الحجة للقراء السبعة سورة البقرة
بسم الله الرّحمن الرّحيم «1»
[البقرة: 2]
ومن السورة «2» التي يذكر فيها البقرة قوله تعالى «3»: فِيهِ
هُدىً [2].
قال أحمد بن موسى «4»: قرأ نافع: (فيه هدى)، و (عليه إنه) «5»
[الحج/ 4] (وما أنسانيه إلا) [الكهف/ 63] وما أشبه ذلك إذا كان
قبل الهاء ياء ساكنة حركها حركة مختلسة من غير أن يبلغ بها
الياء.
واختلف عن نافع: فروى المسيّبي «6» عن نافع أنه أثبت الياء بعد
الهاء [في قوله] «7»: عليهي، فيقول من «8» (كتب عليهي أنه من
تولاه) [الحج/ 4]. وروى الكسائي عن إسماعيل «9» عن نافع أنه
قرأ: عليهي، يثبت الياء في كل
__________
(1) في (م): بسم الله.
(2) في (ط): من السورة.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) السبعة 128 - 129.
(5) وكسر الهمزة قراءة المطوعي (إتحاف فضلاء البشر: 192).
(6) تقدمت ترجمته ص 57.
(7) في (م): قوله.
(8) في (ط): سقطت كلمة «من».
(9) هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، تقدمت ترجمته
(1/175)
القرآن، فإذا كان قبلها واو ساكنة مثل
نَدْعُوهُ إِنَّهُ «1» [الطور/ 28] أو ألف مثل اجْتَباهُ
وَهَداهُ [النحل/ 121] ضم الهاء ضما من غير أن يبلغ بالضمة
الواو. فإذا كان قبل الهاء حرف غير الواو والياء والألف «2»
وهو ساكن حرك الهاء أيضا حركة خفيفة من غير بلوغ واو، مثل: منه
وعنه، إلّا في قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32] فإن المسيّبي
روى عنه الصلة بالواو في هذا الحرف وحده. فإذا كان ما قبل
الهاء متحركا، وكانت الحركة كسرة كسر الهاء ووصلها بياء في
اللفظ، كقوله «3»:
وأمهي «4» ... وصاحبتهي [عبس/ 35]، وكتبهي ورسلهي [البقرة/
285، والنساء/ 136] وما أشبه ذلك. فإذا كانت الحركة قبل الهاء
ضمة أو فتحة ضم الهاء ووصل الهاء «5» بواو.
فمثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالضمة قوله تعالى «6»: فإن
الله يعلمهو [البقرة/ 270]، فهو يخلفهو [سبأ/ 39]. ومثل ما
تحرك ما قبل الهاء فيه بالفتحة قوله: خلقهو فقدر هو [عبس/ 19]،
ويسرهو [عبس/ 20]، فأقبرهو [عبس/ 21] وما أشبه ذلك، يصل ذلك
كله بواو ويقف بغير واو. وكذلك مذهب أبي عمرو وعاصم إلّا في
قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان) [الكهف/ 63] فإن أبا بكر بن
عياش وحفصا اختلفا فيه عن
__________
ص 57. وتقدمت ترجمة الكسائي في ص: 7.
(1) في (م): يدعوه وهو تحريف.
(2) في (ط): غير الياء، والواو، والألف.
(3) في (ط): كقوله عز وجل.
(4) في (ط): وأمه وأبيه.
(5) في (ط): ووصلها بواو.
(6) في (ط): قوله عز وجل.
(1/176)
عاصم فروى أبو بكر «1» عن عاصم: (وَما
أَنْسانِيهُ) «2» بكسر الهاء من غير بلوغ ياء ومثله (بما عاهد
عليه الله) [الفتح/ 10] وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الفرقان/
69].
وروى عنه حفص «3» (وَما أَنْسانِيهُ «4» إِلَّا) بضم الهاء من
غير واو. وكذلك اختلفا في قوله: بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فضم حفص الهاء وكسرها أبو بكر في سائر القرآن. ومثله:
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، فإن حفصا روى عن عاصم أنه يصل الهاء
بياء، وحذفها أبو بكر عن عاصم. وهو مذهب حمزة والكسائي وابن
عامر، إلّا ما روى حفص عن عاصم
في «أنسانيه» و «عليه الله» وفيهي «مهانا» يشبع الكسرة.
فأمّا ابن كثير فإنّه كان [يصل الهاء بياء في كل ذلك إذا كان
قبلها ياء أو واو أو ألف أو حرف ساكن أو متحرك] «5»
__________
(1) هو أبو بكر شعبة بن عياش بن سالم الحناط الأسدي الكوفي،
الإمام العلم، راوي عاصم، وكان من أئمة السنة أيضا، توفي سنة
193 هـ، انظر طبقات القراء: 1/ 325.
(2) في (ط): أنسانيه، من غير ما.
(3) هو حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي الكوفي البزاز، ثاني
رواة عاصم، قال أبو هشام الرفاعي: كان حفص أعلمهم بقراءة عاصم،
وكان الأولون يعدونه في الحفظ فوق أبي بكر بن عياش، توفي سنة
180. انظر طبقات القراء: 1/ 254.
(4) في (ط): أنسانيه، من غير ما.
(5) كذا في الأصل، ووردت في هامش (ط) هذه العبارة: «الصواب أنه
(أي: ابن كثير) يصل الهاء بياء إذا كان قبلها ياء، وبواو إذا
كان قبلها واو أو ألف أو حرف ساكن أو متحرك». وهذا هو الموافق
لمذهب ابن كثير، انظر النشر لابن الجزري في باب هاء الكناية:
1/ 304 وما بعدها.
(1/177)
فيقول «فيهي هدى»، و (إليهي، ولديهي،
وعليهي، واجتباهو، وهداهو، وما أنسانيهي إلّا، ومنهو، وعنهو)
وكل ما كان مثله في القرآن.
قال أبو بكر محمد بن السري: الاختيار في (فيه) الكسر بغير ياء
ولا إدغام. وحكى عن أبي حاتم «1» أن ذلك قراءة العامة. قال أبو
بكر: وهو الأخف، وخط المصحف بغير ياء.
قال: وأكره الإدغام، لأن من كسر، فالياء يريد، ومن أثبت الياء
لم يجز له أن يدغم، لأنّه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهي من
الحروف التي يكره إدغام بعضها في بعض، لثقل ذلك.
قال: وقال أبو حاتم: يروى عن نافع أنّه كان يدغم: ((فيه هدى))
ويشمّها شيئا من الضم. قال: وإدغامه وإدغام أبي عمرو يدل «2»
على أنّهما لم يكونا يزيدان على ضمّة الهاء بلا واو وعلى كسرها
بلا ياء كقراءة العوام.
قال أبو حاتم: والضّم لغة مشهورة، وليس بعد الضم واو في اللفظ.
قال: ومن كان من لغته إدخال الواو مع المضموم والياء مع
المكسور فقال: فيهو، وفيهي، لم يجز له الإدغام، لأنّ بين
الهاءين في اللفظ حرفا حاجزا.
قال أبو بكر «3»: وقال بعض أصحابنا: قراءة من قرأ ((فيه هدى))،
بإدغام الهاء في الهاء، هو ثقيل في اللفظ وجائز في
__________
(1) تقدمت ترجمته ص/ 51.
(2) في (ط): وإدغامه إدغام أبي عمرو بتشديد الدال في اللفظين.
(3) في (ط): وقال أبو بكر قال ...
(1/178)
القياس، لأنّ الحرفين من مخرج واحد، إلّا
أنّه يثقل في اللفظ، لأنّ حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام،
والحرفان من كلمتين.
وحكى الأخفش أنّها قراءة.
قال أبو بكر- في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنه كان يشمّ
ويدغم-: هذا محال، لا يمكن الإدغام مع شيء من هذا، وذلك أنّه
لا فصل بين الحرفين إذا أدغما بحال من الأحوال، لا بقطع ولا
حركة ولا ضرب من الضروب، وإنّما يصيران كالحرف الواحد للزوم
اللسان لموضع واحد، وإنّما كان أبو عمرو يختلس ويخفي فيظن به
الإدغام، وكيف يكون متحرك مدغم فيجب أن يكون متحركا ساكنا.
قال: وقال أبو حاتم:
أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشما الضمّ والكسر، ولو
أدغما إدغاما صحيحا أسكنا الهاء الأولى. قال: وكان من شأن أبي
عمرو الإخفاء، لكراهية كثرة الحركات والإشباع. انتهت الحكاية
عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله تعالى «1»: لا رَيْبَ فِيهِ. قال سيبويه:
قالوا: أراب كما قالوا «2»: ألام، أي صار صاحب ريبة، كما
قالوا: ألام، أي: استحق أن يلام، وأما رابني فيقول: جعل فيّ
ريبة، كما تقول: قطعت النخل، أي:
أوصلت إليه القطع واستعملته فيه.
__________
(1) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(2) في (ط): كما يقال، وانظر في كلام سيبويه الكتاب: 2/ 236.
(1/179)
وقال أبو زيد: قد رابني من فلان أمر رأيته
منه ريبا إذا كنت مستيقنا «1» منه بالرّيبة. فإذا أسأت به
الظنّ، ولم تستيقن منه بالريبة «2» قلت: قد أرابني من فلان أمر
هو فيه، إرابة وقد أربت فأنت مريب، إذا بلغك عنه شيء أو ظننته
من غير أن تستيقنه. وقال: أنشدنا أبو عليّ «3» كأنّني أربته
بريب «4».
وقال أبو عبيدة: لا ريب: لا شك.
وأما الهدى فقال سيبويه «5»: قلّما يكون ما ضمّ أوله من المصدر
منقوصا، لأن فعل لا تكاد تراه مصدرا «6» من غير بنات الياء
والواو «7».
__________
(1) في (ط): متيقنا.
(2) في (ط): بالريبة منه.
(3) في (ط): وأنشد.
(4) من رجز قاله: خالد بن زهير لأبي ذؤيب الهذلي، وتمامه:
يا قوم ما بال أبي ذؤيب ... كنت إذا أتوته من غيب
يشم عطفي ويمس ثوبي ... كأنني قد ربته بريب
انظر الهذليين 1/ 165. ورواية اللسان/ ريب/
يا قوم ما لي وأبا ذؤيب ... كنت إذا أتيته من غيب
يشم عطفي ويبزّ ثوبي ... كأنني أربته بريب
وأتوته: لغة في أتيته.
(5) انظر الكتاب: 2/ 230: هذا باب نظائر ما ذكرناه من بنات
الياء والواو إلخ.
(6) في (ط): لا تكاد مصدرا وهو تحريف، وفي (ط) أيضا: من بنات
الياء والواو، دون غير.
(7) يريد في الصحيح اللام، أي: والمعتل شأنه أن يجري مجرى
الصحيح، فإذا لم يكثر ذلك في الصحيح فكذلك في المعتل.
(1/180)
وقال أيضا: قد جاء في هذا الباب- يعني باب
اعتلال اللام- المصدر على فعل، قالوا: هديته هدى. ولم يكن هذا
في غير هدى وذلك لأنّ الفعل لا يكون مصدرا في هديته فصار هدى
عوضا منه «1» قالوا: قريته قرى وقليته قلى، فأشركوا بينهما في
هذا فصار عوضا من الفعل في المصدر فدخل كلّ واحد منهما على
صاحبه، كما قالوا: كسوة وكسى وجذوة «2» وجذى وصوّة وصوى «3»،
لأنّ فعل وفعل «4» أخوان. ومن العرب من يقول: رشوة ورشا، ومنهم
من يقول: رشوة ورشا وحبوة وحبا، وأكثر العرب تقول: رشا وكسا
وجذا «5».
قال أبو علي: وقد يجوز أن يكون فعل مصدرا اختصّ به المعتل وإن
لم يكن في الصحيح، كما كان كينونة ونحوه مصادر، ولا يكون
فيعلولة عنده «6» ولا فعلولة عند من خالفه
__________
(1) أي: أنه لم يثبت عند سيبويه: هدى هدى بكسر الهاء وفتح
الدال، ولذلك كان هدى بضم الهاء وفتح الدال عوضا منه، وإن وجد
الأول في قليته قلى.
(2) الجذوة مثلثة الأول: القبسة من النار والجمرة.
(3) الصوة بالضم: حجر يكون علامة في الطريق، وما غلظ وارتفع من
الأرض، وهي أيضا جماعة السباع، وصوت الصدى، ومختلف الريح.
جمعها صوى بالضم.
(4) في (ط): لأن فعلا وفعلا.
(5) الرشوة مثلثة: الجعل، ج رشا بالضم والكسر، والحبوة بالفتح
والضم:
اسم من احتبى بالثوب اشتمل أو جمع بين ظهره وساقيه بعمامة
ونحوها.
والحبوة مثلثة الاسم من حبا فلانا: أعطاه.
(6) عنده، أي عند سيبويه عن الخليل، وذلك أنه يقول إن كينونة
أصلها كينونة بتشديد الياء مثل قيدود أصله قيدود بالتشديد
أيضا، فهي على وزن
(1/181)
مصدرا في الصحيح.
ويؤكد الأول ما قاله من أنّه قد يستغنى بفعله نحو:
الجلسة والرّكبة عن المصدر «1».
ويقوّيه أيضا أنّ ناسا من النحويين يزعمون أنّه قد يجرى
الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: عجبت من دهنك
لحيتك وينشدون:
وبعد عطائك المائة الرتاعا «2» فيجرونه مجرى الإعطاء.
وقال لبيد:
باكرت حاجتها الدجاج «3»
__________
فيعلولة، لأنها من كان يكون كما أن قيدود من قاد يقود، وهو من
الأوزان الخاصة بالمعتل، انظر الكتاب: 2/ 371 في باب ما تقلب
الواو فيه ياء إلخ، أما غير سيبويه من الكوفيين وغيرهم فيقول
كينونة فعلولة قلبت الواو ياء، وانظر اللسان في مادة كون.
(1) انظر الكتاب: 2/ 229: هذا باب ما تجيء فيه الفعلة تريد بها
ضربا من الفعل ... إلخ.
(2) هو عجز بيت للقطامي من قصيدة يمدح بها زفر بن الحارث
الكلابي، وصدره:
أكفرا بعد رد الموت عني ... ................ ..
العيني 3/ 505 والخصائص 2/ 221، وأمالي ابن الشجري 2/ 142.
وشرح أبيات المغني 6/ 347، والبيت من شواهد خزانة الأدب 3/
442.
(3) قطعة بيت من معلقة لبيد، وتمامه:
باكرت حاجتها الدجاج بسحرة ... لأعلّ منها حين هبّ نيامها
ومعناه: عاجلت الدجاج إلى حاجتي إليها، أي: سابقت صياح الدجاج
إلى حاجتي إليها والمراد الخمر، لأعل منها أي: أسقى منها تباعا
حين
(1/182)
وفسّروه على: باكرت حاجتي إليها، فأضيف إلى
المفعول، كما يضاف المصدر إليه، فكذلك يكون الهدى والسرى
والتّقى، وفي التنزيل: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً
[آل عمران/ 28]. فكذلك يكون هذا النحو قد استغني به عن المصدر،
كما قالوا: هو يدعه تركا شديدا.
فإن قلت: فلم لا تجعل (تُقاةً) مثل رماة في الآية، فيكون حالا
مؤكّدة. فإنّ المصدر أوجه: لأنّ القراءة الأخرى:
(إلا أن تتقوا منهم تقية) «1» بهذا «2» أشبه، وإن كان هذا
النحو من الحال قد جاء، وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وقال أبو عبيدة: (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ): بيانا لهم «3». وقال
أبو الحسن: زعموا أنّ من العرب من يؤنّث الهدى.
وأما الفعل من الهدى: فيتعدى «4» إلى مفعولين، يتعدى إلى
الثاني منهما بأحد حرفي جر: إلى، واللام. فمن تعدّيه بإلى
قوله: «5» فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات/ 23].
ومنه قوله: «6» وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ
__________
هب نيامها، أي السحرة، انظر المعلقات، واللسان في مادة «بكر»
والخزانة 1/ 483 والمعاني الكبير/ 453 والديوان/ 176 وفيه:
بادرت مكان باكرت.
(1) هي قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي إمام البصرة، بفتح التاء
وكسر القاف، وتشديد الياء مفتوحة، وقرأ الباقون بضم التاء وألف
بعد القاف في اللفظ، انظر النشر: 2/ 239.
(2) في (ط): فهذا.
(3) انظر مجاز القرآن 1/ 28.
(4) في (ط): فمتعد.
(5) في (ط): قوله عز وجل.
(6) في (ط): سقطت: قوله.
(1/183)
[ص/ 22]. ومن تعديه باللام قوله: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف/ 43]، وقوله: قُلِ
اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ [يونس/ 35]. فهذا الفعل بتعديه مرة
باللام وأخرى بإلى مثل أوحى في قوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ [النحل/ 68]، وقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها
[الزلزلة/ 5].
وقد يحذف الحرف من قولهم: «1» هديته لكذا وإلى كذا، فيصل الفعل
إلى المفعول الثاني، كما قال: اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ، أي: دلنا عليه واسلك بنا فيه، فكأنّه «2» سؤال
واستنجاز لما وعدوا به في قوله: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة/ 16] أي سبل
دار السلام، بدلالة قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ
رَبِّهِمْ [الأنعام/ 127].
وتكون إضافة الدار إلى السلام على أحد وجهين: إمّا أن يراد به
الإضافة إلى السلام الذي هو اسم من أسماء الله «3» على وجه
التعظيم لها والرفع منها، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة:
عبد الله. وإمّا أن يراد بالسلام جمع سلامة، كأنّه:
دار السلامة التي لا يلقون في حلولها عنتا ولا تعذيبا، كما
قال:
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا
يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر/
35]. وسألوا ذلك ليكونوا خلاف من قيل فيه: فَاهْدُوهُمْ إِلى
صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات/ 23]، وقِيلَ: ارْجِعُوا
وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد/ 13].
__________
(1) في (ط): وقد يحذف الحرف في قوله.
(2) في (ط): وكأنه.
(3) في (ط): هو اسم الله عز وجل.
(1/184)
وقد يكون قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ سؤالا لأن يلطف «1» لهم بالتثبيت على الإيمان
وطرق الهدى والدين فلا يكونوا كمن وصف بقوله: وَضَلُّوا عَنْ
سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة/ 77]، وقوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ
مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة/ 1].
ويقوي ذلك قوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام/ 153]، وقوله:
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الصافات/ 117، 118].
ويقوي الوجه الأوّل قوله: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بالَهُمْ [محمد/ 4، 5]، فهذا على الدلالة إلى طريق
الجنة «2» والثواب.
فأمّا قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ «3» [يونس/ 9] فإنّه يكون
مثل قوله: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بدلالة اتصال
الحال به، وهو قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ويكون الظرف على هذا متعلقا بيهديهم.
ويجوز أن يكون يهديهم في دينهم كقوله:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد/ 17]، ويكون
الحال فيه كقوله: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «4» [المائدة/
95]. وكما أجاز سيبويه
__________
(1) إشارة إلى مذهب أهل الاعتزال في القول باللطف.
(2) في (ط): إلى طرق الجنة.
(3) بعد ذلك: «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ».
(4) أي فتكون جملة تجري من تحتها إلخ حالا منتظرة. أي يتحقق
وقوعها
(1/185)
من قولهم: «1» مررت برجل معه صقر صائدا به
غدا، ويكون الظرف على هذا متعلقا بتجري.
فأمّا قوله: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً
[النساء/ 175] فقوله: صراطا مستقيما على فعل دلّ عليه يهديهم
كأنه: يعرّفهم صراطا مستقيما، ويدلّهم عليه. وإن شئت قلت: إنّ
معنى يهديهم إليه: يهديهم إلى صراطه، ويكون انتصاب صراط كقولك:
مررت بزيد رجلا صالحا.
وقال أبو الحسن: يقال هديت العروس إلى بعلها، وتقول أيضا:
أهديتها إليه، وهديت له. وتقول: أهديت له هديّة. وبنو تميم
يقولون: هديت العروس إلى زوجها، جعلوه في معنى:
دللتها، وقيس تقول: أهديتها جعلوه بمنزلة الهديّة.
وممّا يدلّ على أن الهدى الدلالة- كما فسره أبو الحسن- أنّه قد
قوبل به الضلال في نحو قوله: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ
وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة/
198]. أي: من قبل هداه، فلما دلّ الفعل على المصدر أضمر. وقال
ابن مقبل «2»:
قد كنت أهدي ولا أهدى فعلّمني ... حسن المقادة أنّي فاتني بصري
وقيل في قوله:
__________
في المستقبل. كما هو الحال في قوله: «هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ».
(1) في (ط): في قولهم.
(2) انظر الديوان/ 74.
(1/186)
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة ... يخشعن
في الآل غلفا أو يصلّينا
«1» إن معنى استبنت الهدى: أضاء لي النهار. هاجمة: كأنّها
مطرقة من البعد، وغلفا: تلبس أغطية من السراب. وقال أبو عمرو:
غلفا: ليس عليها شيء يسترها. وقوله: أو يصلّينا، «2» كأنّهن-
ممّا يرفعهنّ السراب ويضعهن- يصلين، وحكى أحمد بن يحيى عن بعض
البغداديين يقال: هديّ بيت الله، وأهل الحجاز يخففون، وتميم
تثقّله. وواحد الهديّ هديّة. وقد قرئ بالوجهين، حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة/ 196] والهدي محله «3».
ويقال: فلان هديّ بني فلان وهديهم، «4» أي جارهم يحرم عليهم
منه ما يحرم من الهدي. وأهديت الهدي إهداء، وأهديت الهديّة
إهداء، وهديت العروس إلى زوجها هداء، ويقال: أهديتها بالألف.
ويقال: نظر فلان هدية «5» أمره أي:
جهة أمره، «6» وما أحسن هديه أي: سمته وسكونه «7» وهديت
الضالّة أهديها هداية، وهديته الدين أهديه هدى، ورجل
__________
(1) لابن مقبل أيضا. انظر الديوان/ 323.
(2) في (ط): يصلين.
(3) والهديّ بكسر الدال وتشديد الياء قراءة مجاهد والزهري وابن
هرمز وأبي حيوة، ورواه عصمة عن عاصم، انظر البحر لأبي حيان: 2/
74.
(4) في (ط): وهدي بني فلان.
(5) في القاموس: هدية الأمر مثلثة جهته.
(6) في (ط): أي من جهة أمره، وهو تحريف.
(7) في (ط): وسكوته، بالتاء وهو تحريف.
(1/187)
مهداء: كثير الهدايا، والمهدى: «1» الطبق
الذي يهدى عليه.
وقال أحمد «2» هدى وأهدى واحد، وأنشد:
لقد علمت أمّ الأديبر أنّني ... أقول لها هدّي ولا تذخري لحمي
«3» انتهت الحكاية عنه. «4»
قال أبو علي: وواحد الهديّ هديّة، مثل مطيّ ومطيّة قال:
حلفت بربّ مكة والمصلّى ... وأعناق الهديّ مقلّدات
«5» وقال: «6»
متى أنام لا يؤرّقني الكري ... ليلا ولا أسمع أجراس المطي
__________
(1) كذا في (ط)، وهو يوافق ما جاء في القاموس: المهدى (بكسر
الميم والقصر): الإناء يهدى فيه، وفي الأصل: المهداء بالمد.
(2) هو أحمد بن يحيى ثعلب، سبقت ترجمته ص/ 11.
(3) ورد الشطر الثاني في مادة «هدى» من اللسان، وورد بتمامه في
أساس البلاغة في المادة نفسها منسوبا إلى أبي خراش الهذلي، وهو
مطلع قصيدة له في ديوان الهذليين: 2/ 125، وشرحه 3/ 1198،
والمعنى: اقسمي هديتك ولا تذخري.
(4) في (ط): سقط هذا اللفظ.
(5) هو بيت للفرزدق في ديوانه/ 127، وأورده اللسان أيضا في
مادة «هدى» ومقلدات: علق في أعناقها ما يدل على أنها هدي.
(6) رجز رواه سيبويه في الكتاب: 1/ 450، والكري، بكسر الراء
والإشباع:
تخفيف الكريّ بتشديد الياء، وهو المكاري أي: مؤجر الدابة
للركوب.
وسقطت كلمة: ليلا في الأصل.
(1/188)
ومن خفف الهدي فواحده هدية مثل شرية «1»
وشري، وقالوا: هدي للواحد، وقالوا: هديّ للعروس قال:
برقم ووشم كما نمنمت ... بميشمها المزدهاة الهديّ
«2» قيل: إن ذلك من قوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ
بِهَدِيَّةٍ [سبأ/ 35].
فأمّا قوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) فيجوز أن تجعل (فِيهِ) خبرا،
ويجوز أن تجعله صفة، فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته
خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر
المبتدأ «3»، وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر إنّ
رفعا، فإن «4» جعلت (فِيهِ) صفة، ولم تجعله خبرا كان موضعه
نصبا في قول من وصف على اللفظ كما عطف على اللفظ في قوله:
لا أب وابنا «5»
__________
(1) هي الحنظلة، والشري جمعها.
(2) بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وقبله؛
عرفت الديار كرقم الدوا ... ة يزبرها الكاتب الحميري
ورواية البيت في الهذليين: كما زخرفت، والميشم: الإبرة التي
تشم بها المرأة كفها، والمزدهاة: المستخفة التي استخفها الحسن
والعجب.
والهدي: العروس، انظر ديوان الهذليين 1/ 65. وشرحه 1/ 98.
(3) وعند سيبويه أن خبر لا التي اسمها مفرد يكون مرفوعا
بالمبتدإ الذي هو لا واسمها.
(4) في (ط): وإن.
(5) إشارة إلى بيت الكتاب 1/ 349 ولم ينسبه:
لا أب وابنا مثل مروان وابنه ... إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
(1/189)
ومن وصف على الموضع كما عطف على الموضع في
قوله:
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب «1» كان موضعه رفعا على هذا. «2»
والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له دون «3»
ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أنّ الضمير قد
صار في الظرف.
فأمّا قوله: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف/ 92] فلا
يخلو قوله: عليكم واليوم من أن يكون تعلقهما بتثريب الذي هو
المصدر أو بغيره. فلا يجوز أن يتعلق «4» بالمصدر، لأنّه لو
تعلق به لكان صلة له، ألا ترى أنّ ما يتعلق بالمصدر يكون من
تمامه ومن صلته، وإذا كان من تمامه لم يجز بناؤه على الفتح
__________
وانظر شرح المفصل: لابن يعيش 2/ 101، والعيني 2/ 355 والخزانة
2/ 102 وروايته: «فلا» مكان «لا».
(1) عجز بيت نسبه سيبويه في الكتاب إلى رجل من مذحج، من بني
عبد مناة قبل الإسلام بخمسمائة عام، وقال الحاتمي هو لابن
أحمر، والأصفهاني لضمرة بن ضمرة وكان له أخ يدعى جندبا، وكان
أبوه وأهله يؤثرونه عليه، فأنف من ذلك، وفي ذلك يقول:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هذا وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
انظر الكتاب 1/ 352، وشرح التصريح على التوضيح 1/ 241 وابن
يعيش 2/ 110 والمقتضب 4/ 371 والأشموني على الصبان 2/ 9.
والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 7/ 257 وذكره في الخزانة 1/
243 ونسبه مع الشعر إلى ضمرة بن ضمرة النهشلي وبعد ذلك ذكر
الاختلاف في نسبته.
(2) في (ط): كان موضعه على هذا رفعا.
(3) في (ط): من دون.
(4) أي قوله: عليكم وإليكم.
(1/190)
من دونه، كما أنّ ما يتعلق باسم الفاعل في
نحو: لا آمرا بالمعروف لك، إذا جعلت الباء من صلة الآمر، ولا
ضاربا رجلا عندك، لا يجوز أن يبنى الاسم دونه، «1» لأنّ البناء
إنّما يكون في آخر الاسم، كما أنّ التثنية والجمع كذلك، فكما
لا يثنّى قبل أن يتمّ بصلته، كذلك لا يجعل مع الأول اسما
واحدا، كما أنّ: (لا خيرا من زيد) كذلك. فإذا لم يجز تعلّقهما
ولا تعلّق واحد منهما بالمصدر تعلّق بغيرهما «2». فيمكن أن
يكون (عَلَيْكُمْ) صفة للمصدر، لأنّه نكرة، والجارّ كان في
الأصل متعلّقا بمضمر يكون في موضع الصفة، ويكون (اليوم) في
موضع الخبر، لأنّه مصدر، فتكون أسماء الأحيان خبرا عنه.
ويجوز أيضا أن يكون (اليوم) متعلقا بما هو في موضع صفة، كما
كان (عليكم) كذلك، فإذا حملته على هذا أضمرت خبرا وجعلت
(عليكم) أيضا مثله.
ويجوز أن يتعلق اليوم بعليكم على أن تكون ظرفا له، فإذا حملته
على هذا أضمرت أيضا خبرا.
ويجوز أيضا أن يتعلق اليوم بعليكم على أن يكون (عليكم) خبرا لا
صفة. ومثل ذلك قوله: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود/ 43] (اليوم): معمول (مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ)، والجارّ متعلق بمحذوف، وإن شئت «3» جعلته صفة وأضمرت
الخبر. ولا يكون (اليوم) ولا قوله (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)
__________
(1) أي دون (رجلا)، لأنه كآخر الاسم والبناء إنما يكون في
الآخر.
(2) في (ط): تعلق بغيره.
(3) في (ط): فإن.
(1/191)
من صلة (عاصم) في قول سيبويه.
والبغداديّون- فيما حكي لنا عنهم- يجيزون في هذا ونحوه أن يكون
الظرف من صلة المنفي المبني غير المنون «1».
فأما قوله تعالى: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
[الفرقان/ 22] فإن جعلت «بُشْرى» في موضع تنوين، جاز أن يكون
يومئذ من صلته، وإن جعلته في موضع الفتح للنفي، جاز أن يكون
خبرا، لأنّ «بُشْرى» حدث، فلا يمتنع أن يكون خبره ظرفا من
الزمان، ويكون (لِلْمُجْرِمِينَ) صفة لبشرى. وقد يكون تبيينا:
مثل: لك بعد سقيا.
ويجوز أن يكون (لِلْمُجْرِمِينَ) الخبر، ويكون (يَوْمَئِذٍ)
تبيينا، مثل: وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف/ 20].
وأكثر ما يكون هذا التبيين بحروف الجر، ولا يمتنع ذلك في
الظروف أيضا، لأنّ حرف الجر يقدر معها ويراد، فكأنه في حكم
الثبات. وقول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به لهم مقيم
«2» إن «3» قلت ما موضع (فِيها) في هذا الموضع؟ وكيف
__________
(1) ولكن ليس على سبيل البناء، وإنّما حذف التنوين للتخفيف.
(2) من قصيدة لأمية بن أبي الصلت الثقفي، يذكر فيها أوصاف
الجنة وأحوال يوم القيامة. انظر حاشية الصبان علي الأشموني 2/
11 والبيت في الديوان 475 - 477 ملفق من بيتين ونصهما:
وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم
ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم
(3) في (ط): فإن قلت.
(1/192)
القول فيه؟. فإن قياس قول سيبويه «1» أن
يكون فيها في موضع رفع، لكونها خبرا عن الاسمين، كما أنّك لو
قلت: لا رجل ولا «2» غلام فيها كان (فِيها) خبرا عنهما، ألا
ترى أنّ ((لا)) مع ((رجل)) في موضع اسم مرفوع على قول سيبويه،
وخبره مرفوع، كما يرتفع خبر: لا رجل في الدار.
وقياس قول أبي الحسن ألا يكون (فِيها) خبرا عنهما جميعا، لأن
ارتفاع الخبرين مختلف في قولهما. وذلك أن خبر (لا تَأْثِيمٌ)
يرتفع عند أبي الحسن «3» بلا، دون كونه خبرا للابتداء، وخبر
(لغو) مرتفع بالابتداء فإذا «4» اختلف إعراب خبريهما لم يجز أن
يكون قوله (فِيها) خبرا عنهما، لأنّه يجب من ذلك أن يعمل في
(فِيها) عاملان مختلفان، فإذا كان ذلك غير سائغ، علمت أن كونه
خبرا عنهما غير سائع، وإذا لم يجز أن يكون خبرا عنهما لاختلاف
إعرابيهما «5» وجب أن يكون لكل واحد خبر. فلك أن تجعل (فِيها)
خبرا عن تأثيم، ويكون ذكره يدلّ على خبر الأوّل، كما أن قوله:
............. وأنت بما ... عندك راض
«6» .......
__________
(1) انظر سيبويه 1/ 345.
(2) لا ساقطة من (ط).
(3) في (ط): لأن خبر لا تأثيم عند أبي الحسن يرتفع.
(4) في (ط): وإذا.
(5) في (ط): إعرابهما.
(6) من بيت لقيس بن الخطيم الأوسي، وقال ابن بري وابن هشام
اللخمي:
هو لعمرو ابن امرئ القيس الأنصاري، وتمامه:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
واستشهد به سيبويه في الكتاب: 1/ 38: وانظر العيني 1/ 557
ديوانه/ 63/ 173.
(1/193)
دلّ على خبر: نحن بما عندنا.
ويجوز أن تجعل (فِيها) خبرا عن الأوّل وتحذف خبر (لا
تَأْثِيمٌ)، ويدلّ عليه ما تقدّم من خبر الأول. وقولهم: لا خير
بخير بعده النار، ولا شرّ بشر بعده الجنة. يجوز أن يكون بخير
متعلقا بمحذوف في موضع رفع بأنّه خبر لا وقولك: بعده النار
الجملة في موضع جر بكونه وصفا لخير المجرور.
وقياس قول سيبويه أن تكون النار والجنة على هذا الوجه يرتفعان
بالظرف لكونهما صفتين «1» للنكرة.
ويجوز أن تجعل لا بمنزلة ليس على قوله: «لا مستصرخ» «2» فتكون
الباء حينئذ في القياس كالباء التي تزاد في خبر ليس.
فإن لم تجعل لا بمنزلة ليس وجعلتها الناصبة «3» لم يجز
__________
(1) في (ط): صفة، والمعنى أن الظرفين في الجملتين صفتان
فاعتمدا على موصوفين، ومن ثم ارتفع لفظا النار والجنة بعدهما
فاعلين للظرفين.
(2) في مثال ذكره سيبويه في الكتاب 1/ 357 للرفع بلا على أنها
بمعنى ليس، قال: «والرفع عربي على قوله: حين لا مستصرخ ولا
براح» ومعنى لا مستصرخ أي ليس هناك من يستغاث به، ولا براح،
أي: لا براح لي ولا تحول. ويشير بالأول إلى قول الشاعر، أنشده
صاحب الانصاف 1/ 368 واللسان/ طبخ/.
والله لولا أن تحشّ الطّبّخ ... بي الجحيم حيث لا مستصرخ
الطّبّخ: جمع طابخ. كركّع: يريد بهم ملائكة العذاب. وتحش: من
حش النار أي جمع لها ما تفرق من الحطب.
وبالثاني إلى قول سعد بن مالك كما في الكتاب 1/ 28 و 354 وفي
الخزانة: 1/ 223 والمقتضب 4/ 360.
من صدّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
(3) في (ط): النافية. وهو تحريف.
(1/194)
أن تكون الباء في خبرها، لأن خبرها مرفوع
كخبر المبتدأ، ألا ترى أنه قد حكي عن يونس «1» أنّهم يقولون:
لا رجل أفضل منك، فيرفعون (أفضل) لأنه خبر، فكما لا تدخل الباء
على خبر المبتدأ كذلك لا تدخل على خبر لا، لأنّها مع ما عملت
فيه بمنزلة المبتدأ.
وإن شئت أجزت دخول الباء لمضارعتها ليس وكون الكلام بها في
النفي بمنزلة ليس، فكما دخلت على خبر ليس وكانت هي مثلها في
النفي دخلت على خبرها أيضا الباء، ألا ترى أنّه قد جاء:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ [الأحقاف/
33] فدخلت الباء حيث كان معنى الكلام النفي وكان المعنى: أليس
الله بقادر.
