل على أن حركة الساكن المحرك في التقاء الساكنين إذا كانت
أصلا كانت أولى من الحركة المجتلبة لالتقاء الساكنين أن أحدا
لم «3» يقل: إليهم اثنين، [يس/ 14]، فيكسر بعد الضمّ لما لم
يقل أحد «4» عليهمي. فلولا أن حركة الأصل أولى من المجتلبة
لجاز تحريك هذا النحو
بالكسر، كما حرّك غيره ما لا «5» حركة له في الأصل. ومما يقوي
تحريكهم إيّاه بالضم أنه حرف ضمير كما أن الواو في اخشوا كذلك،
وكما اتّفق الجمهور على تحريك الواو في اخشووا «6» بالضم
وجعلوا مصطفو الله مثله من حيث كان مثل اخشووا فيمن قال:
أكلوني البراغيث، مع أن المحرك واو، كذلك حرّكوا الميم بالضمة
«7» لأنها مع الميم أسهل منها مع الواو. ومن زعم أن تحريك ذلك
بالضمّ لأنه فاعل دخل عليه قول من كسر فقال: اخشوا القوم،
وقولهم: اخشي القوم، وفي غير التقاء الساكنين: ذهبت وذهبت.
ومما يقوّي تحريك الواو بالضمّ أنّ قوما شبّهوا التي لغير
__________
(1) وهي قراءة ابن كثير، وأبي جعفر (النشر: 1/ 272).
(2) في (ط): لما احتيج لالتقاء.
(3) في (ط): أن أحدا منهم.
(4) في (ط): لما لم يقل عليهم.
(5) في (ط): مما لا حركة.
(6) زيدت واو لبيان ضم الواو الأولى.
(7) كذا في (ط) وفي (م): «بالضم».
(1/109)
الضمير بها، فقالوا: لو استطعنا «1»
[التوبة/ 42]، فحرّكوها بالضمّ. فأمّا: أو اخرجوا «2» [النساء/
66] وأو انقص [المزمل/ 3]، فعلى حدّ: وقالت اخرج [يوسف/ 31]،
فدلّ قولهم لو استطعنا [التوبة/ 42]، وتشبيه غير الضمير
بالضمير على استحكام الضمّة في الواو، كما دلّ قول من قال:
منهم وعليكم وأحلامكم على استحكام الكسرة في عليهم وبهم وما
أشبه ذلك.
الحجة لأبي عمرو في قراءته: عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة/
61] ونحوه بكسر الميم:
فأمّا قول أبي عمرو: عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [البقرة/ 61]
وإِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس/ 14]، فتحريكه بالكسر ليس على حدّ
قوله: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل/ 2] وأحدن الله [الإخلاص/ 1 -
2]، ولكن كأن الأصل عنده في الوصل عليهمي، فحذف الياء
استخفافا، كما حذف عاصم وابن عامر ونافع في إحدى الروايتين
لذلك، فلمّا حرّك لالتقاء الساكنين، أتى بحركة الأصل التي هي
الكسر «3»، كما أتى أولئك بالضمّ،
__________
(1) في البحر المحيط (5/ 46) أنها قراءة الأعمش، وزيد بن علي.
(2) ضمت الواو اتباعا لضمة الراء، ولأن الواو من جنس الضمة،
قال في البحر 3/ 284 وكسر النون وضم الواو من: «أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا»، أبو عمرو، وكسرهما حمزة وعاصم،
وضمهما باقي السبعة.
(3) في (ط): الكسرة.
(1/110)
لأنّ الكسر في قوله: (عَلَيْهِمُ
الذِّلَّةُ) و (إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) على قوله في أنه أصل،
نظير الضمّ في قول ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر، فكانت «1»
حركة الأصل أولى من أن تجتلب حركة، كما أنّ «2» تحريك مذ
بالضمّ أولى. وعلى هذا قال سيبويه «3»: في ترخيم رادّ اسم رجل
على قول من قال: يا حار، يا راد أقبل، فحرّك لالتقاء الساكنين
بالحركة التي كانت للحرف في الأصل، ولم يجعله بمنزلة ترخيم
إسحارّ «4»، لأنّ الراء الأولى فيه لا حركة لها في الأصل كحركة
عين رادّ فأتبع الحركة ما قبلها، لأنّ حركة التقاء الساكنين
تتبع كثيرا ما قبلها، كقولهم: ردّ وعضّ وفرّ، وكقولهم: انطلق.
فإن قلت: فقد قدّمت أن حركة الإتباع لا تطرّد، ولا يقاس عليها،
قيل له: ليس هذا بقياس، ولكنه مسموع، كما أن مغيرة مسموع، وكما
أن حليّ وعصيّ ومردّفين كذلك، ومع ذلك فقد اطّردت هذه الحركة
في قول «5» من قال: ردّ وعضّ وفرّ «6» والأظهر في مردّفين أنه
مطّرد في بابه.
وممّا يقوّي تحريك هذه الميم بالكسر من جهة القياس، أنّهم قد
أتبعوا حركة الميم الدالة على اسم الفاعل الكسر، مع أنّ ذلك
يزيل صورة دلالتها على ما أريد فيها. فإذا جاز في
__________
(1) في (ط): فكان حركة الأصل.
(2) في (ط): كما كان.
(3) انظر الكتاب: 1/ 340.
(4) الإسحارّ بفتح الهمزة وكسرها: بقل يسمن عليه المال، واحدته
إسحارة وأسحارة. اللسان/ سحر/. والمال هنا: الإبل.
(5) في (ط): على قول من قال.
(6) في (ط): رد، وفر، وعض.
(1/111)
ذلك كان في حركة علامة الضمير التي لا
تتعلق بها دلالة على معنى أجوز. وممّا يقوّي إتباع الميم في
الكسر الهاء، أنّ حركة الإتباع قد جاءت «1» عنهم مع حجز حرف
بين الحركتين، وذلك قولهم: أجوءك في أجيئك ومنتن.
وأما قولهم: أنبؤك ومنحدر من الجبل، فإن قولهم:
منحدر تبعت الضمة فيه ضمة الإعراب، كقولهم: ابنم وامرو، وأخوك،
وفوك، وذو مال. فأمّا قولهم: أنبؤك، فإن شئت أتبعت ضمّة العين
ضمّة الإعراب مثل منحدر، وإن شئت أتبعتها ضمة همزة المضارعة،
وإن كان الحرف قد حجز مثل منتن.
ومما يقوّي ذلك، أن أبا عثمان قال حدثني محبوب «2» بن الحسن
القرشي عن عيسى «3»، قال: كان عبد الله بن أبي إسحاق يقرأ: بين
المرء وقلبه «4» [الأنفال/ 24] ويقول: رأيت مرءا وهذا مرء.
__________
(1) في (ط): قد جاء عنهم.
(2) هو محمد بن الحسن بن هلال، ومحبوب لقبه، البصري مولى قريش
مشهور كبير. روى القراءة عن أبي عمرو وغيره. طبقات القراء:
2/ 123.
(3) هو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، مؤلف الجامع
والإكمال، عرض القرآن على ابن أبي إسحاق وغيره. مات سنة 149.
طبقات القراء: 1/ 613.
(4) قال في البحر المحيط (4/ 482): وقرأ ابن أبي إسحاق بين
المرء بكسر الميم، اتباعا لحركة الإعراب، إذ في المرء لغتان:
فتح الميم مطلقا، واتباعها حركة الإعراب.
(1/112)
ومن ذلك أنّهم قد احتملوا من أجل إتباع
الحركات ما رفضوه في غيره وذلك قولهم: يخطّف، ويكتّب، فكسروا
الياء في المضارعة اتباعا لما بعدها، ولولا ذلك لم تكسر الياء،
لأن من يقول: أنت تعلم لا يقول: هو يعلم.
فأمّا ما حكاه من قولهم: هو يئبى، فليس مما يعترض به لشذوذه،
فإنّما الكسرة في يخطّف لاستحباب قائله للإتباع «1»، كما أنّ
من قال: ييجل، استجاز الكسر في الياء مع امتناعه في يعلم
ليتوصل بذلك إلى قلب الواو ياء، فكذلك «2» كسر فيما ذكرنا ليصل
«3» به إلى الإتباع.
قال أبو الحسن: من قال يخطّف كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم
كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها، كما أتبعها إيّاها
وهي بعدها. وإتباع الآخر الأوّل في كلام العرب كثير، ويتبعون
الكسرة الكسرة في هذا الباب. يقولون: قتّلوا وفتّحوا يريدون
افتتحوا.
ومما يؤكد ذلك أن أبا الحسن قال: روى عيسى بن عمر أن بعض العرب
يثقّل كل اسم أوّله مضموم إذا كان على ثلاثة أحرف، نحو: العسر،
واليسر، والحكم، والرّحم. ومن الإتباع قولهم: هذا فوك ورأيت
فاك، ومررت بفيك. ومثله قولهم: ذو مال، إلا أن ذو لا يضاف إلى
المضمر، لمّا حذفت اللام من فم تبعت الفاء العين التي هي حرف
الإعراب عندنا. فإن
__________
(1) في (ط): الإتباع انظر الكتاب: 2/ 256.
(2) في (ط): قال فكذلك.
(3) في (ط): ليتوصل.
(1/113)
أضفته إلى المتكلم، قلت: هذا فيّ ورأيت
فيّ، وفي فيّ. ولا يجوز في موضع النصب فاي.
وإنما اتّفقت الألفاظ الثلاثة على لفظ واحد إذا أضاف المتكلم
إلى نفسه، لأنّ حرف الإعراب ينقلب إلى الحرف المجانس للحركة
التي تجب له، ألا ترى أنّه يكون في موضع الرفع واوا، وفي الجرّ
ياء، وفي النصب «1» ألفا، ثم تتبعه الفاء؟
فكذلك إذا أضافه إلى نفسه انقلبت ياء؛ لأنّ حركة الحرف الذي
يلي «2» الياء في جميع أحواله الكسر «3»، فإذا كان كذلك وجب أن
يكون ياء في الأحوال الثلاث إذا أضفته إلى نفسك كما يكون في
الجرّ، لاجتماع الحركتين على لفظ واحد، وليس هذا في موضع النصب
إذا أضفته إلى نفسك بمنزلة عصاي، لأنّ حرف اللين في عصاي لا
ينقلب بحسب الحركة التي تجب له كما ينقلب في فيك.
فأمّا «4» افتراق الحركتين بأن إحداهما حركة إعراب، والأخرى
حركة بناء، فليس ممّا يوجب اختلافا فيما ذكرنا، كما لم يوجب في
قولهم: ابنم، ألا ترى أنهم أتبعوا النون فتحة التثنية في
قولهم:
__________
(1) في (ط): وفي موضع الجرّ ياء، وفي موضع النصب.
(2) أي يدنو منها، ويتصل بها، من الولي، وهو القرب والاتصال من
قبل ومن بعده. وهو هنا قبل الياء. انظر معاني القرآن: (1/ 5،
الحاشية: 6).
(3) في (ط): في جميع أحوال الاسم، وسقط لفظ الكسر.
(4) في (ط): فإنما.
(1/114)
ومنا لقيط وابنماه وحاجب ... مؤرّث نيران
المكارم لا المخبي
«1» كما أتبعوها فتحة النصب فيما أنشده أبو زيد:
تبزّ عضاريط الخميس ثيابها ... فأبأست ربّا يوم ذلك وابنما
«2» وقد قال قائل في قولهم ابنم: إن النون إنما جعلت حركته «3»
تابعة لحركة الميم، لأنّها قد كانت تتحرك بهذه الحركات، فزيدت
الميم فتبعته لذلك. وليس هذا بمستقيم، لأنّهم قد فعلوا ذلك
بامرئ، ولم يحذف منه شيء، ألا ترى أنّ الهمزة في تخفيف امرئ
المسكّن الفاء تكون «4» بين بين،
__________
(1) البيت للكميت، ورواية اللسان ضرار بدل لقيط، ومؤجج بدل
مؤرث.
المخبي: وصف من أخبى النار: سكنها وأطفأها، وأخمد لهبها، انظر
اللسان: (خبا).
(2) من خمسة أبيات لضمرة بن ضمرة النهشلي، وفي رواية أبي حاتم:
يوم ذاك أو. تبز: تسلب، وتأخذ، العضاريط: الأجراء الذين
يخدمون، جمع عضروط كعصفور. الخميس: الجيش، أبأست: أظهرت البأس
يوم ذاك والنجدة وقال أبو حاتم: فأظنه يهزأ به، وأراد أنك بئس
الرب، وبئس الولد كنت للنساء المذكورات في قوله قبل الشاهد:
جعلت النساء المرضعاتك جبوة ... لركبان شنّ والعمور وأضجما
الرب: الملك هاهنا، وابنما: أراد وابنا، والميم زائدة مثلها في
الرفع والجر، جبوة: مجبوات، أي يجبوها العدو ويجمعها، وأصل
الجبو جمع الماء في الحوض، أو جعل العدو يجبيها كما يجبي
الخراج. وشن والعمور: حيان من عبد القيس، وأضجم: حي من ضيعة بن
ربيعة (انظر النوادر: 53 - 55).
(3) في (ط): حركتها.
(4) كذا في (ط) وفي (م): يكون.
(1/115)
ولا تحذف لتحرّك ما قبلها، فيقول «1»: إنّ
العين قد تحركت لحذف «2» الهمزة، وجرى الإعراب عليها كما جرى
على الباء من الخب «3». ويدلّ على بعد اعتبار ذلك، أنّهم
أتبعوها الفاء فيما حكيناه عن ابن أبي إسحاق، مع أنّها لا يجوز
أن تتحرك بحركة إعراب، فتحريك النون من ابنم على حدّ تحريك
الفاء من المرء. على أنّهم قد قالوا: غد فحذفوا، وغدو،
فأتمّوا، ولم يفعلوا به ما فعلوا بفم، وهو مثله في الزنة، وفي
أن نقص مرّة وأتمّ أخرى.
وما ثبت «4» مما ذكرناه من قولهم في فيّ «5» يدلّ على فساد قول
من قال: إن هذه الكلم «6» معربة من مكانين. ألا ترى أنهم
أتبعوا حركة البناء، كما أتبعوا حركة الإعراب في هذا وفي تثنية
ابنم في قوله: وابنماه. والحركة التي تتبع الحركة على ضربين:
أحدهما: إتباع حركة ليست للإعراب حركة ليست للإعراب نحو:
مغيرة، ومنتن، ويعفر، وظلمات، والآخر: إتباع حركة ليست للإعراب
حركة إعراب، وذلك مثل: امرؤ، وابنم، وفوك، وأجوءك، وأنبؤك،
والحرف «7» المذكور في الكتاب
__________
(1) في (ط): فتقول، وهو متصل بقوله: لم يحذف منه شيء.
(2) في (ط): بحذف.
(3) في (ط): من الخبء.
(4) في (ط): ومما ثبت، وهو تحريف.
(5) في (ط): في قولهم فيّ.
(6) في (ط): إن هذه الكلمة.
(7) في هامش (ط): «الحرف الذي حكاه سيبويه: «اضرب الساقين إمّك
هابل». أتبع فيه حركة الإعراب حركة البناء، وذلك أن الميم
مرفوعة فكسرها اتباعا لكسرة الهمزة، التي أتبعت كسرة النون في
الساقين، لأن
(1/116)
بعكس هذه القسمة، من النادر الذي لا حكم
له. وهو مثل تشبيههم حركة الإعراب بحركة البناء في نحو:
أشرب «1» غير مستحقب «2» شبهه بعضد.
فأمّا ما قيل من قولهم: فَلِأُمِّهِ «3» [النساء/ 11]، فإنّه
يذكر في هذا الكتاب في موضعه إن شاء الله.
الحجة لحمزة والكسائي في قراءتهما
عليهم الذلة [البقرة/ 61] ومن دونهم امرأتين [القصص/ 23].