وإن شئت أجزت دخول الباء على خبر المبتدأ على قياس قول أبي
الحسن، لأنّه قد أجاز في قوله: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها
[يونس/ 27] أن تكون الباء داخلة على خبر المبتدأ، لأنّه قد
جاء: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى/ 40]
فيجوز على هذا أن تكون الباء داخلة على الخبر الذي هو في موضع
رفع.
وإن جعلت الهاء في قوله: (بعده النار) لخير المنفي بلا كانت
الجملة التي هي: (بعده النّار) (وبعده الجنّة) في موضع نصب
بكونها صفة للاسم الذي عمل فيه (لا)، كأنّه: لا خير
__________
(1) في سيبويه 1/ 345. في لغة تميم قول العرب من أهل الحجاز لا
رجل أفضل منك. وأخبرنا يونس أن من العرب من يقول: ما من رجل
أفضل منك. وهل من رجل خير منك؟ كأنه قال: ما رجل أفضل منك. وهل
رجل خير منك.
(1/195)
بعده النار بخير، فيجوز في الباء في قولك:
(بخير) ما جاز فيها إذا جعلت قولهم (بعده النار) صفة لخير الذي
دخلت عليه الباء. وتقديره في هذا الوجه تقدير: لا رجل قام
غلامه أفضل منك.
وأمّا ما ذهب إليه البغداديّون من استجازتهم إعمال أسماء
الفاعلين والمصادر إذا بنيا مع لا على الفتح، فممّا يبيّن أنّه
لم يكن ينبغي أن يعملوه كما كان يعمل قبل- أنّ ذلك بالبناء مع
لا على الفتح قد فارق شبه الفعل، كما أن اسم الفاعل والمصادر
«1» بالتصغير والوصف قد فارقا «2» ذلك، فكما لا يعمل اسم
الفاعل والمصدر مصغّرين ولا موصوفين كذلك اسم الفاعل والمصدر
إذا بني كل واحد منهما مع لا على الفتح.
فإن قلت: إنّ هلمّ في قول أهل الحجاز قد بني الفعل فيه مع حرف
قبله، وأعمل عمل الفعل «3»، وحقروا رويدا وأعملوه عمل الفعل في
نحو: رويد عليّا، فكذلك ما تنكر أن بني «4» الاسم مع ما قبله
على الفتح ويعمل. وأنشد بيت الهذليّ:
رويد عليّا جدّ ماثدي أمّهم ... إلينا ولكن ودّهم متماين
«5»
__________
(1) في (ط): والمصدر.
(2) في (ط): فارق ذلك.
(3) أي فإن هلم عند الحجازيين اسم فعل مركب من: لمّ وها
التنبيه، ومع ذلك لم يمنع التركيب من عمل الفعل، فينبغي أن
يكون تركيب المصادر وأسماء الفاعلين مع لا كذلك.
(4) في (ط): أن يبنى.
(5) من قصيدة للمعطل الهذلي يصف قطيعة كانت بينهم وبين كنانة،
وعلي:
(1/196)
قيل: إنّ ما ذكرته في هلمّ على هذا القول
قليل، وكذلك رويد، ومع ذلك فإنّ هلمّ إذا أعمل على قول أهل
الحجاز فإنّه ليس يعمل كما يعمل الفعل، ولكن كما تعمل الأسماء
التي سمّي بها الفعل «1»، نحو عليك ورويد: يدلّك على أنّه على
هذا الحدّ أعمل، ليس على ما أعمل الفعل أنّهم جعلوه للاثنين
والجمع والمذكر والمؤنث على لفظ واحد. فهذا
ممّا يدلك أنّه بالبناء عندهم على هذا الحدّ الذي بني عليه خرج
عندهم من حكم الفعل وعن «2» عمله على حدّ عمل الفعل. ففي هذا
دلالة على أنّهم إذا بنوه مع ما قبله لم يعملوه على حدّ ما
يعمل الفعل، كما أعمله بنو تميم لمّا لم يبنوه مع الحرف الذي
قبله.
وإذا كان أهل الحجاز قد فعلوا ذلك بهلمّ لمكان البناء الذي
أحدثوه فيه «3» فكذلك ينبغي على قياس ما فعلوه من «4» ذلك ألا
يجوز إعمال اسم الفاعل والمصدر عمل الفعل إذا بنيا مع (لا)
لخروجه بذلك عن شبه الفعل.
فأمّا إعمالهم الفعل إذا لحقه النون «5» الخفيفة أو الثقيلة مع
أنّه يبنى مع كل واحد منهما، فإن ذلك ليس بمنزلة هلمّ المبنيّ
مع ما قبله «6»، ولكن بمنزلة البناء مع علامة الضمير،
__________
حي من كنانة، وجدّ ثدي أمهم بالبناء للمجهول أي: قطع، والمراد
انقطاع اللبن الذي يربطهم بالقرابة لأنهم يرجعون جميعا إلى
مدركة بن إلياس، والمتماين: الكاذب، انظر الكتاب: 1/ 124،
وديوان الهذليين: 3/ 46.
وسقط البيت من (ط) مع نسبته.
(1) في (ط): سميت بها الأفعال.
(2) في (ط): ومن عمله.
(3) فيه ساقطة من (ط).
(4) في (ط): في ذلك.
(5) سقطت كلمة «النون» من (م).
(6) أي مع ها، لأن هلم مركبة من لم وها كما سبق.
(1/197)
وبمنزلة التغيير الذي يلحق الآخر للإعراب،
نحو لحاق النون للإعراب، وحذف اللامات للجزم، ألا ترى أن
الخفيفة تجري مجرى التنوين في: لَنَسْفَعاً [العلق/ 15] وفي
اضربا القوم «1» فليس ذلك إذا كهلمّ المبني على الفتح مع ما
قبله.
فأمّا ما أجازه أحد شيوخنا- وهو أبو إسحاق الزجّاج- «2» في
قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً من أنّه بمنزلة
حلو حامض «3» - أي هو كتاب وهو هدى- فالقول في إجازة هذا على
الوجه الذي ذكره مشكل. وذاك «4» أن ارتفاعهما لا يخلو من أن
يكون بأنّهما خبر المبتدأ، أو يكون الثاني تابعا للأول.
فإن قيل: يرتفع الاسمان بأنّهما خبر المبتدأ قيل: لم نر شيئا
رافعا يرفع اسمين على هذا الحدّ. وقد شبّهوا ارتفاع خبر
__________
(1) في (ط): اضرب القوم بفتح الباء وإسقاط التنوين، وهو
المناسب هنا لأن الأصل هو حذف نون التوكيد الخفيفة عند ملاقاة
الساكن كقول الأضبط بن قريع:
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه
أراد تهينن فحذف النون وبقيت ياء تهين لثبات الفتحة بعدها. ابن
الشجري 1/ 385 ابن يعيش 9/ 43، الخزانة 4/ 588، همع الهوامع:
2/ 79. هذا وقد رسم في (م) بالألف وفقا للوقف عليها.
(2) هو إبراهيم بن السري أبو إسحاق الزجاج، كان يخرط الزجاج
فلزم المبرد على أن يعلمه بالأجرة ويخدمه، فنصحه في العلم حتى
استقل، وكان من أهل الفضل والدين حسن الاعتقاد جميل المذهب،
وله تصانيف كثيرة منها معاني القرآن وتفسير أسماء الله الحسنى
تحقيق أحمد يوسف الدقاق، وتوفي سنة 311 هـ، انظر البغية
للسيوطي 1/ 411 وقد سقطت عبارة «وهو أبو إسحاق الزجاج» من (ط).
(3) انظر سيبويه 1/ 258.
(4) في (ط): وذلك.
(1/198)
المبتدأ بارتفاع الفاعل، وزعموا أنّه ارتفع
لمشابهة الفاعل.
فإن قلت: إنّ الثاني تابع للأول فليس يجوز أن يكون الثاني بدلا
من الأول، لأنّ الأول مراد، كما أن الثاني كذلك، ومن ثمّ لم
يجز أن يكون الثاني صفة للأول. والصفة أبعد أن تجوز، لأنّك لا
تصف الحلو بأنه حامض، وإنما تخبر عن الأول أنه قد جمع الطعمين،
ولا مدخل هاهنا «1» لشيء من باقي التوابع. فإذا بعد هذان ولم
يخل منهما ثبت إشكال المسألة.
ولا يستقيم أن يجعل (حامض) خبر مبتدأ محذوف وأنت تريد هذا
المعنى؛ لأن الكلام يصير جملتين وإنّما يراد في المخبر عنه
أنّه قد جمع الطعمين في جملة واحدة «2»، كأنّك قلت: مزّ.
فإن قلت: أجعل الاسمين موضعهما رفع «3»، لوقوعهما موقع اسم
مفرد يرتفع بأنّه خبر مبتدأ، كما يجعل موضع الجملة رفعا إذا
وقع موقع الخبر فإنّ في ذلك بعدا «4» لأنّ هذا وإن كان مشبها
للجملة في أنّهما اسمان فليس بها «5»، ألا ترى أنّك إذا سميت
رجلا: عاقلة لبيبة، أعملت فيه العوامل، ولم تجعله بمنزلة أن
تسمّيه بزيد منطلق وأنت
تريد الجملة. فممّا نقول في ذلك أن هذين الاسمين لا يمتنع أن
يقعا جميعا خبرا لمبتدإ.
وإذا جاز أن يقع خبر المبتدأ جملة ولم يمتنع ذلك- وإن كان
الفاعل يمتنع أن يكون جملة- كان هذا أيضا جائزا أن يكون في
موضع
__________
(1) في (ط): ولا مدخل هنا.
(2) في (ط): وهو جملة واحدة.
(3) في (ط): موضعهما رفعا. وهو صحيح.
(4) كذا في (م) وفي (ط): «فإن ذلك أبعد».
(5) كذا في (ط): وفي (م) بهما.
(1/199)
خبر المبتدأ. وقد جاء أشدّ من هذا، وهو أنّ
هذه الجمل قد وقعت موقع خبر إنّ في مثل: إن زيدا أبوه منطلق،
وإن زيدا قام أبوه. وإذا جاز هذا في إنّ مع أنّ فيه نصبا
ظاهرا، وحكم النصب ألّا يكون إلا برفع لفاعل أو مشبه به، ووقعت
الجملة موقع الرافع الفاعل فهذا أجوز.
واختلفوا في ضرب من هذا. وهو قولهم: أقائم الزيدان، وإنّ قائما
الزيدان. فأجازوا: أقائم الزيدان، على أن يرتفع (قائم)
بالابتداء ويسدّ (الزيدان) مسدّ الخبر، فإذا ألحقت هذا الكلام
(إنّ) ذهب أبو عثمان فيه إلى أنّه لا يجوز، وقال: لأنّ الكلام
يبقى بلا رافع، ألا ترى أن (الزيدان) يرتفعان بقائم، فلا يبقى
شيء رافع يكون هذا النصب عنه.
وأجاز أبو الحسن: إنّ قائما الزيدان، ومن حجّته أن يقول: إنّ
«إنّ» إذا جاز أن يقع في موضع المرتفع بها الجملة مع أن الجملة
لا تكون في موضع الفاعل، وقد وقعت في موضع الفاعل في باب إنّ،
فأن يقع الاسم المرتفع بقائم هنا أشبه، لأنّه قد ثبت أنّه قد
سدّ مسدّ الخبر في الابتداء، فإذا سدّ مسدّ الخبر في الابتداء
فأن يسدّ مسدّه هاهنا «1» أشبه، لأنّه مفرد، وقد سدّت الجملة
مسدّه. فسدها هنا «2» مسدّ فاعل إنّ كما سدّ مسد الخبر مع
المبتدأ.
فأمّا ما يرجع من هذا الخبر الذي هو: (حلو حامض) ونحوه إلى
المبتدأ فالقول فيه أنّه لا يخلو من أن يكون
__________
(1) في (ط): هنا.
(2) كذا في (ط)، وفي (م) فسدهما.
(1/200)
الضمير «1» في أحد الاسمين، أو في كلّ واحد
منهما ضمير، أو يكون فيهما ضمير واحد، أو لا يكون في واحد
منهما ضمير.
فلا يجب أن يكون في أحد الاسمين دون الآخر، لأن كلّ واحد منهما
إذا خصصته بتحمّله الضمير لم يكن بأولى بذلك من صاحبه. ولا
يستقيم أن يكون في كل واحد منهما ضمير: لأنّك إن حمّلت كلّ
واحد منهما ضميرا لم يكن ذلك الغرض في الإخبار، ألا ترى أن
الضمير إذا حمّلته كلّ واحد منهما فالضمير فاعل، فتصير كأنّك
قد أخبرت عن المبتدأ بفعل كل واحد من اسمي الفاعل، كأنّك قلت:
حلا وحمض، وليس الغرض كذلك ولا المراد، إنّما المراد: أن الأول
قد جمع الطعمين، ألا ترى أن أبا عمر «2» قال في تفسير ذلك: ترش
شيرين «3».
فإذا كان ذلك مؤديا إلى خلاف المعنى المراد لم يستقم.
ولا يجوز أن يكون ضمير واحد فيهما جميعا، لأنّه يجب أن يعمل
«4» الصفتان جميعا فيه، وهذا ممتنع، كما يمتنع أن يعمل فعلان
في فاعل وإذا كانت هذه الوجوه غير مستقيمة ثبت أنه لا ضمير في
ذلك.
__________
(1) في (ط): أن يكون في أحد الاسمين.
(2) والظاهر أن المراد به أبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي البصري
مولى جرم بن زبان من قبائل اليمن، كان فقيها عالما بالنحو
واللغة، وأخذ عن الأخفش ويونس والأصمعي وأبي عبيدة، كما أخذ
عنه المبرد، وناظر الفراء، وانتهى إليه علم النحو في زمانه،
وتوفي سنة 225 هـ، انظر البغية للسيوطي 2/ 8.
(3) هو تركيب فارسي معناه: حلو حامض، انظر معجم استنجاس.
(4) في (ط): تعمل.
(1/201)
فإن قلت: فعلام يحمل؟ قلنا: نحمله على
المعنى، ونردّ الضمير في ذلك «1» إلى المبتدأ في المعنى، كما
فعل ذلك في الصفة في قولك: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين،
ألا ترى أنه لا عائد في لفظ «2» هذه الصفة إلى الموصوف، وإنما
يرجع إليه الذكر في المعنى، كأنك قلت: لا قاعد أبواه.
ونظير ما قلنا أيضا في المبتدأ قوله: «3» سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة/ 6] ألا ترى
أن الذكر يرجع إلى هذا المبتدأ أيضا على المعنى فكما أن الكلام
وتقديره محمول على المعنى كذلك في قولنا: هذا حلو حامض، الذكر
عائد من المعنى «4» كما أنّه مما ذكرنا في الصفة وفي قولهم:
مررت برجل قائم وقاعد يعود الذكر على المعنى.
فإن قلت: فما تقديره في الإعراب؟ فالقول إنّه: كما أن الاسمين
وقعا موقع مفرد فيما ذكرنا من عود الذكر إلى المبتدأ، كأنّه
قال في «حلو حامض»: مزّ، وفي «زيد ظريف كاتب»: جامع، فكذلك
الاسمان وقعا موقع المفرد، كما تقع الجملة «5» موقع المفرد في
هذا الموضع.
ونظير هذا، في أن الصفتين جرتا مجرى الجملة في بعض الوجوه،
تسميتهم بعاقلة لبيبة امرأة أو رجلا، ألا ترى أنهم لم يمتنعوا
من الصرف وحكوا حال النكرة كما فعلوا ذلك في الجمل، فهذان
الاسمان إذا وقعا موقع خبر الابتداء وإن لم
__________
(1) في (ط): ونرد الضمير إلى المبتدأ.
(2) في (ط): في لفظه.
(3) في (ط): زيادة: عز وجل.
(4) في (ط): في المعنى.
(5) في (ط): الجمل
(1/202)
يجز أن يقع بعد الفعل اسمان يسند «1» الفعل
إليهما فإن المبتدأ قد وقع موضع خبره الجمل، نحو قولهم «2»:
زيد أبوه منطلق، وعمرو قام أبوه، وكما «3» جاز هذا وإن امتنع
في الفاعل، وجاز: إن زيدا أبوه منطلق كذلك يجوز وقوع هاتين
الصفتين موقع خبر الابتداء «4» على حدّ ما وقعت «5» الجمل، وإن
لم يكونا جملة.
وأمّا هاء الضمير في قوله: فيه هدى، فالهاء وحدها هي الاسم.
قال سيبويه: الهاء التي هي هاء الإضمار الياء التي بعدها أيضا
مع هذا أضعف، لأنّها ليست بحرف من نفس الكلمة ولا بمنزلته «6».
فقد نصّ أنّ الزيادة التي تلحق الهاء ليست من نفس الكلمة، كما
ترى.
ويدلّ على ذلك أنّه قد جاء في الشعر نحو:
... له أرقان «7» فهذا يدلّ على أنّ حرف المدّ إنّما لحقه في
الوصل للخفاء، كما لحقت الواو الهمزة في نحو: كندأو «8» للخفاء
__________
(1) في (ط): مسند.
(2) في (ط): نحو زيد أبوه منطلق، بحذف قولهم.
(3) في (ط): فكما.
(4) في (ط): المبتدأ.
(5) في (ط): وقع.
(6) انظر الكتاب: 2/ 292.
(7) إشارة إلى قول يعلى الأحول الأزدي المتقدم في ص 134.
(8) الكندأو على وزن جردحل: الجمل الغليظ، ومثال سيبويه قندأو
بالقاف، والكاف وهو السّيّئ الغذاء والسّيّئ الخلق، والغليظ
القصير، والكبير الرأس الصغير الجسم المهزول والجريء المقدم
إلخ. انظر سيبويه 2/ 326، 327.
(1/203)
الذي في الهمزة. ومن ثمّ أبدل منها قوم
الواو في الوقف في الرفع فقالوا: الكلو «1».
ويدلّ أيضا على أنّها على حرف واحد في الأصل «2» أنّها نظيرة
الياء للمتكلم والكاف للمخاطب، فكما أنّ كل واحد من ذلك على
حرف مفرد فكذلك الهاء ينبغي أن تكون الاسم وحدها بغير ياء أو
واو لاحقة له «3».
فإن قلت: فلم لا تستدلّ بلحاق الألف للمؤنث أن الواو أو الياء
بحذاء الألف؟ قيل: تكون الألف لاحقة لتبيين من المذكّر، كما
لحقت في أعطيتكاها لذلك، وكما أن السين في قول من قال: أكرمكس
لذلك، فكما أنّ الكاف حرف مفرد وإنّما لحقه حرف المدّ وغيره
للتبيين فكذلك يكون لحاق «4» الألف الهاء للمؤنث، إلّا أنّ
الهاء لزمها الألف في جميع «5» اللغات- إلّا فيما لا اعتداد
به- لخفائها وخفة الألف والتبيين للفصل.
فإن قلت: فما حكم الهاء أن تكون، أمتحركة أم ساكنة؟
فالقول: إنّها ينبغي أن تكون متحركة، على قياس الكاف والياء في
لك ولي فاعلم، ويكون ما جاء في الشعر «6» من نحو:
__________
(1) أي الكلأ.
(2) في (ط): على حرف واحد في قوله في الأصل.
(3) في (ط): لها.
(4) في (ط): فكذلك لحاق.
(5) في (ط): في سائر.
(6) في (ط): من الشعر.
(1/204)
كأنّه صوت حاد «1» * وما له من مجد تليد
... «2»
جاء على الأصل، وحذف حرف المدّ الزائد معه. والذين قالوا:
له أرقان فهي «3» لغة قوم فيما زعم أبو الحسن وغيره، شبّهوه
بالألف في التثنية وبالياء في غلامي، فأسكنوه لذلك. وهو أيضا
على قياس إسكانهم الميم من عليكم وعليهم بعد حذف الواو منه.
وممّا يقوّي أنّها متحركة في الأصل لحاق حرف اللين له في نحو
ضربهو، ومرّ بهي، ولو كان ساكنا لم يوصل بذلك،
__________
(1) إشارة إلى بيت للشماخ بن ضرار يصف حمارا وحشيا، وهو:
له زجل كأنه صوت حاد ... إذا طلب الوسيقة أو زمير
والوسيقة أنثى حمار الوحش، والزمير: الغناء في القصبة، وهي
الزمارة، بفتح الزاي وتشديد الميم، والبيت في الكتاب: 1/ 11،
والخصائص 1/ 127. وديوانه/ 155 وفيه: له زجل تقول: أصوت حاد،
وليس فيه شاهد.
(2) إشارة إلى بيت الأعشى في الهجاء وهو من شواهد سيبويه 1/ 12
وتمامه عنده:
وما له من مجد تليد وما له ... من الريح حظ لا الجنوب ولا
الصبا
يقول هو لئيم الأصل لم يرث مجدا ولا كسب خيرا، وضرب لذلك المثل
بنفي حظه من الريحين: الجنوب، والصبا لأنهما أكثر الرياح عندهم
خيرا، وروايته في الديوان/ 115:
وما عنده مجد تليد ولا له ... من الريح فضل لا الجنوب ولا
الصبا
(3) في (ط): وهي.
(1/205)
كما لم يوصل حرف الروي إذا كان ساكنا،
ولكان إذا وصل بحرف لين وجب أن يكسر كما كسر:
فاغن وازددي «1».
وهذا مثل «2» المدّ في نحو آمين ولزم في لغة الأكثر في الوصل
لخفاء الهاء.
وقول الشاعر:
أجرّه الرّمح ولا تهاله «3» إن شئت جعلت الألف «4» الردف فيه
كالألف في:
منتزاح «5».
وإن شئت قلت: ردّ الألف المنقلبة من العين وجعل حركة التقاء
الساكنين بمنزلة الحركة اللازمة.
فأمّا حذفهم له في الوقف فليس بدليل قاطع على زيادة هذه
الحروف، لأنّهم قد حذفوا في الوقف الواو في: ضربكم، وهذا لهم،
والياء في عليهم، مع أنّها من نفس الكلمة، وليست
__________
(1) إشارة إلى بيت طرفة في المعلقة، ديوانه ص 29
متى تأتني أصبحك كأسا روية ... وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد
واستشهد به سيبويه في الكتاب: 2/ 303 وفيه: تأتنا نصبحك،
وغانيا، مكان ذا غنى.
(2) وفي (ط): وهذا من.
(3) سبق هذا البيت في ص/ 66.
(4) في (ط): إن شئت جعلت ألف الردف.
(5) إشارة إلى البيت:
وأنت من الغوائل حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
انظر ص/ 81 فيما سبق.
(1/206)
بزيادة بدلالة أن المؤنّث الذي بحذائه ليس
«1» النون الثانية فيه بزيادة ولكن إنّما حذفتا في الوقف،
لأنّهما حرفا علّة قد حذفا في الوصل في: عليه ومنه ونحو ذلك
«2».
والوقف موضع قد يحذف منه «3» ما يثبت في الوصل، نحو:
الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ [الرعد/ 9] وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
[الفجر/ 3] فلمّا حذف فيه ما يثبت في الوصل وهو من أصل الكلمة
وجب أن يلزم الحذف فيه ما قد استمرّ فيه الحذف في الوصل،
لاختصاص الوقف بالتغيير، فجعل تغييره الحذف، كما ألزم الأكثر
تاء التأنيث في النداء الحذف إذ كان موضعا قد يحذف فيه ما لا
يتغيّر، نحو آخر، وحارث، ومالك، وعامر. فلمّا حذف فيه هذا الذي
لا يتغيّر ألزم الحذف فيه ما يتغيّر وهو التاء في طلحة، وسلمة
ونحو ذلك.
الحجّة لمن كسر الهاء من «4» (فِيهِ هُدىً) ولم يلحقها الياء
فيقول: فيهي هدى [البقرة/ 2]
. أمّا كسر الهاء مع أنّ أصلها الضم فمن أجل الياء أو الكسرة
اللّتين تقعان قبلها، والهاء تشبه الألف لموافقتها لها في
المخرج من الحلق، ولما فيها من الخفاء، فكما نحوا بالألف نحو
الياء بالإمالة من أجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء
للكسرة والياء، وذلك حسن ليتجانس الصوتان ويتشاكلا، ألا تراهم
كيف اتفقوا في اصطبر وازدجر وازدان على الإبدال من تاء
__________
(1) في (ط): ليست.
(2) في (ط): ونحوه.
(3) في (ط): فيه.
(4) في (ط): في.
(1/207)
الافتعال حرفا مجانسا لما قبله من الحروف
في الإطباق والجهر، فبحسب اتفاقهم في هذا الموضع على ما ذكرت
لك طلبا لتشاكل الحروف يحسن الكسر في الهاء في: (فيه هدى).
والهاء وإن كانت متحركة والألف ساكنة فقد رأيتهم أجروها متحركة
مجرى الألف والياء والواو إذا كنّ سواكن في القوافي في نحو:
خليلها، ومرامها. وقد تقدم ذكر كثير من ذلك في فاتحة الكتاب.
وأمّا ترك إتباع الهاء الياء في: (فيه هدى). وما أشبهه في
الوصل فلكراهة اجتماع حروف فيه «1» متقاربة، وقد كرهوا من
اجتماع المتقاربة ما كرهوا من اجتماع الأمثال، ألا ترى أنّهم
يدغمون المتقاربة كما يدغمون الأمثال فالقبيلان من الأمثال
والمتقاربة إذا اجتمعت خفّفت تارة بالإدغام، وتارة بالقلب،
وتارة بالحذف.
فما خفّف بالإدغام فنحو ردّ وودّ في وتد.
وما خفّف بالقلب فنحو: تقضيت وتقصيت «2» [ونحو:
ظلت ومست] «3» ونحو:
لا أملاه حتى يفارقا «4»
__________
(1) كذا في (ط)، وفي (م): منه.
(2) في (ط) تقصيت وتقضيت.
(3) بفتح أول الفعلين تخفيف: ظللت ومسست.
(4) إشارة إلى شطر بيت ذكره البغدادي في شرح شواهد الشافية
وهو:
فآليت لا أشريه حتى يملني ... بشيء ولا أملاه حتى يفارقا
على أن أصله لا أمله بتشديد اللام، من مللت الشيء بالكسر ومللت
منه مللا وملالة وملة بفتح الميم إذا سئمته، انظر شواهد
الشافية 4/ 441، وأمالي ابن الشجري 1/ 389 والمخصص/ 209.
(1/208)
ونحو: طست وستّ «1» وما خفف بالحذف فنحو
قوله: «2» اسطاع، واستخذ فلان مالا- فيمن قدره استفعل من تخذت-
واستحيت، وعل ماء بنو فلان، وتقيت تتقي، وما أشبه ذلك.
وجهة التشابه في هذه الحروف أن الهاء من الحلق، والألف منه
أيضا، والياء قريبة من الألف وموافقة لها في اللين، فمن ثمّ
أبدلت من الياء في هذي فقالوا: هذه، فلمّا اجتمعت هذه الحروف
المتقاربة خففوا بالحذف كما خفّف غيرها فيما «3» أريتك بالحذف.
وممّا يحسّن الحذف هاهنا- مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن
الهاء حرف خفيّ، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأن
الساكنين قد التقيا، لخفاء الهاء وأنّهم لم يعتدّوا بها للخفاء
في مواضع، ألا ترى أنّ من قال: ردّ فأتبع الضمّة الضمّة إذا
وصل الفعل بضمير المؤنّث قال: ردّها، فلم يتبع الضمّ الضمّ كما
كان يتبع قبل، وجعله بمنزلة ردّا، فكما لم يعتدّ بها هاهنا
وجعلت الدال في حكم الملازقة «4» للألف كذلك إذا لم يعتدّ بها
في نحو: فيهي، وعصاهو، وخذوهو، صار كأن الساكنين قد التقيا.
ولهذا حذف حرف اللين بعد الهاء من حذف من العرب، وإن كان
الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: منه.
__________
(1) كذا في (ط). وفي (م): ومست. قال في اللسان (ستت): ستّ:
والأصل سدسة، فأدغموا الدال في السين فصارت تاء مشددة.
(2) سقطت «قوله» من (ط).
(3) في (ط): مما.
(4) لزق كلصق ولسق انظر اللسان (لزق).
(1/209)
ويذهب سيبويه إلى أنّ الإتمام في نحو:
منهو، أجود من الحذف، وأن الحذف إذا كان قبل الهاء حرف اللين
أحسن.
ولمن لم يتبع الهاء الياء ولا الواو في نحو: منه وعنه- وهو
قراءة نافع إلّا فيما روي عنه من قوله: وأشركهو في أمري [طه/
32]- أن يحتجّ في حذف حرف اللين بعد الهاء، وإن لم يكن قبلها
حرف اللين، «1» بترك اعتدادهم بها في ردّها، وبقولهم: يريد أن
تضربها «2» فيقول: كما لم يعتدّوا بها في هذه المواضع كذلك لا
أعتدّ بها في: منه، فإذا أتبعت الهاء حرف اللين في: منه، فكأني
قد جمعت بين ساكنين، لأنّ الهاء غير معتدّ بها عندهم حيث
أريتك.
ومثل الهاء، في أنّه لمّا كان حرفا خفيا لم يعتدّوا به حاجزا،
النون وذلك في قولهم: هو ابن عمي دنيا «3» وفي قنية «4» لمّا
كانت النون خفيّة صارت الواو كأنّها وليت الكسرة فقلبتها، كما
قلبتها في غازية ومحنية، «5» ولو كان مكان النون حرف غيره لم
يكن فيما بعده القلب، نحو: جرو وعدوه، فهذا مثل الهاء في أنّه
للخفاء لم يعتدّ به حاجزا، كما لم يعتدّ بالهاء.
__________
(1) في (ط): حرف لين.
(2) أي بالإمالة مع الفصل بين الكسرة والهاء الممدودة بالياء.
(3) يقال هو ابن عمي أو خالي أو نحوه دنيا بالضم، ودنية ودنيا
بالكسر وتنوين الألف ومنعها، أي ابن عمي لحّا، وأصل الكلمة
الواو من الدنو.
(4) القنية بالكسر ما اكتسبه المرء، جرى أبو علي على أنها
واوية من قنوت الشيء: كسبته، وذهب غيره إلى أنّها من قني يقنى
كرضي يرضى ورمى يرمي، فهي يائية وجرى على ذلك في القاموس.
(5) محنية الوادي بكسر النون: منعرجه.
(1/210)
الحجة لابن كثير في
اتباعه هذه الهاء في الوصل الواو أو الياء وتسويته بين حروف
اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل الهاء
من حجّته أن الهاء وإن كانت خفيّة فليس يخرجها ذلك من أن تكون
كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها- نحو الراء والضاد-
وأنّ الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء
والضاد- وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا «1»
كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا
خفاء فيها.
وأمّا اجتماع الحروف المتشابهة فلم يكرهها في هذا الموضع، كما
لم يكره اجتماعها في غيره، ألا ترى أن كثيرا «2» قد قالوا:
استطاع. فأتمّوا ولم يحذفوا منه شيئا، وفي التنزيل:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران/ 97]، وقالوا
جميعا:
استدار واستثار فلم يحذفوا، وقالوا: سدس وعتد «3» وعتدان، ووطد
يطد. والهاء وإن كانت جرت متحرّكة في القوافي مجرى غيرها ساكنا
«4» في نحو: خليلها، فقد جرت في القوافي أيضا مجرى غيرها من
الحروف متحرّكة وساكنة. فالمتحركة نحو قوله:
................ .. ... سود قوادمها صهب خوافيها
«5»
__________
(1) في (ط): فإذا.
(2) في (ط): أن كثيرا منهم.
(3) عتد على وزن رسل جمع رسول، وعتدان جمع عتود على وزن: قعود
وهو الحولي من أولاد المعز.
(4) في (ط): ساكنة.
(5) عجز بيت من قصيدة، ذكر القالي في الذيل أن أبا عبيدة صحح
روايتها
(1/211)
فهي حرف الرويّ، كالكاف في: جواريكا.
والساكنة نحو قوله:
وبكّي النساء على حمزة «1»
................ .. ... وتقول سعدى وا رزيّتيه
«2» فهي هاهنا كالياء والواو والألف.
وأما الإدغام في (فيه هدى) فلم يذكره أبو بكر أحمد بن موسى عن
أحد منهم في هذا الموضع من كتابه فنقول فيه. وما ذكره محمد بن
السريّ في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنّه كان يشمّ
ويدغم- من «3» أنّ ذلك محال لا يمكن- فإنّ الإشمام لا يمتنع مع
الإدغام، وذلك أنّ الإشمام عند النحويين ليس بصوت فيفصل بين
المدغم والمدغم فيه، وإنّما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت الذي
هو الضم ليدلّ عليه، وليس بخارج إلى اللفظ، كما أن تبقية
الإطباق مع الإدغام كما ذكرنا
__________
لعليل بن الحجاج الهجيمي، أولها:
أمّا القطاة فإنّي سوف أنعتها ... نعتا يوافق نعتي بعض ما فيها
سكّاء مخطومة في ريشها طرق ... سود قوادمها صفر خوافيها
سكاء: لا أذن لها، ومخطومة: بيضاء الأنف، في ريشها طرق
بفتحتين، أي: بعضها على بعض في لين. وانظر القصيدة في نوادر
القالي 1/ 209.
(1) تقدم هذا الشاهد ص/ 73.
(2) عجز بيت لعبيد الله بن قيس الرقيات من قصيدة يرثي بها قوما
من قريش قتلوا بالمدينة يوم الحرة، وتمامه:
تبكيهم أسماء معولة ... وتقول سلمى وا رزيّتيه
وانظر الكتاب: 1/ 321، وفيه: دهماء مكان أسماء.
(3) في (ط): في أن.
(1/212)
في الضمّ، وإذا كان كذلك لم يمتنع مع
الإدغام كما لم يمتنع تبقية الإطباق معه، ألا ترى أنّه لا
يمتنع أن يدغم ويهيّئ العضو «1» لإخراج الضمة إلى اللفظ فلا
يخرجها كما لم يمتنع ذلك في الوقف إذا قلت: هذا معن «2» وعلى
هذا قرءوا:
ما لَكَ لا تَأْمَنَّا «3» [يوسف/ 11] فأشمّوا النون المدغمة،
لأنّها كانت مرفوعة ليدلّوا بالإشمام على الرّفعة التي كانت في
الحرف، كما دلّوا بإبقاء الإطباق على أنّ الحرف المدغم كان
مطبقا. ولو كان مكان الإشمام روم الحركة لامتنع الرّوم «4» مع
الإدغام، لأنّه صوت يحجز، ألا ترى أنّهم يزعمون أنّه يفصل بروم
الحركة بين خطاب المذكر والمؤنث، نحو: ضربتك وضربتك فهذا لا
يمكن الإدغام معه، لأنّ هذا الصوت يفصل وإن كان مخفى غير مشبع،
كما تفصل الحركة المشبعة الممطّطة.
ولعلّ أبا بكر ظنّ أنّ القرّاء ليس يعنون بالإشمام ما يعني به
النحويون في أنّه تهيئة العضو للصوت وهمّ به، وليس بخروج إلى
اللفظ. والذي أحسب أنّه من أجله ظنّ ذلك حكايته عن أبي حاتم
أنّه أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشمّا الضمّ والكسر،
والإشمام إنّما يكون عند النحويين في الضمّ، فأمّا الكسر فلا
إشمام فيه. وذلك أنّ الإشمام إنّما هو
__________
(1) في: (ط) أن يدغم ويهيأ بالبناء للمجهول.
(2) كتب في (م) فوق (معن) ضمة إشارة إلى الإشمام.
(3) كتب في (م) فوق (تأمنا) فتحة وضمة على الميم إشارة إلى
إشمام الضم.
(4) انظر سيبويه 2/ 281، 282 والنشر 1/ 296 للوقوف على معنى
الروم.
(1/213)
تحريك الشفتين يراه البصير دون الأعمى،
فيستدلّ بذلك على إرادة الفاعل لذلك الضمّ، «1» وليس هذا في
الكسر، لأنّه لا فائدة فيه لبصير ولا لأعمى من حيث لا يظهر
للرائي، فلمّا رأى أبا حاتم حكى ذلك في الجرّ كما حكاه في
الضمّ، قدّر أنّهم يعنون به الحركة دون ما يعني به «2»
النحويّون ممّا ذكرنا.