فأمّا قول حمزة والكسائي: (عليهم الذلة)، و (من دونهم
امرأتين)، فإنّ تحريك حمزة الميم، في: عليهم ولديهم، وإليهم،
خاصّة بالضم مستقيم حسن، وذلك أنه يضم الهاء في
__________
هذه الهمزة إنما تكسر إذا كان قبلها كسرة أو ياء. انظر الكتاب
2/ 272.
(1) في حاشية (ط): «سكن الباء من أشرب، ويروى: فاليوم فاشرب،
فعلى هذه الرواية لا حجة فيه وقد قرأ النحويون بتسكين الباء
فقالوا فاليوم ... » وهذه الرواية هي رواية الديوان من زيادة
الطوسي. انظر ص 258 منه.
(2) هو من قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
المستحقب: المتكسب، وأصل الاستحقاب حمل الشيء في الحقيبة.
الواغل: الداخل على القوم يشربون ولم يدع. يقول هذا حين قتل
أبوه، ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به، فلما أدرك ثأره حلت له
بزعمه، فلا يأثم في شربها. إذ قد وفى بنذره. (انظر الكتاب: 2/
297، والديوان:
122 وفيه: أسقى مكان أشرب. ولا شاهد فيها، والخزانة: 3/ 530
وشرح أبيات المغني 6/ 62).
(3) وهي قراءة حمزة الكسائي (انظر النشر: 2/ 248).
(1/117)
هذه الأحرف ولا يكسرها، فإذا ضمّها لم يكن
في تحريك الميم إلا الضمّ، ولم يجز الكسر، ألا ترى أنّه لم
يكسر الميم أحد ممّن ضمّ الهاء، نحو: عليهم الذلة، وإنما يكسر
هذه الميم لالتقاء الساكنين من يكسر الهاء فيتبعها حركة الميم؟
واجتماعهم على ذلك يدلّ على أنّ المحرّك لالتقاء الساكنين إذا
كانت له حركة أسكن عنها، كان تحريكه بتلك الحركة التي كانت له
«1» أولى من اجتلاب حركة لالتقاء الساكنين لم يتحرك الحرف بها
في غير التقائهما. وعلى هذا قالوا: مذ اليوم، فحركوا الذال
بالضمّ، فكذلك تحريك حمزة هذه الميم في (عليهم) والحرفين
الآخرين «2» بالضم.
وأمّا موافقة الكسائيّ له في عليهم ولديهم، واتفاقهما على
تحريك الهاء من ضمير المجرور أو المنصوب «3» المجموع بالضم إذا
لقيت الميم ساكنا مع كسرهما هذه الهاء في غير هذه المواضع إلّا
ما انفرد به حمزة في عليهم وإليهم ولديهم فوجهه أن ذلك لغة،
كما أن الكسر لغة، فكأنّهما أحبّا أن يأخذا باللغتين جميعا،
كما قرأ «4» غيرهما: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ
آيَةً «5» [الأنعام/ 37] وكما قرئ: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
[البقرة/ 185] ولتكملوا «6»
__________
(1) كذا في (ط)، وفي (م) لها، وهو تحريف.
(2) يريد لديهم وإليهم.
(3) في (ط): والمنصوب.
(4) كذا في (ط)، وفي (م) كما قال.
(5) وفي النشر (2/ 258): أن ابن كثير يقرأ «ينزل آية» مخففا،
وفي (ط): «وقالوا لولا أنزل» ولم نعثر على قراءة بالهمز.
(6) قرأ: أبو عمرو وأبو بكر بتشديد الميم، وقرأ الباقون
بالتخفيف انظر البحر
(1/118)
العدة وكما قال: لا يألتكم من أعمالكم
شيئا، ولا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ «1» [الحجرات/ 14]
ونحو ذلك، ممّا قد أخذ فيه بلغتين وأكثر، نحو قوله: فَلا
تَقُلْ لَهُما أُفٍّ «2» [الإسراء/ 23]. وفي ذلك توسعة وتسهيل
وأخذ بظاهر الخبر المأثور: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها
شاف كاف» «3».
ومثل قولهما في هذا من الأخذ باللغتين، ما روي عن نافع من
قراءته مرة: (عليهمو) وأخرى (عَلَيْهِمْ).
فإن قلت: فإن «4» حركة التقاء الساكنين حركة غير معتدّ بها
لأدلة قامت على ذلك، وإذا لم يعتدّ بها وجب ألّا تتبع غيرها،
فيلزم ألّا تضمّ الهاء معها كما لا يضمها «5» إذا لم تكن الميم
متحركة، فإذا ضمّ الهاء في هذا الموضع دون غيره فكأنّه أتبع
حركة الهاء التحريك لالتقاء الساكنين قيل: إنّ هذا الكلام مما
يجوز أن يرجّح به قول من خالفهما في ذلك فإذا «6» تؤول قولهما
على ما قدمناه لم يدخل هذا السؤال عليه «7».
__________
المحيط 2/ 42 والنشر 2/ 226.
(1) قرأ البصريان يألتكم بهمزة ساكنة بين الياء واللام، وقرأها
الباقون بكسر اللام من غير همز (انظر النشر: 2/ 376).
(2) قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب (أف) بفتح الفاء من غير
تنوين، وقرأ المدنيان وحفص بكسر الفاء مع التنوين، وقرأ
الباقون بكسر الفاء من غير تنوين (انظر النشر: 2: 306 و 307).
(3) ورد الحديث بروايات مختلفة. انظر مسند أحمد 5/ 41، 51،
114، 122.
(4) في (ط): إن.
(5) في (ط): كما لا تضمها.
(6) في (ط): وإذا.
(7) عليه سقطت من (ط).
(1/119)
فأما الأدلة على أنّ التحريك لالتقاء
الساكنين غير معتدّ به، فمنها أنّهم قالوا «1»: رمت المرأة
وبغت الأمة. فحذفوا الألف المنقلبة عن اللام لسكونها وسكون تاء
التأنيث، ولمّا حركت التاء لالتقاء الساكنين لم يردّ الألف ولم
يثبت كما لا يثبت «2» في حال سكون التاء. وكذلك: لم يخف الرجل،
ولم يقل القوم، ولم يبع الناس وقُمِ اللَّيْلَ [المزمل/ 2].
ولو كانت الحركة معتدا بها لثبتت العين كما ثبتت في: لم يقولا،
ولم يخافا. ومن ثم ثبتت العين مع الخفيفة والشديدة «3»، إذا
قال: قولن ذاك، وبيعنّ هذا.
فدلّ أن التحريك ليس لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: فقد جاء:
أجرّه الرّمح ولا تهاله «4» فردّ الألف التي كانت حذفت للجزم،
واللام التي بعدها متحركة لالتقاء الساكنين، فهلّا دلّ ذلك على
الاعتداد بحركة التقاء الساكنين وقوّى ذلك قول من قال: (عليهم
الذلة)، و (من دونهم امرأتين)، فضمّ الهاء لمّا انضمت الميم.
فالقول: إنّ ذلك من القلّة «5» بحيث إن لم يعتبر به المعتبر
كان المذهب على أنّ الألف يجوز أن تكون على حدها في «منتزاح»
«6».
__________
(1) في (ط): أنهم قد قالوا.
(2) في (ط): لم ترد ولم تثبت كما لا تثبت.
(3) كذا في (ط)، وفي (م) والثقيلة.
(4) عجز بيت سبق في ص 66.
(5) في (ط): في القلة.
(6) انظر ص/ 81 من هذا الكتاب فهو إشارة إلى البيت:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
(1/120)
فإن قلت: فقد اعتد بحركة «1» التقاء
الساكنين في موضع آخر، وذلك قوله «2»: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا [البينة/ 1]، ألا ترى أنّ من يقول: لم يك زيد منطلقا،
إذا تحرك لالتقاء الساكنين لم يحذف. كما أنّه إذا تحرك بحركة
الإعراب لم يحذف؟ فالقول: إنّ ذلك أوجه من الأول، من حيث كثر
في الاستعمال. وجاء به التنزيل. فالاحتجاج به أقوى.
فأمّا حذف الشاعر له مع تحركها بهذه الحركة كما يحذفها إذا
كانت ساكنة فإن هذه الضرورة من ردّ الشيء إلى أصله نحو:
«ضننوا» «3» لأنّ الاستعمال فيه الإثبات كما أعلمتك «4».
فهذا يجري مجرى (اسْتَحْوَذَ) في أن القياس كان على نظائره أن
يعلّ، كما كان القياس في النون أن يستعمل حذفها في حال السعة
إذا كانت الحركة غير لازمة ولكن الاستعمال جاء بغيره.
ومن ذلك قولهم: اضرب الاثنين. واكتب الاسم.
فحركت اللام من افعل بالكسر لالتقاء الساكنين. ثم لمّا حركت
لام المعرفة من الاثنين والاسم «5» لم تسكن اللام من افعل كما
لم تسكنها في نحو: اضرب القوم، لأن تحريك اللام لالتقاء
__________
(1) في (ط): بتحريك.
(2) في (ط): قولهم.
(3) من قول قعنب بن أم صاحب:
مهلا أعاذل قد جرّبت من خلقي ... أنّي أجود لأقوام وإن ضننوا
انظر الكتاب 1/ 11، 2/ 161 والنوادر/ 44 وشرح شواهد الشافية
490.
(4) كما أعلمتك ساقطة من (ط).
(5) في (ط) من الاسم والاثنين.
(1/121)
الساكنين، فهي في تقدير السكون، فكما أنّ
لام افعل إذا وقع بعدها ساكن يحرك ولا يسكن «1»، فكذلك إذا
وقعت بعدها حركة لالتقاء الساكنين، تحرك من حيث كانت الحركة
غير معتد بها، فصارت من أجل ذلك في حكم السكون.
فإن قلت: فكيف «2» حرّكت لام المعرفة في اضرب الاثنين لالتقاء
الساكنين، وهلّا حرّكت الثاء «3» لأنهما في كلمة واحدة،
والساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة حرّك الثاني منهما، نحو
أين وكيف؟. فالقول في ذلك أنّ لام المعرفة، وإن كانت بمنزلة ما
هو من نفس الحرف لدخول العامل عليها، وأنّها أشدّ اتصالا
بالكلمة التي هي فيها من حرف التنبيه في قولهم: هذا، ونحوه
لاكتساب «4» الكلمة بها معنى لم يكن لها إذا لم يدخلها «5».
فالقول: إنها قد جرت مجرى المنفصل منها لمّا لم تكن أصلا فيها
كما كان في التذكّر كذلك، وذلك قولهم: ألي، إذا تذكروا، نحو:
الخليل، والقوم، ولذلك كرّرت في قوله:
بالشحم إنّا قد مللناه بجل «6»
__________
(1) في (ط): تحرك ولا تسكن.
(2) في (ط): كيف.
(3) كذا في (ط)، وفي (م) التاء، وهو تحريف.
(4) في (ط): لاكتساء.
(5) في (ط): لم تدخلها.
(6) قائله غيلان بن حريث الربعي، وقبله:
دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذل قال سيبويه: قال الخليل: «ومما يدل
على أن أل مفصولة من الرجل ولم يبن عليها، وأن الألف واللام
فيها بمنزلة قد، قول الشاعر: «دع ذا» إلخ.
وقال الأعلم: «الشاهد في قوله بذل، وأراد بذا الشحم، ففصل لام
التعريف من الشحم، لما احتاج إليه من إقامة القافية، ثم أعادها
في الشحم، لما استأنف ذكره بإعادة حرف الجر. ومعنى بجل: حسب،
(1/122)
ويدل على أن التحريك للساكنين «1» غير
معتدّ به، أنهم قالوا في الجزم: لم يضربا، ولم يضربوا، فحذفوا
النون في هذه المواضع، كما حذفوا الألف والياء والواو «2»
السواكن إذا كنّ لامات، من حيث عودلن بالحركة، ولو كانت حركة
النون معتدّا بها لحذفت هي من دون الحرف، كما فعل ذلك بسائر
الحروف المتحرّكة إذا لحقها «3» الجزم. ويدلّ على ذلك أيضا
اتفاقهم على أن المثلين إذا تحرّكا ولم يكونا للإلحاق أو شاذا
عن الجمهور، أدغموا الأوّل في الآخر، وقالوا: اردد ابنك واشمم
الريحان، فلم يدغموا في الثاني إذا تحرك لالتقاء الساكنين، كما
لم يدغموه قبل هذا التحريك، فدلّ ذلك على أنّ التحريك لالتقاء
الساكنين لا اعتداد به عندهم. ويدلّ على ذلك أيضا أنّ الواوات
إذا تحرّكت بالضمّ، جاز أن تبدل منها الهمزة. نحو: أقّتت «4»
وأدؤر «5» والنئوور «6»، و:
كأن عينيه من الغئور «7»
__________
يقال: بجلي كذا، أي: حسبي وكفاني» (انظر الكتاب: 2/ 64، 273)
وفي (ط) والخصائص (1/ 291): الشحم، بدون الباء.
(1) في (ط): للساكن.
(2) في (ط): والواو والياء.
(3) في (ط): إذا لحقه.
(4) التوقيت: تحديد الوقت، وقرئ: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ
«المرسلات/ 11» بالواو والهمز (انظر الكشاف/ 4: 542).
(5) أدؤر: ديار، جمع دار، كأدور.
(6) النئوور، كصبور: النيلج، ودخان الشحم، وحصاة كالإثمد تدق
فتسفها اللثة، والمرأة النفور من الريبة.
(7) قائله العجاج، ديوانه 1/ 346 وبعده:
بعد الإنى وعرق الغرور ... قلتان في صفح صفا منقور
(1/123)
ولم يبدلوا الهمزة منها إذا تحركت بالضم
لالتقاء الساكنين، كما لم يبدلوها منها إذا كانت ساكنة لمّا لم
يكن بتحريك الساكنين اعتداد. والذي حكي من همز بعضهم لذلك يجرى
مجرى الغلط.
وقد جعلوا ما لم يلزم من الحركات كما لم يلزم من حركة التقاء
الساكنين في أن لم يعتدّ به، كما لم يعتدّ بالتحريك
لالتقائهما، وذلك لاجتماع الصنفين في أنّ الحركة فيهما غير
لازمة. فمن ذلك قولهم: رمتا وغزتا، لما لم تلزم حركة التاء
وإنّما هي لمجاورة الألف، لم يعتدّ بها، فلم تردّ الألف
المنقلبة عن اللام في فعل كما لم تردّ في رمت المرأة لمّا كانت
حركة التاء غير لازمة، كما كانت في رمت المرأة كذلك.
فإن قلت: فقد وقع الاعتداد بها في قوله:
لها متنتان خظاتا «1»
__________
أذاك أم حوجلتا قارور الغئور: مصدر غار بمعنى ذهب. القلت: نقرة
في الحجر. الصفح:
الجانب. الصفا: الحجر الصلد لا ينبت جمع صفاة. الحوجلة: قارورة
صغيرة واسعة الرأس (وانظر الاشتقاق 18، والصحاح «حوجلة»
وأراجيز العرب/ 88)، مع خلاف في الروايات الثلاث.
(1) من قول امرئ القيس:
لها متنتان خظاتا كما ... أكبّ على ساعديه النّمر
المتنتان من الظهر: مكتنفا الصلب. خظاتا من قولهم: خظا لحمه
يخظو خظوّا: اكتنز وامتلأ. كما أكب ... ، يريد: كأن فوق متنيها
نمرا باركا (انظر شرح ديوان امرئ القيس للسندوبي/ 98، وشرح
شواهد الشافية/ 156 وما بعدها والبيت من شواهد شرح أبيات
المغني للبغدادي 4/ 213 وفي اللسان/ خظا).
(1/124)
فالقول فيه أنّه بمنزلة ما تقدّم من قوله:
ولا تهاله «1». وقد قيل: إنّه حذف منها نون التثنية، وليس ذلك
عندنا بأوجه القولين، لأنّ حذف نون التثنية إنّما جاء في
الموصولة نحو:
....... إن عمّيّ اللّذا ... قتلا
«2» .......
ونحو:
الحافظو عورة العشيرة «3» ..
والحذوف تخصّص ولا تقاس.
وكذلك قول من ذهب إلى الحذف في قوله:
قد سالم الحيّات منه القدما «4»
__________
(1) انظر ص 120.
(2) من قول الأخطل:
أبني كليب إن عمّيّ اللذا ... قتلا الملوك وفكّكا الأغلالا
بفخر على جرير، وهو من بني كليب بن يربوع، بمن اشتهر من قومه
من بني تغلب وساد، كعمرو بن كلثوم قاتل عمرو بن هند الملك،
وعصم بن أبي حنش قاتل شرحبيل بن عمرو بن حجر يوم الكلاب.
(انظر الكتاب: 1/ 95، الخزانة: 2/ 499، وشرح أبيات المغني 1/
237 و 4/ 181، اللسان/ خظا).
(3) بقيته:
................ .. لا ... يأتيهم من ورائنا نطف
في الكتاب (1/ 95): أنّه لرجل من الأنصار. قال الأعلم: ويقال:
هو قيس بن الخطيم، وفي الخزانة (2/ 188) أنّه من قصيدة لعمرو
بن امرئ القيس الخزرجي، وقد روى القصيدة، وهو فيها التاسع.
النطف: الذنب. ويروى: وكف، وهو: العيب والإثم.
(4) بعده:
الأفعوان والشجاع الشّجعما ... وذات قرنين ضموزا ضرزما
(1/125)
ولا يقوى «1» ما ذهبوا إليه من قول «2» أبي
دواد:
ومتنان خظاتان ... كزحلوف من الهضب
«3» لأنّ هذا يكون تثنية والأول مثال ماض كغزا أو رمى «4» ومن
ذلك قولهم: اضرب الاجل، لمّا كانت حركة اللام حركة الهمزة ولم
تكن لازمة في قول من حقّق، كما لم تلزم حركة التقاء الساكنين،
أقررت الكسرة على الباء، كما أقررتها في اضرب الاثنين، لاجتماع
الحركتين في أنّهما لا تلزمان.
وعلى هذا تقول: ملآن.
وما أنس م الأشياء «5» ...
__________
وفي الكتاب: (1/ 145) أنه لعبد بني عبس، ونسبه الأعلم للعجاج
والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 8/ 126 وبين فيه البغدادي
الاختلاف في قائله، فالبيت ينسب إلى أبي حيان الفقعسي أو
لمساور العبسي أو للعجاج. الأفعوان الذكر من الأفاعي. الشجاع:
ضرب من الحيات. الشجعم: الطويل. ذات قرنين: ضرب منها أيضا.
الضموز، كصبور: الساكنة المطرقة، التي لا تصفر لخبثها. الضرزم
كجعفر:
المسنة، وذلك أخبث لها وأوحى لسمها، ويقال الضرزم: الشديد.
(1) في (ط): ومما يقوي، وهو لا يتفق مع السياق.
(2) في (ط): قول، بدون من.
(3) البيت في شعر أبي دواد ص 228 (جمع كرنباوم) واللسان (خظا)،
وفي شرح شواهد الشافية/ 157 وشرح أبيات المغني 4/ 214 وفي
المعاني الكبير 1/ 145 منسوب لأبي دواد الإيادي كما هنا. وهو
في الأصمعيات ص/ 41 من قصيدة لعقبة بن سابق الهزاني في وصف
الخيل. خظاتان:
مكتنزتان. الزحلوف: الحجر الأملس.
(4) في (ط): كغزا ورمى.
(5) من قول جميل:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قرّبت نضوي أمصر تريد؟
الأغاني: 2/ 344. النضو: المهزول من الإبل وغيرها.
(1/126)
فلا ترد النون التي حذفتها لالتقاء
الساكنين، لأنّ اللام في تقدير السكون من حيث كانت متحركة
بحركة الهمزة. وعلى هذا تقول: (قال لان جئت بالحق) «1»
[البقرة/ 71] فلا تردّ الواو، كما لم تسكّن الباء في قولهم:
اضرب الاجل. ومن قال:
((قالوا لان جئت بالحق)) فردّ الواو لحركة اللام فإنّ هذا على
قياس قولهم: لحمر، لمّا جعلت الحركة بمنزلة اللازمة حذفت همزة
الوصل التي إنّما تجتلب لسكون اللام. وقياس هذا أن يسكن الباء
في اضرب لاجل ولا تكسرها كما كسرها من لم يعتدّ بالحركة «2».
وهذا مما يقوي قراءة حمزة والكسائي.
ألا ترى أن الحركة التي ليست بلازمة جعلت بمنزلة اللازمة في أن
حذفت همزة الوصل قبلها؟ فكذلك يجعلان الحركة التي لالتقاء
الساكنين وإن كانت غير لازمة بمنزلة اللازمة، فيختاران أن
يتبعاها المضمومة في ((عليهم الذلة)) و ((من دونهم امرأتين))
وإن لم يختاراها في غير هذا الموضع ليكون الصوت من جنس واحد
وضربا واحدا. وقد أخذ أبو عمرو مثل «3» ذلك أيضا معهما. وذلك
في قراءته: وأنه أهلك عادلولى «4» [النجم/ 50]، ألا ترى أن حكم
المدغم فيه أن يكون متحركا ولا يكون ساكنا، فإنما تجعله على
لغة من قال:
__________
(1) وفي البحر المحيط (1/ 257) أنها قراءة نافع في إحدى
الروايتين عنه.
(2) في (ط): ولا يكسرها كما يكسرها من لم يعتد بالحركة.
(3) في (ط): بمثل.
(4) وهي قراءة قالون من أحد الوجهين عنه. التقى تنوين عادا
ساكنا باللام وهي ساكنة أيضا، فألقيت حركة الهمزة على اللام،
لئلا يلتقي ساكنان (النشر: 1/ 415).
(1/127)
لحمر، كما تأوّله أبو عثمان.
فإن قلت: فلم لا تحمله على قول من قال: الحمر، فلم يسقط همزة
الوصل لأن الحركة غير لازمة، فلما أدغمت النون في اللام
الساكنة حرّكتها، كما حركت غض ونحوه، وإن كان المدغم «1» فيه
ساكنا؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع أن تقدر القراءة عليه،
وتتأوّل، إلّا أنّه مثل الأول في أن المدغم فيه ساكن، وأن
الحركة التي هي بمنزلة المجتلبة لالتقاء الساكنين تنزّلت «2»
منزلة الثابتة غير المجتلبة.
ومما يقوي قولهما، أنّهم قالوا: سل ور رأيك، فأسقطوا همزة
الوصل لما تحركت الفاء، فكما شبهوها هاهنا «3» بالحركة اللازمة
فحذفت همزة الوصل، كذلك تكون «4» في قولهما الحركة غير اللازمة
بمنزلة اللازمة، فيحسن أن يضم «5» لذلك الهاء التي كانا
يكسرانها لتتبع حركة الميم التي قد تنزّلت منزلة اللازمة في
هذه المواضع.
وقد قال أبو الحسن: إنّ ناسا يقولون: اسل، فهؤلاء لم يسقطوا
همزة الوصل لما كانت السين في تقدير السكون، إلا أن إسقاط
الهمزة مع سل أكثر وإثباتها في قولهم: الحمر، وقولهم: الْآنَ
«6» جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة/ 71] أكثر، والقياس على ما ذكرت
لك.
__________
(1) في (ط): وإن كان الحرف المدغم فيه.
(2) في (ط): نزلت.
(3) في (ط): هنا.
(4) في (ط): يكون.
(5) في (ط): تضم.
(6) وهذه قراءة ورش (النشر: 1/ 338).
(1/128)
قال أبو عثمان: ولا يجوز عندي اسل، وإنّما
جاز في الألف واللام الحمر لأنّ الألف واللام بمنزلة حرف واحد،
ألا ترى أن ألف الاستفهام تلحق ألف اللام فتمدّ ولا تحذف في
قولك: آلرجل قال ذاك؟ ويقولون: الحمر، وليس كذا جميع ألفات
الوصل، لأنّ الألف واللام بمنزلة قد «1»، كما ذكر سيبويه. قال:
ومن أثبت ألف الآن، وقبلها كلام، فقد أخطأ في كل مذهب.
وممّا لم يعتد فيه بالحركة لمّا لم تلزم قولهم: قعدتا وضربتا،
لما كانت الحركة من أجل الألف، والألف غير لازمة استجازوا
الجمع بين أربع متحركات، ولم يستجيزوا ذلك في ضربت ونحوه.
وإنّما استجازوا الموالاة بين هذه الحركات في ضربتا كما قالوا:
رمتا وقضتا، فلم يردوا الألف، فكما لم يردوا الألف، حيث كانت
الحركة غير لازمة، كذلك لم يكرهوا الموالاة بين أربع متحركات
من حيث لم تكن الحركة في التاء لازمة، فكانت من أجل ذلك في
تقدير السكون كما كان في تقديره في رمتا.
ومن الحجّة لمن خالفهما ممّن تقدم ذكر قوله، أن يقال:
إنّ التحريك لالتقاء الساكنين لا ينبغي أن يتبع غيره، لأنّهم
قد جعلوه تابعا لغيره متقدما ومتأخّرا، ولم يجعلوا غيره يتبعه
من حيث كان في تقدير السكون بالأدلّة التي تقدمت. فممّا أتبع
ما قبله: انطلق. ولم يلده. فاعلم «2»، لما لزم تحريك اللامين
__________
(1) انظر الكتاب: 2/ 273.
(2) فاعلم: ساقطة من (ط).
(1/129)
لالتقاء الساكنين أتبعا الفتحة التي
قبلهما، ومن ثم قال سيبويه في ترخيم اسم رجل «1» يسمى إسحارّ
على من قال يا حار: يا إسحار أقبل. وكذلك قالوا لا تضارّ يا
فتى. ومن ذلك مدّ، وفرّ، وعضّ، ومما أتبع ما بعده قول من قال:
(وقالت اخرج) [يوسف/ 31] وعذابن. اركض «2» [ص/ 41 - 42]، (أو
انقص) [المزمل/ 3]، وعيونن ادخلوها [الحجر/ 45 - 46]. فإذا «3»
كان على ذلك بعد أن يتبع غيره لما تقدم من أنّه في تقدير
السكون.
فأمّا ما ذكره أبو بكر عن بعض من احتجّ لكسر الهاء في عليهم
أنّ الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء-
فليس بمستقيم وذلك أنّ قوله: لأن الهاء تنقطع إلى مخرج الياء
لا يخلو من أن يريد به أنّه ينقطع إلى الجهة التي تخرج منها
الياء، أو يريد بذلك أن الصوت بها يتّصل بمخرج الياء، كما أن
صوت الشين استطال حتى خالط أعلى الثنيّتين، وكذلك «4» صوت
الهاء استطال حتى اتّصل بمخرج الياء، فصار من أجل ذلك بمنزلة
الحروف الخارجة من مخرج الياء، كما صارت الشين بمنزلة الحروف
التي تخرج من الموضع الذي بلغه استطالة صوته حتى أدغم فيها
كثير من حروف ذلك الموضع، كالطاء وأختيها، والظاء وأختيها.
فإن كان أراد المعنى الأول فليس للهاء به اختصاص ليس
__________
(1) في (ط): ترخيم رجل.
(2) انظر الكتاب: 2/ 275 وفي (ط): وبعذاب اركض.
(3) في (ط): وإذا.
(4) في (ط): فكذلك.
(1/130)
لغيره، لمساواتها غيرها ممّا يخرج من
مخرجها في ذلك. وإن كان أراد أن الصوت يستطيل «1» حتى يتصل
بمخرج الياء كما استطال الصوت بالشين حتى خالط أعلى الثنيّتين،
فأنت إذا اعتبرت الهاء في مخرجها لم تجد لها هذه الاستطالة،
ولم تجدها تتّصل بمخرج الياء على حدّ ما اتصل صوت الشين
بالموضع الذي اتصل به.
ولعلّ الذي حمل هذا القائل على ما قاله من ذلك، كون الهاء
مهموسة رخوة. والحروف المهموسة إذا وقف عليها كان الوقف مع
نفخ، لأنها لمّا لم تعترض على النّفس اعتراض المجهورة، فتمنعها
من أن يجري معها كما منعت المجهورة حين خرجت مع التنفس «2»
وانسلّت معه، وهي أيضا حرف رخو، والحروف الرخوة يجوز أن يجري
فيها الصوت، وليست الشديدة كذلك، لأنّك لو قلت: ألدّ، والحجّ،
لم يجر الصوت فيها «3» إذا مددته كما يجري الصوت في الرخوة،
نحو أنقصّ «4» وأيبسّ. فلعل هذا الذي يتبع الصوت في بعض
الأحوال من النفخ في المهموسة وإمكان إجراء الصوت في الرخوة،
جعله بمنزلة استطالة الشين، وليس هذا من ذلك في شيء، وإنما
المشابهة المعتبرة بين الهاء والياء ما ذكرنا من مشابهتها
الألف لخفائها، وأنّها قد جعلت متحركة بمنزلة هذه الحروف
ساكنة.
والألف تقرّب من الياء بالإمالة، فكذلك قرّبت الهاء منها بأن
أبدلت من حركتها الكسرة. وهذه المناسبات التي تكون بين
__________
(1) في (ط): إن الصوت بالهاء يستطيل.
(2) في (ط): مع النفس.
(3) في (ط): لم يجر فيها الصوت.
(4) في سيبويه (2/ 406): انقض.
(1/131)
الحروف توفق بينها، كما يوفّق تقارب
المخارج، أو هو آكد في ذلك من تقارب المخارج، ألا ترى أن الواو
والياء قد جرتا مجرى المثلين في جواز إدغام كل واحدة «1» منهما
في الأخرى، لما اجتمعا فيه من اللين، وأن النون أدغمت في الياء
على بعد بين مخارجهما لما ذكرنا.
وأما ما ذكره عن بعض من احتجّ لحمزة من أنّهم قالوا:
ضمّ الهاء هو الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتصل بها
قيل: هم فعلوا، فليس بمستقيم أيضا، وليست الدلالة على أن ضمير
الجميع المجرور أو المنصوب أصله الضمّ انضمام الهاء في هم «2»
فعلوا، وذلك أن العلامتين وإن اتفقتا «3» في اللفظ في الجمع،
فهما مختلفتان، وليس اتفاقهما في اللفظ بموجب اتفاقهما في
التقدير والمعنى.
ألا ترى أن التاء في «أنت» وإن كانت على لفظ التاء في فعلت،
فليست إياها ولا مثلها في المعنى، وكذلك الكاف في ذلك،
وأرأيتك، والنّجاءك، ونحو ذلك ممّا لحقه الكاف للخطاب مجرّدة
من معنى الاسم، ليست كالكاف في أكرمتك، وصادقتك، ولا هو التي
للفصل كالتي في قولك للغائب: هو فعل، ولا الواو والألف والنون
في قاما أخواك، وقاموا إخوتك، و:
.. يعصرن السّليط «4» ... أقاربه
__________
(1) في (ط): كل واحد.
(2) في (ط): في قولهم: هم فعلوا.
(3) في (ط): وإن اتفقا.