[البقرة: 3]
اختلفوا في الهمز «3» من قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ [البقرة/ 3].
فكان «4» ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي
يهمزون (يؤمنون) وما أشبه ذلك؛ مثل: (يأكلون) و (يأمرون) و
(يؤتون) «5». ساكنة الهمزة كانت «6» أو متحركة، مثل (يؤخّره)
«7» و (يؤدّه). إلا أنّ حمزة كان يستحب ترك الهمز في كل القرآن
إذا أراد أن يقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز الساكن في مثل:
(يؤمنون) وما أشبهه وكذلك المتحرك مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران/
75] وَيُؤَخِّرْكُمْ [نوح/ 4] ولا يُؤاخِذُكُمُ [البقرة/ 225]
وما كان مثله.
وأمّا أبو عمرو فكان إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم
يهمز كلّ همزة ساكنة مثل: (يؤمنون) و (يؤمن) و (يأخذون) وما
أشبه ذلك.
__________
(1) في (ط): إرادة الفاعل الضم.
(2) به ساقطة من (ط).
(3) في (ط): الهمزة.
(4) في (ط): كان.
(5) في البقرة/ 174 وآل عمران/ 21 والمائدة/ 55.
(6) في (ط): ساكنة كانت الهمزة.
(7) في (ط): يؤخركم.
(1/214)
وقال أبو شعيب السوسي «1» عن اليزيدي عن
أبي عمرو:
إنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة إلّا أنه
كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها، أذكرها إذا مررت بها، إن
شاء الله.
فإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها، مثل: ننسأها
[البقرة/ 106] وتَسُؤْكُمْ [المائدة/ 101] وهيئ لنا [الكهف/
10] ويهيئ لكم [الكهف/ 16] واقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء/ 14]
وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ [الأنعام/ 39] وأَنْبِئْهُمْ
[البقرة/ 33] وما أشبه ذلك.
وروى الشمونيّ محمد بن حبيب «2» عن الأعشى «3» عن أبي بكر «4»
عن عاصم أنّه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة، مثل (يؤمنون) وما
أشبهه.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدثنا محمد بن عيسى بن
__________
(1) هو صالح بن زياد السوسي، مقرئ ضابط ثقة، وكان من أجل أصحاب
أبي محمد اليزيدي، وأخذ عنه القراءة عرضا وسماعا، توفي 261،
انظر طبقات القراء: 1/ 332.
(2) محمد بن حبيب أبو جعفر الشموني مقرئ كوفي ضابط، أخذ
القراءة عرضا عن أبي يوسف الأعشى، وكان أجل أصحابه، قال عبد
الله بن محمد الزعفراني: قرأت عليه سنة أربعين ومائتين. انظر
طبقات القراء:
2/ 114.
(3) هو يعقوب بن محمد التميمي الكوفي أخذ القراءة عرضا عن أبي
بكر شعبة، وتوفي في حدود المائتين، انظر طبقات القراء: 2/ 390.
(4) هو أبو بكر شعبة بن عياش تقدمت ترجمته ص 177.
(1/215)
حيّان المقرئ «1» قال: حدثنا أبو هشام «2»
قال: سمعت أبا يوسف الأعشى يقرأ على أبي بكر فهمز (يؤمنون).
قال ابن مجاهد «3»: وحدثني محمد بن عيسى بن حيّان المقرئ قال:
حدثنا أبو هشام عن سليم «4» عن حمزة أنّه كان إذا قرأ في
الصلاة لم يكن يهمز.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابيّ «5»
قال: حدّثنا منجاب بن الحارث «6» قال: حدثنا شريك بن عبد الله
«7» قال: كان عاصم صاحب همز ومدّ وقراءة شديدة «8».
__________
(1) هو أبو جعفر البغدادي محمد بن عيسى بن حيان، مقرئ متصدر
مشهور، أخذ القراءة عن أبي هشام الرفاعي، وروى عنه ابن مجاهد،
وانظر طبقات القراء: 2/ 224.
(2) هو أبو هشام محمد بن يزيد بن رفاعة الكوفي القاضي، إمام
مشهور، روى عن الكسائي كل الحروف، وله كتاب الجامع في
القراءات، كما روى عنه مسلم في صحيحه، والترمذي وابن ماجة،
وتوفي سنة 248. انظر طبقات القراء: 2/ 280.
(3) سقطت عبارة «ابن مجاهد» من (ط).
(4) هو سليم بن عيسى بن سليم، مقرئ ضابط محرر حاذق، كان أخص
أصحاب حمزة الزيات وأضبطهم لقراءته، وتوفي سنة 188 هـ، انظر
طبقات القراء: 1/ 318.
(5) من شيوخ ابن مجاهد، ولم يذكره ابن الجزري في الطبقات.
(6) هو أبو محمد الكوفي، من رجال الحديث وثقه ابن حيان. وكانت
وفاته سنة 231. وانظر الخلاصة: 341.
(7) هو أبو عبد الله الكوفي، قاضي الكوفة والأهواز من الثقات
في الحديث.
ومات سنة 140 هـ.
(8) السبعة 130 - 133 مع اختصار للنقل في القسم الأخير منه.
(1/216)
قال أبو زيد: الأمون: الناقة القويّة
الظهيرة «1». والأمانة:
خلاف الخيانة، والأمن خلاف الخوف. قال أحمد بن يحيى:
أمن فهو أمين، فهذا بمنزلة ظرف فهو ظريف. وقالوا: أمنته فهو
أمين، فهذا فعيل بمعنى مفعول، فتقول من هذا: امرأة أمين، ومن
الأول: أمينة مثل ظريفة، وقال الشاعر:
وكنت أمينه لو لم تخنه ... ولكن لا أمانة لليماني
«2» فهذا كأنّه المأمون، أي: أمنك فخنت. «3» وقول حسان:
وأمين حدثته سرّ نفسي ... فوعاه حفظ الأمين الأمينا
«4» قال بعضهم: كأنّه قال: حفظ المؤتمن المؤتمن: وقالوا أمّان
في معنى الأمين، قال الأعشى:
ولقد شهدت التاجر ال ... أمّان مورودا شرابه
«5» فأمين وأمّان ككريم وكرّام ومثله حسّان وحسّانة ورجل
قرّاء. «6». وأنشد غيره:
وعنس أمون قد تعلّلت جهدها ... على صفة أو لم يصف لي واصف
«7»
__________
(1) في (ط): القوية الظهر، والمعنى واحد.
(2) للنابغة في الديوان/ 150 من قصيدة يهجو بها يزيد بن عمرو
بن خويلد.
(3) في (ط): فخنته.
(4) انظر الديوان: 1/ 237.
(5) التاجر الأمان على وزن رمان هو الأمين، وذكر في اللسان هذا
البيت في مادة «أمن». وانظر الديوان/ 289.
(6) جاء في (ط) بعد كلمة قراء قوله: «قال أبو زيد: الأمون:
الناقة القوية الظهر» وهي مكررة آنفا.
(7) العنس: الناقة الصلبة. وروي الشطر الثاني في مجالس ثعلب:
380
(1/217)
فأمون يمكن أن يكون من الذي هو خلاف الخوف،
كأنّه يؤمن عثارها في سيرها، أو يؤمن كلالها وونيّها فيه.
ويكون أمون في معنى مأمون، أي غير مخوف، كقولهم: طريق ركوب، أي
يركب، وحلوب وقتوب أي: تحلب وتركب وتقتب.
ويكون أمون مثل أمين: لأنّك قد تقول: خانت في سيرها: إذا قصّرت
عمّا أراد منها راكبها في المسير.
وقال- جل من قائل-: «1» لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال/ 27]، فيجوز أن يكون لا
تخونوا ذوي أماناتكم وهو أشبه بما قبله، وذوو الأمانة نحو
المودع والمعير والموكّل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا
يد ضمان.
ومن هذا الباب الكافر الموادع، قال تعالى: «2» وَإِمَّا
تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى
سَواءٍ [الأنفال/ 58].
ويجوز أن تكون الأمانات لا يراد معها حذف المضاف، لأنّ خنت من
باب أعطيت يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يقتصر على أحدهما.
فإذا قدّرت حذف المضاف كان بمنزلة أعطيت زيدا، وإذا لم تقدّره
كان بمنزلة أعطيت درهما. وعلى هذا قول كثير «3»:
فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين
__________
والبيت لأوس بن حجر في ديوانه/ 64.
(1) في (ط): وقال الله تعالى.
(2) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(3) البيت في الأغاني 5/ 89 لكثير.
(1/218)
ويدلّك على تعدّي خنت إلى مفعولين قول أوس:
خانتك ميّة ما علمت كما ... خان الإخاء خليله لبد
«1» وأنشد أبو زيد:
فقال مجيبا والّذي حجّ حاتم ... أخونك عهدا إنني غير خوّان
«2» والعهد كأنّه الأمانة، فأخونك «3» عهدا كقولك: أخونك
أمانة. وقال أبو ذؤيب:
فسوف تقول إن هي لم تجدني ... أخان العهد أم أثم الحليف
«4» ومما يدلّك «5» على تقارب الكلمتين استعمالهم إياهما في
القسم، نحو: عهد الله وأمانة الله. وتقول: أمنت الرجل: إذا لم
تخفه، آمنه قال: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما
أَمِنْتُكُمْ
عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
[يوسف/ 64]. وأمنته وائتمنته إذا لم تخش خيانته. قال- عز وجل
«6» -: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة/ 283]. فهذا كقوله تعالى: «7»
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى
أَهْلِها [النساء/ 58].
قال أبو عبيدة: «8» وقالوا في مصدره: الأمن والأمنة
__________
(1) انظر الأساس (خون) والديوان/ 22.
(2) من ثلاثة أبيات للعريان بن سهلة. انظر النوادر/ 65.
(3) في (ط): وأخونك.
(4) من قصيدة له في ديوان الهذليين: 1/ 98 وشرحه 1/ 184.
(5) في (ط): ومما يدل.
(6) في (ط): قال، فقط.
(7) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(8) انظر مجاز القرآن له 1/ 242.
(1/219)
والأمان. وفي التنزيل: إِذْ يُغَشِّيكُمُ
النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال/ 11] «1». وقال أيضا:
أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران/ 154].
وقولهم: آمن زيد يحتمل غير وجه: يجوز أن يكون أمنته فآمن، فجاء
المطاوع على أفعل، كقولك: «2» كببته فأكبّ، وفي التنزيل:
فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل/ 90]، وفيه:
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ [الملك/ 22].
وقال:
كما أكبّ على ساعديه النّمر «3» ومما يدلّك على ذلك تعدّيه «4»
بالحرف.
وقال أبو عثمان: أجفل الغيم إذا انقلع، وجفلته الريح، ولا
يقال: أجفلته. ويجوز في آمن أن يكون المعنى: صار ذا أمن، مثل:
أجرب وأقطف وأعاه، أي: صار ذا عاهة في ماله، فكذلك «5» آمن صار
ذا أمن في ماله ونفسه بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي صار
ذا سلم بذلك، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والنفس. فهذا
كأنّه الأصل في اللغة ثم صار المؤمن والمسلم من أسماء المدح في
الشرع. وسوّت الشريعة بين التسمية بالمؤمن والمسلم لقوله:
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما
وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) في الآية 11 من سورة الأنفال. ويغشاكم قراءة ابن كثير وأبي
عمرو. انظر الإتحاف: 142.
(2) في (ط): كقوله.
(3) عجز بيت لامرئ القيس تقدم في ص (124).
(4) في (ط): تعديته.
(5) كذا في (ط). وفي (م): «فلذلك».
(1/220)
[الذاريات/ 35، 36].
وقال أبو زيد: قالوا: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، أي: ما
وثقت أن أجد صحابة، والإيمان: الثقة.
وقال أبو الصقر: «1» ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، معناه: ما
كدت أجد صحابة.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ
لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة/ 61]، أي: يصدّقهم، كما تقول: أما
تؤمن لي بأن أقول كذا وكذا، أي أما تصدقني؟.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: رجل أمنة: إذا كان يثق بكل ما سمعه.
«2»
قال أبو علي: فثقته بما يسمعه إنّما هو لأمنه الكذب في
المستمع، وإذا «3» أمن كذبه فقد صدّقه. فيجوز «4» في آمن أن
يكون مما حكيناه عن أبي زيد وغيره من معنى الثقة والتصديق.
فأما قولهم: رجل أمنة، فوصف «5» بالمصدر. وحكي رجل أمنة. فهذا:
وصف مثل هزأة ونكحة. وقال: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ [النساء/ 162]، فهذا من أجل قوله:
__________
(1) الظاهر أنه أبو الصقر الكفرتوني مقرئ دمشق الذي أخذ
القراءة عن علي بن عبد الله الأزدي وإبراهيم بن حميد الكلابزي،
أخذ الأخير القراءة عن أبي حاتم السجستاني، واسم أبي الصقر
المذكور
رحمة بن محمد بن أحمد، وانظر ترجمته في طبقات القراء: 1/ 283.
(2) في (ط): بكل من يسمعه.
(3) في (ط): فإذا.
(4) في (ط): وقد يجوز.
(5) في (ط): فوصف وصف.
(1/221)
مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة/ 41].
فأمّا قوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ [الحجرات/ 14]، فنفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم
الإسلام، فلأنّ الإيمان على التصديق والثقة. وكأنّ المعنى:
أنّهم، وإن صاروا ذوي سلم وخرجوا من أن يكونوا حربا بإظهار
الشهادتين، فإنّهم لم يصدّقوا ولم يثقوا بما دخلوا فيه، فلم
يطابق اعتقاداتهم ما أظهروه من الشهادتين، ولم يوافقه.
فهذا في المعنى مثل قوله: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا
بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة/ 41].
وإيمان المنافقين من هذا الضرب لإظهارهم بألسنتهم ما أمنوا به
على دمائهم وأموالهم، والباطن منهم خلاف الظاهر. ولذلك قرأ من
قرأ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً «1» [المنافقون/ 2]،
فهؤلاء وإن كانوا قد أظهروا الإسلام، وجرت عليهم أحكامه،
فليسوا مسلمين مخلصين، ولا واثقين بما دخلوا فيه، كمن وصف في
قوله: «2» الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ [الرعد/ 28].
فأمّا جمع من جمع بين هذه الآية وبين الأخرى وهي قوله:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال/ 2] وقوله: إنّهما متدافعتان-
لأنّ الوجل خلاف
__________
(1) قال في البحر 8/ 271: قرأ الجمهور: أيمانهم بفتح الهمزة
جمع يمين.
والحسن بكسرها مصدر «آمن».
(2) في (ط). قوله تعالى.
(1/222)
الطمأنينة- فجهل وذهاب عمّا عليه الآيتان
وما أريد بهما، وذلك أنّ الاطمئنان إنّما يكون عن ثلج القلب
وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم به وما يتبع ذلك من الدرجة
الرفيعة والثواب الجزيل. والوجل إنّما يكون عند خوف الزيغ
والذهاب عن الهدى وما يستحق به الوعيد فتوجل القلوب لذلك. فكلّ
واحد من الحالين غير صاحبتها، فليس هنا «1» إذا تضادّ ولا
تدافع.
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين قد اجتمعا في آية
واحدة، وهي قوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ
يَشاءُ [الزمر/ 23]، لأنّ هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم
ووثقوا به، فانتفى عنهم الشكّ، والارتياب الذي يعرض لمن كان
خلافهم ممن أظهر الإسلام تعوّذا، فحصل له حكمه دون العلم
الموجب لثلج الصدر «2» وانتفاء الريب والشكّ.
وقال: «3» الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ
[الزخرف/ 69] كأنّه: صدّقوا ووثقوا، ثم قال: وَكانُوا
مُسْلِمِينَ؛ لأنّ بعض من يعلم صدق ما أتى به النبي صلّى الله
عليه وسلّم «4» لم يدخلوا في دينه وسلمه: كاليهود الذين علموا
صدقه وجحدوه، وكفروا بما أتى به، قال: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ [البقرة/ 89] وقال: إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى
[البقرة/ 159]
__________
(1) كذا في (ط)، وفي الأصل هما، وهو تحريف.
(2) في (ط): الصدور.
(3) في (ط): وقال تعالى.
(4) في (ط): النبي عليه السلام.
(1/223)
فهؤلاء وإن كانوا قد علموا واستيقنوا فقد
دخلوا في جملة من ذمّ بقوله: وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل/
14]. وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي
السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة/ 208] وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ
اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات/ 17]. فهذا يدلّ على أنّ الإيمان
من الأمن، أي هداكم لما تحرزون به أنفسكم وأموالكم في العاجلة،
ولا تخسرون معه أنفسكم وأهليكم في الآجلة.
ويجوز أن يكون هداكم للصدق وإن كان قد قال: إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ ألا ترى أنّه ليس كل من هدي إلى الصدق يصدّق
كالمعاند الجاحد لما عرف؟.
وقال بعض المتأوّلين في قوله في صفة التابوت: إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة/ 248] معنى
مؤمنين:
مصدّقين لي، «1» وذلك أنّه لا يخلو من أن يراد به: أهل الإيمان
بالله، أو يراد به: إن كنتم مصدقين «2» لي. فلا يجوز الأول
لكفرهم بالله في تكذيبهم نبيهم لقوله: أَنَّى
يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
[البقرة/ 247]، فأنكروا أن يملّكوا من ملّكه نبيّهم قال: فإذا
لم يجز هذا الوجه ثبت الوجه الآخر الذي هو التصديق به.
وأمّا قوله: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا
وَهُمْ مُشْرِكُونَ
__________
(1) في (ط): مؤمنين مصدقين، وحذف الكلمتين: (معنى) و (لي).
(2) سقطت (لي) في (ط).
(1/224)
[يوسف:/ 106] فليس المؤمن هنا المطابق
معتقده ما يظهره باللسان، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم
الإيمان بألسنتهم مشركون. وقد يطلق على المظهر ذلك بلسانه اسم
مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، ولكن الاسم الجاري على
الفعل. وعلى هذا قوله: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة/ 10] ألا ترى
أن هذا على ما يظهرنه بألسنتهن من الشهادتين.
ومثل قوله: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا
وَهُمْ مُشْرِكُونَ قوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَها [النحل/ 83] ومثله:
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ
[الأنعام/ 82] في قول من ذهب إلى أنّ الشرك الظلم، واحتجّ
بقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان/ 13]. والمعنى
فيهما: أنّهم إذا سئلوا: من خلقهم، قالوا: الله. ثم يجعلون له
شريكا. وقال السدّيّ «1» في قوله: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء/ 46]:
القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حقّ، والنار حقّ. فهذا قليل
من إيمانهم، والقليل ليس بشيء.
فهذا مثل ما تقدّم من أنّه عبارة عن الفعل وليس بمدح كقوله:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا
كَبِيراً [الأحزاب/ 47]، فقليلا على قول السّدّيّ وصف مصدر
محذوف تقديره: فلا يؤمنون إلّا إيمانا قليلا. وهذا أوجه من أن
__________
(1) هو إسماعيل بن عبد الرحمن مولى قريش. والسدى نسبة إلى سدة
مسجد الكوفة لبيعه المقانع فيها. مستقيم الحديث صدوق. توفي سنة
127.
الخلاصة: 30، والقاموس (سد).
(1/225)
يحمل القليل على أنّهم ناس، لأن (قليلا)
مفرد، وفي التنزيل:
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء/ 54] إلّا
أنّه قد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كفعول، نحو قوله:
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء/ 69] وقال: وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج/ 10] فدلّ عود
الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنّه أريد بهما الكثرة، وقال
رؤبة «1»:
دعها فما النحويّ من صديقها فإن جعلت القليل ناسا، وجب ألا
يكونوا دخلوا في اللعن، فيكون: إلّا قليلا، استثناء من قوله:
لَعَنَهُمُ اللَّهُ ...
إِلَّا قَلِيلًا [النساء/ 46].
ويجوز أن يكون الاستثناء من قوله: فَلا يُؤْمِنُونَ، ويكون
قوله: لَعَنَهُمُ اللَّهُ واقعا على الكفار منهم دون
المستثنين.
وما قاله السدّي هو القول: لأنّه قد قال: «2» فَقَلِيلًا ما
يُؤْمِنُونَ، وما زائدة، فالمعنى: «3» يؤمنون قليلا، أي إيمانا
قليلا.
وأمّا قوله: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا
صادِقِينَ [يوسف/ 17] فليس المعنى على: ما أنت بمصدّق لنا ولو
كنا
__________
(1) وهو في القسم المنسوب إليه في ديوانه 181 وقبله:
تنح للعجوز عن طريقها ... قد أقبلت رائحة من سوقها
والمراد بالعجوز والدة رؤبة أو امرأة من العرب، وقيل في الشاهد
غير ذلك. انظر شواهد الشافية: 138. وشأن الدعاء للخطابي ص/
149.
(2) في (ط): لأنه قال.
(3) في (ط): والمعنى.
(1/226)
صادقين عندك، لأنّ الأنبياء لا تكذّب
الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في
قولنا، ولو كنّا على الحقيقة صادقين عندك لما خلونا من ظنّة
منك وتهمة «1» لك أنّا قد «2» كذبناك، لفرط محبّتك ليوسف
وإشفاقك عليه. وهذا المعنى متعالم في استعمال الناس. فمؤمن هنا
من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة، فنفى ذلك، أي: لا تثق
بأن الأمر كما تخبر ولا تسكن نفسك إليه.
وأمّا قوله: فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ [يونس/ 88] «3» فإنّ قوله: لا يؤمنوا في موضع نصب
بالعطف على قوله: ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. ولم يعطوا
الأموال ليضلوا ويكفروا ولكن لمّا اختاروا ذلك فصار إليه عاقبة
أمرهم كان بمنزلة قوله تعالى: «4» فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص/ 8]،
لمّا أدى التقاطهم
إيّاه إلى ذلك، وإن كان الالتقاط لغيره.
وأمّا قوله: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا
يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ [آل عمران/
119]، ففي قوله: تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ «5» إنباء عن
كون المؤمنين على خلاف صفة من ذكر في
__________
(1) في (ط): من ظنة منك في تهمة لك.
(2) في (ط): بأنا.
(3) في الآية 88 من سورة يونس: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ
الْأَلِيمَ.
(4) سقطت لفظ: تعالى، من (ط).
(5) سقطت من (ط) هذه الجملة: ففي قوله: «تؤمنون بالكتاب كله».
(1/227)
قوله: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ
وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء/ 150]، وفي قوله: الَّذِينَ
جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر/ 91].
وأمّا قولنا في وصف «1» القديم سبحانه: «المؤمن المهيمن» فإنّه
يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون من «أمن» المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة
فتعدى إلى «2» مفعولين، فصار من «أمن» زيد العذاب وآمنته
العذاب، فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه. وفي هذه الصفة وصف
القديم سبحانه «3» بالعدل «4» كما قال: قائِماً بِالْقِسْطِ
«5» [آل عمران/ 18].
والآخر: أن يكون معناه المصدق، أي المصدق الموحدين له على
توحيدهم إياه، يدل على ذلك قوله:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران/ 18].
ألا ترى أنّ الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنّه مصدق من يشهد
له، فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدّق الموحدين.
فأمّا قوله «المهيمن» فقال أبو الحسن في قوله: وَمُهَيْمِناً
عَلَيْهِ [المائدة/ 48] إنّه الشاهد، وقد روي في التفسير أنه
الأمين.
__________
(1) في (ط): صفة.
(2) كذا في (ط): وفي الأصل: بإلى، وهو تحريف.
(3) في (ط): عز وجل.
(4) بالعدل، سقطت من (ط).
(5) وتمام الآية 18 من سورة آل عمران شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ
قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ.
(1/228)
حدثنا أحمد بن محمد البصري «1» قال: حدثنا
المؤمل «2» قال: حدثنا إسماعيل «3» عن أبي رجاء «4» قال سألت
الحسن «5» عن: «6» مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة/ 48] قال: مصدقا
بهذه الكتب وأمينا عليها.
والمعنيان متقاربان، ألا ترى أن الشاهد أمين فيما يشهد به؟
فهذا التأويل موافق لما جاء في التفسير من أنّه الأمين.
وإن جعلت الشاهد خلاف الغيبة كان بمنزلة قوله: لا يَخْفى عَلَى
اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر/ 16]، ولا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ [سبأ/ 3]،
__________
(1) يبدو أن هذا الحديث من رواية أبي الحسن الأخفش ومن تتمة
كلامه، كما يبدو أن كلامه متصل بعد ذلك إلى قول المؤلف: قال
أبو علي:
وليست الياء للتصغير إلخ. وأحمد بن محمد البصري الذي يروي عن
مؤمل هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الكندي كما في تهذيب الكمال ص
1396. طبعة دار المأمون للتراث.
(2) والمؤمل: هو مؤمل بن هشام اليشكري البصري أبو هشام ختن
إسماعيل بن علية، روى عن إسماعيل بن علية. وروى عنه البخاري
وأبو داود والنسائي. مات في ربيع الأول سنة 253 هـ. انظر تهذيب
الكمال ص 1396
(3) وإسماعيل، هو: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي، أسد
خزيمة مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن علية، وهي أمه-
مولاة بني أسد بن خزيمة أيضا، كان ثقة أمينا. قال أحمد: إليه
المنتهى في التثبت، توفي سنة 193، وانظر تهذيب الكمال: ص 95.
(4) وأبو رجاء، هو: محمد بن سيف الأزدي الحداني بضم المهملة
الأولى أبو رجاء البصري، روى عن الحسن وعكرمة وجماعة، ووثقه
ابن معين والنسائي وابن سعد، انظر تهذيب الكمال ص 1209.
(5) أي الحسن البصري وتقدمت ترجمته ص/ 33.
(6) كذا في (ط)، وسقطت: عن، من (م).
(1/229)
وقال: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ
[الأنبياء/ 78].
وقالوا: إنه مفيعل من الأمان، مثل مبيطر «1»، وأبدلت من الفاء
التي هي همزة الهاء كما أبدلت منها في غير هذا الموضع. وروى
اليزيدي أبو عبد الله عن أبي عبيدة قال: لا يوجد مثل «2» هذا
البناء إلا أربعة «3» أشياء: مبيطر ومصيطر ومبيقر «4» ومهيمن.
قال أبو علي: وليست الياء للتصغير، إنما هي التي لحقت فعل
وألحقته «5» بالأربعة، نحو دحرج وإن كان اللفظ قد وافق اللفظ.
وأما قولهم: الأمان فإنّه، وإن كان اسم حدث، وكان بزنة الجمال
والذّهاب والتّمام، فقد صار كأنّه لكثرته في الاستعمال خارجا
عن أحكام المصادر. ألا ترى أن قولهم: أعطيته أمانا، ولك الأمان
صار بمنزلة الكف والمتاركة، فكأنّه لما خرج بذلك عن بابه صار
بمنزلة قولهم: لله درّك. الذي زعم أنّه بمنزلة قولهم: لله
بلادك. فلذلك لا تكاد تجده معملا إعمال المصادر.
قال بعض المتأولين في قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
[البقرة/ 3]، أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا
__________
(1) المبيطر، كالبيطر والبيطار، معالج الدواب، وصنعته البيطرة.
(2) مثل ساقطة من (ط).
(3) في (ط): في أربعة.
(4) مبيقر: اسم فاعل من بيقر الفرس إذا صفن بيده، أي: وقف على
ثلاثة أرجل وحافر الرابعة، ويقال أيضا: بيقر الرجل: هاجر من
أرض، وخرج إلى حيث لا يدري، ونزل الحضر، وغير ذلك.
(5) في (ط): فألحقته.
(1/230)
كالمنافقين الذين يقولون: إِنَّا مَعَكُمْ
إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة/ 14]. ويقوي ما ذهب
إليه هذا المتأول قوله: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ [الأنبياء/ 49] وقوله: وَخَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ [يس/ 11] وقال الهذلي:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة ... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
«1» فالجار والمجرور في موضع حال، أي تحفظني غائبا، ويخشون
ربّهم غائبين عن مرآة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد،
ولا تقربا إليه رجاء المنالة «2»، ولكن يخلصون إيمانهم لله
تعالى «3».
ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن هذه الآية كأنّها إجمال ما فصل في
قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة/ 280] والموصوفون فيها خلاف من
وصف في قوله:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ
وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا
بَعِيداً [النساء/ 136]، فكفرهم بالملائكة ادعاؤهم إياهم بنات،
كما وبّخوا في قوله: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ
[الزخرف/ 16] وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ
عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف/ 19] وكفرهم بالكتب إنكارهم
__________
(1) البيت من قطعة لأبي ذؤيب الهذلي يخاطب فيها ابن أخته خالد
بن محرث الذي بعثه رسولا إلى صديقته فأفسدها عليه، انظر ديوان
الهذليين: 1/ 159 وشرحه للسكري 1/ 219. وقصة الأبيات في شرح
أبيات المغني 7/ 135.
(2) في (ط): رجاء لمنالة، والمنالة: النيل والعطاء.
(3) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(1/231)
لها في قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ
شَيْءٍ [الأنعام/ 91] وكفرهم بإرسال الرسل [إنكارهم] «1»
إرسالهم بنحو قوله: «2» وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً
مِثْلَكُمْ [المؤمنون/ 34] وقوله: «3» أَهذَا الَّذِي بَعَثَ
اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان/ 41]، وكفرهم بالآخرة قولهم: لا
تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي [سبأ/ 3]. فكل هذه
الأمور غيب قد أنكروه ودفعوه فلم يؤمنوا به ولم يستدلوا على
صحته، فقال تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة/
4] أي بهذه الأشياء التي كفر بها هؤلاء الذين ذكر كفرهم بها
عنهم وخصهم بالإيقان بالآخرة في قوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ [البقرة/ 4] وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما
كان من كفر المشركين بها «4» وجحدهم إياها في نحو ما حكى عنهم
من قولهم: «5» وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا [الجاثية/ 24] فكان في «6» تخصيصهم بذلك مدح
لهم.
ونظير ذلك في أنّه خصّ بعد ما عمّ قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق/ 1] فعم بقوله: «خلق» جميع
مخلوقاته ثم خص فقال خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق/
2] ويقرب من هذا قوله: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حيث أريد تخصيص
المسلمين بالكرامة في قوله: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً
[الأحزاب/ 43] فالباء على هذا الوجه ليست في موضع الحال كما
كانت كذلك في الوجه الأول، ولكنه في موضع نصب بأنه مفعول به،
«7» كما
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة في (ط).
(2) في (ط): قوله تعالى.
(3) في (ط): وقولهم.
(4) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(5) في (ط): في قوله.
(6) سقطت هذه الكلمة من (ط).
(7) به ساقطة من (ط).
(1/232)
أنها مفعول في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة/ 8] إِنِّي آمَنْتُ
بِرَبِّكُمْ [يس/ 25] والغيب: ما غاب عنك فلم تشهده. وقال:
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ «1». قال «2» أبو زيد: بدا «3»
غيّبان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت منه، وذلك إذا أصابه
البعاق «4» من المطر فاشتد السيل فحفر أصول الشجر حتى تظهر
عروقه. وقوله: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «5»
مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع فحذف حرف الجر، لأنّك تقول:
غبت في الأرض، وغبت ببلد كذا، فتعديه بحرف الجر فحذف الحرف
وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى نحو مِنْ دُعاءِ
الْخَيْرِ [فصلت/ 49] وبِسُؤالِ نَعْجَتِكَ [ص/ 24]. ويحتمل
وجهين:
أحدهما: ذوو غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيها «6» من أولي
العلم «7» وغيرهم، كقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
[الأعراف/ 54].
والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم غيب السموات، ويدل على ذلك
قوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً
__________
(1) في سور: الأنعام 73، التوبة 94، 105، الرعد 9، المؤمنون
92، السجدة 6، الزمر 46، الحشر 22، الجمعة 8، التغابن 18.
(2) في (ط): وقال.
(3) كذا في (ط)، وفي (م): بدأ بالهمز.
(4) غيبان بتشديد الياء المفتوحة، وقال بعضهم بسكونها، وانظر
اللسان في مادة (غيب) والبعاق كغراب من المطر، هو الذي يفاجىء
بوابل فيفجر الأرض ويكشف جذور النبت والشجر.
(5) في الآية 123 من سورة هود، والآية 77 من سورة النحل.
(6) في (ط): فيهما.
(7) كذا في (ط)، وفي (م) من أولي الغيب.
(1/233)
[الجن/ 26]، وعالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون/ 92].
وقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً [النساء/ 137]، يعني
به المنافقين.
والإيمان «1» الأول دخولهم في الإسلام وحقنهم الدماء والأموال،
«2» وكفرهم بعد: نفاقهم، وأن باطنهم على غير ظاهرهم، وإيمانهم
بعد يقيهم نفاقهم بقولهم: (إنّا مؤمنون) في قوله: وَإِذا
لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، «3» فهذا الإظهار
منهم للإيمان «4» ثانية يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر،
كما أنّ من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه.
وقال: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [الممتحنة/ 10]
فعلمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء يكونون مؤمنين
بإظهارهم الإيمان بعد ما علم منهم من النفاق. وكفرهم بعد هذا
الإيمان الثاني قولهم: إذا خلوا إلى أصحابهم «5» إِنَّا
مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فما ازدادوه من الكفر
إنّما هو بقولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فهذا زيادة في
الكفر.
ويدل على أن المستهزئ باستهزائه كافر فيزداد به كفرا إلى كفره
قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا
سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها
فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ، وقال: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ
«6»
__________
(1) في (ط): فالإيمان.
(2) في (ط): والأموال به.
(3) في الآيتين 14، 76 من سورة البقرة.
(4) في (ط): الإيمان.
(5) في (ط): إلى شياطينهم.
(6) في الآية 40 من سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ
فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ
إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعاً.
(1/234)
فإذا كان المجالس «1» مثلهم وإن لم يظهر
ذلك ولم يعتقده، فالقائل لذلك أشد ذهابا في الكفر.
[بسم الله] «2»
الإعراب
لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في
القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنّها لو كانت
كذلك لكان «3» فاعل ولو كان «4» فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل
يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن
دلّ ذلك على أنّها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة.
وإذا كانت منقلبة لم يخل انقلابها من أن يكون عن الواو أو عن
الياء أو عن الهمزة. فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها
في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز
انقلابها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء،
فإذا لم يجز انقلابها، عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة
عن الهمزة، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف
مفتوح، فكما أنها إذا خففت في رأس، وفأس، وبأس، انقلبت ألفا
لسكونها وانفتاح ما قبلها، كذلك قلبت في نحو: آمن، وآجر، وآتى،
وفي الأسماء نحو آدر «5» وآخر وآدم، إلّا أنّ الانقلاب هاهنا
لزمها لاجتماع
__________
(1) كذا في (ط)، وفي الأصل: المجانس.
(2) زيادة في م.
(3) في (ط) لكانت.
(4) في (ط): كانت.
(5) الآدر: هو المنتفخ الخصية، وقيل: هو الذي يصيبه فتق في
إحدى
(1/235)
الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة،
لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت
ساكنة نحو آمن، اؤتمن، ائذن، ائتنا.
ومن ثم قلنا في آوى «1» إن الفاء منها همزة، ألا ترى أنّها لا
تخلو من أن تكون أفعل أو فاعل أو فعلى، فلا يجوز أن تكون فاعل
لأنّ مثل: طابق، وتابل مصروف في المعرفة، «2» وقد منعوا آوى
الصرف، فعلم بذلك أنه ليس مثل طابق، ولا يجوز أن يكون فعلى
لأنّه لو كان إياها لكانت الألف في موضع سكون، وإذا كانت في
موضع سكون وجب صحتها وانتفى انقلابها، فلو كانت العين واوا
لوجب إدغامها في الواو التي هي لام كما وجب إدغام حوّاء
وعوّاء، ولا يجوز أن تكون الألف منقلبة عن الياء مع وقوع واو
بعدها لأنّ ذلك مرفوض في كلامهم غير موجود.