(4) جزء من بيت للفرزدق يهجو عمرو بن عفراء وتمامه:
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه ... بحوران يعصرن السليط أقاربه
(1/132)
بمنزلتها في قولك: أخواك قاما، وإخوتك
قاموا، والهندات قمن، فليس الاتفاق في اللفظ بموجب الاتفاق في
المعنى، ألا ترى أن الهمزة في الاستفهام على لفظ الهمزة في
النداء، وأن هل التي للاستفهام على لفظ هل التي بمنزلة قد؟
وإنّما الدلالة على أنّ أصل الهاء في (عليهم) «1»، [وهذه
دارهم] «2» ونحو ذلك الضم، أنّها إذا لم تجاورها الكسرة ولا
الياء لم تكن إلا مضمومة، وإذا جاورتها الكسرة أو الياء جاز
الكسر فيها للإتباع والتقريب، وجاز الضمّ على الأصل، كقول أهل
الحجاز في ذلك، فكلّ موضع جاز فيه الكسر فالضمّ فيه جائز.
والمواضع التي تختصّ باستعمال الضم فيها لا يجوز الكسر معها،
فبهذا يعلم أنّه الأصل، لا بما ذكره من اتفاق اللفظ.
فأمّا ضمّ الهاء من هم في قوله: هم فعلوا، فلا يدل على أنّ أصل
الهاء في عليهم الضمّ، لأنّها ليس بها.
ومما يدلك «3» على اختلافهما، أنّك تقول في واحد «هم» - من
قولك هم «4» فعلوا ذلك-: هو قال، كما تقول في واحدة «هنّ
فعلن»: هي فعلت، فالواو والياء من نفس الكلمة. فأمّا الواو
التي تلحق علامة المضمر المجرور أو المنصوب في نحو
__________
دياف: موضع بالجزيرة، وأهلها هم نبط الشام. حوران، بالفتح:
كورة واسعة من أعمال دمشق، ذات قرى كثيرة ومزارع. السليط:
الزيت، وقيل: هو كل دهن عصر من حب (انظر الديوان في 50 وسيبويه
1/ 236، واللسان: (ديف، سلط)، والخزانة 2/ 388، ومعجم البلدان
(دياف 2/ 494).
(1) في (ط): عليهم، وإليهم، ولديهم.
(2) وهذه دراهم: ساقطة من (ط).
(3) في (ط): يدل.
(4) سقطت من (ط): «من قولك هم».
(1/133)
هذا له، وضربه، فزيادة لاحقة للكلمة بدلالة
سقوطها في نحو:
عليه، ومنه، وإن لم نقف على شيء من ذلك، وأنّه في الغائب نظير
الكاف للمخاطب والياء للمتكلم، وبدلالة ما جاء في الشعر عند
سيبويه نحو:
له أرقان «1» وحكى أبو الحسن أنها لغة.
ومما يبيّن أنّ كل واحد من هذه الأسماء التي للضمير ليس الآخر
في اللفظ وإن اتفقا في بعض الحروف تحريكك الواو والياء من هو
وهي، وحرف المد اللاحق في عليه فيمن أثبت ولم يحذف، وفي داره،
وبه، لم يحرّك في موضع.
فإن قلت: فقد أسكنت الياء من هي وهو في الشعر، كقوله:
__________
(1) هو من قول رجل من أزد السراة، أو من قول يعلى الأحول:
فظلت لدى البيت العتيق أخيله ... ومطواي مشتاقان له أرقان
ويروى:
ومطواي من شوق له أرقان ورواية الخزانة:
فبت لدى البيت العتيق أريغه أخيله: أنظر إلى مخيلته. مطواي:
صاحباي. وهاء أخيله عائدة على البرق في قوله قبل الشاهد:
أرقت لبرق دونه شدوان ... يمان وأهوى البرق كلّ يمان
شدوان، بلفظ التثنية: موضع، وقيل جبلان باليمن، وقيل بتهامة،
أحمران. وفي اللسان بلفظ شروان بالراء، وضبط بالقلم في القاموس
بسكون الدال. وفي اللسان: يعلى بن الأحول. وهو سهو. ولم نعثر
على الشاهد بين شواهد سيبويه. (انظر الأغاني: 22/ 143، واللسان
(مطا)، والقاموس ومعجم البلدان). والخزانة 2/ 401 والخصائص 1/
128 والمحتسب 1/ 244.
(1/134)
فإذا هي بعظام ودما «1» فإنّ ذلك لا يؤخذ
به في التنزيل وحال السعة والاختيار، وإنّما هذا تشبيه لفظي
يستعمله الشاعر للضرورة من وجه بعيد، كأنّه يقول ضمير وضمير
حرف لين وحرف لين، وعلى هذا استجاز:
إذ هـ من هواكا «2» و: بيناه يشري «3» كأنّه حذفه من هو وهي
المسكنتين في الشعر للضرورة، ولا يكون محذوفا من المتحركة لأنّ
التشبيه في ذلك لفظيّ،
__________
(1) صدره: غفلت ثم أتت ترقبه وقبله:
كأطوم فقدت برغزها ... أعقبتها الغبس منه عدما
الأطوم: البقرة الوحشية، وبرغزها: ولدها. والغبس: الذئاب.
ودما:
أراد: ودم، ثم رد إليه لامه وهو الياء التي قلبت ألفا.
انظر اللسان/ برغز/ والخزانة 3/ 352.
(2) بقيته:
هل تعرف الدار على تبراكا ... دار لسعدى ..
وهو من الأبيات التي لم يعلم قائلها من شواهد الكتاب ولم يشرحه
ابن السيرافي في أبيات سيبويه. تبراك، بكسر المثناة الفوقية،
وسكون الموحدة:
موضع في ديار بني فقعس. وصف دارا خلت من سعدى هذه المرأة، وبعد
عهدها بها فتغيرت وذكر أنها كانت لها دارا ومستقرا فكان يهواها
بإقامتها فيها. (انظر الكتاب: 1/ 9، الخزانة: 2/ 399، وشرح
شواهد الشافية/ 290).
(3) البيت بتما
مه:
فبيناه يشري رحله قال قائل ... لمن جمل رخو الملاط
نجيب البيت للعجير السلولي، ويروى للمخلف الهلالي. ويروى ذلول،
مكان نجيب. يشري: يبيع، الملاط: الجنب. رخو الملاط: سهله
وأملسه.
وقيل الملاط: مقدم السنام، وقيل: جانبة، وهما ملاطان. وقوله:
رخو، إشارة إلى عظمه واتساعه. وصف بعيرا ضلّ صاحبه فيئس منه
وجعل يبيع رحله، فبينا هو كذلك سمع مناديا يشيد به (خزانة
الأدب 2/ 396، 397).
(1/135)
والتحريك يرتفع معه التشبيه الذي يقصده،
فلا يصحّ له معه حذف الحرف لتحرّكه، ألا ترى أن الياء إذا كانت
لاما أو غيرها فتحرّكت صارت بمنزلة الحروف الصحيحة، ولم يجز
فيها الحذف الذي كان يجوز حيث يسكن الحرف؟ وهذا الشّبه «1»
اللفظي الذي أعمله الشاعر في اضطراره مرفوض في الكلام، غير
مأخوذ به، ومن ثمّ قال سيبويه: ولم يفعلوا هذا بذاهي ومن هي
ونحوهما، يريد لم يفعلوه في الكلام لأنّه قد جاء:
فبيناه يشري «2» ..
كما قال: فَأَلْقى عَصاهُ [الأعراف/ 107]. وجاء:
إذ هـ من هواكا «3» وجاء الاتفاق بين بعض حروف هذين الاسمين
المضمرين، كما جاء ذلك في المظهرة كقولهم: الضّيّاط «4»
والضّيطار «5»، والغوغاء فيمن لم يصرف وفيمن صرف «6»، وقاع قرق
«7» وقرقوس «8»، ودمث «9» ودمثر «10» وما أشبه ذلك.
__________
(1) في (ط): وهذا التشبيه.
(2) تقدم قريبا.
(3) تقدم قريبا.
(4) الضياط: المتمايل في مشيته.
(5) الضيطار: العظيم، وقيل: هو الضخم اللئيم.
(6) نص عبارة الكتاب (2/ 10): «وأما غوغاء فمن العرب من يجعلها
بمنزلة عوراء، فيؤنث، ولا يصرف، ومنهم من يجعلها بمنزلة قضقاض،
فيذكر، ويصرف، ويجعل الغين والواو مضاعفتين بمنزلة القاف
والضاد». فعلى الوجه الأول يكون الغوغاء من غاغ وعلى الثاني من
غوغو، وهما مادتان مختلفتان.
(7) قرق: مستو.
(8) قرقوس، مثال قربوس: مكان واسع أملس مستو لا نبت فيه
(اللسان).
(9) مكان دمث: لين الموطئ، ومثله دمث بسكون الميم.
(10) في اللسان والتاج: أرض دمثر: سهلة. وفي (ط): دمثرة.
(1/136)
فإن قلت فلم لا تستدلّ بثبات الألف في
المؤنث في نحو عليها وضربها أن الواو أو الياء «1» في لهو وبهي
ليسا بزائدين «2» وإن سقطا في بعض المواضع، لأنّ الأصول قد
تسقط أيضا فيه، نحو «3»:
كنواح ريش حمامة نجديّة «4» ... ................ ..
و: .............. ... دوامي الأيد يخبطن السّريحا
«5»
__________
(1) في (ط): والياء.
(2) في (ط): ليسا زائدين.
(3) في (ط): في نحو.
(4) صدر بيت من شواهد الكتاب 1/ 9 ومن شواهد شرح أبيات المغني
2/ 323، وعجزه:
ومسحت باللّثتين عصف الإثمد والبيت لخفاف بن ندبة السلمي شاعر
فارس صحابي، وكنيته: أبو خراشة، وإياه عنى أبو العباس بن مرداس
بقوله:
أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر وهو ابن عم الخنساء وقوله كنواح،
يريد: كنواحي، فحذف الياء في الإضافة للضرورة، تشبيها لها في
حالة الإفراد والتنوين وحال الوقف. وإنّما خص الحمامة النجدية
لأنّ الحمام عند العرب كل مطوق، كالقطا وغيره، وإنّما قصد منها
إلى الحمام الورق المعروفة، وهي تألف الجبال، والنجد، وهو ما
ارتفع من الأرض، ولا تألف الفيافي والسهول، كالقطا وغيره. عصف
الإثمد: ما سحق من حجر الكحل. يصف شفتي صاحبته، فشبههما في
الرقة واللطافة والحوة بنواحي ريش الحمامة، يريد أن لثاتها
تضرب إلى السمرة فكأنّها مسحتهما بالإثمد. والرواية الصحيحة
مسحت بكسر التاء، ويروى مسحت بضمها ومعناها: قبلتها فمسحت عصف
الإثمد في لثتها.
(5) عجز بيت من شواهد الكتاب 1/ 9، وشرح أبيات المغني 4/ 336
ضمن أبيات، صدره:
فطرت بمنصلي في يعملات
(1/137)
وإذا كان كذلك لم يكن فيما ذكرت من سقوط
حرف اللين دلالة على زيادته، وثبات الألف في علامة المؤنث
وأنّها لا تحذف دلالة على أنّ الواو والياء في ضمير المذكر في
حكم الألف. قيل: لم يستدلّ على زيادتها بالسقوط فقط فيتجه هذا
الكلام، فأمّا ثبات الألف في ضمير المؤنث المفرد فليس بدالّ
على أنّه من نفس الكلم، وإنّما ألحقت للفصل بين التأنيث
والتذكير كما ألحقت السين أو الشين في الوقف في «1» قولهم:
أكرمكس، وأكرمكش في بعض اللغات «2» لذلك، فكما «3» أنّهما ليسا
مع الكاف كلمة واحدة، وإنّما الأصل الكاف، ولحق هذان الحرفان
للفصل بين التأنيث والتذكير، كذلك الألف اللاحقة لهاء الضمير
في التأنيث. وقد يكون من الزوائد ما يلزم فلا يحذف نحو نون
منطلق، ونحو «ما» في: آثرا ما «4»، ونحو الألف المبدلة من
التنوين في النصب في أكثر اللغات.
__________
لمضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي. المنصل: السيف. السريح: جلود أو
خرق تشد على أخفاف الإبل، جمع سريحة. يطأن السريح: يطأن
بأخفافهن الأرض، وفي الأخفاف السريح. يقول: إنه أسرع بسيفه
فعقر نوقا وأشار بدوامي الأيد إلى أنه كان في سفر، فقد حفين
لإدمان السير، ودميت أخفافهن، فأنعلن السريح.
(1) في (ط): في نحو.
(2) الأولى لهوازن، وتسمى كسكسة، والأخرى لربيعة وتسمى كشكشة
انظر الكتاب: 2/ 295، 296 ومجالس ثعلب 80 و 116 وحواشيه.
(3) في (ط): وكما أنهما.
(4) قال في سر صناعة الإعراب، (1/ 263): «افعله آثرا ما، أي:
أول شيء، فما زيادة لا يجوز حذفها، لأن معناه: افعله آثرا
مختارا له، معنيا به، من قولهم: أثرت أن أفعل كذا وكذا».
(1/138)
على أنّ ناسا أجازوا حذف هذه الألف في
الوقف. قال أبو عثمان: أخبرني أبو محمد التّوّزي قال: أخبرني
الفراء قال:
قوله:
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله «1» أراد: بعد ما كدت أفعلها،
يعني: الخصلة، فحذف الألف وطرح حركة الهاء على اللام. قال: ومن
كلام أهل بغداد الكسائي والفرّاء: نحن جئناك به، طرح حركة
الهاء على الباء، وهو يريد: نحن جئناك بها.
[قال أبو علي] «2»: وهذا الذي حكاه أبو عثمان عن الكسائي
والفراء ليس بالمتسع «3» في الاستعمال، ولا المتّجه في القياس،
وذلك أن حركة الحرف التي هي له أولى من المجتلبة، يدلّ على ذلك
أنّ من ألقى حركة الحرف المدغم على الساكن الذي قبله في نحو:
استعدّ، إذا أمر فقال: امتدّ واعتدّ وانقدّ، أقر الحركة التي
للحرف فيه «4»، ولم يحذفها، ويلقي على الحرف حركة الحرف
المدغم، فكذلك الحركة التي هي الكسر في به أولى به من نقل حركة
الموقوف عليه «5»
__________
(1) عجز بيت من شواهد سيبويه وشرح أبيات المغني 7/ 347 لعامر
بن جؤية الطائي من أبيات قالها في هند أخت امرئ القيس، وصدره:
فلم أر مثلها خباسة واحد الخباسة: الظلامة. نهنهت: كففت،
والأبيات يصف فيها ما كان أراده من غدر بامرئ القيس عند ما نزل
عليه، فتحول عن غدره به.
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(3) في (ط): ليس بالشائع في الاستعمال.
(4) في (ط): التي هي للحرف فيه.
(5) في (ط): الموقوف عليه إليه.
(1/139)
ولا يشبه هذا قول الشاعر: ... إذ جدّ النقر
«1» ولا قولهم: هذا عدل، لأنّ هذا التحريك إنّما هو لكراهة
التقاء الساكنين. يدل على ذلك أنّ الساكن قبل الحرف الموقوف
عليه إذا كان ياء أو واوا نحو: عون وزيد، لم يحرك لكون ما فيه
من المدّ بدلا من الحركة، فاحتمل ذلك كما احتمل الإدغام في
نحو: عونّهشل وزيد دّاود «2» وما أشبه ذلك.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: ردّ، فألقى حركة الحرف المدغم على
الفاء وحذف حركتها التي هي الضمة. فالقول:
أن الذي فعل ذلك إنّما شبهه بباب: قيل، وبيع، حيث وافقه في
اعتلال العين بالسكون، فجعله «3» مثلها في نقل الحركة إلى
الفاء، كما جعلوها مثلها في الحذف في قولهم: ظلت، ومست.
فكما استجازوا فيه الحذف في العين كما حذف من «4» بنات الياء
والواو، كذلك استجازوا نقل حركة العين إلى الفاء.
والأكثر الأشيع في ردّ غير ذلك.
وممّا يدل على أنّ حركة الحرف التي له في الأصل أولى به من
الحركة المجتلبة، أنّ «مذ» لمّا حركت لالتقاء الساكنين حركت
بالضمّة التي هي حركته في الأصل ولم تكسر، وكذلك: ((عليهم
الذلة)).