فإن قلت فقد جاء خيوان في اسم هذا الموضع الذي باليمن «3»
فالقول في ذلك أنه فيعال وليس بفعلان، وإنما منع
__________
الخصيتين، وأدر، من باب تعب، والاسم الأدرة بالضم وسكون الدال،
وبالتحريك: الخصية. والخصية الأدراء: العظيمة بلا فتق. الأدرة
بالتحريك الخصية، ومرض الأدرة هو المرض المسمى بالقيلة بفتح
القاف وسكون الياء.
(1) أي من: ابن آوى.
(2) المراد بقوله في المعرفة، أي: إذا جعل علما، فإنه ينون
ويصرف ولا يمنع من الصرف، لأنه ليس على وزن الفعل.
(3) خيوان بفتح الخاء وتسكين الياء؟؟؟ مخلاف باليمن ومدينة
بها. قال أبو علي الفارسي: خيوان: فيعال، منسوب إلى قبيلة من
اليمن، وقال ابن الكلبي: كان يعوق الصنم بقرية يقال لها: خيوان
من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة،/ انظر ياقوت/ خيوان/ 2/ 415.
(1/236)
الصرف لأنه يجعل «1» اسما لبقعة أو بلدة
«2»، فلا يجوز إذن أن يكون فعلى، فإذا لم يجز أن يكون فاعل ولا
فعلى ثبت «3» أنّه أفعل، وإنّما لم يصرف لوزن الفعل «4»، وأنّه
علم. فهو مثل آمن، ولو نكر كما نكروا عرسا في ابن عرس لكان
القياس صرفه.
فأمّا قراءة من قرأ: (آتينا بها) «5» فإنّما هو فاعلنا وليس
بأفعلنا، ولو كان أفعلنا لم تدخل الباء، ألا ترى أنك تقول:
جئت به، فإذا عديت بالهمزة قلت: أجأته، ولم تقل: أجأت به.
وفي التنزيل: فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ [مريم/ 23]، فكذلك قوله:
(آتينا بها). لو كان أفعل لم يحتج إلى الباء.
وكذلك «6» تقول: أبى زيد شرب الماء، فإذا فعلت أنت به الإباء
قلت: آبيته ولا تقول: «7» آبيت به قال:
قد أوبيت كلّ ماء فهي صادية ... مهما تصب أفقا من بارق تشم
«8»
__________
(1) في (ط): جعل.
(2) في (ط): للبقعة أو البلدة.
(3) في (ط): ثبت بهذا.
(4) في (ط) لم يصرف لأنه على زنة الفعل.
(5) في الآية 47 من سورة الأنبياء وَنَضَعُ الْمَوازِينَ
الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً
وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها
وَكَفى بِنا حاسِبِينَ، وقراءة آتينا بها بمد الهمزة ليست من
السبع، بل هي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق
وغيرهم، على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة،
أي: جازينا بها، انظر البحر المحيط 6/ 316.
(6) في (ط): وتقول بدون كذلك.
(7) في (ط): ولا تقل.
(8) البيت من قصيدة لساعدة بن جؤية الهذلي، يصف صوارا بضم
الصاد
(1/237)
فإن قلت: فقد قرأ بعضهم: (يذهب بالأبصار)
«1» فأثبت الباء مع النقل بالهمزة، فهلا أجزت في «آتينا بها»
أن تكون أفعلنا بها ولا تكون «2» فاعلنا. فإنّ ما ذكرته هو
قياس هذا القول، إلا أن الحمل عليه والردّ إليه ينبغي ألّا
يجوز ما وجد عنه مندوحة.
فأمّا آجر فهو فاعل، لأنّك تقول في المضارع: يؤاجر مثل يقاتل،
ولو كان أفعل لكان يؤجر. والذي جاء في التنزيل من ذلك على فعل
لأنّ المضارع يفعل في قوله: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ
حِجَجٍ [القصص/ 27].
فأمّا حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنّه إنّما ترك
__________
وكسرها، أي: قطيعا من البقر، وصاوية بالواو أي: عطشى، من صويت
النخلة على وزن فرح أي: عطشت ويبست، وهي رواية اللسان، في مادة
«صوى»، وروي أيضا صادية بالدال، وهكذا رواه اللسان في «أبى».
وفي ديوان الهذليين: 1/ 198 وشرحه ص 1128 فهي طاوية، أي: ضامرة
البطون من قلة الشرب، وأوبيت كل ماء أي: منعت كل ماء، يقال:
أبى فلان الماء امتنع منه، وآبيته الماء منعته، وانظر اللسان
في (أبى) والبيت من شواهد شرح أبيات المغني 5/ 345، 347.
(1) في الآية 43 من سورة النور. وقراءة: يذهب بالأبصار بفتح
الياء والهاء هي قراءة السبع والجمهور، وقرأ شيبة بن نصاح وأبو
جعفر المدني بضم الياء وكسر الهاء، وخطأ الأخفش وأبو حاتم أبا
جعفر في هذه القراءة، وقالا: لأن الياء تعاقب الهمزة، أي: فلا
يجتمعان. وليسا على صواب لأنه لم يكن يقرأ إلا بما روي، وقد
أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة، وهو لم
ينفرد بها بل قرأ بها شيبة كذلك.
ومن ثم اقتصر الفارسي على الدفع بالرواية ولم يتجاسر على
التخطئة.
وانظر البحر المحيط: 6/ 465.
(2) تكون ساقطة من (ط).
(1/238)
الهمز في أومن لاجتماع الهمزتين، كما أنّ
تركها في آمن كذلك، فلما زال اجتماعهما مع سائر حروف المضارعة
سوى الهمزة، ردّ الكلمة إلى الأصل فهمز، لأنّ الهمزة، من الأمن
والأمنة، فاء الفعل. ومما يقوي الهمز في ذلك أنّ من تركها
إنّما يقلبها واوا ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، والواو
الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها همزة. «1» قال
محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان قال: أخبرني الأخفش قال: كان
أبو حية النّميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد:
لحبّ المؤقدان إليّ مؤسى «2» وتقدير ذلك أن الحركة لما كانت
تلي «3» الواو في مؤسى صارت كأنّها عليها، والواو إذا تحركت
بالضمة أبدلت منها الهمزة.
ومثل إبدالهم من الواو الساكنة المضموم ما قبلها الهمزة
استجازتهم الإمالة في مقلات، «4» ومصباح، حيث كانت الكسرة
__________
(1) في (ط) بعد ذلك: حدثنا ابن السراج قال إلخ.
(2) شطر بيت لجرير وعجزه:
وجعدة إذ أضاءهما الوقود وجعدة ابنته وموسى ابنه، يمدح ولديه
بالكرم والاشتهار به. الديوان 1/ 288 وانظر الخصائص. وشرح
أبيات المغني للبغدادي 8/ 76 وما بعدها فإن البغدادي نقل كلام
الفارسي في شرحه.
(3) تلي الواو، أي تتصل بها قبل أو بعد، من الولي وهو القرب
والاتصال من قبل ومن بعد، وإن اشتهر فيما يجيء بعد.
(4) المقلات بصيغة المبالغة: هي الناقة تضع واحدا ثم لا تحمل،
والمرأة لا يعيش لها ولد.
(1/239)
كأنّها على المستعلي فصار «1» مثل قفاف
وصفاف، «2» فإذا جاز إبدال الهمزة من الواو التي ذكرنا
واجتلابها، وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في
الكلمة أولى بالتقرير وألّا يبدل «3» منها الواو.
وحجة من لم يهمز أن يقول [إنّ] «4» هذه الهمزة قد لزمها البدل
في مثالين من الفعل الماضي والمضارع، فالماضي نحو: آمن وأومن،
والمضارع نحو أومن «5» ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع. وهذا
القلب الذي لزمها في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم
مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من الإعلال: «6» كإعلالهم
يقوم لقام، وإعلالهم يكرم من أجل أكرم، وأعد ليعد، فوجب على
هذا أن يختار ترك الهمز في يؤمنون اعتبارا لما أرينا من
الإعلال ليتبع قولهم (يؤمنون) في الإعلال «6» المثالين الآخرين
لا على التخفيف القياسي في نحو جونة «8» في جؤنة وبوس في بؤس.
فإن قلت: فهلّا لم يجز غير القلب والتخفيف كما لم يجز إلّا
الإعلال فيما شبهته به وإلزامه الحذف والقلب؟.
__________
(1) في (ط): فصارت.
(2) جمع قف بضم القاف، وهو القصير، وظهر الشيء، ومن الناس
الأخلاط والأوباش وغير ذلك، أو جمع قفة وهي معروفة، وصفاف جمع
صفة وهي السرج، وصفة الدار شبه البهو الواسع الطويل ومكان مظلل
منها.
(3) في (ط): تبدل.
(4) ساقطة من (ط).
(5) في (ط): فالماضي نحو آمن والمضارع نحو أومن.
(6) في (ط): في الاعتلال.
(8) الجؤنة: سفط مغشى بجلد، ظرف لطيب العطار.
(1/240)
فالقول: إن القياس على ما أريناك.
ولم يلزم ما شبهنا به [من] «1» الحذف والقلب في كل موضع، ألا
ترى أنّهم إذا قالوا: يوعد، وما أقوله وأقول بزيد، ويؤكرم في
الشعر، وأهريق لم يلزم الحذف والقلب.
وحدثنا علي بن سليمان أن أحمد بن يحيى أخبرهم:
يقال: قد اتّمن فلان فلانا وقد اتمنته، «2» والأصل: ايتمن
وايتمنته، ثم أدغمت الياء في التاء فشددت التاء. وفي الائتمام:
قد اتّممت به مفتوح التاء.
هذا لفظ أحمد بن يحيى واستثبتّ أبا الحسن في ذلك فأثبته وصححه،
ولم أعلم لأصحابنا في هذه المسألة نصا.
وقياس قولهم عندي أن الإدغام فيها لا يجوز لأنّ الياء غير
لازمة، فلا يكون مثل اتّسر واتعد، ألا ترى أنّهم قالوا: لو
بنيت مثل: افعل أو افعل «3» من أويت، لقلت: إيّا وإيّ فقلبت
الفاء ياء وأدغمتها في الواو «4» كما تدغم فيها الياء التي من
نفس الكلمة. وقالوا: لو بنيت مثل افعوعل من أويت، لقلت:
إيووّي «5» وإيويّا على قول أبي الحسن، ولم تدغم الياء
المنقلبة عن «6» الهمزة التي هي فاء في الواو التي هي عين
لأنّها غير لازمة، فكذلك الياء في ائتمنته غير لازمة، لأنّك
إذا أسقطت
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) كذا في (ط) وفي م: ايتمنه.
(3) في (م): افعل وافعل بكسر العين في الأول وفتحها في الثاني،
وهو يخالف الترتيب الذي مثل له.
(4) في (ط): في الياء.
(5) أصلها: أووى، قلبت الهمزة الثانية ياء وياء اللام ألفا.
(6) في (ط): من الهمزة.
(1/241)
همزة الوصل في الدرج نحو قد ائتمن رجعت
الهمزة، وإذا لم يدغموا نحو نوي ورويا إذا خففوا الهمزة مع
لزوم الواو في قول أهل التخفيف فألا يدغم ائتمن ونحوه أجدر.
فإن قلت: فقد أدغم قوم رويا فقالوا ريّا. فالقول إن الإدغام في
هذا أشبه لما ذكرنا من لزومها، «1» وتلك لما لم تلزم كانت
بمنزلة المنفصل، على أن أبا الحسن يحمل ريّا فيمن أدغم على
القلب «2» نحو أخطيت في اللام. ويقوي ذلك أن بعضهم كسر الفاء
منها فقال: ريّا، كما قالوا في: ليّ ليّ. «3»
فإن قلت: فهل يجوز الإدغام في المصدر من قوله:
آوى إليه أخاه [يوسف/ 69] فالقول إن ترك إدغام ذلك وامتناعه
«4» على قول الخليل بيّن، ألا ترى أنّه لم يدغم أووم ولا يووم
وشبهه «5» بسوير «6» فألّا يدغم هذا
أجدر، لأنّها لما
__________
(1) أي: من لزوم الواو على لغة التخفيف.
(2) أي وليس من باب التخفيف، بل تكون الهمزة منسية ولذلك صح
الإدغام.
(3) جمع ألوى، يقال: قرن ألوى، أي: معوج، وجمعه لي بضم اللام،
والقياس الكسر.
(4) هذه العبارة مضطربة في (ط).
(5) في (ط): شبهه.
(6) أيم بتشديد الياء المفتوحة: مثال مفترض للاشتقاق من يوم
أيوم، أي:
شديد، سأل سيبويه الخليل: كيف ينبغي له أن يقول: أفعلت في
القياس من اليوم على من قال: أطولت وأجودت؟ فقال: أيّمت، فتقلب
الواو هنا كما قلبتها في أيام، فإذا بنى الفعل للمجهول قيل:
أووم، ويووم، واسم المفعول مووم، لشبهه بفعل سوير المبني
للمجهول من ساير، وانظر الكتاب: 2/ 376.
(1/242)
أبدلت ولزم إبدالها صارت بمنزلة الألف
الزائدة حتى أبدلت منها الواو في التكسير، كما أبدلت من ألف
ضارب، فقالوا أوادم «1» كما قالوا ضوارب.
ومن قال: أيّم، وخالف الخليل، فينبغي ألّا يدغم هذا لما ذكرنا
من مشابهتها الزيادة، ولأنّه مثل ما تركت العرب إدغامه في «2»
قولهم: ديوان. ألا ترى أنها أبدلت لاجتماع الهمزتين «3» كما
أبدلت في ديوان لاجتماع المثلين وكراهة ذلك لأنّ كل واحد من
الأمرين يتوصل به إلى إزالة المثلين، كما يتوصل بالآخر.
فأما قول الشاعر:
جيش المحمّين حشّ النار تحتهما ... غرثان أمسى بواد مؤهب الحطب
«4» فمن أخذه من الأهبة والتأهب همز إن شاء. ومن أخذه من وهب،
وجعل الفاء الواو «5» لم يهمز، إلّا على قول من قال: مؤسى، وقد
تؤوّل البيت على الأمرين جميعا. «6»
__________
(1) في (ط): أوادم وأواخر.
(2) في (ط): من.
(3) زاد في (ط) بعد الهمزتين: المثلين.
(4) رواه في الأساس (وهب) ولم ينسبه. واد مؤهب الحطب: كثيره.
وفي اللسان: جاشت القدر تجيش جيشا: غلت، والمحمّ: القمقم
الصغير يسخن فيه الماء، وحش النار: جمع إليها ما تفرق من
الحطب.
(5) في (ط): واوا.
(6) في (ط): عزّ وجلّ.
(1/243)
[البقرة: 6]
اختلفوا في قوله جل وعز: «1» أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة/ 6]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: آأنذرتهم بهمزة مطولة، وكذلك
ما أشبه ذلك في كل القرآن، مثل: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ
[المائدة/ 116] وأَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل/ 60] وأَ
إِنَّكُمْ «2» وما كان مثله، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا
خفف، غير أن مدّ أبي عمرو في أَأَنْذَرْتَهُمْ أطول من مدّ ابن
كثير، لأنّ من قوله أنّه يدخل بين الهمزتين ألفا وابن كثير لا
يفعل ذلك.
واختلف عن نافع في إدخال الألف في الهمزتين. وأمّا عاصم وحمزة
والكسائي- إذا حقق- وابن عامر فبالهمزتين أَأَنْذَرْتَهُمْ وما
كان مثله في القرآن من الهمزتين في الكلمة الواحدة فهو بتحقيق
الهمزتين وبتخفيف إحداهما وبإدخال الألف بينهما «3».
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. [البقرة/ 6].
الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذمّ خلاف الحمد.
فالكفر: «4» ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها.
وفي التنزيل: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة/ 152]
وفيه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم/ 7] وقال:
في ليلة كفر النجوم غمامها «5»
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) الأنعام/ 19، وفصّلت/ 9.
(3) السبعة 134 - 135 مع بعض اختصار.
(4) في (ط): والكفر.
(5) شطر بيت من معلقة لبيد يصف بقرة وحشية افترس السبع ولدها
حين
(1/244)
وقالوا: كفر كفرا وكفورا، كما قالوا: شكر
شكرا وشكورا. وفي التنزيل: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ
أَرادَ شُكُوراً [الفرقان/ 62] [وقال] «1» اعْمَلُوا آلَ
داوُدَ شُكْراً [سبأ/ 13] وقال: «2» فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلَّا كُفُوراً [الإسراء/ 89] وقالوا:
الكفران، وقال: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء/ 94] وقال
الأعشى:
ولا بدّ من غزوة في الربيع ... حجون تكلّ الوقاح الشّكورا
«3» قال أحمد بن يحيى: الشّكور: السريع القبول للسّمن. قال أبو
علي: فكأن سرعة قبوله لذلك إظهار للإحسان إليه والقيام عليه.
وقالوا: أشكر من بروقة «4».
وأمّا قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ فإنّ السواء والعدل والوسط
والقصد والنّصف ألفاظ يقرب بعضها من بعض في المعنى.
__________
خذلته وصدره:
يعلو طريقة متنها متواتر ... في ليلة كفر النجوم ظلامها
وروي: غمامها كما ذكر هنا والمعنى: يعلو صلبها قطر متواتر في
ليلة ستر غمامها نجومها، وانظر البيت في شرح القصائد السبع
الطوال ص 560 والديوان/ 223.
(1) زيادة في (ط).
(2) في (ط): وقال تعالى.
(3) البيت من شواهد الزجاج في تفسير أسماء الله الحسنى ص 47.
فانظره هناك. وروى (المصيف) مكان الربيع. وحتّ: مكان حجون.
والحجون:
البعيدة، والوقاح: الصلب الشديد، وفي (اللسان) الشكور من
الدواب: الذي يسمن على قلة العلف كأنه يشكر، وإن كان ذلك
الإحسان قليلا وشكره ظهور نمائه وظهور العلف فيه، وأنشد البيت.
الديوان/ 99.
(4) البروقة: واحدة البروق، بفتح الباء الموحدة وسكون الراء،
وهو ما يكسو الأرض من أول خضرة النبات، أو هو شجيرات ضعاف إذا
غامت السماء
(1/245)
قالوا للعدل: السواء. قال زهير:
أرونا «1»
خطة لا خسف فيها ... يسوّي بيننا فيها السّواء
«2» وأنشد أبو زيد لعنترة:
أبينا فلا نعطي السّواء عدوّنا ... قياما بأعضاد السّراء
المعطف
«3» والسواء: وسط الشيء. وفي التنزيل: فَرَآهُ فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ [الصافات/ 55] وقال عيسى بن عمر: «4» ما زلت أكتب
حتى انقطع سوائي. «5» والسواء: ليلة النصف من الشهر.
وقالوا: سيّ بمعنى سواء، كما قالوا: قيّ وقواء، «6» وقالوا:
سيان فثنّوا، كما قالوا: مثلان. وقال عز وجل: «7» لَوْ
تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء/ 42] فالمعنى: يودّون لو
جعلوا والأرض سواء. كما قال: وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُراباً [النبأ/ 40] وقال: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها [الشمس/ 14] أي: سوى بلادهم
بالأرض، وقال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس/ 7] أي: ونفس
وتسويتها أي: ورب تسويتها، أو
__________
اخضرت، ويقال: أشكر من بروق، ومن بروقة، لأنها تعيش بأدنى ندى
يقع من السماء. والمثل في المستقصى 1/ 196.
(1) في (ط): أروني.
(2) يروى: (عيب) مكان (خسف) وسنّة مكان خطة، الديوان/ 84.
(3) انظر الديوان/ 90، والنوادر/ 122.
(4) في (ط): سقطت عبارة «ابن عمر».
(5) نقله عن الأصمعي كما رواه صاحب اللسان (سوا).
(6) القي: بكسر القاف وتشديد الياء والقواء بكسر القاف والمد:
قفر الأرض.
(7) في (ط) بدون عز وجل.
(1/246)
يكون: والذي سواها، أي: ونفس وخالقها، كما
قال: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف/ 37] وقال: خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار/ 7] وقال: بَلى قادِرِينَ
عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة/ 4]، أي: نجعلها مع كفه
صفحة «1» مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، ويعدم «2» الارتفاق
بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة «3» والخرز والصياغة ونحو
ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع.
قال أحمد بن يحيى: من أيمانهم: لا والذي شقّهن خمسا من واحدة.
يريدون الأصابع من الكف.
وقيل في: نُسَوِّيَ بَنانَهُ: نردّها كما كانت. قالوا:
وذكرت البنان لأنّه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها. وقالوا:
قوم أسواء، أي: مستوون وأنشد أبو زيد:
هلّا كوصل ابن عمّار تواصلني ... ليس الرّجال وإن سوّوا بأسواء
«4» فأسواء ليس يخلو من أن يكون جمع سي أو سواء، فإن كان جمع
سي فهو مثل: مثل وأمثال، ونقض وأنقاض، وجلف وأجلاف. وإن كان
جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم جواد وأجواد. وحكى
أيضا في الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه «5» وإن
كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا
__________
(1) في (ط): نجعلها صفحة مع كفه.
(2) في (ط): فيعدم.
(3) في (ط): كالخياطة والكتابة.
(4) رواه اللسان (سوى) ونسبه إلى رافع بن هريم.
(5) في (ط): وجمعه. وهو تحريف.
(1/247)
من جمعه على سواسية. فأمّا قوله: وَلا
أَنْتَ مَكاناً سُوىً [طه/ 58] فقال أبو عبيدة: يضم أولها
ويكسر، مثل: طوى وطوى، قال: وهو المكان النّصف فيما بين
الفريقين وأنشد لموسى بن جابر الحنفي:
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
«1» قال: الفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومثل سوى في أنّه فعل جاء وصفا قولهم: قوم عدى للغرباء. فأمّا
عدى للأعداء فزعم أحمد بن يحيى وغيره أنّهم يقولون فيه: عدى
وعدى. فهذا مثل سوى وسوى في وصف المكان.
وقال أبو الحسن في قوله: (مكانا سوى): إنّها قد تضم في هذا
المعنى. قال: «2» والممدودتان في ذا المعنى أيضا.
يريد بالممدودتين ما يذكره من أن في سوى وسواء أربع لغات، منهم
من يفتح أوله ويمده، ومنهم من يكسر أوله ويقصره.
قال: وهاتان لغتان معروفتان. قال: ومنهم من يكسر أوله ويمده،
ومنهم من يضم أوله ويقصره. وهاتان اللغتان أقل من تينك،
والمضمومة الأولى أعرفهما، وقال: مكانا سوى أي عدل، وأنشد: «3»
__________
(1) ليحيى بن منصور الذهلي، أو موسى بن جابر الحنفي. انظر شرح
أبيات المغني 3/ 221.
(2) سقطت من (ط).
(3) في (ط): قال وأنشد.
(1/248)
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس
قيس عيلان والفزر
يقول: عدل، وقال في قول الشاعر: «1»
لو تمنّت حليلتي ما عدتني ... أو تمنّيت ما عدوت سواها
يقول: ما عدوت قصدها، قال: والقصد والعدل مشتبهان. وأنشد:
ولأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي ... لفتى العشيّ وفارس الأجراف
«2» قال: يريد لأصرفنّ قصده، أي عن قصده أو لأصرفنّ إلى غيره،
ولأنّ سواه غيره كما قال حسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره ... نبي أتى من عند ذي العرش هاديا
«3» قال: يقول: لم نعدل سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم «4»
بغير سواه، وغير
__________
(1) لم نعثر له على قائل وقد استشهد به القرطبي في تفسيره 11/
213 وأورده البغدادي في شرح أبيات المغني 3/ 221 مع كلام
الفارسي هنا برمته.
(2) البيت من شواهد المغني، انظر شرح أبياته 3/ 220 ورواه
اللسان والصحاح (سوا)، وفيه الأحزاب مكان الاجراف، وهو تحريف.
والبيت من قصيدة فائية في الأغاني (14/ 27) منسوبة إلى رجل من
الأنصار أو لحسان.
(3) البيت من شواهد شرح أبيات المغني 4/ 13 وما بعدها ورواه في
الجمهرة (1/ 178) والبيت منسوب إلى حسان ولم نجده في ديوانه.
(4) زيادة في (ط).
(1/249)
سواه هو هو. فأمّا قوله:
وما قصدت من أهلها لسوائكا «1» فإنّه عدّى قصدت باللام، وإن
كان يعدّى بإلى، كما عدّوا أوحيت وهديت بهما في نحو: وَأَوْحى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل/ 68]، وفي أخرى: بِأَنَّ
رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة/ 5] وقال: وَيَهْدِيهِمْ
إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء/ 175] والْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف/ 43].
فأمّا سواء فإنّها تستعمل ظرفا، تقول: إنّ سواءك زيدا كما
تقول: إن عندك زيدا، فجعله الشاعر اسما في قوله، لسوائكا،
وجعله بمنزلة غير إذ كانت بمعناها، وإذا كانت كذلك أجمع عامة
العرب فيما زعم أبو الحسن أنّهم «2» يستعملونه ظرفا ولا
يستعملونه اسما.
ومثل ذلك قولهم: وسط- الساكن الأوسط- هي تستعمل ظرفا، فإذا
اضطر الشاعر استعمله اسما كقوله الفرزدق:
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا «3» وقول القتّال الكلابي:
__________
(1) للأعشى، وصدره:
تجانف عن خل اليمامة ناقتي ويروى (جل): الديوان 89، واللسان
(سوا).
(2) في (ط): على أنهم.
(3) تقدم في ص 39.
(1/250)
من وسط جمع بني قريظ بعد ما ... هتفت ربيعة
يا بني جوّاب
«1» فكذلك سواء، ولذلك شبهه بالظرف في قولهم: أتاني القوم
سواءك «2» فقال: كأنه قال: أتاني القوم مكانك. واستدل على كونه
ظرفا بوصلهم الذي بها في «3» نحو: أتاني الذي سواؤك. [قال أبو
علي: سواك أشبه] «4». وزعم أبو الحسن أن هذا الذي استعمل ظرفا
إذا تكلم به من يجعله ظرفا في موضع رفع نصبوه استنكارا منهم
لرفعه، لأنه إنما يقع في كلامهم ظرفا، فيقولون: جاءني سواؤك،
وفي الدار سواؤك. وفي كتاب الله [تعالى]: «5» وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن/ 11] وقال: مِنْهُمُ
الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ [الأعراف/ 168]، وقال:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام/ 94] وقال: يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «6». قال: وتقول معي فوق
الخماسي ودون السداسي، ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو
فوقه، وهو بالبصرة أو دونها، فكل ذلك نصب.
قال أبو الحسن وأخبرني بعض النحويين أنّه سمع العرب يقولون:
ارقبني في سوائه، فأجراه مجرى (غير) وجعله اسما.
__________
(1) ورد هذا البيت في اللسان والتاج (وسط) برواية (خوار) بدل
(جواب).
(2) كذا في (ط)، وهو ما يقتضيه السياق، وفي (م): سواك على
إسقاط الهمزة.
(3) في (ط): من.
(4) سقط ما بين المعقوفين من (ط).
(5) زيادة في (ط).
(6) في الآية 3 من سورة الممتحنة، وضم ياء يفصل قراءة نافع
وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر وهشام من طريق الداجوني. النشر
2/ 387.
(1/251)
قال أبو علي: ولو تأول متأول ما حكاه أبو
الحسن من قولهم: ارقبني في سوائه على «سواء» الذي هو الوسط، لا
التي «1» بمعنى غير- كما جاء في التنزيل: فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ [الصافات/ 55]- لكان مذهبا. فيجوز على ما تأوله أبو
الحسن في الآي وفي سواء- في قول الشاعر:
فلم يبق منها سوى هامد ... وسفع الخدود، وغير النّئيّ
«2» أن يكون سوى في موضع نصب، وإن كان فاعلا، لأنّه ظرف. ويجوز
أن يكون لما جعله اسما للضرورة رفعه كما رفع وسطا في قولهم:
«3» وسطها قد تفلّقا «4»
وجعله بمنزلة «غير» لما كان بمعناها، ألا ترى أنّه جعلها
بمنزلة غير في عطفها عليها في قوله: وغير النُّئِيّ. كأنّه
قال:
فلم يبق غير هامد وغير النّئي.
وقولهم في الاسم العلم: سواءة «5» ليس من هذا الباب.
ألا ترى أن اللام منه همزة وليست منقلبه بدلالة قوله:
__________
(1) في (ط): الذي.
(2) من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي، ورواية، ديوان الهذليين: 1/ 64
وما بعدها:
«معا والنُّئِيّ» بدل: وغير النُّئِيّ.
(3) في (ط): قوله.
(4) تقدم البيت بتمامه ص/ 39.
(5) هو سواءة بن عامر بن صعصعة فعالة من قولهم: سؤته أسوؤه
مساءة كما في الاشتقاق/ 293.
(1/252)
فأبلغ إيادا إن عرضت وطيّئا ... وأبلغ
حليفينا، ومن قد تسوّءا
وأما الإنذار فإعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم
منذرا، ولم يمتنع أن يوصف [به] «1» القديم سبحانه في نحو قوله:
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ/ 40] لأن
الإعلام على الانفراد قد جاز «2» وصفه به. والتخويف أيضا كذلك
في قوله: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ [الزمر/ 16].
فإذا جاز الوصف بكل واحد منهما على الانفراد لم يمتنع إذا دلّ
لفظ على المعنيين اللذين جاز الوصف بكل واحد منهما منفردا أن
يوصف سبحانه به.
وأنذرت: فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله: فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ
[فصلت/ 13] وقال: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ/ 40]، وقال تعالى:
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء/ 45] فتعديته
بالباء يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لما دل على التخويف أجري
مجراه:
فقلت «3» أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا، ولذلك نظائر. «4»
ويجوز أن يكون لما لم يتعد إلى مفعولين، الثاني فيه الأول عدي
إلى مفعول واحد كما عدي علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعول واحد،
فلما أريد تعديته إلى مفعولين، زيدت الباء لأنّ بناء الفعل على
أفعل، فلا يجوز أن تدخل عليه همزة
__________
(1) زيادة في م.
(2) في (ط): وقد.
(3) في (ط): فتقول.
(4) في (ط): نظائر كثيرة.
(1/253)
أخرى للثقل، كما أنّه إذا أريد تعدية علمت
الذي بمعنى عرفت إلى مفعولين زيدت عليه الهمزة أو ضعفت العين.
فإذا حذفت الباء تعدى الفعل إلى المفعول الآخر، كما تعدى:
أمرتك الخير واخترتك الرجال.
فأمّا قوله تعالى: «1» قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ
[الأنبياء/ 45] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون الوحي الموحى،
فسمّي بالمصدر مثل الخلق والصيد، والوحي: «2» هو العذاب، فيكون
كقوله: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ/ 40]،
ويجوز أن يكون الوحي يراد به الملك؛ فيكون التقدير في قوله
تعالى: «3» إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء/ 45]:
أنذركم بإنذار الملك أو بإخباره «4». وقوله تعالى:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات/ 45] مثل
إنّما أنت معطي زيد، إذا أردت بالإضافة الانفصال، أي منذر من
يخشى الساعة كما قال: وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
[الأنبياء/ 49].
وقالوا: النذير والنّذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء
المصدر على فعيل وعلى فعل. وفي التنزيل: فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ، «5» وفيه: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. «6» فأمّا
قوله تعالى: «7» نَذِيراً لِلْبَشَرِ [المدثر/ 36] فقد قيل فيه
قولان:
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) كذا في (ط)، وفي (م): والموحى.
(3) زيادة في (م).
(4) في (ط): وبإخباره.
(5) في الآيات 44 من سورة الحج، 45 من سورة سبأ، و 26 من سورة
فاطر، و 18 من سورة الملك.
(6) في الآيات 16، 18، 21، 30، 37، 39 من سورة القمر.
(7) تعالى ساقطة من (ط)، والآية هي 36 من سورة المدثر.
(1/254)
أحدهما: أن يكون حالا من (قم) «1» المذكورة
في أول السورة.
والآخر: أن يكون حالا من قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ
[المدثر/ 35] فإذا جعل نذيرا حالا مما في قم، فإن النذير اسم
فاعل بمعنى المنذر، كما أن السميع كالمسمع والأليم كالمؤلم.
وإن جعلته حالا من قوله: (لَإِحْدَى الْكُبَرِ) فليس يخلو «2»
الحال من أن يكون «3» من المضاف أو من المضاف إليه، فإن كان من
المضاف كان العامل ما في إحدى من معنى التفرد.
وإن جعلت الحال من المضاف إليه كان العامل فيها ما في الكبر من
معنى الفعل. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون نذيرا مصدرا، لأنّ
الأول المضاف مؤنث والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون
حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاءوا ركضا،
كما تقول: جاء ركضا.
وأما قوله تعالى: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر/ 37] فمن قال:
إن النذير النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسم فاعل كالمنذر،
ومن قال:
إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرا كالإنذار.
وقال أبو زيد: نذر ينذر نذرا، ووفّى بنذره، وأوفى نذره.
وقال أبو الحسن: العرب تقول: نذر ينذر على نفسه نذرا، ونذرت
مالي فأنا أنذره. أخبرنا بذلك يونس عن العرب. قال:
__________
(1) إشارة إلى قوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ، في الآية 2 من
سورة المدثر.
(2) في (ط): تخلو.
(3) في (ط): تكون.
(1/255)
وفي كتاب الله تعالى «1» إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران/ 39] وقال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدّا
«2» وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما ... والناذرين إذا لم القهما دمي
«3» ومثل الإنذار في أنّه ضرب من العلم قولهم: اليقين، فكل
يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أنّ اليقين كأنّه علم يحصل
بعد استدلال ونظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك
على الناظر.
«4» يقوي ذلك قوله عز وجل: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ [الأنعام/ 75] ثم ذكر بعد ما كان من نظره
واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، فليس كل
علم يقينا لأنّ من المعلومات ما يعلم من غير أن يعترض فيه توقف
أو موضع نظر، نحو ما يعلم ببدائه العقول والحواس، ويؤكد ما
ذكرنا من ذلك قول رؤبة:
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) من قصيدة عمرو بن معد يكرب الزبيدي في الحماسة، انظر شرح
التبريزي: 1/ 174.
(3) من معلقته وقبله:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر ... للحرب دائرة على ابني ضمضم
انظر ديوانه ص 221 والسبع الطوال ص 363 وشرح المعلقات السبع
للزوزني/ 153.
(4) بداية نقل نقله ابن سيده عن الفارسي في المخصص السفر 3/
29.
(1/256)
يا دار عفراء ودار البخدن ... أما جزاء
العارف المستيقن
[عندك إلا حاجة التفكّن] «1» فوصفه العالم بالمستيقن يقوي أنّه
غيره.
ومما يبين ذلك ما تراه «2» في أشعارهم من توقفهم عند الوقوف في
الديار لطول العهد وتعفي الرسوم ودروسها حتى يثبتوها بالتأمل
لها والاستدلال عليها، كقوله:
وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
«3» وقال: توهّمت آيات لها فعرفتها «4» وقال: أم هل عرفت الدار
بعد توهّم «5» قال محمد بن السري قالوا في قوله بعد توهم:
توهمت الشيء: أنكرته. وعند التباس الأمر وإشكاله يفزع إلى
النظر،
__________
(1) ديوان رؤبة/ 161 واللسان (بخدن) وفي الديوان (بادر عفراء)
وهو تحريف. والرجز من قصيدة طويلة في مدح بلال بن أبي بردة،
نقله في المخصص السفر 3/ 29 عن الفارسي. البخدن: اسم امرأة.
التفكن كالتفكه: التندم. والشاهد في اللسان (فكن).
(2) في (ط): ما روى.
(3) هو البيت الرابع من معلقة زهير بن أبي سلمى. وانظر
الديوان/ 7.
(4) صدر بيت للنابغة الذبياني، وتمامه: لستة أعوام وذا العام
سابع.
انظر شرح شواهد الشافية/ 108، والديوان/ 48.
(5) عجز البيت الأول من معلقة عنترة، وصدره: هل غادر الشعراء
من متردم انظر المعلقات السبع/ 73.
(1/257)
ويرجع إلى الدليل، فكذلك قول رؤبة:
أما جزاء العارف المستيقن أي: المتوقف المتبين لآثارك ورسومك
إلى أن يثبتك، كقول عنترة في ذلك.
ومن ذلك الدراية، هي مثل ما تقدم في أنّها ضرب من العلم مخصوص،
وكأنّه من التلطف والاحتيال في تفهم الشيء. أنشد أبو زيد: «1»
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري ... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
قال أبو زيد: تدّري: تختل. وقال آخر:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنّني ... أدسّ لها تحت التراب
الدواهيا
«2» وأنشد أحمد بن يحيى:
إما تريني أذّري وأدّري ... غرّات جمل وتدرّى غرري
«3»
__________
(1) في النوادر ص 20 مع آخر ونسبهما لمطير بن الأشيم الأسديّ
وهو جاهلي يقول: الذي كنت تحسبه غزالا تصطاده فكنت تختله هو
أسد- وأشبله:
أولاده.
(2) لا أدري الظباء: من درى الصيد وتدراه ختله، والبيت في
اللسان (درى) والمخصص السفر 3/ 31 ولم ينسبه؟؟؟
(3) أذرى الأول بالذال المعجمة: هو على وزن افتعل من ذريت تراب
المعدن، أي: نخلته طالبا ما فيه من المعدن. والثاني: من درى
الصيد
(1/258)
واختلفوا في الدّرية، وهو البعير الذي
يستتر به الصائد من الوحش حتى يمكنه رميها.
فقال أبو زيد فيما حكى عنه: هي مهموزة لأنّها تدرأ نحو الوحش،
أي تدفع، فأمّا من لم يهمز فإنّه يمكن أن يكون من الدرء «1»
الذي هو الدفع فخفف.
ويمكن أن يكون من الادّراء الذي هو الختل، لأنّ معنى الختل لها
والاحتيال عليها في الاستتار به عنها حتى يرمي «2» ظاهرا.
فأمّا الدريئة للحلقة التي يتعلّم عليها الطعان، فرواها السكري
مهموزة فيما أنشده عن أبي زيد:
كأنّ دريئة لمّا التقينا ... بنصل السيف مجتمع الصّداع
«3» [بخط السكري: الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن،
__________
ختله، وكذلك تدري، وأصله تتدرى فحذفت إحدى التاءين، يقول: أذري
التراب وأنا قد أتشاغل بذلك لئلا ترتاب بي، وأنا في ذلك أنظر
إليها وأختلها، وهي أيضا تفعل كما أفعل. والبيت في اللسان
(درى) والمخصص السفر 3/ 31.
(1) مصدر درأه درءا كدفعه دفعا، ودرأة على وزن ضربة، أي: دفعة.
(2) في (ط): ترمي.
(3) البيت لمرداس بن حصين. وهو في النوادر/ 6 والمخصص السفر 3/
31 عن أبي زيد. يقول: إنه حين لقي قرنه أنحى على رأسه بالسيف
حتى كأن رأسه إذ يتردد عليه السيف دريئة، ورواية النوادر: فكان
دريّة بفاء العطف وكان الناقصة. وهي موافقة لرواية ابن دريد
المذكورة.
(1/259)
ومجتمع الصداع: الرأس] «1» [كذا رواها
السكري في نوادر أبي زيد عن الرياشي. روى ابن دريد فكان دريئة]
«2» وكذلك قول الجهنية صاحبة المرثية أنشده «3» [السكري عن أبي
حاتم]: «4»
أجعلت أسعد للرماح دريئة ... هبلتك أمّك أيّ جرد ترقع
«5» بخطه: «6» الجرد: الثياب «7» الخلقان [ضربه مثلا]. «8»
ويقال: دريت الشيء ودريت به قال سيبويه: وتعديه بحرف الجر «9»
أكثر في كلامهم، وأنشد أبو زيد:
أصبح من أسماء قيس كقابض ... على الماء لا يدري بما هو قابض
«10» فإذا قال: دريت الشيء، فكأنّ المعنى على ما عليه هذا
الباب: تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم
بنفسه. وقد أجاز أحد أهل النظر ذلك، واستشهد عليه بقول بعضهم:
لا همّ لا أدري وأنت الدّاري «11»
__________
(1) زيادة في هامش (م).
(2) زيادة في (م).
(3) في (ط): أنشده مهموزا.
(4) زيادة في (م).
(5) انظر النوادر: 7 والمخصص السفر 3/ 31.
(6) زيادة في (م).
(7) في (ط): الثوب الخلق.
(8) زيادة في (م).
(9) في (ط): جر.
(10) البيت لقيس بن جروة- انظر النوادر/ 62.
(11) للعجاج، وبعده:
(1/260)
وهذا لا ثبت فيه، لأنّه يجوز أن يكون من
غلط الأعراب، فكأنّه سمع دريت وعلمت يستعمل كل واحد منهما موضع
الآخر كثيرا، فظنّ أنّهما في كل المواضع كذلك «1». ومثل هذا من
جفاء الأعراب ما أنشده بعض البغداديين:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي ... ولم تغيّرك الأمور بعدي
«2» وقول العجّاج:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي «3» وقول الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه ... لو خافك الله عليه حرّمه
«4» وقال أوس:
__________
كل امرئ منك على مقدار ويروى: يا رب مكان لا هم «انظر ديوان
العجاج 1/ 120».
(1) إلى هنا ينتهي نقل ابن سيده عن الفارسي المشار إليه ص 256.
(2) اللسان (روح)، والمخصص: 3/ 4.
(3) ديوانه 1/ 421 والمخصص السفر: 3/ 4. وبعده:
ونعمة أتمّها فتمّت قال ابن سيده في تفسيره للبيت: ونزلت به
بليّة فارتاح الله له برحمته فأنقذه الله منها. وأنشد البيت
قال: أي نظر إليّ ورحمني. فأما الفارسي فجعل هذا البيت من جفاء
الأعراب. انتهى.
(4) لسالم بن دارة. المخصص السفر: 3/ 4.
(1/261)
أبني لبينى لا أحبّكم ... وجد الإله بكم
كما أجد
«1» وقالت امرأة من أسد:
أشار لها آمر فوقه ... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
تعني الله سبحانه. فأمّا شعرت فمصدره شعرة بكسر الأول، كالفطنة
والدرية. وقالوا: ليت شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة.
وقد قالوا: ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها. «2»
ويروى أنّ عليا، عليه السلام، لما قال له عديّ بن حاتم: ما
الذي لا ينسى؟ قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها، ولا قاتل
واحدها. وكأنّ شعرت مأخوذ من الشعار، وهو ما يلي الجسد.
فكأنّ شعرت به علمته علم حسّ. وقال الفرزدق:
لبسن الفرند الخسروانيّ فوقه ... مشاعر من خزّ العراق المفوّف
«3»
__________
(1) انظر الديوان/ 21. وورد فيه (لا أحقكم) مكان (لا أحبكم)
بمعنى: لا أخاصمكم. ومعنى البيت: أحبكم الله قدر ما أحبكم،
بمعنى مقتكم لأنه لا يحمل لهم إلا المقت.
(2) العذرة: البكارة، وما للبكر من الالتحام قبل الافتضاض.
ويقال: فلان أبو عذر فلانة إذا كان افترعها وافتضها، وأبو
عذرتها. انظر اللسان (عذر).
(3) من نقيضة:
عرفت بأعشاش وما كدت تعرف.
ويروى: دونه، وتحته، مكان: فوقه «انظر الديوان: 2/ 553،
والنقائض: 2/ 551».
الفرند: الحرير. الخسرواني: الحرير الرقيق الصنعة، وهو منسوب
إلى
(1/262)
وفي الحديث: «أشعرنها إياه»، «1»
أي: اجعلنها الشعار الذي يلي الجسد، كما أن المعنى في البيت:
لبسن الفرند الخسرواني مشاعر، فوقه المفوف من خزّ العراق، أي:
جعلنها «2» الشعار.
فقولهم: شعرت ضرب من العلم مخصوص. فكل «3» مشعور به معلوم،
وليس كل معلوم مشعورا به. ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى «4»
كما لم يجز في وصفه «5» درى، وكان قول الله تعالى في وصف
الكفار: «6» وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة/ 12] أبلغ في الذم
للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم، لا يعلمون لأنّ البهيمة قد
تشعر من حيث كانت تحسّ. فكأنّهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال سبحانه «7»: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا
تَشْعُرُونَ
__________
عظماء الأكاسرة. «انظر المعرب للجواليقي» المفوف: الموشى، وهو
صناعة اليمن. ومشاعر: نصبت على الحال.
(1) قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم لمن قام بغسل ابنته من
النساء، وكان أعطاهن حقوه: أي إزاره. يريد: اجعلنه في كفنها
مما يلي جسدها. والحديث رواه أصحاب الكتب. الستة، والموطأ
وأحمد كلهم في باب الجنائز. (انظر مسلم 2/ 647 برقم 939).
(2) في (ط): جعلنه.
(3) في (ط): وكل.
(4) في (ط): عز وجل، بدل تعالى.
(5) في (ط): سبحانه.
(6) في (ط): في الكفار.
(7) في: (م) زيادة قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ
رَبِّهِمْ» وهي زيادة لا شاهد فيها.
(1/263)
[البقرة/ 154] فقال: (ولكن لا تشعرون) ولم
يقل ولكن لا تعلمون، لأنّ المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى «1»
بأنّهم أحياء علموا أنّهم أحياء، فلا يجوز أن ينفي الله تعالى
العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بإخباره إيّاهم
وتيقّنوه، ولكن يجوز أن يقال: ولكن لا تشعرون، لأنّهم ليس كل
ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسّونه بحواسّهم،
فلمّا كانوا لا يعلمون بحواسّهم حياتهم، وإن كانوا قد علموه
بإخبار الله إيّاهم، وجب أن يقال: لا تشعرون، ولم يجز أن يقال:
ولكن لا تعلمون على هذا الحدّ.
ومن ذلك النقه. قال أبو زيد: نقه عنّي القول نقها ونقوها: إذا
فهم عنك القول، قال: وتقول: نقه الرجل من مرضه ينقه نقوها إذا
برأ .. وهذا لا يجوز في وصف القديم «2» كما أن الفهم الذي فسّر
أبو زيد به النقه لا يجوز في وصفه.
[بسم الله] «3»
الإعراب
قوله تعالى «4»: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ
تُنْذِرْهُمْ [البقرة/ 6] لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر،
ومثل ذلك قولهم: «5» ما أبالي أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت
أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا لأن فيه
__________
(1) في (ط): عز وجل.
(2) في (ط): سبحانه.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة في (م).
(4) في (ط) بدون: تعالى.
(5) في (م): قوله.
(1/264)
التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى إذا
استفهمت فقلت:
أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم
علم أحدهما بعينه، كما أنّك إذا أخبرت فقلت: «1» سواء عليّ
أقعدت أم ذهبت، فقد سويت الأمرين «2» عليك، فلمّا عمّتهما
التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في
الإبهام. فكلّ استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
ومثل التسوية- في هذا- الاختصاص في نحو: أنا أفعل كذا أيّها
الرجل، واللهم اغفر لنا أيّتها العصابة، لمّا كنت مختصّا نفسك
والعصابة في هذا الكلام جرى عليه لفظ النداء من حيث أردت
الاختصاص الذي أردته في النداء، كما جرى الاستفهام على التسوية
فمن ثمّ صار كل منادى مختصّا، وإن لم يكن كل مختص منادى.
ولا يجوز في هذا الموضع (أو) مكان (أم)، لأن المعنى:
سواء عليّ هذان، ألا ترى أنك لو قلت: سواء عليّ القيام
والقعود، لم يجز إلّا الواو.
وكذلك لو أظهرت المصدرين اللذين دلّ عليهما لفظ الفعلين
المذكورين في قوله تعالى: «3» اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور/ 16] لقلت: سواء عليكم
الجزع والصبر، ولم تقله بأو، كما قال تعالى:
__________
(1) في (ط): قلت.
(2) في (ط): بين الأمرين.
(3) زيادة في الأصل.
(1/265)
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ «1»
[الحج/ 25] ولو قلت: سواء عليّ العاكف أو البادي، أو سواء عليّ
الجزع أو الصبر، لكان المعنى سواء عليّ أحدهما، وسواء عليّ
أحدهما كلام محال، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين فصاعدا.
فإن قلت: فقد قال أبو عمرو: إن الأصمعي أنشدهم لرجل من هذيل:
وكان سيان ألّا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح
«2» فأنشدهموه بأو، وسيّان مثل سواء، ألا ترى أنه لا يستقيم
زيد أو عمرو سيان [كما لا يستقيم مع سواء ولا تكون أو بمنزلة
الواو. فالقول في ذلك أن هذا على ظاهر الاستحالة التي ذكرنا،
وإنما استجاز هذا الكلام بأو لأنّه يراه يقول: جالس الحسن أو
ابن سيرين، فيجوز له أن يجالسهما ويسمع: ولا تطع منهم آثما أو
كفورا [الإنسان/ 24] فلا يطيعهما، كما أنه إذا قيل له ذلك
بالواو كان كذلك. فلما رآها
__________
(1) (سواء) قراءة حفص بالنصب وقرأ الباقون بالرفع انظر النشر
2/ 326.
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، ورواية الديوان طبعة دار الكتب
(1: 180).
وكان مثلين ألا يسرحوا نعما ... حيث استرادت مواشيهم وتسريح
ولا شاهد فيها.
يريد: حيث رادت، أي: جاءت وذهبت. تسريح: أي: حيث سرحت.
يقول: إن الموضع مجدب، فسواء سرحوا نعمهم، أم لم يسرحوها، فلا
خصب يرتجى.
ويروى: استراحت مكان: استرادت. السوح: جمع ساحة، وهي الناحية
انظر اللسان (سوا، وسرح)، والخصائص: 1: 348، 2: 465، والخزانة:
2: 342 وشرح أبيات المغني 2/ 30.
(1/266)
تجري مجرى الواو في نحو هذه المواضع أجراها
مجراها مع سواء وسيّان. فهذا كلام حقيقته ما ذكرنا، والذي
سوّغه عند قائله ما وصفنا. وكذلك قول المحدث:
سيّان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
«1» فأمّا قوله: «2» مررت برجل سواء درهمه، وهذا درهم سواء،
فمعناه تامّ فهذا يجوز الاقتصار به على اسم مفرد] «3» وكذلك
قوله تعالى: «4» وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى [القصص/
14] أي: كمل وتمّ. فهذا الفعل مثل هذا الاسم، ولو كان من
التسوية بين الشيئين لم يستغن بفاعل كما لم يستغن سواء عن
اثنين في نحو: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 25].
فأمّا قوله تعالى: «5» ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلى [النجم/ 6] فمعناه: «6» استقام، كقوله:
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى [القصص/ 64]. ولا تكون المقتضية
لفاعلين، لأن الضمير المرفوع لم يؤكد في الآية. فقوله: وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلى جملة
__________
(1) لأبي محمد يحيى اليزيدي من أبيات هجا بها أبا المقاتل.
انظر الخزانة:
4/ 425. وشرح أبيات المغني 2/ 31.
(2) في (ط): قولهم.
(3) ما بين المعقوفين، مكتوب خطأ في (ط) بعد كلمة سواسية
الآتية.
(4) زيادة في (م).
(5) زيادة في (م).
(6) في (ط): معناه، وهو سهو، والفاء في قوله: «فمعناه» ضرورية
من أجل أنها جواب (أمّا).
(1/267)
في موضع الحال. ولم يثنّ سواء كما ثني
سيّان، وإن كانوا قد كسّروه في قولهم: سواسية.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب ابن
السجستاني في ذلك، لأنّ أبا الحسن وأبا عمر زعما أن ذلك لا
يثنى، كأنّهم استغنوا بتثنية سيّ عن تثنية سواء، كما استغنوا
عن ودع بترك. وعلى ما قالا جاء التنزيل في قوله:
سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج/ 25] وقوله: اصْلَوْها
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور/ 16]
فسواء في الآية «1» مرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه
حرف الاستفهام في موضع الخبر، وبالجملة في موضع رفع بأنّها خبر
إنّ.
فأمّا قوله: (لا يُؤْمِنُونَ) فيستقيم أن يكون استئنافا،
ويستقيم أن يكون حالا من الضمير المنصوب على حدّ: معه صقر
صائدا به غدا وبالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة/ 95] ويستقيم أن
تجعله خبر إنّ، فيكون في موضع رفع، ولا يكون لقوله: (سواء
عليهم) وما بعده موضع من الإعراب، كما حكمنا على موضعه بالرفع
فيما تقدم، لأنّه الآن يصير اعتراضا بين الخبر والاسم، ألا ترى
أنه [مما] «2» يؤكد امتناعهم من الإيمان. وهذه «3» الآية ينبغي
أن تكون خاصّة لقوم بعينهم «4»، لأن كثيرا من الكفّار قد
آمنوا.
فإن قلت: لم زعمتم أن (سواء) يرتفع «5» بالابتداء على ما عليه
التلاوة، وأنت إذا قدّرت هذا الكلام على ما عليه
__________
(1) أي آية البقرة/ 6 المتقدمة.
(2) زيادة في (م).
(3) في (ط): فهذه.
(4) في (ط): بأعيانهم.
(5) في (ط): مرتفع.
(1/268)
المعنى فقلت: سواء عليهم الإنذار وتركه كان
(سواء) خبر ابتداء مقدّما، فهلا قلت فيها ذلك أيضا قبل تقدير
الكلام بالمعنى؟.
فالقول في هذا أن (سواء) يرتفع «1» حيث ذكرنا بالابتداء، وإن
كان في قوله: «2» سواء عليهم الإنذار وتركه يرتفع بأنّه خبر
مقدم. وذلك أنه لا يخلو في قولك: سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة/ 6] من أن
يرتفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدأ.
فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنّه ليس في الكلام مخبر عنه،
فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا، لأنّ الخبر إنّما يكون
عن مخبر عنه. فإذا فسد ذلك ثبت أنّه مبتدأ.
وأيضا فإنّه لا يجوز أن يكون خبرا، لأنّه قبل الاستفهام، وما
قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيّز الاستفهام، فلا يجوز إذن
أن يكون الخبر عمّا في الاستفهام متقدّما على الاستفهام.
فإن قلت: كيف جاز أن تكون الجملة التي ذكرتها من «3» الاستفهام
خبرا عن المبتدأ وليست هي هو ولا له ذكر فيها؟
فالقول في ذلك: أنّه كما جاز أن يحمل المبتدأ على المعنى فيجعل
خبره ما لا يكون إيّاه في المعنى، ولا له فيه ذكر، كذلك جاز في
الخبر لأنّ كلّ واحد منها يحتاج أن يكون
صاحبه في المعنى. فما جاز في أحدهما من خلاف ذلك جاز في الآخر،
وذلك قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن
__________
(1) في (ط): مرتفع.
(2) في (ط): قولهم.
(3) في (ط): في.
(1/269)
تراه». «1» ألا ترى أن خيرا خبر عن تسمع،
وكما أخبر عنه كذلك عطف عليه في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن
تراه، والفعل لا يعطف عليه الاسم كما لا يخبر عنه، إلّا أنّ
المعنى لمّا كان على الاسم استجيز فيه الإخبار عنه والعطف
عليه، وجاز دخول لا على الاسم من غير تكرير، كما جاز في قولهم:
هذان لا سواء، لأن الخبر لم يظهر في الموضعين جميعا.
ونظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه
ذكر ما أنشده أبو زيد:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا ... على شجوه إلّا بكيت على
عمرو
«2» فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التي من الابتداء والخبر
موقع التي من الفعل والفاعل في نحو: سواء عليّ أقمت أم قعدت،
فتقول: سواء علي أدرهم مالك أم دينار، وما أبالي أقائم أنت أم
قاعد؟
فالقول في ذلك أنّ أبا الحسن يزعم أنّ ذلك لا يحسن.
قال: وكذلك لو قلت: ما أبالي أتقوم أم تقعد؟ لم يحسن، لأنّه
__________
(1) يضرب لمن خبره خير من مرآة. ويروى: لأن تسمع بالمعيدي خير،
وأن تسمع، ويروى: تسمع بالمعيدي لا أن تراه. وأول من قاله
المنذر بن ماء السماء. والمعيدي: تصغير المعدي، بفتح الميم
والعين وتشديد الدال، خففت الدال استثقالا للتشديد مع ياء
التصغير (انظر مجمع الأمثال:
1/ 913، والقاموس المحيط: عد).
(2) آخر أربعة أبيات رواها في النوادر/ 156، لعبد الرحمن بن
جمانة المحاربي، فإن حراما، أي: واجبا.
(1/270)
ليس معه الحرف الذي يجزم.
ومما يدلّ على ما قال أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء
مع المثال الماضي، كقوله تعالى: «1» سَواءٌ عَلَيْنا
أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا [إبراهيم/ 21] وقوله: سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ [المنافقون/ 6] وسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة/ 6] وقال:
سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى ... بخرقاء أم أنحى لك السيف
ذابح
«2» وقال:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس ... أم لحاني بظهر غيب لئيم
«3» فهذا «4» الكلام، وإن كان قد جرى عليه حرف الاستفهام
__________
(انظر الديوان 2/ 873، وخزانة الأدب: 4/ 461).
(انظر الكتاب: 1/ 488، والخزانة: 4/ 461).
(1) زيادة في (م).
(2) من قصيدة لذي الرمة، مطلعها:
أمن دمنة جرت بها ذيلها الصبا ... لصيداء مهلا ماء عينيك سافح
ذيل الريح: أواخرها. يريد: أماء عينيك سائل من أجل دمنة
لصيداء، ثم قال: مهلا، أي: لا تبك. انصاعت: ذهبت. خرقاء: لقب
مية التي غالب شعره فيها. ويروى: صيداء مكان خرقاء. أنحى لك:
قصد نحوك.
(3) لحسان بن ثابت، من قصيدة يهجو فيها ابن الزبعرى وبني مخزوم
يوم أحد. ديوانه 1/ 40 ت عرفات. نب التيس: صوت عند هياجه.
الحزن:
ما غلظ من الأرض، وخصه لأن الجبال أخصب للمعز من السهول.
(4) في (ط): وهذا.
(1/271)
للتسوية فهو خبر، فلمّا كانوا قد حذفوا حرف
الجزاء واستمرّ حذفه لطول الكلام حيث لو أظهر لم يمتنع- وذلك
نحو لأضربنّه ذهب أو مكث- لزم حذف الحرف هنا «1»
لإغناء حرف الاستفهام عنه لمقاربة الشرط الاستفهام في
اجتماعهما في أنّهما ليسا بخبر، وأنّهما يقتضيان الجواب، وبعض
الحروف قد يغني «2» عن بعض، ألا ترى أنّ أن لم تظهر في قولهم:
ما كان زيد ليقوم، وأنّ أن قد أغنى عن اللام الجارة في نحو:
أتيتك أن احتزّ «3» مودة زيد، ونحو ذلك، وكذلك حروف العطف إذا
نصب بها، فكذلك حروف المجازاة لمّا كانوا قد حذفوه في قولهم:
لأضربنّه ذهب أو مكث، واستمرّ حذفه مع أنّه [لا حرف] «4» يكون
بدلا منه كان حذفه في باب: سواء وما أبالي، للزوم ما ذكرنا من
الحرف له أولى.
ولم يجز أن يقع موقع التي من الفعل والفاعل التي من الابتداء
والخبر، كما لم يجز ذلك في قوله: لأضربنّه ذهب أو مكث، وغير
ذلك من المواضع التي يراد فيها الجزاء، ولم يقع إلّا التي من
الفعل والفاعل، لتدلّ على الجزاء، كما لم تقع «5» إلّا التي من
الفعل والفاعل في نحو: عسى زيد أن يقوم، وكاد يذهب، وبابهما.
ولم يستعملوا المصدر ليجري ذكر المثال الذي يدل على الزمان في
الكلام لما أرادوا من تقريبه، وإن كان المصدر غير ممتنع
استعماله هاهنا، كما قالوا:
__________
(1) في (ط) هاهنا.
(2) في (ط): تغني.
(3) في (ط): اجتر.
(4) ما بين المعقوفين زيادة في (م).
(5) في (ط): يقع.
(1/272)
«عسى الغوير أبؤسا» «1» فإذا كانوا قد
امتنعوا من استعمال الاسم والمصدر هنا، مع أن المعنى في
استعماله غير فاسد، فألّا يستعمل حيث معناه الجزاء ولا يصح
المعنى في غير الفعل أجدر.
فأمّا قوله: «2» سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ
أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف/ 193] فإنّما وقع أَمْ أَنْتُمْ
صامِتُونَ في موضع: أم صمتّم: وجاز ذلك هنا «3» لتقدم التي من
الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الفعل
والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الابتداء
والخبر، كما جاز ذلك في الجزاء، لأنّها هنا «4» بعد حرف، كما
أنّه ثمّ بعد الفاء أو إذا. «5» ولو لم يتقدم «أدعوتموهم» كما
أنّه لو لم يتقدم الشرط في نحو: إن تأتني فلك درهم، أو: فعمرو
مكرم، ونحو ذلك لم يجز وقوع التي من الابتداء والخبر موقع التي
من الفعل والفاعل.
ومثل ذلك في وقوع التي من اسمين موقع الفعل والفاعل
__________
(1) الغوير: تصغير غار. الأبؤس: جمع بؤس، وهو الشدة. وهذا مثل
قالته الزباء لقومها فيما يقال، حين رجع قصير من العراق ومعه
الرجال، فبات بالغوير. على طريقه وقيل غير ذلك، وذكره البخاري
في الفتح 5/ 274 من حديث عمر. معناه: لعل الشر آتيكم من
الغوير. ويضرب للرجل يجيء من قبله الشر. وأبؤسا: منصوب إما على
تقدير أن يكون، وإما على أن عسى بمنزلة كان.
(انظر مجمع الأمثال: 2/ 17 وكتاب الأمثال/ 300، والخصائص 1/ 98
واللسان (غور) (بؤس).
(2) في (ط): وأما.
(3) في (ط): هاهنا.
(4) في (ط): هاهنا.
(5) في (ط): وإذا.
(1/273)
قوله: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ
فِيهِ سَواءٌ [الروم/ 28] فقوله: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ
واقعة موقع التي من الفعل والفاعل، كأنّه قال: هل لكم مما ملكت
أيمانكم شركاء فيساووكم، أي: فكما لا يساويكم مماليككم في
أموالكم فيكونون فيها أمثالكم، كذلك لا تسوّوا ما اتخذتموه
آلهة بمن يملكهم، وبمن خلقهم وبرأهم. وجاز ذلك لوقوعها بعد
الحرف، وأنّ تقدم الاستفهام «1» في قوله: «هل لكم» يضارع تقدم
الشرط، فلذلك جاز هذا. وإذا كان الموضع موضع جزاء، ثبت أنّ
وقوع المضارع لا يحسن في نحو: سواء عليّ أتقوم أم تذهب، كما لا
يحسن في قوله: لأضربنه يمكث أو يذهب، على حدّ لأضربنه ذهب أو
مكث.
وأمّا التقاء الهمزتين في: أَأَنْذَرْتَهُمْ وتحقيقهما: فمن
حجّة من حقّقهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما
اجتمع المثل مع مثله مع «2» سائر حروف الحلق، نحو فهّ «3»
وفههت وكعّ «4» وكععت، كذلك حكم الهمزة.
وممّا يجوّز ذلك ويسوّغه أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان
يحقق الهمزتين وأناس معه. قال سيبويه: وقد تتكلم «5» ببعضه
العرب وهو رديء. «6»
__________
(1) في (ط) حرف الاستفهام.
(2) في (ط): في.
(3) فه، كفرح: عي.
(4) كع كمنع وعلم: جبن وضعف.
(5) في (ط): وقد تكلم.
(6) نص عبارة سيبويه: وقد بلغنا أن قوما من أهل الحجاز من أهل
التحقيق يحققون نبيء، وبريئة. وذلك قليل رديء. (انظر الكتاب:
2/ 170).
(1/274)
ومما يقوّي ذلك من «1» استعمالهم له قولهم
«2»: رأّس «3» وسآل وتذأّبت «4» الريح ورأّيت «5» الرجل. فكما
جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في
غير هذا الموضع.
وممّا يقوي ذلك أنّهم قد أبدلوا منها غيرها في نحو:
يهريق وهيّاك، «6» كما أبدلوها من غيرها في نحو رأيت رجلأ وهذه
حبلأ «7» في الوقف. فكما جرت مجرى سائر الحروف المعجمة في
إبدالها من غيرها وإبدال غيرها منها، كذلك تكون سبيلها في
اجتماعها «8» مع مثلها، كما اجتمع سائر الحروف مع أمثالها.
والحجّة لمن «9» قال: (أانذرتهم)، فلم يجمع بين الهمزتين وخفّف
الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعهما في مواضع من كلامهم.
من ذلك أنّهم لمّا اجتمعتا في آدم وآدر
__________
(1) في (ط): في.
(2) ساقطة من (ط).
(3) الرءّاس بتشديد الهمزة ممدودة: بائع الرءوس، وكذلك همزة
سأّل.
(4) تذأبت الريح: جاءت في ضعف من هنا وهنا.
(5) رأيت الرجل بتشديد الهمزة: أريته على خلاف ما أنا عليه،
ورأيته أيضا: عرضت عليه المرآة وحبستها له ينظر فيها.
(6) لغة من سبع لغات في إيا (انظر الهمع: 1: 61).
(7) قال سيبويه: «وزعم الخليل أن بعضهم يقول: رأيت رجلأ،
فيهمز، وهذه حبلأ، وتقديرهما رجلع، وحبلع، فهمز لقرب الألف من
الهمزة، حيث علم أنه سيصير إلى موضع الهمزة، فأراد أن يجعلها
همزة واحدة، وكان أخف عليهم» انظر الكتاب: 2: 285.
(8) مع مثلها ساقطة من (ط).
(9) في (ط): لقول من.
(1/275)
وآخر، ألزموا جميعا الثانية البدل، ولم
يحقّقوا الثانية، ولما كسّروا وحقّروا جعلوا هذه المبدلة
بمنزلة ما لا أصل له في الهمز فقالوا: أواخر وأويخر، فأبدلوا
منها الواو، كما أبدلوها ممّا هو ألف لا يناسب الهمزة، نحو:
ضوارب وضويرب. ففي هذا دلالة بيّنة على رفضهم اجتماعهما. ألا
ترى أنهم لم يرجعوها في التحقير والتكسير كما رجعوا الواو في
ميقات وميعاد والياء من موسر في قولهم: مواقيت ومياسير. ففي
ذلك دلالة بيّنة على رفضهم لجمعهما.
ومن ذلك أنّا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا
ذلك في سائر أخوات الهمزة من الحلقية، كقولهم:
مهاه وفهّ ويدعّ اليتيم ومحّ وألحّ وضغيغة «1» ومخّ. فأن لم
يجمعوا بين الهمزتين في الموضع الذي جمع فيه بين أخواتها،
وكرّرت، دلالة على رفضهم لجمعهما. وإذا لم يتوال ذلك في بنات
الثلاثة، فألّا يتوالى ذلك في بنات الأربعة أولى.
فأمّا نحو: نأنأ «2» وطأطأ «3» وبأبأ «4» الصبيّ أباه، فقد حجز
الحرف بينهما، وإنّما الذي ينكر تواليهما من غير أن يحجز
بينهما شيء. ومن ثم قال أبو الحسن في بناء مثل قمطر من
__________
(1) المهاه: الطراوة والحسن. والفه: العي، ويدع اليتيم: يدفعه،
ومح الثوب: بلي، ومن معاني الضغيغة: الروضة الناضرة، والعجين
الرقيق (اللسان).
(2) نأنأ في الرأي: ضعف ولم يبرمه وعنه: قصر وعجز.
(3) طأطأ عن الشيء: خفض رأسه عنه، وطأطأ فرسه: نحزه بفخذيه،
وحركه للحضر، أي: السرعة.
(4) بأبأ الصبي أباه: قال: بابا.
(1/276)
قرأت: قرأي، فلم يكرّر الهمزة، كما تكرّر
سائر اللامات، نحو جلبب «1» وقعدد «2» وعوطط «3». ومن ذلك أنهم
ألزموا باب رزيئة وخطيئة عمّا يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه،
فقالوا: خطايا ورزايا. فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا
ذلك الأصل، كما أنّه لو «4» كان لتحرك العينات في نحو: قال
وباع مجاز ما ألزموهما القلب.
فإن قال: «5» فقد حكي عن بعضهم: خطائىء، بتحقيق الهمزتين فذلك
يجري مجرى الأصول المرفوضة، نحو:
.... ظننوا «6» ..... والأظلل «7»
__________
(1) جلببه: ألبسه الجلباب، وهو القميص، وثوب واسع دون الملحفة،
تلبسه المرأة.
(2) القعدد، من معانيه: الحامل والجبان اللئيم القاعد عن
المكارم.
(3) العوطط: الناقة لم تحمل سنين من غير عقر، عاطت تعيط،
وتعوط.
(4) ساقطة من (ط).
(5) في (ط): قلت.
(6) من قول قعنب بن أم صاحب:
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... أني أجود لأقوام وإن ضننوا
(انظر الصفحة/ 121 من هذا الجزء).
(7) من قول أبي النجم من رجز طويل يصف فيه الإبل لهشام بن عبد
الملك:
تشكو الوجى من أظلل وأظلل وبعده:
من طول إملال وظهر مملل تشكو، الضمير فيه للإبل. الوجى: الحفى.
الأظل: باطن خف البعير.
الإملال: مل عليه السفر وأمل: طال، والمراد بالإملال السفر، أو
أنه من
(1/277)
ولو جاز الاعتداد بذلك وبما «1» أشبهه لجاز
أن يقال في تكسير مطية: مطائي لقول «2» بعضهم سماء، «3» فإذا
كانوا قد رفضوا ذلك في حال السعة والاختيار- مع أنّه أسهل من
اجتماع الهمزتين- فأن يرفض «4» اجتماع الهمزتين أجدر.
ومن ذلك أنهم إذا بنوا اسم فاعل من ناء وساء وشاء «5» وجاء
قالوا: شاء «6» وناء، فرفضوا الجمع بينهما في هذا الطرف- كما
رفضوه أولا في آدم وآخر- إما بالإبدال وإما بالقلب كما يقوله
الخليل، وأخذوا- على قول النحويين غير الخليل «7» - بما رفضوه
في غيره من توالي الإعلالين. فلولا أنّ اجتماعهما عندهم أبعد
من توالي الإعلالين لم يأخذوا بتواليهما المرفوض من كلامهم في
هذا الموضع، كما أن إخلاء الفعل من الفاعل لولا أنّه أبعد
عندهم من الإضمار قبل الذكر لم يأخذوا بالإضمار قبل الذكر في
مثل: نعم رجلا، وضربني وضربت زيدا لمّا كان يلزمهم في هذه
المواضع إخلاء الفعل من الفاعل.
ومن ذلك أن من قال: هذا فرجّ وهو يجعلّ، فضاعف
__________
أمله وأمل عليه، أي: أسامه. (انظر الكتاب: 2: 161، وشرح شواهد
الشافية: 491).
(1) في (ط): وما.
(2) في (ط): كقول.
(3) أحد جموع سماء أصلها سمائي وزنه فعائل، وقد جاء هذا الوزن
في قول أمية بن أبي الصلت:
له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق سبع سمائيا
انظر اللسان (سمو). وديوان أمية ص 528.
(4) في (ط): يرفضوا.
(5) في (ط): ناء وشاء وساء.
(6) في (ط): شاء وساء.
(7) في (ط): في غير هذا الموضع.
(1/278)
في الوقف حرصا على البيان لم يضاعف نحو
النبأ والرشإ، لكنه رفض هذا الضرب من الوقف وما كان يحرص عليه
من البيان، لمّا كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما
رفضوه: من اجتماع الهمزتين.