ومما يبعد ما حكاه أبو عثمان عنهم، من القول في أن
__________
(1) انظر الصفحة/ 98.
(2) يريد: عون نهشل وزيد داود. انظر الكتاب: 2/ 407، وفيه يد
مكان زيد.
(3) في (ط): فجعلوه.
(4) في (ط): حذف في.
(1/140)
الألف لا تحذف في الوقف كأختيها، حذفهم
الألف من علامة الضمير، والألف لا تحذف في الوقف كما تحذف
الياء والواو.
فإن قلت: فقد قال بعضهم في الوقف: رأيت زيد، فلم تبدل «1» من
التنوين الألف. وقال الأعشى:
وآخذ من كلّ حيّ عصم «2» وقد قال «3» لبيد:
ورهط ابن المعلّ «4» وقالوا: ولو تر ما أهل مكة «5»، وقرئ:
(حاشَ لِلَّهِ) [يوسف/ 31 - 51] وهو فاعل، فإذا «6» حذفت الألف
في هذه
__________
(1) في (ط): يبدل.
(2) على أن أصله عصما، ووقف عليه في لغة ربيعة بالسكون وصدره:
إلى المرء قيس أطيل السّرى والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، مدح
بها قيس بن معديكرب العصم: قال ابن جني: هو بضمتين جمع عصام،
وعصام القربة:
وكاؤها، وعروتها أيضا، يعني عهدا يبلغ به. وقال ابن هشام، صاحب
السيرة النبوية: هو بكسر ففتح، جمع عصمة، وهي الحبل والسبب،
وإنما كان يأخذ من كل قبيلة إلى أخرى عهدا، لأن له في كل قبيلة
أعداء ممن هجاهم، أو ممن يكره ممدوحه، فيخشى القتل أو غيره،
فيأخذ عهدا ليصل بالسلامة إلى ممدوحه (شرح شواهد الشافية/ 191.
الديوان/ 37).
(3) في (ط): وقال.
(4) سبق في ص 79.
(5) في اللسان: قال أبو علي: أرادوا: ولو ترى ما، فحذفوا لكثرة
الاستعمال.
اللحياني يقال: إنه لخبيث. ولو تر ما فلان، ولو ترى ما فلان،
رفعا وجزما. وكذلك ولا تر ما فلان، ولا ترى ما فلان فيهما
جميعا وجهان:
الجزم والرفع ... ولم تر ما فلان قالوه بالجزم. وفلان في كله
رفع، وتأويلها ولا سيما فلان. حكي ذلك عن الكسائي كله.
(اللسان/ رأى).
(6) في (ط): وإذا.
(1/141)
الأشياء، فلم لا يجوز أن يحذف في قوله: «أن
أفعله» و «نحن جئناك به» قيل: لا يشبه هذا قولهم لو «1» تر ما،
وحاش لله، لأنّ ذلك «2» إنّما حذف كما حذف لا أبال، ولا أدر،
بدلالة أنّهما قد حذفا في الوصل أيضا.
وأما المعل فحذفه لإقامة القافية، وترك إبدال الألف من النون
في عصم ليس بالمتسع. ألا ترى أن سيبويه لم يحكه؟
وحذف الأعشى له لإقامة القافية أيضا كحذف «3» ألف معلّى، فحذف
الألف من هاء الضمير ليس بالمتجه.
قوله عزّ وجلّ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «4» قرأ: غير
المغضوب عليهم- بخفض الراء- نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر
وحمزة والكسائي. واختلف عن ابن كثير فروي عنه النصب والجر.
قال أبو بكر في الحجّة في الجر: إنّهم قالوا ينخفض على ضربين:
على البدل من الذين، ويستقيم أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت
برجل غيرك، وإنما وقع (غَيْرِ) هاهنا صفة للذين، لأن الذين
هاهنا ليس بمقصود قصدهم، فهو بمنزلة قولك: إنّي لأمر بالرجل
مثلك فأكرمه. قال: وقالوا يجوز النصب على ضربين. على الحال،
والاستثناء.
فأمّا الاستثناء فكأنّك قلت: إلّا المغضوب عليهم.
__________
(1) في (ط): ولو.
(2) في (ط): ذاك.
(3) في (ط): كحذفه.
(4) السبعة 111.
(1/142)
وأما الحال فكأنك قلت: صراط الّذين أنعمت
عليهم لا مغضوبا عليهم.
قال: ويجوز عندي النصب أيضا على أعني. وقد حكي عن الخليل نحو
هذا، أنّه أجازه على وجه الصفة والقطع من الأول كما يجيء
المدح. ومما يحتجّ به لمن يفتح أن يقال:
غير نكرة، فكره أن يوصف به المعرفة «1».
قال: والاختيار الذي لا خفاء به الكسر، ألا ترى أن ابن كثير قد
اختلف عنه. وإذا كان كذلك فأولى القولين «2» به ما لم يخرج به
عن إجماع قراء الأمصار؟
ولعل الذي تنكّب الجر، إنما تنكبه فرارا من أن ينعت الذين
أنعمت عليهم بغير، وغير إذا أضيفت إلى المعرفة قد توصف بها
النكرة.
[قال أبو بكر] «3»: والذي عندي أن (غَيْرِ) في هذا الموضع مع
ما أضيفت إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس.
فليفهم عني ما أقول:
«أعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت
غير، ومثل، مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك أنك
إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شيء ترى «4» سوى المخاطب فهو غيره
«5»، وكذلك إذا قال: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى، يجوز أن
يكون مثله في خلقه، وفي خلقه،
__________
(1) في (ط): أن يقول غير نكرة، فكرهت أن أصف بها المعرفة.
(2) في (ط): فأولى القراءتين به.
(3) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(4) في (ط): تراه.
(5) في (ط): هو غيره.
(1/143)
وفي جاهه، وفي علمه، وفي نسبه. فإنّما صارا
«1» نكرتين من أجل المعنى. فأمّا إذا كان شيء معرفة له ضد واحد
وأردت إثباته ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير، وأضفت
غيرا إلى ضده فهو معرفة، وذلك نحو «2» قولك: عليك بالحركة غير
السكون، فغير السكون معرفة، وهي الحركة، فكأنك كرّرت الحركة
تأكيدا، فكذلك قوله: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ. فالذين أنعم عليهم لا عقيب لهم إلا
المغضوب عليهم، فكل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه،
وكل من لم يغضب
عليه فقد أنعم عليه. فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم،
فهو مساو له في معرفته. هذا الذي يسبق إلى أفئدة الناس وعليه
كلامهم. فمتى كانت (غَيْرِ) بهذه الصفة وقصد بها هذا القصد،
فهي معرفة.
وكذلك لو عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب، فقيل فيه: قد
جاء مثلك لكان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك، والمعرفة والنكرة
بمعانيهما، فكل شيء خلص لك بعينه من سائر أمّته فهو معرفة.
ومن جعل (غَيْرِ) بدلا فقد استغنى عن هذا الاحتجاج، لأنّ
النكرة قد تبدل من المعرفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا
الضَّالِّينَ قيل: إن المعنيّ بقوله: المغضوب عليهم اليهود،
ويدلّ على
__________
(1) في (ط): صار، وهو تحريف.
(2) في (ط): سقطت كلمة نحو.
(1/144)
ذلك قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنازِيرَ «1» [المائدة/ 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله:
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي
السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ
[البقرة/ 65] والضالّون: النصارى، لقوله: وَلا تَتَّبِعُوا
أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا
كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة/ 77].
فأمّا الخفض في (غَيْرِ)، فعلى ما تقدم ذكره: من البدل أو
الصفة. والفصل بين البدل والصفة أنّ البدل في تقدير تكرير
العامل. وليس كالصفة، ولكن كأنّه في التقدير من جملتين بدلالة
تكرير حرف الجر في قوله: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ
آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف/ 75] وبدلالة بدل النكرة من المعرفة،
والمظهر من المضمر. وهذا مما لا يجوز في الصفة، فكما أعيدت
اللام الجارة في الاسم، فكذلك يكون العامل الرافع أو الناصب في
تقدير التكرير. وهو وإن كان كذلك فليس يخرج عن أن يكون فيه
تبيين للأول، كما أنّ الصفة كذلك، ولهذا لم يجز سيبويه: بي
المسكين كان الأمر، ولا بك المسكين. كما أجاز ذلك في الغائب
نحو:
مررت به المسكين. فأما ما ذهب إليه بعض البغداديين في قول
الشاعر:
فلأحشأنّك مشقصا ... أوسا أويس من الهبالة
«2»
__________
(1) قوله: والخنازير غير مذكور في (ط).
(2) أورده اللسان في (أوس)، مع آخر قبله وهو:
في كلّ يوم من ذؤاله ... ضغث يزيد على إباله
ونسبها إلى أسماء بن خارجة. حشأ بطنه بسهم: أصاب به جوفه.
المشقص، كمنبر: النصل العريض، أو السهم فيه ذلك. أويس: تصغير
(1/145)
من أنّ أوسا بدل من كاف الخطاب، فليس الأمر
فيه كما ذهب إليه، لأنّ أوسا مصدر، من قولك: أسته إذا أعطيته،
وانتصب «1» أوس لأن ما ذكر من قوله: فلأحشأنك يدل على لأؤوسنّك
فانتصب المصدر عنه، فإن جعلت الجار متعلقا بالمصدر كان بمنزلة
قوله:
فندلا- زريق- المال ندل الثعالب «2»
__________
أوس وهو الذئب. الهبالة: اسم ناقته. وقيل: افترس له الذئب شاة،
فقال يخاطبه: لأضعن في حشاك مشقصا عوضا يا أويس من غنيمتك التي
غنمتها من غنمي. قال ابن سيده: أوسا، أي: عوضا، قال: ولا يجوز
أن يعني الذئب، وهو يخاطبه، لأن المضمر المخاطب لا يجوز أن
يبدل منه شيء، لأنه لا يلبس، مع أنه لو كان بدلا لم يكن من
متعلق. وإنما ينتصب أوسا على المصدر بفعل دل عليه، أو بلأحشأنك
... وأما قوله:
أويس، فنداء، أراد: يا أويس، يخاطب الذئب، وهو اسم له مصغرا،
كما أنه اسم له مكبرا. فأما ما يتعلق به (من الهبالة) فإن شئت
علقته بنفس أوسا، ولم تعتد بالنداء فاصلا لكثرته في الكلام،
وكونه معترضا به للتوكيد .. وإن شئت علقته بمحذوف يدل عليه
أوسا، فكأنه قال: أؤوسك من الهبالة، أي: أعطيك من الهبالة، وإن
شئت جعلت حرف الجر وصفا لأوسا. فعلقته بمحذوف وضمنته ضمير
الموصوف. (اهـ عن اللسان).
(1) في (ط): فانتصب.
(2) صدره:
على حين ألهى الناس جلّ أمورهم أورده الكتاب (1/ 59)، واللسان
(ندل)، وهو في كليهما غير منسوب، ونسبه العيني 3/ 46 إلى
الأخوص وقال: ذكر في الحماسة البصرية أن القائل أعشى همدان،
وهو كذلك فيها انظر 2/ 262 - 263. وقبله:
يمرون بالدّهنا خفافا عيابهم ... ويرجعن من دارين بجر الحقائب
الدهنا: رملة من بلاد تميم، يمد ويقصر. يرجعن، أخبر عن رواحلهم
فأنث. ويروى: يخرجن. دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك.
البجر:
(1/146)
وإنما لم يجز البدل من ضمير المتكلم
والمخاطب، لأن ذلك من المواضع التي يستغنى فيها عن التبيين
«1»، لوضوحه.
وأنّه لا يعرض التباس «2» كما يعرض في علامة الغيبة.
ولما كان البدل قد حصل فيه شبه من الأجنبي من حيث كان في
التقدير من كلامين، وحصل فيه شبه من الصفة من حيث بيّن به كما
بيّن بالصفة، ولم يستعمل ما يكون به من كلامين، أجراهما أبو
الحسن مجرى واحدا، فقال- فيما روى عنه أبو إسحاق الزيادي «3» -
في قولهم: زيد ذهب عمرو أخوه، وقد سأله: أبدل هو أم صفة؟ فقال:
ما أبالي أيّهما قلت.
قال أبو إسحاق قلت: أو كذا تقول في المعطوف؟ قال:
نعم. أقول: زيد ذهب عمرو وأخوه. وقال أبو الحسن في هذه المسألة
في بعض كتبه: إن جعلت قولك أخوه بدلا لم يجز، وإن جعلته صفة
جاز، وإنما لم يجزه في البدل لمّا كان على ما ذكرنا من أنّه في
تقدير جملتين، فكأنّه قد انقضى الكلام ولم
__________
الممتلئة، جمع أبجر، وهو العظيم البطن. وعياب: جمع عيبة وهي ما
يجعل فيه الثياب، الندل هنا: الأخذ باليدين، والندل أيضا:
السرعة في السير. زريق: اسم قبيلة. ويقال في المثل: هو أكسب من
ثعلب، لأنه يدخر لنفسه، ويأتي على ما يعدو عليه من الحيوان إذا
أمكنه.
يصف تجارا، وقيل: لصوصا.
(1) في (ط): من المواضع التي لا يحتاج فيها إلى التبيين.
(2) في (ط): لا يعرض فيه التباس.
(3) أبو إسحاق الزيادي: هو إبراهيم بن سفيان، ينتهي نسبه إلى
زياد ابن أبيه. قرأ على الأصمعي وغيره. ومات سنة 249 (بغية
الوعاة 1/ 414، معجم الأدباء: 1/ 158).
(1/147)
يعد إلى الأول ذكر. وإذا كان صفة جاز ذلك،
لأن الصفة بمنزلة الجزء من الاسم الموصوف. ألا ترى أنهم قالوا
«1»: لا رجل ظريف، وهذا زيد بن عمرو. فتنزّلت الصفة مع الموصوف
بمنزلة اسم مضاف نحو امرئ القيس «2» وقد جعل يونس صفة المندوب
بمنزلة المندوب في استجازته إلحاق علامة الندبة بها، وقد تنزلت
«3» الصفة عندهم جميعا منزلة الجزء من الاسم، وذلك إذا كان
الموصوف لا يعرف إلا بالصفة، فإذا كان كذلك لم يستغن بالاسم
«4» الموصوف دون صفته. ومن ثم جعله سيبويه بمنزلة بعض الاسم في
قوله:
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا «5» فجعل (أشنعا) حالا، ولم يجعله
خبرا، لأن فيما تقدم من صفة الاسم ما يدل على الخبر، فيصير
الخبر لا يفيد زيادة معنى. فهذا مما تنزّلت «6» فيه الصفة
منزلة جزء من الاسم عنده، كما ذكرنا.
__________
(1) في (ط): قد قالوا.
(2) سقطت «القيس» من (م).
(3) في (ط): نزلت.
(4) في (ط): لم يستغن الاسم الموصوف.
(5) عجز بيت قاله عمرو بن شأس وصدره كما في الكتاب (1/ 22):
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ورواية سيبويه والأعلم:
إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أراد إذا كان اليوم يوما، وأضمر
لعلم المخاطب، ومعناه إذا كان اليوم الذي يقع فيه القتال. قال
سيبويه: «وسمعت بعض العرب يقول أشنعا، ويرفع ما قبله، كأنه
قال: إذا وقع يوم ذو كواكب أشنعا.
(6) في (ط): مما تنزل فيه.
(1/148)
ومما يدل على مفارقة الصفة للبدل «1»، أنّك
تصف بما لا يجوز فيه البدل، نحو الفعل والفاعل والابتداء
والخبر، نحو:
مررت برجل قام أخوه، وبرجل أبوه منطلق. ولو جعلت شيئا من ذلك
بدلا لم يجز، من حيث لا يستقيم تكرير العامل، وجاز الوصف به،
من حيث كان مشابها للوصل، فلم يكن في تقدير تكرير العامل.
فمن جعل (غَيْرِ) في الآية بدلا كان تأويله بيّنا، وذلك أنّه
لا يخلو من أن يجعل غيرا معرفة أو نكرة، فإن جعله معرفة فبدل
المعرفة من المعرفة سائغ مستقيم، كقوله: اهْدِنَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ
[الفاتحة/ 6] وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران/ 97]، وإن جعله نكرة
فبدل النكرة من المعرفة في الجواز كذلك، كقوله: بِالنَّاصِيَةِ
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق/ 15 - 16].
فإن قلت: إن النكرة التي هي بدل في الآية على لفظ المعرفة الذي
أبدل منه. وليس (غَيْرِ) على لفظ الموصول المبدل منه، فهلا
امتنع البدل لذلك، كما امتنع عند قوم له؟
قيل: إذا جاز بدل النكرة من المعرفة فيما كان على لفظ الأول،
فلا فصل بين ما وافق الأول في لفظه وبين ما خالفه، لاجتماع
الضربين في التنكير. ويدل على جواز ذلك قوله:
إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم ... كساعد الضّبّ لا طول ولا قصر
«2»
__________
(1) في (ط): مفارقة الصفة البدل.
(2) قال في اللسان (جل): وجل، وجلّان: حيّان من العرب. وأنشد
ابن
(1/149)
وأنشد أبو زيد:
فلا وأبيك خير منك إني ... ليؤذنني التّحمحم والصهيل
«1» [وليؤذنني. يقال: آذنته وأذنته إذا رددته] «2».
فالبدل شائع كثير «3»، وهو الذي يختاره أبو الحسن في الآية،
وذلك لأنّ «4» «الذي» إنّما صيغ لأن يتوصّل به إلى وصف المعارف
بالجمل، فإذا كان كذلك لم يحسن أن يذهب بها مذهب الأسماء
الشائعة التي ليست بمخصوصة.
فإن قلت: فقد جاء: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
ناراً، ثم قال: فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ [البقرة/ 17] فدلّ أنّه يراد به الكثرة، وقال:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، ثم قال أُولئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر/ 33]. وقد قيل في قوله:
__________
بري: إنا وجدنا، البيت، أي لا كذي طول ولا قصر، على البدل من
ساعد. قال: كذا أنشده أبو علي بالخفض. اهـ. وضبط جلان بالقلم
في جمهرة الأنساب ص 294 واللسان بفتح الجيم، وضبط في الاشتقاق
ص 323 والتكملة/ جلل بكسرها. وبنو جلان بن عتيك بن أسلم.
(1) البيت لشمير بن الحارث ويقال: سمير بالسين. وروي: يؤذيني
مكان يؤذنني، وهو موافق لما في نسخة ط، والتجمجم مكان التحمحم.
قال أبو زيد: قوله: ليؤذيني، أي يغمني .. وروي فلا وأبيك خير
بكسر الكاف، ومن روى خير منك، فكأنه قال: هو خير منك، ومن خفض
أبدله من الأول إذا كان نكرة، وكان الأول معرفة (النوادر/ 124،
125).
(2) ما بين المعقوفتين سقطت من (ط).
(3) في (ط): كثير شائع.
(4) في (ط): وذلك أن.
(1/150)
إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم «1» إنه أفرد،
والمراد به الكثرة، ليس أن النون حذفت كما حذفت من قوله:
اللذا قتلا الملوك «2» فجاءت في هذه المواضع شائعة دالّة على
الكثرة، فهلّا جاز أن يكون كالرّجل ونحوه ممّا يجوز وصفه بما
يوصف «3» به الأسماء الشائعة نحو: مثلك وخير منك.
قيل: إن هذا قد جاء فيه كما جاء في اسم الفاعل نحو قوله:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي ... أو تصبحي في الظاعن المولّي
«4»
__________
(1) عجزه:
هم القوم كل القوم يا أم خالد والبيت لأشهب بن رميلة، ويروى
زميلة بالزاي، رثى قوما بفلج، وهو موضع بعينه كانت فيه وقعة.
(انظر الكتاب: 1/ 96). وفي ياقوت: «قال أبو منصور: فلج اسم
بلد، ومنه قيل لطريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة، طريق
بطن فلج .. وقال غيره، فلج: واد بين البصرة وحمى ضرية من منازل
عدي بن جندب، بن العنبر، بن عمرو، بن تميم من طريق مكة .. انظر
الخزانة 2/ 507 الأمالي الشجرية 2/ 307 شرح المفصل لابن يعيش
3/ 155 والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 6/ 180 وورد في 141
منه وفي 7/ 180.
(2) انظر ص 125.
(3) في (ط): توصف.
(4) أنشده سيبويه 2/ 282 ونسبه إلى رجل من بني أسد، وورد في
النوادر/ 53 ضمن أبيات من مشطور الرجز منسوبا إلى منظور بن
مرثد الأسدي واللسان (عهل) وبعده:
(1/151)
ونحو ما أنشده أبو زيد:
باكرني بسحرة عواذلي ... ولومهنّ خبل من الخبل
«1» ونحو: نعم القائم أخوك، وبئس الذاهبان صاحباك، إلّا أنّ
مجيئه للتخصيص أكثر. وإنّما جاءت في الآي شائعة لمشابهتها «من
وما» واجتماعها معهما في الصلة، ألا ترى أنّ تعرف «الذي»
بالصلة لا بالألف واللام؟ وإذا كان كذلك كان المعنى المتعرّف
به لازما له لا يجوز إلقاؤه «2»، كما جاز عند أبي الحسن إلقاء
لام التعريف من قولهم «3»: قد أمرّ بالرجل غيرك فيكرمني،
والقوم فيها الجمّاء الغفير، والخمسة العشر درهما ونحو ذلك،
وإذا لم يجز ذلك في الذي للزوم المعنى المعرّف للّذي، لم يحسن
وصفه بما وصف به «4» الرجل ونحوه، ممّا قد يتنكّر فيتنزّل «5»
لذلك منزلة الأسماء الشائعة،
__________
نسلّ وجد الهائم المغتلّ ... ببازل وجناء أو عيهلّ
قال في النوادر: المغتل: الذي اغتل جوفه من الشوق والحب والحزن
كغلة العطش، والوجناء: الغليظة. والعيهل: الطويلة. قال في
اللسان: قال ابن سيده: شدد اللام لتمام البناء، إذ لو قال أمر
عيهل بالتخفيف لكان من كامل السريع، والأول كما تراه من مشطور
السريع. وإنما هذا الشد في الوقف، فأجراه الشاعر للضرورة حين
وصل مجراه إذا وقف.
(1) أورده أبو زيد في النوادر (40) مع أربعة أبيات منسوبة إلى
عبدة بن الطبيب.
(2) في (ط): لا يجوز له إلقاؤه.
(3) في (ط): في قولهم.
(4) في (ط): بما يوصف.
(5) في (ط): فينزل.
(1/152)
ويقدّر إلقاء الألف واللام منه ليحسن بذلك
وصفه بما توصف به «1» النكرة، أو تقدّر «2» في الصفة الألف
واللام، كما يقدّره «3» الخليل وسيبويه ليصح بذلك كونه وصفا
لما فيه الألف واللام.
قال أبو عثمان: يجوز عندي: زيد هو يقول ذاك، وهو فصل، ولا
أجيز: زيد هو قال ذاك، لأني أجيز «4» الفصل بين الأسماء
والأفعال، ولا يجوز في الماضية كما جاز في المضارعة، وذلك أن
سيبويه قد قال: إني لأمر بالرجل خير منك فيكرمني، وبالرجل
يكرمني، وهما صفة على توهّم الألف واللام، فكذلك في الفصل
أتوهم الألف واللام في الفعل ويكون «5» بمنزلة إلغائه بين
المعرفتين، كما أقول: كان زيد هو خيرا منك، على توهّم الألف
واللام في خير منك، ولا يجوز كان زيد هو منطلقا، لأني أقدر على
الألف واللام، وإنما يجوز هذا فيما لا يقدر فيه على الألف
واللام.
وأمّا من قدّر (غَيْرِ) صفة للّذين، وقدره معرفة لما «6» ذكره
أبو بكر، فإن وصفه للذين بغير كوصفه له بالصفات المخصوصة، وقد
حمله سيبويه على أنه وصف.
ومن لم يذهب بغير هذا المذهب. ولم يجعله مخصوصا؛ استجاز أن يصف
(الَّذِينَ) بغير من حيث لم يكن
__________
(1) في (ط): بما وصف به.
(2) في (ط): أو يقدر.
(3) في (ط): كما يقدر.
(4) في (ط): لا أجيز، والصحيح ما في (م)، بدليل السياق.
(5) كذا في (ط): وفي (م): «تكون» يريد الفصل، أي ضمير الفصل.
(6) في (ط): كما.
(1/153)
الذين مقصودا قصدهم، فصار مشابها للنكرة،
من حيث اجتمع معه في أنّه لم يرد به شيء معيّن. ونظير ذلك ممّا
دخله الألف واللام فلم يختصّ بدخولهما عليه لمّا لم يكن مقصودا
قصده قولهم: قد أمرّ بالرجل مثلك فيكرمني، عند سيبويه، فوصف
الرجل بمثلك لما لم يكن معيّنا، وكذلك أجاز مررت بأبي العشرة
«1» أبوه، فترفع أبوه بأبي العشرة، إذا لم تكن العشرة شيئا
بعينه لأنّ هذا موضع يحتاج فيه إلى خلاف التخصيص، لعمل الاسم
عمل الفعل، ألا ترى أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل،
وكذلك قال في قوله: إمّا العبيد فذو عبيد: إذا لم يجعلهم عبيدا
بأعيانهم جاز أن يقع موقع المصدر، وكذلك قولهم: سير عليه
الأبد، والليل والنهار، والشهر والدهر، فلذلك وقعت في جواب كم
دون متى في قولهم: سير عليه الليل والنهار، والدهر والأبد،
فكما أن هذه الأشياء التي فيها الألف واللام لمّا لم يرد به
شيء معيّن جرت «2» مجرى النكرات،
كذلك (الَّذِينَ) إذا لم يرد به شيء معيّن جاز أن يوصف بما
يوصف به ما كان غير معيّن.
ويقوّي هذا الوجه قول من رأى أنّه إذا نصب كان منتصبا على
الحال، وهذا النحو إذا انتصب على الحال كان شائعا غير مخصوص،
إذا «3» لم يكن كالعراك وجهدك وطاقتك.
وحكم الحال وما انتصب عليها أن يكون نكرة، كما أن ما
__________
(1) انظر الكتاب (1/ 230)، ونص العبارة هناك: مررت برجل أبي
عشرة أبوه.
(2) في (ط): جرين.
(3) كذا في (ط): وفي (م): «إذ».
(1/154)
انتصب على التمييز كذلك، ويكون العامل في
الحال أنعمت، كأنّه قال: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم!، أي في
حال انتفاء الغضب عنهم، كما أنّ قولهم: جاءني زيد راكبا
تقديره:
جاءني زيد في حال الركوب، وهكذا يمثّلونه.
فإن قلت: كيف جاز هذا التقدير وراكب عبارة عن زيد، وهو هو «1»
في المعنى، وأنت لو قلت: جاءني زيد «2» في حال نفسه لم يستقم؟
فالقول: إن ترجمة راكب- وإن كان زيدا في المعنى- لا يمتنع أن
يكون ما «3» ذكرنا، وإن لم يحسن جاءني زيد في حال نفسه، لأنّ
راكبا يدلّ على الركوب، وزيد لا يدلّ عليه، ألا ترى أنهم قد
قالوا:
إذا نهي السفيه جرى إليه «4» أي: إلى السفه، فأضمره لمّا كان
قد تقدّم ما يدل عليه؟
فإذا كان في ذكر راكب دلالة على الركوب، لم يمتنع أن تقول في
ترجمة جاءني زيد راكبا: جاءني زيد في حال ركوبه،
__________
(1) هو الثانية ساقطة من (ط).
(2) في (ط): زيد جاءني.
(3) كذا في (ط). وفي (م) بما ذكرنا.
(4) صدر بيت عجزه:
وخالف والسفيه إلى خلاف ولم نجده منسوبا، وروي زجر مكان نهي.
(انظر معاني القرآن:
1/ 104، وخزانة الأدب: 2/ 383، 229). وقوله: «قالوا» يريد أن
العرب يتمثلون به، وإن كان القائل في الأصل واحدا. وانظر
الخصائص 3/ 49 والأمالي الشجرية 1/ 68، 113، 305.
(1/155)
فيجعل «1» الركوب وقتا لفعله، لأنّ المصادر
تكون نحو:
مقدم الحاج.
ومن هاهنا «2» قال أبو الحسن وغيره فيها: إنّها وقت، ولمّا كان
هذا معناها أجراها العرب «3» مجرى الظرف، وإن كانت عبارة عن
زيد ونحوه، فاستجازت أن تعمل فيها المعاني، كما أعملتها في
الظروف، ولم تجعله «4» بمنزلة الظروف من حيث كان مفعولا مختصا،
فلم تعمل فيها المعاني متقدّمة.
ويؤكد أنّها عندهم بمنزلة الظروف إخلاؤهم إيّاها من الذكر
العائد إلى ذي الحال كإخلائهم الظروف من ذلك، وذلك نحو قولهم:
أتيتك وزيد قائم، ولقيتك والجيش قادم، فخلا من ذكر عائد،
واستغنى بالواو عن ذلك لما فيها من دلالة الاجتماع. ومن ثمّ
مثله سيبويه بإذ في قوله: إذ طائفة «5» حيث لم يعد من الجملة
التي بعد الواو ذكر إلى من هذه الجملة حال لهم، وإذا كان الأمر
على ما ذكرنا في أمر الحال من أنّه أشبه الظرف والمفعول به فلم
يكن بمنزلة المفعول به على حدته، ولا الظرف على انفراده- وجب
أن يكون انتصابها على ضرب آخر غيرهما، كما أن حكمها غير حكم كل
واحد منهما «6» على انفراده.
__________
(1) في (ط): فتجعل.
(2) في (ط): ومن هنا.
(3) في (ط): أجرته العرب.
(4) كذا في (ط): وفي (م): «يجعله».
(5) في توجيه قوله تعالى من سورة [آل عمران/ 154]: «يَغْشى
طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ
أَنْفُسُهُمْ» على أنه: يغشى طائفة منكم، وطائفة في هذه الحال،
كأنه قال: إذ طائفة في هذه الحال. انظر سيبويه 1/ 47.
(6) منهما: ساقطة من (ط).
(1/156)
وكثيرا ما يجتمع في الشيء الواحد الشبه من
وجهين وأصلين. فمن ذلك حروف الجر في: مررت بزيد ونحوه، وهو من
جهة بمنزلة جزء من الفعل، ومن أخرى بمنزلة جزء من الاسم. أما
الجهة التي كان منها بمنزلة جزء من الفعل، فلأنّه قد أنفذ
الفعل إلى المفعول، وأوصله، كما أنّ الهمزة في نحو:
أذهبته، قد فعلت ذلك، وكما أنّ تضعيف العين في خرّجته وفرحته،
قد فعل ذلك. وأمّا كونه بمنزلة جزء من الاسم فهو أنّك قد عطفت
عليه بالنصب في نحو: مررت بزيد وعمرا، لمّا كان موضع الجارّ
والمجرور نصبا، ومن ثم قدّمت على الاسم في نحو: بمن تمرر أمرر
به، وبمن تمر. وكذلك قولهم: لا أبا لك، هو من وجه منفصل، ومن
وجه متصل، فكذلك الحال:
من وجه بمنزلة المفعول به، ومن وجه بمنزلة الظرف الذي هو مفعول
فيه.