ومن ذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة كرهها «1» أهل
التخفيف حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا يلزمهم تحقيقها، وقد
وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في يرى. فلمّا
كرهوا ذلك في الإفراد وجب إذا تكررتا ألا يجوز إلا التغيير،
ألا ترى أنّ الواو المفردة المضمومة لمّا كنت مخيّرا في
تصحيحها وقلبها، ثم انضم إليها أخرى، لزم قلبها وامتنع تصحيحها
الذي كان يجوز فيها قبل التكرر، فكذلك الهمزة إذا انضمت إليها
أخرى، لزم رفضهما وامتنع جمعهما، كما كان ذلك في الواوين. فكما
لم يجمع أحد بين هاتين الواوين كذلك يجب ألا يجمع بين
الهمزتين.
ومن ذلك أنّ ناسا- إذا اجتمعتا من كلمتين- فصلوا بينهما بالألف
في نحو:
أاأنت زيد الأرانب «2» كما فصلوا بين النونات في نحو اخشينانّ.
فكما ألزموا الفصل بين النونات بالألف، كذلك يلزم في آأنت لئلا
تجتمع
__________
(1) في (ط): كرهه.
(2) جزء من بيت لذي الرمة وتمامه:
تطاللت فاستشرفته فعرفته ... فقلت له: آأنت زيد الأرانب
انظر ديوانه: 3/ 1849.
(1/279)
الهمزتان. بل ذلك في الهمزتين ينبغي أن
يكون ألزم، لما قدّمنا لرفضهم لهما وجمعهم في التضعيف بين أكثر
من حرفين نحو ردّد وشدّد. فإذا كانوا قد ألزموا النون في
اخشينان [الفصل] «1» بين ما يجتمع مثله فأن يلزموها بين ما
رفضوا الجمع بينهما أجدر.
فهذه الأشياء تدلّ على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم.
فأمّا جمعهما وتحقيقهما في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) فهو أقبح من
تحقيقهما من «2» كلمتين منفصلتين، نحو قرأ أبوك ورشأ أخيك،
لأنّ الهمزة الأولى من (أَأَنْذَرْتَهُمْ) تنزّل منزلة ما هو
من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد، ألا ترى أنّهم قالوا:
لهو وفهو، ولَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الحج/ 58] ولهي،
فخفّفوا ذلك كله، كما خفّفوا عضدا فقالوا: عضد، فكذلك الأولى
في (أأنذرتهم) لمّا لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في
آخر، كما نزّلت الحروف المفردة التي ذكرتها «3» منزلة فاء
الفعل في عضد وفخذ.
فأمّا إذا كانتا من كلمتين فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا،
ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يردّ ويعضّ، لا يكون
فيهما إلا الإدغام؟ ولو كانا منفصلين نحو: يد داود لكنت في
الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق
__________
(1) زيادة في (ط).
(2) في (ط): في.
(3) في ط: ذكرناها.
(1/280)
الهمزتين في (أأنذرتهم) وما أشبهه أبعد منه
في الكلمتين المنفصلتين.
وممّا يقوّي ترك الجمع بين الهمزتين «1» أنّهم قد قالوا في جمع
ذؤابة: ذوائب، فأبدلوا من الهمزة التي هي عين واوا في التكسير
كراهة للهمزتين «2» مع فصل حرف بينهما.
فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما فأن
يكرهوهما مجتمعتين غير مفصول بينهما بشيء «3» أجدر. وإذا كان
الجمع بينهما في: (أأنذرتهم) من البعد ما أريتك فالجمع بينهما
في أئمة أبعد، لأنّ الهمزتين لا تفارقان الكلمة، وهمزة
الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره. فكلّما كانتا أشد لزوما
للكلمة كان التحقيق منهما «4» أبعد.
وممّا يدلّ على ضعف جمع الهمزتين وأن مذهب الجمهور من العرب
رفضه عزّتها في باب أجأ «5» وآءة «6» وإنّما قلّ ذلك من حيث لم
يستجيزوا اجتماع الهمزتين فأجروا نحو أجأ ذلك المجرى، لمّا كان
الفصل بحرف واحد قد جرى في كلامهم مجرى غير الفصل. وذلك نحو
قولهم «7» هو ابن عمي دنيا وقنية وعلية وعليان، وهما من علوت.
وكذلك رفضوا افعل من حيث رفضوا فعل، وإن كان الفصل في افعل قد
وقع بالحرف، فلما لم يعتد بالحرف الفاصل وقلبت الكسرة الواو
__________
(1) في (ط): الهمزتين من أأنذرتهم.
(2) في (ط): كراهية للهمزتين.
(3) في (ط): بشيء بينهما.
(4) في (ط): فيهما.
(5) أجأ، على فعل بالتحريك: جبل لطيء.
(6) الآءة، واحدة الآء: شجر، أو تمر.
(7) في (ط): وذلك قولهم.
(1/281)
ياء، كما قلبته في ثيرة وسياط، ولم يكن
بالفصل اعتداد، كذلك لم يكن الفصل بالحرف في نحو أجأ فصلا،
فرفض ذلك كما رفض التحقيق في جاء ونحوه.
فأمّا تحرك الجيم في أجأ «1» وسكون الحرف في دنيا فإن الحركة
في هذا النحو قد لا يعتدّ بها لقلّتها، ألا ترى استجازتهم
لحذفها في الزحاف؟.
ومثل دنيا في أن الحرف الفاصل لم يعتدّ به قولهم:
معديّ في معدوّ، ومرضيّ ومسنيّة. «2» ومثله: صيّم وقيّل. ونحو
ذلك، ومثله: قائل وبائع، جعل الحرفان كأنّهما وقعا طرفا حيث
كان الفاصل بينهما وبين الطرف حرفا. «3» ومثله: أوليّاء «4»
أوقعت الألف التي آخرا قبل الآخر بحرف لمّا كان الفاصل بينه
وبين الطرف حرفا واحدا. ومثله: أوائل وعيائل، ولو كان الفاصل
حرفين كطواويس لم يعلّ. «5» فكما أنّ الحرف المفرد في هذه
المواضع لم يفصل، كذلك في باب أجأ لم يفصل، فقلّ ذلك لمّا كان
الحرف المفرد في هذه المواضع غير معتدّ به. وإذا لم يعتدّ به
صارت الهمزتان كأنّهما قد التقيا، «6» والتقاؤهما ممّا قد
رفضوه، فكذلك رفضوا ما كان في حكم التقائهما.
__________
(1) في (ط): في نحو.
(2) مسنية: من سنت السانية الأرض تسنوها، أي سقتها، فالأرض
مسنوة ومسنية.
(3) في (ط): حرفا واحدا.
(4) تصغير أولاء، وقياس تصغير نظائرها أن تكون الألف في الآخر،
نحو: ذيا في تصغير: ذا.
(5) في (ط): ولم يعل.
(6) في (ط): التقتا.
(1/282)
فإن قلت: إن سيبويه قد ذهب في ألاءة «1»
وأشاءة «2» ونحوهما إلى أن اللام يجوز أن تكون همزة، وقد جاء
من ذلك حروف. قيل: لم يكن هذا مثل أجأ، للفصل بالزيادة، ألا
ترى أنّ الفاصل الذي لم يعتدّ «3» في أوائل لمّا انضم إليه حرف
آخر في طواويس اعتدّ به فصلا، وإن كان زائدا فلم يعلّ الحرف،
فكذلك الفصل هاهنا «4» لمّا وقع بالزيادة لم يمتنع الحكم عنده
بأن اللام همزة، كما امتنع حيث كان الفصل حرفا واحدا. وقد وجدت
الزيادة تسوّغ في تألف الحروف ما لولا مكانها لم يسغ.
ألا ترى أنّه ليس مثل قنر «5» بلا فاصل بين النون والراء وقد
قالوا: شنّير «6» وقالوا: الشّنار، وقالوا: سنّور «7» وسنوّر
«8» فائتلف لفصل الزيادة ما لم يكن يأتلف لولا فصلها؟ فكذلك
فصل الزيادة بين الهمزتين في ألاءة وأشاءة فيما ذهب إليه.
وجاء ذلك في طأطأ «9» ونأنأ «10» ودأدأ «11» للفصل الواقع
بينهما، ولأنّ ما يعرض في الثلاثة «12» من كثرة التصرّف لا
يعرض في هذا الباب.
__________
(1) الألاءة، واحدة الآلاء: شجر حسن المنظر، مر الطعم، لا يزال
أخضر صيفا وشتاء.
(2) الإشاءة: واحدة الأشاء، وهو صغار النخل.
(3) في (ط): به.
(4) في (ط): هنا.
(5) قنر: هذه كلمة لم توضع في اللغة، وإنما يراد بتأليفها أن
العرب لم تصغ عليه.
(6) الشنير: السّيّئ الخلق.
(7) السنور: الهر.
(8) السنور: لبوس من قد كالدرع، وجملة السلاح.
(9) طأطأ عن الشيء: خفض رأسه عنه، وطأطأ فرسه: نحزه بفخذيه
وحركه للحضر، أي السرعة.
(10) نأنأ في الرأي: ضعف ولم يبرمه، وعنه: قصر وعجز.
(11) دأدأ: عدا أشد العدو.
(12) في ط: في
(1/283)
واعلم أن قول سيبويه: ليس من كلام العرب أن
تلتقي همزتان فتحقّقا، وقوله في باب الإدغام: «1» إن ابن أبي
إسحاق وناسا معه يحقّقون الهمزتين وقد تكلّم ببعضه العرب وهو
رديء، ليس على التدافع ولكن لأنّه لم يعتدّ بالرديء، أو يكون
لم يعتد بالتقاء المحقّقتين لقلّة ذلك بالإضافة إلى ما خفّف
إذا اجتمعا. وقد عمل ذلك في أشياء نحو انقحل «2» فعلى هذا يحمل
ذلك أيضا من قوله.
قالوا: فلمّا رأيناهم قد رفضوا اجتماع الهمزتين في هذه
المواضع، لم نجمع بينهما وخفّفنا الثانية، لأنّ في تخفيفها
تقريبا من الألف، ألا ترى أنّ الهمزة إذا كانت مبتدأة لم تخفف
لأنّ في تخفيفها تقريبا من الساكن؟ فكما أن الساكن لا يبتدأ به
كذلك ما قرب من الساكن. فكما جرت مجرى الساكن في تقريبهم
إيّاها منه، كذلك تجرى مجراه إذا خففنا الثانية، فتصير بعد
الأولى كالألف بعدها. فكما لم تكره الألف بعدها في نحو أادم
وأاخر، كذلك المخفّفة بعدها في: «3» (أانذرتهم) لا تكره بعدها،
كما تكره إذا حقّقت لما أرينا، مما دلّ على رفض العرب الجمع
بينهما محقّقتين.
وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفّف الهمزة الثانية
__________
(1) انظر الكتاب: 2/ 410، وأول العبارة هناك: وزعموا أن ابن
أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه ...
(2) الإنقحل: الذي يبس جلده على عظمه، والفعل قحل كفرح.
والمؤلف يريد أن سيبويه ذكر في الكتاب انقحلا وقال: «وانقحل في
الوصف لا غير»، ولم يعتد بنحو انزهو لندوره. انظر الكتاب: 2/
317.
(3) في (ط): في نحو.
(1/284)
مع الفصل بينهما بالألف. وهو الثّبت عن أبي
عمرو عندنا، لأن سيبويه زعم أن ذلك هو الذي يختاره أبو عمرو.
وقد قال أحمد بن موسى: «1» إن خلفا «2» روى عن أبي زيد ذلك في
اختلاف الهمزتين، نحو (آينّكم) و (آنزل) «3» أنّه بألف بين
الهمزتين وتليين الثانية ولم يفصل سيبويه في حكايته عن أبي
عمرو بين المتفقتين والمختلفتين، ألا ترى أنّه قال:
وأما أهل الحجاز فمنهم من يقول آئنك وآأنت «4» [المائدة/ 116]،
ثم قال: وهي التي يختار أبو عمرو، «5» فلم يفصل بينهما.
وسيبويه وأبو زيد أضبط لمثل هذا من غيرهما.
من حجّته أن يقول: إنّي أدخلت الألف بينهما وإن جعلت الثاني
بين بين، لأنّها إذا كانت على هذه الصفة فهي في حكم المتحرك،
«6» وتخفيفي إياها بأن جعلتها بين الألف والهمزة ليس يخرجها عن
أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، ألا ترى أنّها
إذا كانت مخفّفة في الوزن مثلها إذا كانت محققة؟ ولولا ذلك لم
يتّزن قوله:
__________
(1) هو ابن مجاهد. وقد سبقت ترجمته في ص/ 6.
(2) هو خلف بن هشام أبو محمد البزار المقرئ الأسدي البغدادي.
أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة. ولد سنة 150،
وحفظ القرآن وهو ابن عشر سنين. وكان ثقة كبيرا، زاهدا عابدا
عالما، وسمع من الكسائي الحروف ولم يقرأ عليه. مات سنة 229
ببغداد (طبقات القراء: 1/ 272).
(3) قراءة قالون، وأبي عمرو، وأبي جعفر. انظر إتحاف فضلاء
البشر: 28.
(4) قراءة الحلواني. (إتحاف فضلاء البشر ص 29).
(5) انظر الكتاب: 2/ 168.
(6) في (ط): المتحركة.
(1/285)
أأن رأت رجلا أعشى «1» لأنّه كان يجتمع فيه
ساكنان وكذلك قول الآخر:
كل غراء إذا ما برزت «2» ويدلّ على أنّ المخفّفة من الهمزتين
في حكم المحقّقة عند العرب أنّهم أبدلوا الهمزة الثانية إبدالا
في المواضع التي اجتمعت فيها همزتان في كلمة واحدة ولم يخفّفوا
الثانية. وذلك نحو: آدم، وجاء، وخطايا. ألا ترى أن آدم لو كان
قلبها فيه على حدّ القلب في رأس وفأس ورأي لكنت إذا «3» كسّرته
رددت الهمزة في التكسير، كما أنّك لو كسّرت فاسا وراسا ورايا
لقلت: أرؤس وأرآء. فلو كنت في راي إذا خفّفت إنّما خففت على حد
التخفيف في آدم لقلبت الهمزة في التكسير ياء أو واوا، فقلت:
أرواء أو أرياء، ولكنت تقول إذا جمعت رايا على فعول رييّ
فتقلبها ياء، كما قلبوها في أيمّة ياء لمّا تحركت
__________
(1) هو من قول الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر مفسد خبل
من قصيدة:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
ويروى مفند مكان مفسد. المنون: الدهر. خبل: ملتو بأهله. مفند:
مخطئ في قوله. انظر الديوان/ 55، والكتاب: 1/ 476، 2/ 167).
(2) عجزه:
ترهب العين عليها والحسد أورده الكتاب (2/ 167) غير منسوب، ولم
ينسبه الأعلم: وقال في شرحه: وصف امرأة حسناء إذا بدت للناظرين
خيف عليها الأخذ بالعين لحسنها.
(3) ساقطة من (ط).
(1/286)
بالكسر، ألا ترى أنّك إذا قلبتها في ذئب
وبئر ياء للكسرة التي قبلها، فكذلك تقلبها ياء في أيمّة للكسرة
التي عليها. وقال أبو زيد في جمع رأي أرآء ورئيّ بتحقيق الهمز
فيهما وأنشد غيره:
ولا يشارك في أرآئه أحدا «1» وقال الراعي في جمع نؤي:
وأنآء حيّ تحت عين مطيرة ... عظام القباب ينزلون الروابيا
«2» وكذلك الهمزة في رأيت جائيا لم تقلبها كما تقلبها في تخفيف
المئر «3» إذا قلت: مير، وإن اتفق اللفظتان كما اتفق اللفظ في
بريّة وخطيّة، وإن كان بريّة قلبها للإبدال غير التخفيف، وقلب
خطيّة للتخفيف، كما كان لفظها في رال «4» وباس إذا خففت كلفظها
في آدم، فكذلك قولك: رأيت جائيا وشائيا وسائيا ونائيا، لا يكون
القلب فيه على حدّ مير «5» وذيب. «6» ولو كان كذلك لجعلتها بين
بين إذا قلت مررت بجاء، «7» كما أنّك لو قلت: مررت برجل جئز
«8» لجعلتها بين
__________
(1) لم نعثر على قائله.
(2) الأنآء جمع نؤي، وهو حفير حول الخباء أو الخيمة، يمنع
السيل.
(3) المئر: جمع مئرة، وهي الذّحل والعداوة والنميمة.
(4) الرأل: ولد النعامة، وهي رألة.
(5) الميرة: الذحل والحقد.
(6) قال في الكتاب (2/ 164): «وإن كان ما قبلها (الهمزة)
مكسورا أبدلت مكانها ياء، كما أبدلت مكانها واوا وإذا كان ما
قبلها مضموما، وألفا إذا كان ما قبلها مفتوحا. وذلك الذئب
والمئرة ذيب وميرة.
(7) أي كنت تقول: مررت برجل جائئ بجعل الهمزة الثانية بين بين.
(8) جئز الرجل: غص بالماء ونحوه كما في اللسان. ويريد كسر
الجيم في جئز
(1/287)
بين، وجعلتها كذلك في موضع الرفع إذا قلت:
هذا جاء في قول سيبويه «1» الذي زعم أنّه قول العرب، والخليل،
وقلبتها ياء في قول أبي الحسن، فقلت: جائي، فتحرّك الياء
بالضمّ ولا تحذفها. فلمّا لم يكن على واحد من هذين الأمرين
علمت أنّهم قلبوها قلبا. فلمّا لم يخفّفوا الهمزة في هذه
المواضع التي ألزمت القلب فيها لاجتماع الهمزتين، ولكن قلبوها
قلبا، علمنا أن المخفّفة التخفيف القياسي في حكم المحقّقة
عندهم إذ «2» رفضوا المخفّفة التي بين بين في المواضع التي
أرينا، مع المحقّقة، كما رفضوا المحقّقتين. فإذا رفضوها رفضها
لم يجز أن يجتمعا، كما لم يجز أن يجتمع المحقّقتان، وإذا لم
يجز اجتماعهما مخفّفة الآخر منهما كما لم يجز اجتماعهما
محقّقتين في (أأنذرتهم) لزم ألّا يجمع بينهما، ولا سبيل إلى
ترك الجمع بينهما إلّا بأن تحذف إحداهما أو تقلب أو يفصل
بينهما بالحاجز الذي هو الألف.
فلما لم يجز الحذف في واحد منهما ولا القلب لأنّه ليس من
المواضع التي تقلب فيها الهمزة، ثبت وجوب الفصل بينهما بالألف،
ووجب إلزام الفصل بينهما بها، إذ كان الجميع قد ألزموا الفصل
بها بين الأمثال في قولهم: اخشينانّ، مع أن هذه الأمثال قد
جمعوا بينهن في «3» ردّد وشدّد وقضّض، وما أشبه ذلك.
__________
اتباعا لكسر الهمزة حتى يتم تمثيل جائئ به.
(1) انظر الكتاب: 2/ 164.
(2) في (ط): إذا.
(3) في (ط): في نحو.
(1/288)
فإذا ألزموا الفصل بها بين الأمثال التي لم
يرفضوا الجمع بينها في نحو: ما ذكرنا فأن يلزموا الفصل بها بين
ما رفضوا الجمع بينه من الهمزتين والهمزات أولى. وإذا كان كذلك
ثبت أن أولى هذه الوجوه وأصحّها في مقاييس العربية الفصل
بينهما بالألف. وإذا «1» لزم الفصل ففصل خفّف الثانية على لغة
أهل الحجاز، كما خفّفوها في نحو: هباءة وقراءة، ألا ترى أن
الألف التي للفصل بمنزلة التي في هباءة، وأنّهم خفّفوا الهمزة
المفتوحة بعدها، كما خفّفوا المكسورة والمضمومة بعدها في نحو
المسائل وهذا جزاء زيد؟ وما رواه أبو زيد وسيبويه والعباس «2»
بن الفضل عن أبي عمرو من إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين
المختلفة حركتاهما، نحو: آأنزل وآألقى، كإلحاقه إياها بين
الهمزتين المتّفقة حركتاهما؛ نحو (آأنذرتهم) أثبت في القياس من
رواية من حكى عنه الفصل، ألا ترى أن هذه الألف إنما فصل بها
كراهة لاجتماع الهمزتين، وأنّ الحركة الفاصلة بينهما، وهي حركة
الهمزة الأولى سواء كان فتحة أو ضمة أو كسرة. فأمّا حركة
الهمزة الثانية فبعد التقاء الهمزتين. فإذا كان كذلك فلا فصل
بين (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وأَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ [القمر/ 25]
وأَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ [الأنعام/ 19] من طريق القياس.
وإذا اختلفت الرواية وكان أحد الفريقين أضبط، وعضد الضبط
والثبت القياس، وموافقة الأشباه، كان الأخذ بما جمع
__________
(1) في (ط): فإذا.
(2) العباس بن الفضل. هو أبو الفضل الأنصاري البصري. ستأتي
ترجمته ص 376.
(1/289)
هذين الوصفين أولى وأرجح. وما روي عن أبي
عمرو من قوله: (آأنذرتهم) إنّما هو عندنا على الاستئناف «1»
دون الدرج.
ولو أدرج القراءة فقال: (سواء عليهم أأنذرتهم) لوجب في قياس
قول أبي عمرو الذي حكاه عنه سيبويه أن يحذف الهمزة الأولى من
(أأنذرتهم) لسكون ما قبلها، ويلقي حركتها على الميم، فإذا فعل
ذلك لزم أن يحذف الألف التي كانت مجتلبة للفصل، ويخفّف
الثانية، كما كان خفّفها وقد فصل بينها وبين الأولى بالألف،
فيجعلها بين بين فيقول: (عليهم أأنذرتهم).
وكذلك قياس قوله في: (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) «2» أن يقول:
قل أإنكم لتشهدون «3» [الأنعام/ 19] ألا ترى أنّك لو حذفت
النون الأولى «4» من اخشينانّ فقلت: اخشينّ يا هذه أو اخشينّ
يا هذا لحذفت «5» الألف، لزوال ما أردت الفصل بها «6» بين
النونات؟
فإن قلت: فكيف يستقيم له أن يحذف حرفا قد كان أثبته، فإنّ ذلك
لا يمتنع فيما يلزم من حكم الوصل والوقف، ألا ترى أنّك إذا
وصلت قوله فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ «7» قلت:
(فليؤد الذيتمن أمانته)؟ وإن شئت همزت فحذفت الياء من الذي
وهمزة الوصل، وقلبت الواو التي كانت في قولك:
__________
(1) يريد بالاستئناف الابتداء بها والوقوف على «عليهم»، ويريد
بالدرج الوصل.
(2) في (ط): قل أاإنكم لتشهدون.
(3) في (ط): قل إنكم لتشهدون.
(4) ساقطة: من (ط).
(5) في (ط): فحذفت.
(6) في (ط): به.
(7) سورة البقرة: 283، وهي قراءة ورش وأبي جعفر وأبي عمرو.
الإتحاف:
101.
(1/290)
اؤتمن «1» ياء أو همزة فهذا أكثر في
التغيّر مما ذكرت لك من حذف الألف المجتلبة للفصل ولا خلاف في
ذلك بين الناس، فكذلك حكم حذف الألف المجتلبة للفصل بين
النونات إذا وصلت الهمزة الأولى بما قبلها من الساكن.
بسم الله «2»
[البقرة: 7]
قوله تبارك وتعالى: «3» غِشاوَةٌ في سورة البقرة. [الآية/ 7]
قرءوا كلهم رفعا، إلّا أنّ المفضل الضبيّ روى عن عاصم (وعلى
أبصارهم غشاوة) بالنصب «4».
قال أبو علي: قالوا: ختم على كذا يختم، قال تعالى: «5» فَإِنْ
يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى/ 24] وقال:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس/ 65] والمصدر الختم.
وقالوا طبع عليه بمعنى ختم عليه. وقد قالوا: طبعه فعدّي بلا
حرف. ولا يمتنع ذلك في القياس في ختم، قال:
كأنّ قرادي زوره طبعتهما ... بطين من الجولان كتّاب أعجما
«6» وقد روي عن الحسن في قوله تعالى:
__________
(1) أي في الابتداء بها.
(2) زيادة في (م).
(3) في (ط): عز وجل.
(4) السبعة 138.
(5) في (ط): قال، بدون تعالى.
(6) البيت لملحة الجرمي، وقيل: لعدي بن الرقاع، يمدح عمر بن
هبيرة.
قرادي زوره: يريد حلمتي ثدييه، الواحد قراد. الجولان: موضع
بالشام، بينه وبين دمشق مسيرة ليلة. وطين الجولان إلى السواد.
كتاب أعجم، يريد كتاب الروم والفرس، لأنهم حينئذ كانوا أحذق
بالكتابة.
يصف قراديه بالصغر، ويشبههما بأثر طين خاتم ختمه بعض كتاب
العجم (انظر شرح التبريزي للحماسة: 4/ 267، والصحاح، والأساس
واللسان
(1/291)
مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ
[المطففين/ 25]. أنّه قال مقطعه مسك.
وأظنّ «1» أبا عبيدة «2» اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير
الآية، «3» لأنّه قال في قوله: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ
مَخْتُومٍ: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد
لابن مقبل:
مما يفتّق في الحانوت ناطفها ... بالفلفل الجون والرمان مختوم
«4» فتأوّل الختام على العاقبة ليس على الختم الذي هو الطبع.
وهذا قول الحسن: مقطعه مسك.
ولا يستقيم أن يتأوّل المختوم في الآية في صفة الرحيق على معنى
الختم الذي هو الطبع لقوله: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ [محمد/ 15] وقال: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
[الواقعة/ 17] وقال: «5» يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات/ 46] فقوله:
(بيضاء) مثل قوله: قواريرا قواريرا من فضة [الإنسان/ 15 - 16]
أي: قوارير كأنّها في بياضها من
__________
(قرد) وينسبه الأساس إلى ابن ميادة. والرواية فيها جميعا أعجم
بكسر الميم. والبيت آخر خمسة أبيات أوردها التبريزي مجرورة
الروي.
(1) في ط: وأظن أن.
(2) انظر مجاز القرآن له 2/ 290.
(3) في (ط): هذه الآية.
(4) يفتق، فتق الشيء، شقه. الحانوت: دكان الخمار. ناطف، نطف
الماء كنصر وضرب: سال. الجون: يطلق على الأبيض والأسود، ويروى
الشطر الأول في الديوان (268): صرف ترقرق في الناجود ناطلها.
والمعنى:
آخر ما تجد من طعم هذه الخمر هو طعم الفلفل والرمان.
(5) في (ط): وقال عز وجل.
(1/292)
فضة. فهذا على التشبيه لا على أن القوارير
من فضة قال:
حلبانة ركبانة صفوف ... تخلط بين وبر وصوف
«1» أي: كأن يديها في إسراعها في السير يدا خالطة وبرا بصوف،
فالمعنى على التشبيه وإن لم يذكر حرفه.
وقال: «2» فهنّ إضاء صافيات الغلائل «3» ومثل قوله تعالى: «4»
خِتامُهُ مِسْكٌ [المطففين/ 26] قوله تعالى: كانَ مِزاجُها
كافُوراً [الإنسان/ 5] المعنى فيها أنّها في طيب الرائحة
وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور.
__________
(1) في الصحاح (حلب): تجمع مكان تخلط. وقبله كما في اللسان
(حلب، وصوف): أكرم لنا بناقة ألوف حلبانة: ذات لبن. ركبانة:
تصلح للركوب. صفوف: تصف أقداحا من لبنها إذا حلبت لكثرة ذلك
اللبن. تخلط بين وبر وصوف، أي: تباع فيشترى بثمنها غنم وإبل،
وقال الأصمعي: تسرع في مشيتها. شبه رجع يديها بقوس النداف الذي
يخلط بين الوبر والصوف.
(2) في (ط): قال.
(3) صدره:
علين بكد يون وأبطنّ كرّة والبيت للنابغة في وصف الدروع.
ويروى: أشعرن مكان أبطن.
الكديون، كفرعون: دقاق التراب عليه دردي الزيت، تجلى به
الدروع.
الكرة: البعر العفن، تجلى به الدروع. الإضاء جمع أضاة وهي
الغدير أراد أنهن مثل الاضاء وقد يجوز أن يريد فهن وضاء، أي
حسان، جمع وضيء، ثم أبدلت الهمزة من الواو. (انظر اللسان: أضا،
وكر) والديوان/ 71.
(4) في (ط): قوله، بدون تعالى.
(1/293)
فأمّا قوله: كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا
[الإنسان/ 17] فإنّه يدلّ على لذاذة المطعم، لأنّ الزنجبيل
يحذي «1» اللسان.
وزعموا: أنّ ذلك من أجود الأوصاف للخمر عند العرب، قال الأعشى:
معتقة قهوة مزّة «2» ومثل تشبيهها بالزنجبيل في الآية للذاذة
المطعم قوله:
كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأريا مشورا
«3» فهذا يريد به طيب الطعم، لذكره مع ما يطعم، ويدلّ على
أنّهم يقصدون ما يحذي اللسان بالوصف بطيب الطعم قول ابن مقبل:
........ ناطفها ... بالفلفل الجون والرّمان مختوم
«4» فأمّا قوله تعالى: «5» وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ
النَّبِيِّينَ «6» [الأحزاب/ 40] فخاتم اسم فاعل من ختمهم أي
صار آخرهم.
والأحسن أن تجعله اسم فاعل ماض ليكون معرفة، لأن قبله
__________
(1) يحذي اللسان: يقرصه.
(2) لم نعثر عليه في ديوانه.
(3) البيت للأعشى، ورواية الديوان (93).
كأن جنيا من الزنجبي ... ل خالط فاها وأريا مشورا
الأري: العسل. المشور، شار العسل من باب قال: اجتناه.
(4) سبق قريبا ص 292 من هذا الجزء.
(5) في ط: قوله، بدون تعالى.
(6) سورة الأحزاب: 40، وهي قراءة السبعة عدا عاصم، فقد قرأ
بفتح التاء. النشر 2/ 348.
(1/294)
معرفة، وحكم المعطوف أن يكون مشاكلا
للمعطوف عليه.
وقد يجوز أن ينوى بالانفصال، وإن كان ذلك فيما مضى، على أن
يحكى الحال التي كان عليها، وإن كانت القصّة فيما مضى؛ كقوله
تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف/
18] فحكى ما كان. وروي أن الحسن قرأ:
(وخاتم النبيين) كأنّه جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» هو
الذي ختم به. فأمّا قول الشاعر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت ... يقال لها دم الودج الذبيح
«2» فليس تخلو الخواتم من أحد أمرين، إما أن تكون جمع الخاتم
الملبوس، أو تكون جمع المصدر. فإن كان جمع الملبوس فقد حذف
المضاف من الكلام، والتقدير: إذا فض ختم خواتمها، وأضيفت
الخواتم إليها لما كان من الختم عليها بها، ولحقت علامة
التأنيث لأنّ القصد، وإن كان للختم في المعنى، فقد جرى في
اللفظ على الخواتم، فلحقت العلامة لذلك.
وإن كان جمع المصدر فليس يخلو من أن يكون للختم أو للختام. فإن
كان جمعا للختام كان بمنزلة قولهم للجزاء الجوازي، قال
الحطيئة:
__________
(1) في (ط): صلّى الله عليه بدون وسلّم.
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي، يصف الخمر: ويروى: بجت، مكان فضت.
(انظر ديوان الهذليين: 1/ 69، واللسان: ذبح) بج: شق. الودج:
عرق في العنق.
(1/295)
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب
العرف بين الله والناس
«1» وقالوا في جمع اليعار: اليواعر قال:
لها بين جرس الراعيين يواعر «2» وفي جمع الدخان: الدواخن،
فكذلك تكون الخواتم إذا كان جمع الختام. وإن كان جمع ختم فقد
قالوا: حرّة وحرائر، وكنّة «3» وكنائن. وقالوا: مشابه في جمع
شبه، وملامح في جمع لمحة. فجمع ختم على خواتم أسهل، لأن فواعل
إنما هو جمع فاعل، وفاعل قد جاء في المصادر، مثل العاقبة
والعافية وما باليت به بالة «4»، والفالج، وفي حروف أخر.
فإن كان الخواتم جمع المصدر كان الكلام على ظاهره، وكان
المفضوض هو الخواتم أنفسها، من حيث كان جمع ختم، لا المضاف
المحذوف.
__________
(1) من قصيدة في هجاء الزبرقان (انظر الديوان: 54، وبغية
الآمل: 5:
57).
(2) صدره: لنا ثلة مقصورة حضنية والبيت لرجل من بني سعد،
جاهلي. ويروى الراغبين مكان الراعيين (انظر النوادر/ 34، 35).
ثلة: جماعة من الغنم. حضنية: شديدة السواد أو الحمرة. الجرس:
الحركة والحسن. اليواعر: جمع اليعار، وهو صوت الماعز، وهذا عند
المؤلف. وفي النوادر أن اليواعر جمع الياعر والياعرة، أي:
المصوت والمصوتة.
(3) الكنة، بالفتح: امرأة الابن أو الأخ.
(4) بالة، أصلها: بالية، بمنزلة العافية. انظر سيبويه، 2/ 392
واللسان/ بلي/.
(1/296)
فأمّا قوله: «1» يقال لها دم الودج الذبيح
فوصف الدم بالذبيح، فليس يريد بالذبيح المذبوح الذي تفرى
أوداجه وينهر دمه، وإنما أراد بالذبيح: المذبوح، أي المشقوق،
كما قال:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجرا ... كأنّ عينيّ فيها الصّاب
مذبوح
«2» أي: مشقوق.
وكذلك قول الآخر:
فارة مسك ذبحت في سكّ «3» أي: شقّت وقالوا: أخذه الذّباح، وهو-
فيما زعموا- تشقّق يكون في أظفار الأحداث أو أصابعهم. فالذبح:
الشقّ.
وقيل لما يذكي الذبيحة: ذبح، لأنّه ضرب من الشقّ، فقالوا:
__________
(1) سبق قريبا ص 295.
(2) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. بات فلان مشتجرا، إذا اعتمد بشجره
على كفه. والشجر: مفرج الفم وقيل مؤخره. الصاب: شجرة مرة، لها
لبن يمض العين إذا أصابها، أبيض.
انظر ديوان الهذليين: 1: 104، واللسان: ذبح، وشجر).
(3) لمنظور بن مرثد الأسدي آخر أبيات خمسة في اللسان (ذبح).
وقبله:
كأن بين فكّها والفك فارة المسك: نافجته، أي: وعاؤه. السك: طيب
يتخذ من الرامك، وهو شيء أسود يخلط بالمسك.
(1/297)
ذبحت الشاة. وذبحت البقرة. وقالوا في
الإبل: نحرت، لمّا كانت توجأ في نحورها. فوصف الدم بأنّه ذبيح،
والمعنى أن الدم مذبوح له، كما أن قوله: بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف/
18] معناه: مكذوب فيه، وليل نائم أي: ينام فيه، وكذلك نهار
صائم. فأمّا «1» قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام
«2» فكأنه من المقلوب، أي: أفض ختام الأغلاق، ألا ترى أنّ
الأغلاق والأقفال المختوم عليها إنّما يفضّ الختم الذي عليها،
والفضّ إنّما هو تفريق أجزاء الختم، وتفريق غيره، وفي التنزيل:
حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون/ 7] أي يتفرقوا فيبقى رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم «3» بلا أنصار ولا أتباع.
والختام في بيت الفرزدق لا يخلو من أن يكون واحدا أو جمعا.
فأمّا الذي «4» في الآية فقد تأوله أبو عبيدة على أنه واحد.
فإن قلت: إنه في البيت جمع ختم، لأن لكل غلق ختما فجمع الختم،
فهو قول، لأن المصادر قد تجمع، كقوله:
__________
(1) في (ط): وأما.
(2) من قصيدة في مدح هشام بن عبد الملك (انظر الديوان: 2:
836).
الأغلاق، جمع غلق بالتحريك، وهو ما يغلق به الباب.
(3) في (ط): صلّى الله عليه بدون وسلّم.
(4) كذا في (ط)، وفي (م) التي، وهي لا تتفق مع قوله: تأوله إلا
بتأويل.
(1/298)
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم «1» وتقول «2»
إن الختام الذي تأوله أبو عبيدة على أنه مفرد إنّما هو في
خاتمة الشيء الذي هو آخره وخلاف فاتحته، والختم الذي يعني به
الطبع معنى غيره، فليس يلزم إذا أفرد ذاك أن يفرد هذا أيضا.
وقال الأعشى:
وتترك أموال عليها الخواتم «3» هو على ضربين «4» يجوز «5» أن
يكون «6» عليها نقش الخواتم فحذف، ويمكن «7» أن يكون جمع ختما
«8» على الخواتم، كما جمع الهجر على الهواجر وقال:
مقيم على قول الخنا والهواجر «9»
__________
(1) صدر بيت لجرير، من قصيدة في هجاء التيم وعجزه:
ما جرب الناس من عضي وتضريسي الديوان/ 323 (ط: الصاوي)
والتضريس: العض الشديد بالأضراس.
(2) كذا في (ط): وفي (م): ويقول.
(3) صدره:
يقلن حرام ما أحل بربنا ورواية الديوان (79): وتترك أموالا.
والبيت من قصيدة من هجاء يزيد بن مسهر الشيباني.
(4) هو على ضربين ساقطة من (ط).
(5) في (ط): فيجوز.
(6) في (ط): تقديره.
(7) كذا في (ط). وفي (م): وعلى أن يكون.
(8) في (ط): الختم.
(9) صدره:
وإنك يا عام بن قارس قرزل والبيت لسلمة بن الخرشب الأنماري،
يخاطب عامر بن طفيل. ويروى:
معيد مكان مقيم. قرزل: اسم فرس للطفيل. المعيد: الذي يعاود
الشيء مرة بعد مرة. الخنا: الفحش. الهواجر، قيل: جمع هجر
شذوذا.
(1/299)
وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا مصرّفا
بالواو. فإذا لم نعلم منه ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه
الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان. ومعناه ما غطّى
الشيء وعلاه فغمره وستره، كقوله تعالى، «1» فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه/ 78] وإِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ
«2» [الأنفال/ 11] ووَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ [نوح/ 7]
والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم/ 53،
54]. وقال الأعشى:
وولّى عمير وهو كاب كأنّما ... يطلّى بورس أو يغشّى بعظلم
«3» فالغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت في أنّ الواو كأنّها
بدل من الياء، إذ «4» لم يصرّف منه فعل، كما لم يصرّف من
الجباوة.
__________
والهجر: الكلام القبيح. والصحيح أنها جمع هاجرة، بمعنى الهجر،
فتكون من المصادر التي جاءت على فاعلة، مثل العاقبة والكاذبة،
والعافية.
وشاهد الهاجرة بمعنى الهجر قول الشاعر:
إذا ما شئت نالك هاجراتي ... ولم أعمل بهن إليك ساقي
(انظر اللسان: هجر) والمؤلف وقف عند الرأي الأول.
(1) في (ط): كقوله بدون تعالى.
(2) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو. النشر 2/ 276.
(3) رواية الديوان (127): بحص مكان بورس: والبيت من قصيدة في
هجاء عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان. الورس: نبت أصفر
يكون باليمن، تتخذ منه الغمرة، وهي طلاء للوجه: الحص: الورس،
أو الزعفران.
العظلم: عصارة شجرة أو نبت يصبغ به.
(4) في (ط): وإن.
(1/300)
قال سيبويه قالوا: غشيته غشيانا كالحرمان.
وإن شئت قلت: إن غشي يغشى مثل رضي يرضى، ولام الكلمة الواو
بدلالة غشاوة وغشوة. ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ [البقرة/ 7] في
المعنى مثل: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة/ 18] وكذلك قوله
تعالى:
صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام/ 39] لأنّ وصف البصر
بالكون في الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى. وكذلك، وصفه بكون
الغشاوة عليه، لأنّه في هذه الأحوال كلّها لا يصحّ به إبصار.
فقوله: «1» في الظلمات متعلق بمحذوف.
وروي لنا عن الكسائي: غشاوة وغشاوة وغشاوة، وعن غيره.
ويذهب قوم من المتأوّلين إلى أنّ معنى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ [البقرة/ 7] ختم عليها بأن طبع عليها ووسمها سمة
تدل على أن فيها الكفر، ليعرفهم من يشاهدهم من الملائكة بهذه
السمة، ويفرقوا بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشّرح
والطمأنينة اللذان وصفوا بهما في قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ
اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «2» [الزمر/ 22]. وقوله:
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ
[الرعد/ 28].
والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع على قلبه.
وكما ختم على قلب الكافر وطبع فوسم بسمة تعرف بها الملائكة
كفره كذلك وسم قلوب المؤمنين
__________
(1) في (ط): وقوله.
(2) سقطت الآية في (ط).
(1/301)
بسمات تعرفهم الملائكة بها كما عرفوا بها
الكافر. ومن ثمّ قال بعض المتأوّلين في قوله تعالى: «1» وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف/ 28]
أي: لم نسم قلبه بما نسم به قلوب الذاكرين لله، لأنّ الله
تعالى وسم قلوب الذاكرين «2» بسمات تبيّن لمن شاهدها من
الملائكة أنّهم مؤمنون، كما قال: «3» أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة/ 22] أي علامته، فإذا لم
يسمهم بهذه السّمة فقد أغفلهم.
ومثل ما تأولوا في هذا من أنّه علامة يعرف بها الكافر من
المؤمن مناولة الكتاب باليمين وبالشّمال، في أنّ المناولة
باليمين علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة،
والمناول بالشّمال من أهل النار. وقوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ
عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء/ 155] يحتمل أمرين أي طبع عليها
وختم جزاء للكفر وعقوبة عليه، كقوله:
نزائع مقذوفا على سرواتها ... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
«4» وكقولهم: «بما لا أخشى بالذئب» «5» فيمكن «6» أن يكون
__________
(1) في (ط) قوله بدون تعالى.
(2) في (ط): المؤمنين.
(3) في (ط): قال تعالى.
(4) البيت للطفيل الغنوي. ديوانه 23 النزائع من النجائب هي
التي تجلب إلى غير بلادها ومنتجها، والتي نزعت إلى أعراق.
مقذوفا: مرميا باللحم.
سرواتها: أعاليها، تخالسها: تروم اختلاسها. وفي ديوان الطفيل
تسهب بدل تركب. أي: تترك وتهمل.
(5) جاء في اللسان «خشى»: «وفي المثل: لقد كنت وما أخشى
بالذئب» أي: أخوف. و «بما» هنا في معنى ربما. انظر الأمثال
لأبي عبيد/ 96
(6) في (ط): وقد يجوز، بدل فيمكن.
(1/302)
قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، أي طبع
عليها بعلامة كفرهم، كما تقول: طبع عليه بالطين، وختم عليه
بالشمع.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: «1» خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
[البقرة/ 7] وصفا للذي ذمّ بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن قبول
الحكمة والإسلام والاستدلال على توحيد الله تعالى وقبول شرائع
أنبيائه عليهم السلام «2» فلم ينشرح له ولم يتّسع لقبوله، فهو
خلاف من ذكر في قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر/ 22].
ومثل ذلك قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ
عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد/ 24] ومثله: وَقالُوا قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ
وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت/ 5] ومن ذلك قوله:
«3» وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة/ 88] إنّما هو جمع
أغلف، أي في غلاف كقوله: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ، وَلَقَدْ
ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
لَهُمْ قُلُوبٌ [الأعراف/ 179] ويقوّي ذلك أن المطبوع على قلبه
وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: بَلْ طَبَعَ
اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
قَلِيلًا [النساء/ 155] وقال: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [التوبة/ 87].
ومما يبيّن ذلك قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ
اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ
[الأنعام/ 46] فعدل الختم على
__________
(1) في (ط): قوله، بدون تعالى.
(2) زيادة في (م).
(3) في (ط): قوله تعالى.
(1/303)
القلوب بأخذه السمع والبصر، فدلّ هذا على
أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما
يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنّما
يكون ضيقه بألّا يتّسع لما يحتاج إليه من النظر والاستدلال
الفاصل بين الحقّ والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: «1» وَمَنْ
يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً
كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام/ 125] فهذا كلام
كالمثل، أي: من يستحقّ الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيّقا في
نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات بدلالة
قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف/
179] [فوصفه] «2» بالضيق وأنّه على خلاف الشرح والانفساح دلّ
«3» أنّه لا يعي علما ولا يستدلّ على ما أريد له ودعي إليه،
كما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، لمّا أريد به المبالغة في
وصفه بالجبن، لأنّ الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب
الذي يكون محلّ الشجاعة لو كانت فألّا تكون الشجاعة أولى.
ومن ثمّ قالوا في النعامة: «4» جؤجؤه هواء، أي ذو هواء، فهو
فارغ من القلب، فهذا كما وصفوها بالشّراد لجبنها فقال:
__________
(1) في (ط): قوله بدون تعالى.
(2) كذا في (ط)، وفي (م): فوصف.
(3) في (ط): دل على أنه.
(4) في (ط): في الظليم. والنعامة يذكر ويؤنث. والجؤجؤ، كهدهد:
الصدر. ويشير المؤلف إلى قول زهير في ناقته:
كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
وانظر شرح الديوان/ 63.
(1/304)
وأشرد بالوقيط «1» من النّعام وقال: «2»
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... ربداء تجفل من صفير الصافر
«3» وقال:
فالهبيت لا فؤاد له ... والثّبيت ثبته فهمه
«4» وأنشد أبو زيد:
لقد أعجبتموني من جسوم ... وأسلحة ولكن لا فؤادا
«5»
__________
(1) الوقيط: كالردهة في الجبل يستنقع فيه الماء.
(2) في (ط): وقال أيضا.
(3) لأسامة بن سفيان البجلي، يعير الحجاج إذ هرب من غزالة
الشيبانية في بعض حروبه. وبعده.
هلا برزت إلى غزالة في الضحا ... بل كان قلبك في جناحي طائر
وروي: فتخاء مكان ربداء، وتنفر مكان تجفل (انظر البيان
والتبيين:
1/ 365 والكشاف: 1/ 32).
الربداء: التي لونها إلى الغبرة. الفتخاء: اللينة مفاصل
الأصابع مع عرض.
(4) لطرفة. ويروى: و «الثبيت قلبه قيمه» و «الثبيت لبه قيمه».
الهبيت: الجبان الذاهب العقل، وقد هبت الرجل: نخب، فهو مهبوت
وهبيت. الثبيت: الثابت العقل، والفعل ثبت بالضم. قلبه قيمه،
قال أبو عبيدة: لبه قيمه، أي له عقل حيثما مشى (انظر الديوان/
ص 80، طبع المجمع، واللسان: هبت وثبت).
(5) لبرج بن مسهر الطائي. لا فؤاد، أراد أفئدة (انظر النوادر/
78).
(1/305)
وقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم ... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
«1» وأنشد أبو زيد:
ولا وقّافة والخيل تردي ... ولا خال كأنبوب اليراع
«2» وقال الراعي:
وغدوا بصكهم وأحدب أسأرت ... منه السياط يراعة إجفيلا
«3»
__________
(1) لحسان بن ثابت، يهجو الحارث بن كعب، وهم رهط النجاشي،
وكانت بينهم مهاجاة. الجوف: جمع أجوف، وهو العظيم الجوف.
الجماخير:
جمع جمخور كعصفور، وهو: الضعيف. (ديوان حسان 1/ 219 وانظر
الكتاب: 1/ 254 وشرح أبيات المغني 2/ 84، واللسان: جمخر).
(2) لمرداس بن حصين، من بني عبد الله بن كلاب، شاعر جاهلي.
وقبل الشاهد:
وقد ترك الفوارس يوم حسي ... غلاما غير مناع المتاع
ولا فرح بخير إن أتاه ... ولا جزع من الحدثان لاع
يوم حسي: يوم التقوا بذلك الموضع. غير مناع المتاع: سخي، لا
يمنع معروفه وماعونه. حدثان الدهر: نوائبه. اللاعي: الضجر.
الخيل تردي:
ترجم الأرض بحوافرها أو تسير بين العدو والمشي. اليراع: القصب.
أراد ليس بخالي الجوف طياش لا فؤاد له (النوادر/ 5 - 6).
(3) من لاميته المشهورة، التي يمدح بها عبد الملك بن مروان،
ويشكو إليه من السعاة، وهم الذين يأخذون الزكاة من قبل السلطان
(انظر الجمهرة 2/ 392).
الصك: الصحيفة التي فيها أسماء الناس. وأحدب، رجل ضرب حتى
انحنى ظهره، ويعني: عريف القوم، المذكور قبل هذا البيت وهو
قوله:
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائما مغلولا
اليراعة من الرجال: الجبان. وظليم إجفيل: يجفل من كل شيء أي:
يهرب منه.
(1/306)
فكما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، وأنّه
مجوّف وأنّه يراعة، لأنّه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة، ومن
الفهم لعدمه القلب، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد
الدعاء إليه وإقامة الحجّة عليه بأنّه مطبوع على قلبه، وضيّق
صدره، وقلبه في كنان، وفي غلاف.
قال أبو زيد: قالوا: رجل مفئود للجبان، وخلاف ما ذكره أبو زيد:
رجل مشيّع للشجاع. فهذا إمّا أن يكون أريد «1»:
يشيّع «2» قلبه، أي: ليس بمصاب في فؤاده، وإمّا أن يكون معه من
نفسه شيعة يثبّتونه.
وأمّا قوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ
[الأنعام/ 125] فالمعنى: أن هذا الضيّق الصدر عن الإسلام نهاية
الضيق إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره منه ونفوره عنه، وعن
استماع الحكمة، كأنّه يراد على ما لا يقدر عليه من مصعد في
السماء، أو حمل على ما يشبهه من «3» الامتناع.
وروي عن ابن مسعود «4»
أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل
__________
(1) في (ط): أراد به.
(2) في (ط): شيع.
(3) في (ط): في.
(4) هو عبد الله بن مسعود، أحد السابقين والبدريين والعلماء
الكبار من الصحابة. عرض القرآن على النبي صلّى الله عليه
وسلّم. وهو أول من أفشى القرآن من في رسول الله، وكان يخدمه.
وكان الإمام في تحقيق القرآن وتجويده وترتيله مع حسن الصوت،
إليه تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. (انظر
طبقات القراء: 1/ 458).
قدم من الكوفة إلى المدينة، فمات بها آخر سنة 32، ودفن
بالبقيع، وله بضع وستون سنة.
(1/307)
ينشرح الصدر؟ «1» قال: «2» نعم، يدخل القلب
النور. فقال ابن مسعود: وهل لذلك علامة؟ قال: نعم. التجافي عن
دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل
الموت» «3»
فقول «4» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن مسعود: يدخله
النور كما في الآية من قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ
صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر/
22].
وقد روي عن سعيد بن جبير «5» عن ابن عباس «6» في قوله تعالى:
«7» اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ
[النور/ 35] قال: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة، والمشكاة
كوّة فيها مصباح. وقوله: نُورٌ عَلى نُورٍ [النور/ 35]
__________
(1) في (ط): هل تنشرح الصدور؟
(2) في (ط): فقال.
(3) خرجه في المشكاة برقم 5228 وقال: رواه البيهقي في شعب
الإيمان وضعف الشيخ الألباني إسناده، وخرّجه ابن كثير في
التفسير 2/ 328 من طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا.
(4) في (ط): فقال.
(5) هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم، أبو محمد،
ويقال:
أبو عبد الله، الكوفي التابعي الجليل. عرض على عبد الله بن
عباس، وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء. قال إسماعيل بن عبد
الملك: كان سعيد بن جبير يؤمّنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة
بقراءة عبد الله، يعني ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت.
قتله الحجاج بواسط سنة 95، عن تسع وخمسين سنة (انظر طبقات
القراء: 1/ 305).
(6) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، بحر التفسير،
وحبر الأمة. عرض القرآن كله على أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وعرض
عليه القرآن سعيد بن جبير ولد قبل الهجرة بثلاث سنين،
ودعا له رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):
اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين
توفي في الطائف وقد كف بصره سنة 68 هـ (انظر طبقات القراء: 1/
425).
(7) في (ط): قول الله عز وجل.
(1/308)
قال: مثل قلب المؤمن نور على نور يشرح «1»
صدره للإسلام.
وقال أبو الحسن: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ لأنّ ذلك كان
لعصيانهم الله تعالى «2»، فجاز ذلك اللفظ، كما يقال: أهلكته
فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا، لأنّه هلك في
اتباعها، أو يكون ختم: حكم أنّها مختوم عليها. وكذلك
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة/ 10] على ذا «3» التفسير
والله أعلم.
الإعراب
حجّة من رفع فقال: وعلى أبصارهم غشاوة: أنّه رأى الغشاوة لم
تحمل على (ختم) ألا ترى أنّه قد جاء في الأخرى:
وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ
غِشاوَةً [الجاثية/ 23] فكما لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا
تحمل في هذه التي في مسألتنا. فإذا لم يحملها على (ختم) قطعها
عنه، وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إمّا بالظرف، وإمّا
بالابتداء.
وأمّا إذا نصب فلا يخلو في نصبها من أن يحملها على (ختم) هذا
الظاهر، أو على فعل آخر غيره. فإن قال:
أحملها على الظاهر كأني قلت: وختم على قلبه غشاوة، أي بغشاوة،
فلمّا حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى: ختم عليه بغشاوة مثل: جعل
على بصره غشاوة، ألا ترى أنّه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها
فيها. واستدلّ على جواز حمل غشاوة على (ختم) هذا الظاهر، بقوله
تعالى: «4»
__________
(1) في (ط): لشرح صدره للإسلام.
(2) في (ط): لله. وبدون «تعالى».
(3) في (ط): على هذا.
(4) في (ط): بقوله، بدون تعالى.
(1/309)
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ [النحل/ 108] فقال:
طبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع) فكذلك تحمل
على ختم.
قيل: لا يحسن ذلك، لأنّك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا
عندنا إنّما يجوز في الشعر، ولا يختلفون أنّ ذلك في المعطوف
«1» على المجرور قبيح، والمنصوب والمرفوع بمنزلته في القياس،
ألا ترى أنّ حرف العطف في المجرور ليس هو الجارّ، إنّما هو
يشرك فيه، وكذلك في المرفوع والمنصوب ليس هو الرافع ولا
الناصب، إنّما يشرك فيهما. فإنّما قبح الفصل فيهما لأنّ ما
يقوم مقامهما لا يتّسع فيه الاتساع الذي في الأصل، ألا ترى
أنهم لم يتّسعوا في إنّ وأخواتها اتساعهم في الفعل، ولم يتّسع
في الظروف، ولا في الأسماء المسمّى بها الأفعال اتساعهم في
الفعل، ولا في الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين اتّساعهم في
أسماء الفاعلين، ولا في عشرين اتّساعهم في ضاربين وحسنين،
فكذلك لا يتّسع في حرف العطف الذي يشرك فيما يعطف عليه
اتّساعهم في نفس المعطوف عليه.
وقد ذهب إلى التسوية بين الجارّ وبين الناصب والرافع في العطف
الكسائيّ والفراء. وقد جاء هذا الفصل في الشعر، أنشد أبو زيد:
«2»
__________
(1) في (ط): في العطف.
(2) بيتان من خمسة أبيات لقحيف العقيلي في النوادر ص 208.
ويروى:
يمحاه مكان تغشاه، وتعجلا مكان معجلا. من عام أولا، يريد من
عام
(1/310)
أتعرف أم لا رسم دار معطّلا ... من العام
تغشاه ومن عام أوّلا
قطار وتارات خريق كأنّها ... مضلّة بوّ في رعيل تعجّلا
وقال:
... وآونة أثالا «1» فإن قال: لا أعطفه على هذا الفعل الظاهر
الذي هو (ختم) ولكني أحمله على فعل أضمره، فأضمر: وجعل، ويكون
ذلك بمنزلة الظاهر لدلالة ما تقدم عليه فإن هذا أيضا ليس
بالسهل ألا ترى أن مثل:
متقلدا سيفا ورمحا «2»
__________
زمان أوّل، أو دهر أوّل، فأقام الصفة مقام الموصوف. وفاعل
تغشاه في البيت الأول هو قطار في أول البيت الثاني.
والقطار، جمع قطر، وهو المطر. وتارات: منصوب على الظرف ليغشى
وهو جمع تارة، بمعنى مرة، الخريق: من أسماء الريح الباردة،
وصفة للريح الشديدة، وقيل اللينة السهلة، مضلة: وصف من أضل
فلان بعيره أو فرسه، أي: فقده وأضاعه، البوّ: ولد الناقة.
الرعيل، يريد به قطعة قليلة من الإبل. تعجل: أسرع.
والشاهد في قوله: وتارات خريق، حيث فصل بالظرف وهو تارات بين
العاطف وهو الواو وبين المعطوف وهو خريق. (وانظر: الخزانة: 2/
341، واللسان: رعل).
(1) من قول ابن أحمر كما في ديوانه ص 129 والكتاب (1/ 343):
أبو حنش يؤرقنا وطلق ... وعبّاد وآونة أثالا
(2) عجز بيت لعبد الله بن الزبعرى وصدره:
يا ليت زوجك قد غدا
(1/311)
و: شرّاب ألبان وتمر وأقط «1» و: علفتها
تبنا وماء باردا «2» لا تكاد تجده في حال سعة واختيار فإذا كان
النصب تعترض فيه هذه الأشياء فلا نظر في أن الرفع أحسن
والقراءة به أولى، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة.
[البقرة: 9]
بسم الله «3» اختلفوا في ضم الياء وفتحها وإدخال الألف في قوله
جلّ وعزّ: «4» يُخادِعُونَ [البقرة/ 9]. فقرأ ابن كثير ونافع
وأبو عمرو (يخادعون ... وما يخادعون) بالألف فيهما.
__________
انظر الكامل- 289 - 324 - 656 - الخصائص 2/ 431 وشرح أبيات
المغني 6/ 92، 93. وشواهد الكشاف 4/ 364.
(1) عجز بيت للعجاج- انظر الكامل 289 - 324 - 656 الأقط: شيء
يتخذ من المخيض الغنمي، يطبخ، ثم يترك حتى يمصل (يخرج ماؤه).
(2) لا يعرف قائله، وقيل لذي الرمة، وليس في ديوانه. ويورد
بعضهم لهذا الشطر صدرا، هكذا:
لما حططت الرحل عنها واردا ويجعله بعضهم صدرا، ويورد له هذا
العجز:
حتى شتت همالة عيناها والبيت مع هذا العجز من شواهد شرح أبيات
المغني 7/ 323. والخصائص 2/ 431.
وانظر الخزانة: 1/ 499، والكشاف: 3/ 422، وتنزيل الآيات على
الشواهد من الأبيات الملحق به: 4/ 364. قال الفراء في تفسيره
1/ 14: أنشدني بعض بني أسد يصف فرسه وأنشد البيت، شتت: أقامت
شتاء. همالة: من هملت العين إذا صبت دمعها.
(3) هذه البسملة زائدة في (م).
(4) في (ط): عز وجل.
(1/312)
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ
(يخادعون ...
وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
قال أبو علي: قال أبو زيد: «1» خدعت الرجل أخدعه خدعا، الخاء
كسر، وخديعة. قال: وقالوا: «إنك لأخدع من ضبّ حرشته». «2».
وقال أبو زيد أيضا يقال: «لأنا أخدع من ضبّ حرشته»، وقد حرش
الرجل الضبّ يحرشه حرشا: إذا مسح بيده على فم جحره يتسمّع «3»
الصوت، فربما أقبل وهو يرى أنّ ذلك حية، وربّما أروح ريح
الإنسان، فخدع في جحره يخدع خدعا: إذا رجع في الجحر فذهب ولم
يخرج.
وقال أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ: الخادع: الفاسد من الطعام
ومن كلّ شيء، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيّب الريق إذا الريق خدع
«4»
__________
(1) في (ط): قال أبو زيد، بإسقاط: قال أبو علي.
(2) مثل يضرب في مخاطبة العالم بالشيء، من يريد تعليمه، يقول
له:
«أتعلمني بضب أنا حرشته» ويقال إنك لأخدع من ضب حرشته، أي:
بلغت غاية الخبث، وانظر اللسان «حرش». والأمثال لأبي عبيد/
202.
(3) في (ط): فيسمع.
(4) البيت من قصيدة لسويد بن أبي كاهل اليشكري في الغزل
والفخر، وهي القصيدة رقم 40 في المفضليات ص 191، ورواية البيت
بها مع ما قبله:
حرة تجلو شتيتا واضحا ... كشعاع الشمس في الغيم سطع
صقلته بقضيب ناضر ... من أراك طيب حتى نصع
أبيض اللون لذيذا طعمه ... طيب الريق إذا الريق خدع
(1/313)
خدع: فسد وتغيّر.
وقال أبو عبيدة: يُخادِعُونَ اللَّهَ [البقرة/ 9] يخدعون، «1»
وأنشد أبو زيد:
وخادعت المنيّة عنك سرّا ... فلا جزع الأوان ولا رواعا
«2» وقال أبو عبيدة أيضا: يخادعون الله والذين آمنوا فيما
يظهرون: مما يستخفون خلافه.
قال الله تعالى: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] إنما تقع
الخديعة بهم والهلكة.
والعرب تقول: خادعت «3» فلانا إذا كنت تخادعه، وخدعته إذا ظفرت
به.
قال بعض المتأولين أظنّه الحسن «4» قال: (يخادعون الله) وإن
خادعوا نبيه لأن الله تعالى «5» بعث نبيّه «6» بدينه، فمن
أطاعه فقد أطاع الله (تعالى) «5» كما قال: «8» مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء/ 80]
__________
والشتيت: الواضحة الأسنان المفلجة البيضاء، والأراك: شجر
السواك.
(1) انظر مجاز القرآن 1/ 31.
(2) نسبه في النوادر مع أبيات أخرى لعرفطة بن الطماح- وقد روي
فيه: فلا جزع الأوان.
وانظر تخريج وجوه إعرابه مفصلة في النوادر ص 117.
(3) في (ط): قد خادعت.
(4) هو الحسن البصري، وقد سبقت ترجمته ص/ 33.
(5) زيادة في (م).
(6) زاد في (ط): صلى الله عليه.
(8) في (ط): كما قال تعالى.
(1/314)
وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ
إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح/ 10] فعلى هذا من خادعه
فقد خادع الله.
فقد ذهب هذا المتأوّل إلى أن معنى يخادعون الله:
يخادعون نبيّه صلّى الله عليه وسلّم «1» وفي تأويله تقوية لقول
أبي عبيدة:
يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: وَإِنْ
يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ
[الأنفال/ 62] فجاء المثال على يفعل.
ومثل قوله: (يُخادِعُونَ اللَّهَ) في إرادة مضاف محذوف على قول
من ذكرناه قوله تعالى: «2» إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ «3» [الأحزاب/ 57] التقدير يؤذون أولياء الله،
لأنّ الأذى لا يصل إلى الله (سبحانه) «4» كما أن الخداع لا
يجوز عليه، فهي مثل قوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا «5»
[الأحزاب/ 58] وفيما أنشده أبو زيد دلالة على صحة تفسير أبي
عبيدة أنّ يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنّ المنية لا يكون منها
خداع كما لا يكون من الله- سبحانه- ولا من رسوله؟ «6» فكذلك
قوله: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] يكون على لفظ فاعل
وإن لم يكن الفعل إلا من واحد كما كان الأول كذلك. وإذا كانوا
قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا
__________
(1) زيادة في (م).
(2) زيادة في (م).
(3) تتمتها «لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً».
(4) في (ط): تعالى.
(5) تمامها: «فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً
مُبِيناً».
(6) زاد في (ط): عليه السلام.
(1/315)
على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في
المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في
المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
«1» وفي التنزيل: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة/ 194]
والثاني قصاص وليس بعدوان، وكذلك وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُها [الشورى/ 40] وقوله:
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة/ 79]
ونحو ذلك. فأن يلزم التشاكل في اللفظ مع صحة المعنى أولى.
ومما يؤكد ذلك قوله:
من العين الحير «2» وقول أمّ تأبّط شرا: ليس بعلفوف تلفّه هوف.
«3»
وقد جاء هذا المثال للفاعل الواحد نحو: عاقبت اللص، وطارقت
النعل، وعافاه الله.
__________
(1) من معلقة عمرو بن كلثوم في شرح القصائد السبع الطوال ص
426، وشرح أبيات المغني 7/ 37 والبحر 1/ 57.
(2) من العين الحير، بكسر الحاء اتباعا للعين، والأصل: الحور،
جمع حوراء. وقد ورد آخر أرجوزة لمنظور بن مرثد في ثلاثة عشر
بيتا وتمامه: «عيناء حوراء من العين الحور» انظر النوادر 236
وأراجيز العرب 155 - 156. وابن يعيش 4/ 114 واللسان (حور).
(3) من قولها في تأبينه: وا ابناه ليس بعلفوف تلفه هوف حشى من
صوف» رجل علفوف: جاف كثير اللحم: والهيف- كسيف- الريح الحارة.
اللسان هوف، هيف.
(1/316)
وحجة من قرأ: (يخدعون) أن فاعل هنا بمعنى
فعل فيما فسره أهل اللغة، فإذا كانا جميعا بمعنى، وكان فعل
أولى بفعل الواحد من فاعل من حيث كان أخص به، كان الأولى أليق
بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين إذ
كانوا قد استعملوهما جميعا، ولم يكن خادع بمنزلة عاقبت اللص
الذي لم يستعمل فيه إلا فاعل ورفض معه فعل.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى «1» في الآية الأخرى في
صفة المنافقين أيضا: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[النساء/ 142]، فكما وقع الاتفاق هنا على فاعل الجاري على فعل
كذلك يكون في قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ.
ولمن قرأ (يخادعون) وجه آخر، وهو أن ينزل ما يخطر بباله ويهجس
في نفسه من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويقاوضه «2» إياه، فعلى
هذا يكون الفعل كأنّه من اثنين، فيلزم أن يقول: «3» فاعل، وهذا
في كلامهم غير ضيق، ألا ترى الكميت أو غيره قال في ذكره حمارا
أراد الورود:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه ... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
«4»
__________
(1) تعالى زيادة في (م).
(2) في (م): يجاريه ذلك ويفاوضه.
(3) في (ط): أن يقول فيه.
(4) يؤامر نفسيه، أي: يشاور نفسه مترددا بين ورود الماء أو
تركه، فكأنه يشاور نفسين إحداهما تريد الورود والأخرى تأباه،
والهجمة الجماعة الضخمة من الإبل، وقيل: هي ما بين الثلاثين
والمائة، أو ما بين السبعين
(1/317)
فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو ترك
الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
وعلى هذا قوله:
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل؟ «1» وقولهم: أنا أفعل كذا وكذا
أيها الرجل.
وعلى هذا المذهب قرأ «2» من قرأ: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «3» [البقرة/ 259]، فنزّل نفسه- عند
الخاطر الذي يخطر له عند نظره- منزلة مناظر له غيره. وأنشد
الطوسي «4» عن ابن الأعرابي.
لم تدر ما لا ولست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
__________
والمائة، أو هي قريب من المائة.
والأبل على وزن حذر: من أبل يأبل على وزن علم يعلم أبالة، بفتح
الهمزة، وأبل أبلا، فهو آبل وأبل: حذق مصلحة الإبل والشاء.
وورد البيت في اللسان (أبل) للكميت أيضا.
(1) عجز بيت للأعشى، وصدره:
ودع هريرة إن الركب مرتحل انظر الديوان/ 55. سبق في ص 286.
(2) في (ط): قراءة.
(3) (اعلم) بلفظ الأمر قراءة أبي رجاء وحمزة والكسائي، و
(أعلم) بلفظ المضارع قراءة السبعة. انظر البحر المحيط: 2/ 296.
(4) هو أبو الحسن علي بن عبد الله التيمي، راوية كبير، وكان
أكثر أخذه من ابن الأعرابي الفهرست/ 106.
(1/318)
ولم تؤامر نفسيك ممتريا ... فيها وفي أختها
ولم تكد
«1» وأنشد بعض البصريين لرجل من فزارة:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة ... أيستربع الذوبان أم لا يطورها
«2» قال: «3» الذوبان: الأعداء.
وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
وكنت كذات الطّنء لم تدر إذ بغت ... تؤامر نفسيها أتسرق أم
تزني
«4» فهذه في المعنى كقوله:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها ... وآمرت نفسي أيّ أمريّ أفعل
«5» إلّا أنّ من ثنّى «6» النفس، جعل ما يهجس في نفسه من الشيء
وخلافه «7» نفسين، ونزّل الهاجس منزلة من يخاطبه وينازله في
ذلك، فكذلك يكون قوله: (وما يخادعون) على هذا.
__________
(1) انظر البحر: 1/ 57.
(2) يستربع، من استربع الأمر: أطاقه، وفي (م): يسترتع، وفي
(ط):
يسترفع، وكلّ تحريف. انظر البحر 1/ 57 والأساس. لا أطورها،
يقال: لا أطور بفلان: لا أحوم حوله، ولا أدنو منه.
(3) في (ط): وقال.
(4) الطنء: التهمة. اللسان (طنأ) وانظر البحر 1/ 57.
(5) لكعب بن زهير. واكتلأت منه: احترست. يريد: احترست بعينها،
لأنّها إذا رأت شيئا ذعرت. انظر الأساس: كلأ. ديوانه/ 55.
(6) في (ط): ألا ترى أنه ثنى؟؟؟ النفس.
(7) في (ط): وخلافه به.
(1/319)
[البقرة: 10]
بسم الله ... «1»
قوله، عزّ وجلّ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة/ 10].
قرأ حمزة فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بكسر الزاي. وكذلك شاء
وجاء وطاب وخاف وضاق «2» وضاقت، وفتح الزاي من:
زاغَتِ الْأَبْصارُ [الأحزاب/ 10] وكسر الزاي من قوله:
فَلَمَّا زاغُوا [الصف/ 5] وفتح الزاي في أَزاغَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ [الصف/ 5] وكسر الراء من: بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ [المطففين/ 14] وفتح الجيم من فَأَجاءَهَا [مريم/
23].
وكان ابن عامر يكسر من ذلك كلّه ثلاثة أحرف:
(فزادهم، وشاء وجاء).
وكان نافع يشمّ الزاي من (فزادهم) الإضجاع في رواية خلف «3» عن
إسحاق وابن جماز وإسماعيل بن جعفر عنه «4»، وكذلك أخوات
(فزادهم) لا مفتوح ولا مكسور.
قال ابن سعدان عن إسحاق: كل ذلك بالفتح.
قال ابن سعدان. وكان إسحق إذا لفظ «فزادهم» كأنه
__________
(1) زيادة في (م).
(2) في (ط): ضاق وخاف.
(3) هو خلف بن هشام بن ثعلب أبو محمد الأسدي البزار- بالراء-
البغدادي، أصله من فم الصلح- بكسر الصاد- أحد القراء العشرة،
وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، ولد سنة 150، وروى الحروف عن
إسحاق المسيبي وإسماعيل بن جعفر وغيرهما. مات ببغداد سنة 229.
طبقات القراء: 1/ 272. وتقدمت ترجمته في ص: (285) من هذا
الجزء.
(4) سقطت عنه من (ط).
(1/320)
يشير إلى الكسر قليلا، فإذا قلت له: إنك
تشير إلى الكسر، قال: لا، ويأبى إلا الفتح.
وقال ابن جماز: كان نافع يضجع من ذلك كله قوله:
خابَ [طه/ 61].
حدثنا «1» ابن مجاهد قال: أخبرني عبد الله بن أحمد «2» بن حنبل
عن أبي موسى الهروي، عن عباس «3»، عن خارجة «4»، عن نافع،
مكسورة يعني (خاب).
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع: (بل ران)، الراء بين
الفتح والكسر.
قال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (بل ران) مفتوحة الراء.
وكان عاصم لا يميل شيئا من ذلك إلّا قوله: بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ في رواية أبي بكر عنه، وروى عنه حفص «5» الفتح.
وكان الكسائي يقول في ذلك كلّه كقول عاصم ويميل (بل ران).
__________
(1) في (ط): وحدثنا.
(2) هو عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الرحمن
البغدادي الحافظ عن أبيه المسند والتفسير. ولم يكتب عن أحد إلا
بأمر أبيه. وثقه الخطيب. ومات سنة 290. خلاصة تذهيب الكمال/
190.