وفيما ذكرناه- من جواز خلوّ الحال من ذكر يعود منها إلى ذي
الحال- ما يدلّ على جواز وقوع الأسماء التي ليست بصفات أحوالا،
نحو البسر والرطب والقفيز، وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا
تناسب الفعل. وفي التنزيل: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً
[هود/ 64].
وأمّا من ذهب إلى أن غيرا منتصب بالاستثناء، فإن الاسم المنتصب
في الاستثناء ينتصب بالفعل الذي قبله أو بمعناه بتوسّط إلّا.
ومما يدل على انتصابه بذلك- بتوسط هذا الحرف- أنّ حروف الجر قد
وقعت هذا الموقع في نحو: جاءني القوم حاشا زيد وخلا زيد، فكما
أنّ حرف الجر قد أوصل
(1/157)
الفعل أو معناه إلى المستثنى، فكذلك إلّا
قد أوصلت ذلك إلى ما بعدها.
ونظير إلا في الاستثناء- في إيصالها الفعل إلى ما بعدها،
وانتصاب الاسم بذلك- الواو في قولهم: جاء البرد والطيالسة،
واستوى الماء والخشبة، فانتصاب الاسم بعد إلا كانتصابه بعد
الواو، ألا ترى أنه لولا الواو لم يصل الفعل إلى الاسم المنتصب
على أنّه مفعول معه، كما أنّ إلّا في الاستثناء لولا هي لم يصل
الفعل، ولا معناه إلى الاسم المستثنى.
وقد يعمل «1» بواسطة الحروف عوامل، لولا توسّطها لم تعمل فيما
تعمل «2» فيه مع دخول الحرف، ألا ترى أنّ اسم الفاعل إذا كان
لما مضى لم يعمل عمل الفعل عند عامة النحويين، وقد أجازوا
جميعا: هذا مارّ بزيد أمس، لمكان حرف الجر. وتقول: أنت أعلم
بزيد منك بعمرو. وفي التنزيل: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [النجم/ 30] فأما ما أنشده أبو
زيد من قول الشاعر:
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
«3» فعلى إضمار فعل يدلّ عليه أضرب، كما أن قوله: إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام/
117] على ذلك.
يدلّك على هذا أنّ (من) لا يخلو من أن تكون موصولة
__________
(1) في (ط): وقد تعمل.
(2) كذا في (ط): وفي (م): «يعمل».
(3) تقدم هذا الشاهد في ص/ 27.
(1/158)
أو استفهاما، فإن كان صلة كان مختصّا،
والمفعول به إذا كان مختصا لم تعمل فيه المعاني، وإن كان
استفهاما فالذي يعلّق قبل الاستفهام- من الأفعال- ما جاز فيه
الإلغاء وما شبّه به، وليست المعاني بواقعة موقع الأفعال في
هذا الموضع، فعلمت بهذا أنّه على إضمار فعل.
فإن قلت: فإنّ الاسم في هذا الباب قد انتصب من غير أن يتوسّط
حرف «1»، وذلك نحو: غير. في قولهم: جاءني القوم غير زيد،
فانتصب غير بالاستثناء من غير أن يتوسط الحرف، فهلّا دلّ ذلك
على أن الفعل حيث ذكرت لم يصل بتوسط الحرف. قيل: لا يدل هذا
على ما ذكرته، وإنّما وصل الفعل إلى «غير» بغير حرف توسّط، ولم
يصل إلى زيد ونحوه إلّا بالحرف، لأنّ غيرا مبهم، والأسماء
المبهمة تعمل فيها عوامل لا تعمل في المخصوصة، ألا ترى أن خلفك
وعندك ونحو ذلك قد عمل فيهما من المعاني ما لا يعمل في المختصّ
غير المبهم، وكذلك الحال والتمييز، قد عمل فيهما ما لا يعمل في
غيرهما من الأسماء المختصة. فكما لم يحتج إلى توسط الحرف في
عمل ما قبل «غير» في غير، كذلك لم يحتج إلى توسطه في عمل ما
قبل سوى في الاستثناء في «سوى» لأنّها في الإبهام بمنزلة «غير»
فانتصب بأنّه ظرف، والظروف تعمل فيها المعاني. فلمّا اجتمعت
«غير» معها في ذلك كان مثلها في الاستغناء عن توسط الحرف معها.
ومما يدل على استغناء الفعل عن الحرف الذي يصل به
__________
(1) في (ط): من غير توسط حرف.
(1/159)
مع غير أن غيرا في قولك: أتاني القوم غير
زيد، هم الآتون.
فإذا كان إيّاهم في هذا «1» المعنى لم يكن بمنزلة المنصوب في
باب المفعول معه، ولا بمنزلة الاسم المنتصب بعد إلا في
الاستثناء، ولكنه مشابه للحال، من حيث كان المنصوب المرفوع في
المعنى، ولم يكن مخصوصا، كما أن الحال غير مخصوص «2»، فلم يحتج
فيه إلى توسط الحرف لإيصال الفعل، كما لم يحتج إلى ذلك في
الحال.
وممّا جاء (غَيْرِ) فيه صفة قوله تعالى «3»: لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ
[النساء/ 95]، فمن رفع غيرا كان وصفا للقاعدين. والقاعدون غير
مقصود قصدهم، كما كان قوله: «4» الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ كذلك.
والتقدير لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحّاء والمجاهدون.
ومن نصبه كان استثناء من القاعدين، وإن شئت كان من المؤمنين،
لأن غيرا واقع بعد الاسمين الموصولين، ولو وقع متقدما على
المؤمنين لم يكن استثناؤه إلّا من القاعدين، لأنّ العامل في
المستثنى ما في الصلة، فلا يجوز أن يتقدم على الموصول. ومن جر
غيرا كان وصفا للمؤمنين، والتقدير لا يستوى القاعدون من
المؤمنين الأصحّاء.
فأمّا قوله سبحانه «5»: إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ
[الأحزاب/ 53] «فغير» حال من قوله: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ
لَكُمْ،
__________
(1) في (ط): سقطت كلمة «هذا».
(2) في (ط): غير مخصوصة.
(3) في (ط): قوله عز وجل.
(4) في (ط): قوله عز وجل.
(5) سبحانه: غير مذكورة في (ط).
(1/160)
ولا يجوز أن يكون وصفا للطعام كما جاز أن
يكون «غير» في الأخرى وصفا للقاعدين مرّة «1»، وللمؤمنين أخرى
«2»، لأنّ الناظرين هم المخاطبون، فهم غير الطعام. فكما أنّك
لو قلت:
إلى طعام لا ناظرين إناه، لم يكن بد من أن تقول: أنتم، لأن اسم
الفاعل إذا جرى على غير من هو له فلا بد من إظهار الضمير فيه،
فكذلك لو جعلت غيرا صفة غير حال للزم أن تظهر الضمير. وكذلك
تقول: هذه شاة ذات حمل مثقلة به هي، فتظهر الضمير، لأنّ اسم
الفاعل للشاة، وقد جرى على الحمل. ولو رفعت لم تحتج إلى
الإظهار.
وأصل هذا أنّ الفعل، بما «3» يتضمّنه من الضمير، أقوى من اسم
الفاعل مع ما يتضمنه [مما يتضمّنه] «4» اسم الفاعل، فإذا أظهر
الضمير في الفعل حيث أدّى إلى الإلباس، فأن يظهر الضمير في اسم
الفاعل أولى وأوجب. فمن ثم قال أبو الحسن: إن هذا الضمير إذا
لم يظهر كان لحنا. وليس قول من قال: إن إظهاره لا يلزم
استدلالا بقول الشاعر «5»:
أمسلمتي للموت أنت فميّت ... وهل للنفوس المسلمات بقاء
بمستقيم، لأنّ قوله: فميت يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنّه
قال: فأنا ميت.
وقال قوم: تقول: أنت غير القائم ولا القاعد، تريد:
__________
(1) سقطت كلمة «مرة» من (ط).
(2) سقطت كلمة «أخرى» من (ط).
(3) في (ط): لما.
(4) ما بين معقوفين ساقط من (ط).
(5) وهو مجنون ليلى، والبيت في الأغاني 2/ 44 برواية: «أتاركتي
..
الخائفات بقاء». وانظر الديوان ص 41.
(1/161)
وغير القاعد، كما قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ.
قالوا: ولم يجيء هذا في المعرفة العلم، فلا يجوز: أنت غير زيد
ولا عمرو. وهذا إن لم يسمع كما قالوا، فإنّه لا يمتنع أن يقاس
فيجوز على ما سمع. وذلك أنّ هذا إنّما جاء لما في «غير» من
معنى النفي، فكما أجازوا أنا زيدا غير ضارب لمّا كان المعنى
معنى النفي، فجعلوه بمنزلة حرفه، ولم يجعل بمنزلة «مثل» وما
كان نحوه من الأسماء المضافة، فكذلك يجوز أن يجعل غير «1»
بمنزلة حرف النفي في المعرفة المؤقتة، فيكرّر معه لا كما كرّر
مع غير العلم.
فإن قلت: فإن من الناس من يحمل انتصاب زيد في: أنا زيدا غير
ضارب على مضمر، ولا يحمله على «ضارب» هذا كما لا يحمله عليه
إذا قال: أنا زيدا مثل ضارب. قيل: إن حمله على المعنى وعلى ما
في اللفظ من هذا العامل الظاهر أبين، لأنّهم قد حملوا الكلام
على المعنى في النفي في مواضع غير هذا. ألا ترى أنّهم قالوا:
قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد؟ فجعلوا قلّ- وإن كان فعلا- بمنزلة
الحرف النافي لمّا كان مثله، فكذلك «غير» إذا كان معناه النفي
جعل بمنزلة حرف النفي، فلحقت «لا» معه كما تلحق مع حرف النفي.
وقالوا:
إنّما سرت حتى أدخلها، فلم يجز الرفع بعد حتى، كما لم يجز بعد
«2» حرف النفي، إذا قال: ما سرت حتى أدخلها، وذلك إذا احتقر
السير إلى الدخول. ويدل على أن هذا يجري مجرى النفي قوله:
__________
(1) غير: ساقطة من (ط).
(2) في (ط): مع.
(1/162)
........... وإنّما ... يدافع عن أحسابهم
أنا أو مثلي
«1» وقالوا نشدتك الله إلا فعلت، فإذا جازت في هذه الأشياء «2»
أن تجري مجرى النفي فكذلك ما ذكرناه.
ومن جعل (غَيْرِ) استثناء لم يمتنع على قوله دخول لا بعد الحرف
العاطف، كما لم يمتنع في قولهم: أنت غير القاعد ولا القائم
«3». وذلك أن الاستثناء يشبه النفي، ألا ترى أن قولك:
جاءني القوم إلا زيدا بمنزلة قولك. جاءني القوم لا زيد.
فيجوز أن تدخل لا حملا على المعنى، ويجوز أن تجعلها زيادة «4»
في هذا الوجه، كما تجعلها زيادة «5» في قوله: وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر/ 22].
وإذا جاز دخول «لا» مع الاستثناء من هذين «6» الوجهين، فلا وجه
لقول من أنكره. وكذلك يجوز زيادة «لا» في قول من جعلها حالا أو
صفة أو بدلا.
وقد دخلت «لا» زائدة في مواضع كثيرة في التنزيل وغيره. فمن ذلك
قوله تعالى «7»: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد/ 29].
__________
(1) من بيت للفرزدق، تتمته كما في الديوان 2/ 712:
أنا الضامن الحامي الذمار والبيت من قصيدة طويلة يهجو بها
جريرا. وهو من شواهد شرح أبيات المغني 5/ 248. قال البغدادي:
قال أبو علي في الشيرازيات: إنهم عاملوا «إنما» معاملة النفي
وإلا في فصل الضمير، وأنشد البيت.
(2) في (ط): هذه الثلاثة الأشياء.
(3) في (ط): غير القائم ولا القاعد.
(4) في (ط): زائدة.
(5) في (ط): كما جعلتها زائدة.
(6) في (ط): في هذين.
(7) تعالى: ساقطة من (ط).
(1/163)
وقد أجاز سيبويه قياسا على هذا «أمّا أن لا
يكون يعلم فهو يعلم» «1» على زيادة لا. وقد جاء زيادتها في
الإيجاب كما جاء في النفي، قال: «2»
أفعنك لا برق كأن وميضه ... غاب تسنّمه ضرام مثقب
وأنشد أبو عبيدة:
ويلحينني في اللهو ألّا أحبّه «3» وقال تعالى: «4» ما مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف/ 12]، وفي الأخرى: ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ [ص/ 75]. ومن ذلك قول جرير:
ما بال جهلك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين
«5»
__________
(1) انظر الكتاب: 1/ 195.
(2) في (ط): قال الشاعر. والبيت ذكره في البحر المحيط 4/ 273
وفيه:
غاب يقسمه، مكان: غاب تسنمه.
(3) عجزه: وللهو داع دائب غير غافل وهو للأحوص. انظر شعره 173
ورغبة الآمل 2/ 8 والبحر المحيط 1/ 29 وشرح أبيات المغني
للبغدادي 5/ 18.
(4) في (ط): وقال، بدون تعالى.
(5) البيت مطلع قصيدة لجرير، يهجو بها الفرزدق. قال الأعلم:
والمعنى، قد علاك مشيب حين حين وجوبه. هذا تفسير سيبويه. ويجوز
أن يكون المعنى: ما بال جهلك بعد الحلم والدين، حين لا حين جهل
ولا صبا فتكون (لا) لغوا في اللفظ دون المعنى انظر الكتاب: 1/
358، والديوان/ 557. وشرح أبيات المغني 5/ 84 و 6/ 121 والبيت
من شواهد
(1/164)
لا فيه زائدة، والتقدير: وقد علاك مشيب حين
حين، وإنّما كانت زائدة لأنّك إذا قلت: علاك مشيب حينا فقد
أثبت حينا علاه فيه المشيب.
فلو جعلت (لا) غير زائدة لوجب أن تكون نافية على حدّها في
قولهم:
جئت بلا مال، وأبت بلا غنيمة، فنفيت ما أثبتّ، من حيث كان
النفي ب (لا) عامّا منتظما لجميع الجنس، فلمّا لم يستقم حمله
على النفي للتدافع العارض في ذلك حكمت بزيادتها، فصار التقدير:
حين حين.
وهذه الإضافة من باب: حلقة فضة، وخاتم حديد، لأنّ الحين يقع
على الزمان القليل كالساعة ونحوها، يدل على ذلك قوله:
تطلّقه حينا وحينا تراجع «1» ويقع على الزمان الطويل كقوله
تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ
[الدهر/ 1] وعلى ما هو أقصر من
__________
الخزانة 2/ 94 ونقل البغدادي هنا قول الفارسي في (لا) بعد أن
ذكر كلام غيره قائلا: وقد طبق المفصل أبو علي الفارسي في الحجة
في الكلام على آخر سورة الفاتحة قال: «لا فيه زائدة ... ».
(1) عجز بيت من عينية النابغة الذبياني صدره في الديوان/ 47:
تناذرها الراقون من سوء سمّها وفيه رواية ابن السكيت «عصرا
وعصرا» ورواية أبي عبيدة: «طورا وطورا» بدل: «حينا وحينا»
والبيت في شرح أبيات المغني 2/ 165 و 7/ 199 برواية المصنف.
(1/165)
ذلك، كقوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ
[إبراهيم/ 25]، فصار حين حين كقول الآخر:
ولولا يوم يوم ما أردنا ... جزاءك والقروض لها جزاء
«1» وليس هذا كقوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ «2» لأنّه في قوله: لا حين محنّ-
ناف حينا مخصوصا لا ينتفي بنفيه جميع الأحيان، كما كان ينتفي
بالنفي العامّ جميعها، فلم يلزم أن تكون (لا) زيادة «3» في هذا
البيت، كما لزم زيادتها في حين لا حين «4».
فهذا الحرف يدخل في النكرة على وجهين: أحدهما: أن يكون زائدا
كما مر في بيت جرير، والآخر: أن تكون غير زائدة، فإذا لم تكن
زائدة كان على ضربين: أحدهما أن يكون لا مع الاسم بمنزلة اسم
واحد نحو خمسة عشر، وذلك قولهم:
__________
(1) البيت للفرزدق. يقول: لولا نصرنا لك في اليوم الذي تعلم ما
طلبنا جزاءك. جعل نصرهم له قرضا، يطالبهم بالجزاء عليه (انظر
الديوان:
1/ 9، والكتاب: 2/ 53).
(2) أورده سيبويه (1/ 358) غير منسوب. قال الأعلم: الشاهد فيه
نصب حين بالتبرئة، وإضافة حين الأولى إلى الجملة، وخبر لا
محذوف. والتقدير:
حين لا حين محن لها، أي: حنت في غير وقت الحنين، ولو جر الحين
على الإلغاء لجاز. والقلوص: الناقة الفتية، وهي كالجارية من
الأناسي، وحنينها: صوتها شوقا إلى أصحابها. والمعنى: أنها حنت
إليها على بعد منها ولا سبيل لها إليها. انظر الخزانة 2/ 93.
(3) في (ط): زائدة.
(4) في (ط): لا حين محن.
(1/166)
غضبت من لا شيء، وجئت بلا مال. فلا مع
الاسم المنكور في موضع جرّ بمنزلة خمسة عشر، ولا ينبغي أن يكون
من هذا الباب قوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ لأن (حين) هاهنا منصوب نصبا صحيحا
لإضافته، ولا يجوز بناء المضاف مع لا كما جاز بناء المفرد
معها. وإنّما (حين) في هذا البيت مضافة إلى جملة، كما أنّها في
قوله:
حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ [الأنبياء/ 39]
كذلك، إلا أن الخبر محذوف وخبر (لا) يحذف كثيرا. ونظير هذا في
حذف الخبر من الجملة المضاف إليها ظرف الزمان- قولهم:
كان هذا إذ ذاك.
والآخر: ألّا تعمل (لا) في اللفظ، ويراد بها معنى النفي «1»،
فتكون صورتها صورة الزيادة، ومعنى النفي فيه «2» مع هذا صحيح.
وذلك كقول النابغة:
أمسى ببلدة لا عمّ ولا خال «3»
__________
(1) في (ط): معنى النفي فيه.
(2) فيه: ساقطة من (ط).
(3) عجز بيت له يرثي فيه أخاه، وصدره:
بعد ابن عاتكة الثاوي لدى أبوي وقبله:
لا يهنئ الناس ما يرعون من كلأ ... وما يسوقون من أهل ومن مال
انظر الديوان/ 211 والحماسة بشرح التبريزي 2/ 359 وفيه: على
أمر مكان: لدى أبوي. وأمر بالتحريك. موضع بنجد من ديار غطفان.
ورواية الديوان: الثاوي على أبوي. وهو اسم موضع أو جبل بالشام
(معجم البلدان).
(1/167)
وقال الشمّاخ:
إذا ما أدلجت وصفت يداها ... لها إدلاج ليلة لا هجوع
«1» وقال رؤبة:
لقد عرفت حين لا اعتراف «2» وبيت الكتاب:
تركتني حين لا مال أعيش به ... وحين جنّ زمان الناس أو كلبا
«3» وهذا الوجه عكس ما جاء فيما أنشده أبو الحسن من قول
الشاعر: «4»
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
«5»
__________
(1) ديوانه ص 226. وأدلجت: سرت من أول الليل. ليلة لا هجوع: لا
نوم فيها. وقد ذكر محقق الديوان رواية البيت في اللسان والتاج
والصحاح والأساس في مادة (لا- وصف- دلج).
(2) بعده: أنك تعنوني بالإلحاف ورواية الديوان ص 100 ضمن مجموع
أشعار العرب: قد اعترفت.
(3) قال الأعلم: «الشاهد في إضافة حين إلى المال، وإلغاء لا
وزيادتها في اللفظ، على حد قولهم: جئت بلا زاد. ولو رفع المال
على شبه (لا) بليس لجاز». يرثي ابنا له، فقده أحوج ما كان إليه
لفقره. وكلب الزمان:
شدته. وضرب الجنون والكلب مثلا لشدة الزمان، وأصل الكلب
السعار.
(انظر الكتاب: 1: 357).
(4) في (ط): وهذا الوجه عكس ما أنشده أبو الحسن.
(5) البيت للفرزدق من قصيدة يهجو فيها عمر بن هبيرة ويروى: إذا
للام.
(1/168)
ألا ترى أن (لا) في المعنى زيادة «1»، وقد
عملت، وفي قوله: ليلة لا هجوع، وبابه معنى النفي فيه صحيح ولم
تعمل «2».
ومما جاءت فيه (لا) زائدة- إنشاد من أنشد:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم من فتى لا يمنع الجود
قاتله
«3» [قال أبو الحسن: فسرته العرب: أبى جوده البخل، وجعلوا (لا)
زائدة حشوا وصلوا بها الكلام] «4». واختلفوا في قول الشماخ:
أعائش ما لأهلك لا أراهم ... يضيعون الهجان مع المضيع
«5»
__________
انظر الديوان/ 283 وشرح أبيات المغني 5/ 22 والبيت من شواهد
الرضي في الخزانة 2/ 87 والعيني 2/ 322، ورواية الديوان:
إليّ لام ذوو أحلامهم عمرا.
(1) في (ط): زائدة.
(2) إلى هنا ينتهي نقل البغدادي عن الفارسي في الخزانة المشار
إليه ص 165.
(3) البيت ذكره ابن الشجري في أماليه 2/ 282 وهو من شواهد شرح
أبيات مغني اللبيب للبغدادي 5/ 20 ولم ينسب لقائل.
(4) ما بين المعقوفتين زيادة في (م). هذا وبهامش نسختي الأصل
(م) و (ط) هذا التعليق: كذا روى أبو الحسن هذا البيت في كتاب
القرآن: أنه لا يمنع الجود، وأنشد في موضع آخر: الجوع.
وتأويله: على قاتل الجوع وهو الطعام وما يحضره. أراد أنه لا
يبخل.
(5) عائش: ترخيم عائشة، وهي امرأة الشماخ. يضيعون من الإضاعة،
ضد
(1/169)
فروى التّوزيّ عن أبي عبيدة: أنّ (لا)
زائدة، وذهب غيره إلى أنّها ليست زائدة.
ومما يجوز أن تكون (لا) فيه زيادة «1» قول الشاعر:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ... إذا جلسوا منّا ولا من
سوائنا
«2» فأمّا القول في (منّا)، فإنّه يجوز أن يتعلق بشيئين:
أحدهما أن يكون: إذا جلسوا منّا، أي: إذا جلسوا مخالطين لنا؛
لأنّ (منّا) قد استعمل في هذا المعنى، ألا ترى أنّه قد قال
«3»: وتقول: أنت منّي فرسخين، فالمعنى: أنت مخالطي في هذه
المسافة، وملابسي، فيكون التقدير: إذا جلسوا مخالطين لنا
ومخالطين سوانا، و (لا) زائدة كما زيدت في قوله: «أفعنك لا
برق» «4».
__________
الإصلاح. الهجان: لفظ يستوي فيه الواحد والجمع، ومعناه الجمل
الأبيض، أو الإبل البيض. يعني أن عائشة قالت له: لم تشدد على
نفسك في المعيشة ... فرد عليها: ما لأهلك أراهم يتعهدون الإبل
ويصلحونها، وأنت تأمرينني بإضاعة مالي؟ وهذا على أن لا نافية.
فأما على أنها زائدة فهو يعيرها بإضاعة أهلها المال وأنهم لا
يحسنون القيام عليها. انظر الأمالي: 1/ 105 والسمط: 1/ 323
والديوان/ 219.
(1) في (ط): زائدة.
(2) البيت للمرار بن سلامة العجلي. سوائنا: سوانا. قال الأعلم:
وصف نادي قومه ومتحدثهم بالتوقير والتعظيم، فيقول: لا ينطق
الفحشاء من كان في نادينا من قومنا أو من غيرنا، إذا جلسوا
للحديث، إجلالا لنا وتعظيما. انظر الكتاب: 1/ 13 و 203.
(3) انظر الكتاب: 1/ 208.
(4) تقدم البيت صفحة/ 164.
(1/170)
والوجه الآخر «1»: (منّا) متعلّقا بما قبل،
كأنه، من كان منهم منّا.
فإن قلت: كيف يصحّ أن يكون من كان منهم منّا؟ قيل:
هذا يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون (منّا) في معنى المخالطة والملابسة كما تقدّم،
فيكون (منهم) مستقرّا، و (منّا) في موضع حال، ولا يكون (منّا)
مستقرّا و (منهم) في موضع حال «2» من قوله (منّا) لأنّ الحال
لا تتقدم «3» على العامل إذا كان معنى، فإن جعلت العامل في
الحال كان جاز ذلك.
ويجوز أيضا في قوله: (من كان منهم منّا) أن يكون بينهم محالفة،
فيجوز للحلف أن يقول: من كان منهم منّا: لأنّه يجوز- وإن كان
من معشر آخرين- أن تقول: منا للحلف، أو للولاء.
وقد جاء: «مولى القوم منهم» «4».
وعلى هذا
قوله: «الأذنان من الرأس» «5»
وقال تعالى:
__________
(1) في (ط): والوجه الثاني.
(2) في (ط): ومنهم حالا.
(3) في (ط): لا يتقدم.
(4) هذا الحديث في البخاري عن أنس ونصه: (مولى القوم من
أنفسهم» انظر فتح الباري 12/ 41.
(5) قطعة من حديث ونصه: «حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن
سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال: توضأ النبي
صلّى الله عليه وسلّم فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا: ومسح برأسه
وقال: «الأذنان من الرأس». قال الترمذي:
قال قتيبة قال حماد: لا أدري هذا من قول النبي صلّى الله عليه
وسلّم أو من قول أبي أمامة. الترمذي 1/ 46، أبو داود 1/ 93،
ابن ماجة 1/ 152. وذكره النووي في شرح المهذب 1/ 413. وذكر
مذاهب العلماء في ذلك.
وذكره الطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 33.
(1/171)
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ
مِنْ بَعْضٍ [التوبة/ 67]، أي بعضهم يلابس بعضا ويوالي بعضا.
وليس المعنى على النسل والولادة، لأنه قد يكون من نسل المنافق
مؤمن، ومن نسل المؤمن منافق. فهذا كقوله: الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة/ 67]. وكذلك
قوله: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران/ 34] أي
بعضها يوالي بعضا، ولا يتبرأ بعضهم من بعض. ويجوز في قوله:
بعضها من بعض- أن يكون المعنى:
أنّهم في الآخرة متوالون، لا يتبرّأ بعضهم من بعض، كما يتبرأ
الكافرون والفاسقون. ألا تراه قال: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة/ 166] وفَما
لَنا مِنْ شافِعِينَ
وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ
[الشعراء/ 100] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على هذا المعنى
فقوله: ذرّية بعضها من بعض، أي: هم على خلاف صفة المنافقين
والكافرين، لأنّهم إخوان متوالون.
فأمّا قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ [النساء/ 25] فقد يكون المعنى والله أعلم: بإيمانكم
بعضكم من بعض، أي: بعضكم يوالي بعضا ويلابس بعضا في ظاهر الحكم
من حيث شملكم الإسلام فاجتمعتم فيه وصرتم متكافئين متماثلين
لجمع الإسلام لكم، واستوائكم في حكمه في الديات والقصاص
والمناكح والتّوارث ونحو هذا، مما جمعهم الإيمان فيه. وقال:
إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني
«1»
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني يخاطب عيينة بن حصن الفزاري، وكان
قد دعاه وقومه إلى مقاطعة بني أسد ونقض حلفهم، فأبى عليه
وتوعده بهم. وأراد
(1/172)
وقال جرير:
عرين من عرينة ليس مني ... برئت إلى عرينة من عرين
«1» وقال آخر- أظنّه الراعي-:
فقلت ما أنا ممن لا يواصلني ... ولا ثوائي إلا ريث أحتمل
«2» وأما قوله: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
فِي أَنْفُسِكُمْ [الحديد/ 22]. فإن موضع قوله: في الأرض يحتمل
ضربين: أحدهما: أن يكون مفعولا فيه ظرفا، والآخر: أن يكون
وصفا. فإن جعلته ظرفا احتمل أن يكون ظرفا لأصاب، واحتمل أن
يكون لمصيبة، ولا ذكر فيه على شيء من هذين التأويلين، كما أنّ
قولك: بزيد، من: مررت بزيد، كذلك.
ويؤكد ذلك ويحسنه دخول لا في قوله: (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)،
فصار ذلك مثل: ما ضربت من رجل ولا امرأة.
والضرب الآخر: أن يكون صفة للنكرة، ويكون متعلقا بمحذوف وفيه
ذكر يعود إلى الموصوف. وقوله: (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) صفة «3»
معطوفة على صفة، فإذا كان كذلك احتمل موضعه ضربين: أحدهما أن
يكون جرا على لفظ قوله: من مصيبة، والآخر: أن يكون رفعا على
موضع من مصيبة.
__________
بالفجور نقض الحلف. انظر الكتاب: 2/ 290، وشرح شواهد الشافية/
209 وروايتهما: ولست من، بحذف الياء للوقف. وانظر الديوان/
199.
(1) البيت لجرير، من سبعة أبيات في الهجاء. انظر الديوان/ 429،
والاشتقاق/ 538، وفيهما: ليس منا، مكان: ليس مني.
(2) رواه في أساس البلاغة (ريث)، منسوبا إلى الراعي، وفيه: ريث
أرتحل، مكان ريث أحتمل.
(3) سقطت كلمة «صفة» من (ط).
(1/173)
فإن قلت: فإذا كان كذلك فما وجه دخول لا في
قوله:
(وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) وليس الكلام على هذا التأويل بنفي؟
فالقول في ذلك أنّه لما كان معطوفا على ما هو منفيّ في المعنى-
وإن لم يكن «1» منفيا في اللفظ- جاز أن يحمل الكلام على
المعنى، فتدخل «لا» كما حملته على ذلك في قوله:
يحكي علينا إلّا كواكبها «2» ألا ترى أنّ الضمير في يحكي لمّا
كان لأحد المنفي أجريته مجرى المنفي «3» في استجازتك البدل
منه، كاستجازتك البدل من نفس المنفيّ فكذلك قوله: في الأرض،
لما كان صفة لمنفي أجريته مجرى النفي «4» فاستجزت العطف عليه
(بلا). وإن شئت قلت: إنّ (لا) زائدة، والأول أبين، لأنّ الحمل
على المعنى في النفي قد جاء في غير شيء، ألا ترى أنّهم قد
قالوا: إنّ أحدا لا يقول ذاك إلّا زيد، لمّا كان في المعنى
منفيا؟ ومن الحمل على المعنى قولهم: قد علمت زيد أبو من هو،
فكذلك يكون ما ذكرنا «5».
__________
(1) في (ط): ولم يكن.
(2) صدره: في ليلة لا نرى بها أحدا والبيت في الكتاب منسوب إلى
عدي بن زيد. قال البغدادي في الخزانة 2/ 20، 21 وشرح أبيات
المغني 3/ 233: تصفحت ديوان عدي بن زيد مرتين فلم أجده فيه.
وإنما هذا البيت لأحيحة بن الجلاح الأنصاري، أثبته له
الأصبهاني في الأغاني، ثم أورد سبعة أبيات، هو فيها البيت
الرابع، انظر الأغاني: 15/ 31 وخبر الأبيات في شرح أبيات
المغني والخزانة.
(3) في (ط): مجرى النفي.
(4) في (ط): مجرى المنفي.
(5) في (ط): ما ذكرناه.
(1/174)
|