(3) (هو العباس بن الفضل البصري والأنصاري) تقدمت ترجمته ص
289.
(4) هو خارجة بن مصعب أبو الحجاج الضبعي السرخسي. أخذ القراءة
عن نافع وأبي عمرو. توفي سنة 168. طبقات القراء: 1/ 268.
(5) في (ط): حفص عنه.
(1/321)
وروى أبو عبيد «1» عن الكسائي في: شاءَ
[البقرة/ 20] وجاءَ [النساء/ 43] بين الفتح والكسر.
وقال نصير بن يوسف «2» وغيره عنه: إنّه فتحها.
وكان ابن كثير وأبو عمرو يفتحان ذلك كلّه «3».
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضاً [البقرة/ 10].
قالوا: زاد يزيد زيادة وزيدا، وفي التنزيل: لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس/ 26].
وقالوا: زيدا، أنشد أبو زيد:
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه «4» وزدت فعل يتعدى إلى مفعولين؛
قال: «5» وَزِدْناهُمْ هُدىً [الكهف/ 13] وقال: زِدْناهُمْ
عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل/ 88]، وقال: وَزادَهُ
بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة/ 247].
وأما قوله: «6» فَزادَهُمْ إِيماناً [آل عمران/ 173]
__________
(1) هو أبو عبيد القاسم بن سلام، وتقدمت ترجمته في ص/ 13.
(2) هو نصير بن يوسف بن أبي نصر أبو المنذر الرازي ثم البغدادي
النحوي، أستاذ كامل ثقة. أخذ القراءة عرضا عن الكسائي، وهو من
جلة أصحابه وعلمائهم. وروى عنه القراءة محمد بن عيسى الأصبهاني
وغيره ومات في حدود سنة 240. طبقات القراء: 2/ 340.
(3) السبعة 139 - 141.
(4) في (ط): «بعد» مكان (ثم)، والشطر صدر بيت في النوادر ص 112
وعجزه: (وتكراره في إثره بعد ما مضى) وهو من قصيدة لحسان
السعدي.
(5) في (ط): وقال.
(6) في (ط): قوله تعالى.
(1/322)
فالمعنى: زادهم قول الناس لهم إيمانا، أضمر
المصدر في الفعل وأسند الفعل إليه، وكذلك قوله: فَلَمَّا
جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر/ 42]، أي:
ما زادهم مجيء النذير، وقال:
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً
[الأحزاب/ 22] أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم «1» لهم
إلّا إيمانا.
ومثل ذلك من إضمار المصدر في الفعل لدلالة الفعل عليه قوله
تعالى: «2» وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
إِلَّا تَفْعَلُوهُ [الأنفال/ 73] أي: إلا تفعلوا هذه
الموالاة.
ومثل ذلك كثير في التنزيل وغيره.
وقال: «3» وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف/ 25] أي: ازدادوا لبث تسع، فحذف
المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصاب تسع على هذا انتصاب
المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى
التسع كان كذلك.
وأما المرض فقال أبو عبيدة في تأويله: شك ونفاق، «4» كأنه جعل
ما في قلوب المنافقين من ذلك خلاف ما في قلوب المؤمنين من
اليقين والإيمان.
وقيل: إن «5» قوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
[الأحزاب/ 32] أي فجور.
__________
(1) في (ط): ورؤيتهم.
(2) في (ط): قوله، بدون تعالى.
(3) في (ط): وقال تعالى.
(4) انظر مجاز القرآن 1/ 32.
(5) في (ط): وقيل في قوله وتعالى.
(1/323)
وقال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا،
ومرّضته: قمت عليه ووليته.
وقال «1» السدي: «2» فزادهم الله مرضا، أي زادهم عداوة الله
مرضا. وهذا في حذف المضاف كقول من قال في (يُخادِعُونَ
اللَّهَ): إنّ المعنى يخادعون رسول الله، ومثله في حذف المضاف
قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
[الزمر/ 22] المعنى من ترك ذكر الله، كما قال في صفة
المنافقين: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا
قَلِيلًا [النساء/ 142].
ويجوز أن يكون المعنى أنّهم إذا ذكر الله قست قلوبهم خلاف
المؤمنين الذين قيل فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال/ 2].
الإعراب
قال: زادهم، فلم ينقل حركة العين التي هي الكسرة التي نقلت
فتحة العين من زاد إليها إلى الفاء كما نقلت في زدت، «3» وشذ
ذلك في الاستعمال والقياس، لما كان يؤدي إليه من التباس فعل
بفعل، ولأنّ الألف إذا ثبتت في زاد وباع- والذي يوجب قلبها
ألفا هو تقدير الحركة فيها- صارت الحركة بانقلاب الحرف إلى
الألف بمنزلة الثابتة في الحرف، فلما كان
__________
(1) في (ط): قال.
(2) تقدمت ترجمته في ص/ 225.
(3) في (ط): زيدت، (بإثبات الياء وإسكان الدال).
(1/324)
كذلك، وكان الحرف الذي هو متحرك بها ثابتا
غير محذوف لم ينقل عنه، ولذلك لم تنقل الحركة التي تجب للّام
في مصطفون والأعلون ونحوهما إلى ما قبلها، كما نقل في قاضون
وغازون ورامون. وعلى هذا لم يقدّر حذف الحركة من الألف فيمن
روى:
كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا «1» وقوله:
ولا ترضّاها ولا تملّق «2» ونحو ذلك، كما قدرنا حذفها من قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي «3» و: لم تهجو ولم تدع «4» لأن الياء
قد جاء متحركا في نحو:
غير ماضي «5»
__________
(1) تقدم هذا البيت ص 93.
(2) تقدم هذا البيت ص 93.
(3) عجزه.
بما لاقت لبون بني زياد والبيت مطلع قصيدة لقيس بن زهير العبسي
في إبل للربيع بن زياد العبسي، استاقها قيس وباعها بمكة، لأن
الربيع كان قد أخذ منه درعا ولم يردها عليه. انظر الخصائص: 1/
333، وشرح شواهد الشافية/ 48.
(4) البيت بتمامه:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
والبيت- على شهرته- لا يعرف قائله. يريد: هجوت واعتذرت، فكأنك
لم تهج، على أنك لم تدع الهجو. ورواية التاج (زبن) لم أهجو،
وهي تقتضي ضم تاء هجوت. والمعروف فتحها. وينسبه بعضهم إلى أبي
عمرو ابن العلاء. انظر شرح شواهد الشافية/ 406 والضرائر
للآلوسي/ 174.
(5) من قول جرير في قصيدة هجا بها الأخطل:
(1/325)
وليس الألف كذلك، لأنّه في ثباتها ألفا كأن
الحركة ثابتة فيها، فلا يصح نقلها إلى غيرها من الحروف مع
ثباتها في الموضع الذي هي ثابتة فيه. وليس كذلك: بعت وقلت
وخفت، لأنّك في هذه المواضع قد حذفت الحروف، والحروف إذا حذفت
قد تنقل حركاتها إلى ما قبلها. ألا ترى الخب في التخفيف، وضوا،
ومولة، وجيل، «1» ونحو ذلك.
وقد تنقل حركة الحرف المتحرك «2» إلى ما قبله والحرف ثابت غير
محذوف، نحو قول من قال: قتّل في اقتتل، فإذا حذف كان نقل حركته
إلى ما قبله أولى ليدل على المحذوف كما أجمع على ذلك في حذف
الهمز «3» في التخفيف.
فأمّا وجه قول من أمال الألف في «4» زاد، فهو أنّه أراد أن يدل
بالإمالة على أن العين ياء، كما أميلت الألف في حبالى، ليعلم
أن الواحد من هذا الجمع قد كانت الإمالة جائزة فيه،
__________
فيوما يوافين الهوى غير ماضي ... ويوما ترى منهن غولا تغوّل
ويروى (ماضيا) مكان (ماضي)، أي: من غير ميل منهن إلي. وتغول:
تتلون انظر الديوان/ 455، والنوادر/ 203.
(1) أصل هذه الكلمات على الترتيب: الخبء، وضوءا، وموألة،
وجيئل.
والخبء: المخبوء، مصدر بمعنى اسم المفعول، وهو من السماء
المطر، ومن الأرض النبات. وقرئ بلفظ (الخب) في قوله تعالى
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في الآية 25 في سورة النمل. وانظر
تفسير الكشاف للآية. 3/ 145. أما موألة فبطن من ملادس بضم
الميم وكسر الدال كما في القاموس (وأل)، والاشتقاق ص 262. وأما
جيئل: فالضبع، ممنوعة من الصرف.
(2) في ط: المتحركة، وهو تحريف.
(3) في (ط): الهمزة.
(4) في (ط): من.
(1/326)
وكما أبدلت الواو من الهمزة المنقلبة عن
الحرف الزائد في هراءى وأداءى وعلاءى، «1» ليعلم أن الواو كانت
ظاهرة في الواحد، ورفضوا أن يبدلوا منها الياء كما أبدلت منها
في خطايا ومطايا ليعلم أن الواو كانت ثابتة في آحاد هذه
الجموع.
وكما صحّحوا الواو في مقاتوه «2» ليعلموا أن الواو في واحده،
وهو مقتوي، قد صحت.
وكذلك صحّحوا الواو في سواسوة فيما حكاه أبو عمر وأبو عثمان عن
أبي عبيدة ليعلم أنّه من مضاعف الأربعة، فكما حافظوا على هذه
الحروف في هذه المواضع فألزموها ما يدل عليها، كذلك أمال من
أمال الألف ليحافظ على الحرف الذي هو الأصل.
ومما يقوّي قول من أمال (زاد) ونحوه ليدل بالإمالة على الياء
أن الجميع أبدلوا من الضمة كسرة في بيض وعين وجيد جمع أبيض
وأعين وجيداء «3» لتصح الياء، ولا تنقلب «4» إلى الواو.
فكما حوفظ على تصحيح الياء في هذه الأشياء كذلك حوفظ عليها
بإمالة الألف نحوها، لتدلّ عليها. يدلك على ذلك أنّ الذين
أمالوا نحو: «زاد، وباع، وناب، وعاب»، لم يميلوا نحو: عاذ،
وعاد، ولا بابا، ومالا، ولا ما أشبه ذلك مما العين
__________
(1) في (ط): هراوى، وأداوى، وعلاوى. أثبتها بعد قلب الهمزة
واوا، وجاء بها على الأصل قبل القلب، والهراوة: العصا،
والإداوة: المطهرة، والعلاوة من كل شيء: ما زاد عليه.
(2) المقاتوة: الخدام، والمقاتية لغة فيها كما في القاموس.
(3) في (م) أعين وأبيض.
(4) في (ط): فلا تنقلب.
(1/327)
منه «1» واو حيث لم تكن في الكلمة ياء ولا
كسرة فتنحى الألف بالإمالة نحوهما.
ومما يقوي الإمالة في زاد ونحوه: أنّه اجتمع فيه أمران كل واحد
منهما يوجب الإمالة: وهو لحاق الكسرة أول فعلت، والآخر: أن
تمال الألف ليعلم أنّها من الياء. فإذا كان كل واحدة من هاتين
الخلتين على الانفراد توجب الإمالة في هذا النحو، فإذا اجتمعتا
كان أجدر أن توجباها وتجلباها.
ومما يقوّي الإمالة في: زاد وباع وكال ونحو ذلك، أنّ الحروف
المستعلية والراء إذا كانت مفتوحة تمنعان «2» الإمالة، ألا ترى
أنّ من أمال نحو: عالم، وسائل، لم يمل نحو ظالم، وغانم، وراشد،
ولم يمل، رابيا في قوله:
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً [الرعد/ 17] لمكان
المستعلي والراء المفتوحة، ولم يجعلوهما في هذا الموضع تمنعان
«3» الإمالة كما منعتا في غيره. فلولا تأكد الإمالة في ألفات
هذه «4» الأفعال لما أمالوها مع ما يمنع من الإمالة في غير هذا
الموضع.
قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنّه سمع كثير عزة يقول:
صار مكان كذا. «5» وإذا «6» لم يمنع المستعلي أولا في
__________
(1) في (ط): فيه.
(2) في (ط): تمنع.
(3) في (ط): يمنعان.
(4) في (ط): في هذه.
(5) نص عبارة سيبويه في الكتاب (2/ 261): «وبلغنا عن ابن أبي
إسحاق أنه سمع كثير عزة يقول: صار بمكان كذا وكذا».
(6) في (ط): فإذا.
(1/328)
صار لم يمتنع «1» آخرا في زاغ، وإذا لم
يمنعها المستعلي لم تمنع الراء في نحو: بَلْ رانَ عَلى
قُلُوبِهِمْ [المطففين/ 14].
بسم الله: «2» اختلفوا في ضمّ الياء والتشديد وفتحها والتخفيف
في قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بِما كانُوا
يَكْذِبُونَ، بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ عاصم وحمزة «3» والكسائي: (يكذبون) بفتح الياء وتخفيف
الذال «4».
قال أبو علي «5»: كذب يكذب كذبا وكذابا. قال: أَفْتَرى عَلَى
اللَّهِ كَذِباً [سبأ/ 8].
وقال «6» الأعشى:
والمرء ينفعه كذابه «7» فالكذب «8» كالضحك واللعب.
__________
(1) في (ط): لم يمنع.
(2) زيادة في (م).
(3) في (ط): حمزة وعاصم.
(4) السبعة 141.
(5) «قال أبو علي» زيادة في (م).
(6) في (ط): قال.
(7) في ديوان الشاعر قصيدة على روي الشاهد ووزنه، لكنها خلو
منه.
وصدره كما في تفسير سورة النبأ من الكشاف:
فصدقتها وكذبتها
(8) في (ط): والكذب.
(1/329)
قال سيبويه: والكذاب كالكتاب والحجاب. «1»
وفي التنزيل: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النبأ/ 28]،
فالكذّاب على وزن الإكرام، ولم يجيء المصدر كمصادر دحرج وصعرر
«2» ليعلم أن الفعل ليس للإلحاق، كما لم يجيء أصمّ وأعدّ على
وزن قردد «3» وجلبب. «4»
وحكى أبو زيد بيتا ذكر أنه لجريبة بن الأشيم، جاهلي وهو:
فإذا سمعت بأنّني قد بعته ... بوصال غانية فقل كذّبذب
«5» قال أبو زيد: كذّبذب: كاذب، وحكي عن أبي عمر في تفسيره:
كذب.
فالكلمة على تفسير أبي زيد صفة وعلى ما حكي من تفسير أبي عمر
اسم، فيكون المبتدأ المضمر: القائل ذلك كاذب، وعلى القول الآخر
ما سمعت كذب.
وهذه الكلمة تحكى فيما شذ عن سيبويه من «6» الأبنية.
__________
(1) نص عبارة سيبويه في الكتاب (2/ 215) «وكذب يكذب كذبا.
وقالوا:
كذابا، جاءوا به على فعال كما جاء على فعول».
(2) صعرر الشيء فتصعرر: دحرجه فتدحرج.
(3) القردد: ما ارتفع من الأرض، واسم جبل.
(4) جلببه: ألبسه الجلباب. ومن معاني الجلباب: القميص، وما
تغطي به المرأة ثيابها من فوق، كالملحفة.
(5) يصف جمله. ويروى: «وإذا أتاك» مكان «فإذا سمعت»، و
«بعتها»، مكان «بعته» النوادر/ 72 والخصائص: 3/ 204.
(6) في (ط): في.
(1/330)
ولولا ثقة أبي زيد وسكون النفس إلى ما
يرويه لكان ردها مذهبا، لكونه على ما لا نظير له، ألا ترى أن
العين إذا تكرر مع اللام في نحو صمحمح وجلعلع لا يكرر «1» إلا
مرتين، وقد تكررت في هذه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد قالوا:
مرمريس، «2» فتكررت الفاء مع العين فيها ولم تتكرر في غيرها،
ولم يلزم من أجل ذلك أن يردّ ولا يقبل، فكذلك ما رواه أبو زيد
من هذه الكلمة.
والكذب: ضرب من القول، وهو نطق، كما أن القول نطق.
فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه فيجعل غير
نطق في نحو:
قد قالت الأنساع للبطن الحق «3» ونحو قوله في وصف الثور:
فكرّ ثم قال في التفكير «4»
__________
(1) من معاني الصمحمح: الشديد المجتمع الألواح. والجلعلع،
كسفرجل، وقد يضم أوله: القنفذ. وزاد في (ط): ودمكمك، وهو
الشديد القوي، وفي (ط): لا تكرر.
(2) المرمريس: الداهية.
(3) البيت في الخصائص 1/ 23 والأساس واللسان (حنق) وبعده:
قدما، فآضت كالفنيق المحنق الانساع: جمع نسع، وهو سير يضفر على
هيئة أعنة النعال تشد به الرحال. والفنيق: الفحل المكرم لا
يؤذى لكرامته على أهله.
والمحنق: الضامر.
(4) للعجاج، وروايته في ديوانه 1/ 366: (ميلين) بدل (فكر)
وبعده:
إن الحياة اليوم في الكرور
(1/331)
وجاز «1» أن يجعل في هذه المواضع وغيرها
غير نطق، فكذلك يجوز في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:
... كذب القراطف والقروف «2» فيكون في ذلك انتفاء لها، كما
أنّه أخبر عن الشيء على خلاف «3» ما هو به كان انتفاء للصدق
فيه. وكذلك قول الآخر:
إذا المعسيات كذبن الصّبو ... ح خبّ جريّك بالمحصن
«4» أي: إذا انتفى الصبوح منهن، فلم يوجد فيهن، أطعمت من مدّخر
الطعام وغير ألبان هذه الإبل التي يظن أن فيهن «5» الصبوح،
فجعل كون الشيء على خلاف ما يظنّ كذبا وإن لم يكن قولا، فعلى
هذا قالوا: «كذب القراطف»، أي: هو منتف
__________
(1) في (ط): فجاز.
(2) لمعقر البارقي يمدح بني نمير، ويذكر ما فعلوا ببني ذبيان
بشعب جبلة، والبيت بتمامه:
وذبيانية أوصت بنيها ... بأن كذب القراطف والقروف
والقراطف: جمع قرطف كجعفر، وهو القطيفة، أي: كساء مخمل.
والقروف: جمع قرف بفتح فسكون، وهو وعاء من جلد يدبغ بالقرفة
«قشر الرمان» يجعل فيه الخلع، بفتح فسكون، وهو لحم يطبخ بتوابل
ثم يجعل في القرف، يتزود به المسافر. تحث الذبيانية بنيها على
نهب القراطف والقروف. الخزانة: 2/ 289.
(3) في (ط): بخلاف.
(4) روي «منعن» مكان «كذبن» والمعسيات: جمع المعسية، وهي
الناقة التي يشك فيها: أبها لبن أم لا، والجري: الوكيل،
والرسول. وقيل: الخادم، والمحصن: ما أحصن وادخر من الطعام
للجدب. انظر اللسان: عسا.
(5) في (ط): فيها.
(1/332)
ليس له وجود، كما أن كذب في الخبر على ذلك،
فكذلك كذب الصبوح، أي: ليس يوجد، وكذب القراطف أي فأوجدوها
بالغارة، وكذلك كذب عليكم العسل، وحمل فلم يكذّب، [أي: لم يجعل
الحملة في حكم غير الحملة، ولكنه أوجدها وأوقعها]، «1» وقالوا:
حمل عليه ثم أكذب، يعنون كذب، وعلى هذا قالوا: حملة صادقة،
وصدق القوم القتال.
وقال:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي فكما وصفوه بالكذب وصفوه بخلافه
الذي هو الصدق، وكذلك قوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ
[الواقعة/ 2] أي: هي الواقعة وغير منتف كونها.
والكاذبة يشبه أن يكون «2» مصدرا، كالعاقبة والعافية ونحو ذلك.
فالفعل الذي هو كذب في هذا النحو ينبغي أن يكون الفاعل مسندا
إليه، وعليك: معلّقة «3» به.
فأمّا ما روي من قول من نظر إلى بعير نضو فقال لصاحبه: «كذب،
عليك البزر والنّوى» بنصب البزر، فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب،
ولكنه يكون اسم الفعل، وفيه ضمير
المخاطب، فأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال: كذب السّمن، أي:
انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنّوى، وهما مفعولا عليك وأضمر
السّمن لدلالة الحال عليه من مشاهدة عدمه.
__________
(1) ما بين المعقوفين مذكور في (ط) بعد قوله: يعنون كذب.
(2) في (ط): تكون.
(3) في (ط): وعليكم متعلقة.
(1/333)
فأمّا قوله:
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا ... بي الأرض والأقوام قردان موظبا
«1» فإنّ معنى (كذبت عليكم): لست لكم، وإذا لم أكن لكم ولم
أعنكم كنت منابذا لكم ومنتفية نصرتي عنكم، ففي «2» ذلك إغراء
منه لهم به، فهو مثل: كذب القراطف.
وقال أبو زيد: قد كعّ الرجل عن الأمر فهو يكع، إذا أراد أمرا
ثم كفّ عنه مكذّبا عند قتال أو غيره. قال: وتقول:
احرنجم الرجل فهو محرنجم، وهو الذي يريد الأمر ثم يكذّب فيرجع،
«3» فقد استعمل أبو زيد هذه اللفظة كما ترى في الموضع الذي
ينتفي فيه ما كان أريد فلم يوقع، وكذلك قول أبي دواد:
قلت لمّا فصلا من قنّة ... كذب العير وإن كان برح
«4» يقول: لما فصل الفرس والحمار أخذ الحمار على يمين الفارس،
وذاك أنّه يصعب الطعن من ناحية يمين الفارس،
__________
(1) لخداش بن زهير العامري، من شعراء الجاهلية، والقردان: جمع
قراد، كغراب وهو دويبة تلزق بالبعير، ويقال أذل من القراد.
موظب: موضع:
يذمهم، ويجعلهم كالقردان (انظر النوادر/ 17، ورواه في معجم
البلدان ولم ينسبه).
(2) في (ط): وفي.
(3) النوادر/ 230.
(4) انظر اللسان «كذب» وشعر أبي دواد (غرنباوم) / 301 وفيه:
(نصلا) بدلا من (فصلا) أي: خرجا من قنة الجبل وهما العير
والكلب وفي الخزانة 3/ 13: لما ظهرا- وبرح الصيد: جاء من ناحية
اليسار.
(1/334)
فقال: كذب العير، فإنّه يطعن وإن برح، فجعل
تقديره انتفاء الطعن عنه كذبا منه، فهذا الأصل في هذه الكلمة،
وليس كما ذكر بعض رواة اللغة أنّ كذّب يجيء زيادة في الحديث.
فأمّا قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد ... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
«1» فإن شئت قلت فيه: إن المعنى في «كذب» أنّه لا وجود للعتيق
الذي هو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين
الغبوق؟
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء
والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنّه قال بقوله لها:
عليك العتيق، أي: الزميه، «2» ولا يريد بها نفيه، ولكن إضرابها
عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولا به، وإن كان لفظه
مرفوعا مثل: سلام عليك ونحوه مما يراد به الدعاء، واللفظ على
الرفع.
وحكى محمد بن السريّ عن بعض أهل اللغة- في كذب العتيق- أنّ مضر
تنصب به. وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم ذكر وجه ذلك.
ومن الكذب الذي ليس في الإخبار كقوله: كذب
__________
(1) نسبه اللسان: كذب. إلى عنترة أيضا، ونسبه الكتاب «2: 302»
إلى الخزر بن لوذان. والشن: القربة البالية، وماؤها أبرد من
ماء القربة الجديدة. والغبوق: شرب العشي. انظر ديوان عنترة/
273 والخزانة 3/ 9.
(2) في (ط): بالعتيق فالزمية.
(1/335)
القراطف- قول ذي الرّمّة:
وللشول أتباع مقاحيم برّحت ... به وامتحان المبرقات الكواذب
«1» فالكواذب: النوق التي تظهر أنها قد لقحن وليس كذاك، «2»
فيردهن الفحل إلى الطّروقة. «3» وقريب من ذلك قوله:
إذا قلت عاج أو تغنّيت أبرقت ... بمثل الخوافي لاقحا أو تلقّح
«4» فالمتلقّح: التي تري أن بها لقاحا، وليست كذلك، فهي مثل
الكواذب في بيته الآخر.
__________
(1) رواية الديوان (وفي الشول) مكان (وللشول)، وضمير به للمقرم
في بيت سابق. والشول: جمع شائلة، وهي من الإبل ما أتى عليها من
حملها أو وضعها سبعة أشهر، فجف لبنها، والمقاحيم: جمع المقحم-
بفتح الحاء- وهو البعير الذي يلقى سنّين في مقدار سنّ- أو هو
الذي يخرج من سنّه فيستقبل السنّ الذي بعد سنه الذي كان فيه.
والمبرقات: جمع مبرق، وهي الناقة تشول بذنبها، تري أنها قد
لقحت وهي غير لاقح.
يريد أن هذا الفحل قد برح به إخراج المقاحيم التي تتبع الشول،
وبرح به كذلك امتحان المبرقات اللاتي يكذبن خوفا منه. انظر
الديوان 1/ 210.
(2) في (ط): كذلك.
(3) الطروقة: الناقة التي بلغت أن يضربها الفحل.
(4) لذي الرمة. وعاج: زجر للناقة. وفي (م): (تغيبت) مكان
(تغنيت)، وهو تحريف. وما أثبتناه مأخوذ من (ط) ومن الديوان.
والخوافي: أعرض من القوادم الديوان 2/ 1220 وهو البيت السادس
والخمسون من القصيدة.
(1/336)
ومما يبيّن أن الكذب في هذه الأشياء التي
ليست من القول على ما تأولنا قول الأعشى:
إذا ما الآثمات ونين حطّت ... على العلّات تجتزع الإكاما
«1» قالوا: الآثمات: البطاء اللواتي لا يصدقن في السير، فهذا
يدلك على صحة ما ذكرناه في قولهم: حمل فلم يكذّب، وكذب عليك
الحجّ، وكذب عليكم العسل، ألا ترى أن الإثم كالكذب كما أن البر
كالصدق؟
قال أبو علي: حجة من قال: يَكْذِبُونَ [البقرة/ 10]- بفتح
الياء وتخفيف الذال، أن يقول: إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وبما
بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب ويكذبون- قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة/ 8].
فقولهم: آمنا بالله كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم.
هذا الذي تقدم قولهم له وحكايته عنهم.
وما بعدها قوله تعالى: «2» وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا
قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا
إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة/ 14].
فقولهم- إذا خلوا إلى شياطينهم- إنا معكم دلالة على
__________
(1) حط: انحدر من أعلى إلى أسفل، والبعير: اعتمد في الزمام على
شقيه.
والعلات: الحالات المختلفة. والإكام: المرتفعات من الأرض،
المفرد أكمة. انظر الديوان: 197.
(2) في (ط): قوله بدون تعالى.
(1/337)
كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان
أشبه بما قبله وما بعده كان أولى.
ومما يدل على ترجيح ذلك أن يقال: إن قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ لا يخلو من أن يراد به
المنافقون أو المشركون «1» أو الفريقان جميعا.
فإن كان المعنيّون بذلك المنافقين فقد قال الله فيهم:
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ
[المنافقون/ 1].
وإن كانوا المشركين فقد قال: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مَا
اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون/ 90، 91] وقال: «2»
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى
الْبَنِينَ [الصافات/ 152، 153].
وإن كان الذين عنوا به «3» الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا
بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله يكذبون دون يكذّبون.
وحجة من قال: (يكذّبون) أن يقول: يدل على التثقيل قوله تعالى:
«4» وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى
ما كُذِّبُوا [الأنعام/ 34].
وقوله تعالى: «5» بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا
بِعِلْمِهِ [يونس/ 39] وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي
وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
__________
(1) في (ط): والمشركون، وسياق الكلام يوجب (أو) كما يتبين مما
يأتي قريبا.
(2) في (ط): وقال تعالى.
(3) في (ط): وإن كان المعني به الفريقين.
(4) في (ط): قوله بدون تعالى.
(5) في (ط): قوله بدون تعالى.
(1/338)
[يونس/ 41] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ
كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر/ 41] وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا [البقرة/ 39] ونحو ذلك من الآي.
فإن قلت: فكيف جاء: فإنهم لا يكذبونك، «1» والمعنى «2» لا
يجدونك كاذبا، لأنّهم قد عرفوا أمانتك وصدقك، وعرفت بذلك فيهم.
قال أبو طالب:
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا يؤكد ذلك قوله: وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ «3» [الأنعام/ 33]
أي بردّ آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون، أي: يجحدون ما
عرفوه من صدقك وأمانتك.
ومثل ذلك قوله تعالى:
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها
[الاسراء/ 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر بها، فكما أن الجارّ
في قوله:
(فظلموا بها) من صلة (ظلموا) كذلك يكون من صلة الظلم في قوله:
وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام/
33].
ويجحدون محذوف المفعول للدلالة عليه والتكذيب أكبر «4» من
الكذب، لأنّ كلّ من كذّب صادقا فقد كذب، وليس كلّ من كذب كان
مكذّبا لغيره.
__________
(1) في الآية 33 من سورة الأنعام، ويكذبونك بضم الياء وتسكين
الكاف وتخفيف الذال- قراءة نافع والكسائي، ويكذبونك- بضم الياء
وتشديد الذال قراءة الباقين انظر الإتحاف: 125، وهي في (ط) بضم
الياء وتشديد الذال.
(2) في (ط): فالمعنى.
(3) بقية الآية 33 من سورة الأنعام المذكورة آنفا.
(4) في (ط): أكثر.
(1/339)
[البقرة: 11]
بسم الله: «1» اختلفوا في ضم «2» أوائل هذه الحروف وأخواتها
وكسرها: فقرأ الكسائي: قيل [البقرة/ 11] وغيض [هود/ 44] وسيء
[هود/ 77، والعنكبوت/ 33] وسيئت [الملك/ 27] وحيل [سبأ/ 54]
وسيق [الزمر/ 71، 73] وجيء [الزمر/ 69، والفجر/ 23] بضم أول
ذلك كله.
وكان نافع يضم من ذلك حرفين: (سيء)، و (سيئت)، ويكسر ما بقي.
وكان ابن عامر يضم أول: (سيق وسيء وسيئت وحيل)، ويكسر (غيض) و
(قيل) و (جيء) في كل القرآن: الغين والجيم والقاف، هذه رواية
ابن ذكوان «3» عنه.
وقال الحلواني «4» عن هشام «5» بن عمار بإسناده عنه في
__________
(1) بسم الله: زيادة في (م).
(2) زيادة في (ط).
(3) هو عبد الله بن أحمد بن بشر، ويقال: بشير بن ذكوان، أبو
عمرو وأبو محمد القرشي الفهري الدمشقي، الإمام الأستاذ الشهير،
الراوي الثقة.
شيخ الإقراء بالشام، وإمام جامع دمشق. أخذ القراءة عرضا عن
أيوب ابن تميم، وقرأ على الكسائي حين قدم الشام وروى الحروف
سماعا عن إسحاق بن المسيبي عن نافع، وروى القراءة عنه خلق
كثير. ولد سنة 173، وتوفي سنة 242. طبقات ابن الجزري: 1/ 404،
405.
(4) هو أحمد بن يزيد بن ازداذ، ويقال: يزداز الصفار أبو الحسن
الحلواني:
إمام كبير عارف صدوق متقن ضابط خصوصا في قالون وهشام. قرأ بمكة
على أحمد بن محمد القواس وبالمدينة على قالون، وبالكوفة
والعراق على خلف وغيره. توفي سنة نيف وخمسين ومائتين. طبقات
ابن الجزري: 1: 149، 150.
(5) هو هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة أبو الوليد السلمي،
وقيل:
الظفري، الدمشقي إمام أهل دمشق وخطيبهم ومقرئهم ومحدثهم
ومفتيهم. ولد سنة 153، وأخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم
وغيره.
(1/340)
كلهن مثل الكسائي.
وروى عبيد بن عقيل «1» عن شبل بن عبّاد «2» عن ابن كثير: (سيء)
و (سيئت) بضم السين مثل نافع.
وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف
كلّها «3».
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا ... قالُوا [البقرة/ 11]
قال يقول قولا وقيلا، مثل ذكر يذكر ذكرا.
كأنّه متوّج روميّ ... أو مقول توّج حميريّ
«4» وقالوا: قيل، وهو فيعل مخفف كميت. يدلّك «5» على
__________
وروى القراءة عنه أحمد بن يزيد الحلواني وغيره. ومات سنة 245،
وقيل سنة 244. طبقات ابن الجزري: 2/ 354 - 356.
(1) هو عبيد بن عقيل بن صبيح أبو عمرو الهلالي البصري، راو،
ضابط، صدوق. روى القراءة عن أبان بن يزيد العطار، وأبي عمرو بن
العلاء، وشبل بن عباد، وغيرهم. وروى القراءة عنه خلف بن هشام
وغيره.
توفي في رمضان سنة 207. طبقات ابن الجزري: 1/ 496.
(2) هو شبل بن عباد أبو داود المكي، مقرئ مكة. ثقة ضابط، هو
أجل أصحاب ابن كثير. ولد سنة 70، وعرض على ابن محيصن وعبد الله
بن كثير، وهو الذي خلفه في القراءة. وروى القراءة عنه عرضا
إسماعيل القسط وغيره. وبقي إلى قريب من سنة 160. طبقات ابن
الجزري: 1/ 324.
(3) انتهى كلام ابن مجاهد: (انظر كتاب السبعة في القراءات 141
- 142).
(4) للعجاج، وروي في الديوان (1/ 516) بين بيتي الشاهد:
عليه كتان وآخني والآخني: ثوب مخطط.
(5) في (ط): يدل.
(1/341)
ذلك ظهور الياء فيه، والعين أعلت بالحذف
كما أعلت بالقلب.
والقياس في جمع قيل أقوال، مثل ميت وأموات.
وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة» «1»،
والقياس الأقوال إذا كان جمع فيعل من القول.
ويجوز أن يكون الأقيال جمع قيّل الذي هو فيعل، من قولهم: تقيّل
أباه إذا أشبهه، كأنّ كلّ ملك يشبه الآخر في ملكه، كما قيل له
تبّع لمّا كان يتبع من قبله.
وقال أبو زيد: اقتل عليّ كذا، أي احتكم، وأنشد:
فلو أن ميتا يفتدى لفديته ... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
«2» وقد اتسعوا في القول فاستعملوه في غير اللفظ. قال العجاج
يصف ثورا:
فكرّ ثم قال في التفكير ... إن الحياة اليوم في الكرور
«3»
__________
(1) من كتاب سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لوائل بن
حجر وقومه.
والعباهلة: الذين أقروا على ملكهم ولم يصرفوا عنه. انظر
النهاية لابن الأثير واللسان: (عبهل). والبيان والتبين 2/ 27 ت
هارون والشفا 49.
(2) لكعب بن سعد الغنوي في النوادر/ 244 وروايته: «ولو» مكان
«فلو».
وبقية البيت مطابقة لما هنا. ورواية المنصف: 3/ 92 واللسان
والصحاح «قول» والأصمعيات/ 97:
ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال من حكم علي طبيب
واقتال عليه: تحكم. وانظر شأن الدعاء ص 151 (ط. دار المأمون
للتراث).
(3) سبق في ص 331.
(1/342)
وقد أجري القول أيضا مجرى الاعتقاد والمذهب
في نحو: هذا قول أهل العدل، وهذا قول أبي حنيفة، يعنون بذلك
رأيهم واعتقاداتهم، ليس اللفظ.
وعلى هذا قالوا: قيل في ذلك قول، فأسندوا إليه قيل.
ومعنى النهي فيما
روي: «إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال»: «1»
المجادلة بالباطل ليدحض به الحقّ، وليس على النهي عن الخوض في
العربية وتعلّمها، لأنّ الحضّ على النظر فيها قد كثرت الرواية
به عن السلف. «2»
حدثنا إسماعيل بن محمد قال: حدثنا محمد بن عيسى العطار: قال
حدثنا كثير «3» بن هشام قال حدثنا عيسى «4» بن إبراهيم عن
الحكم بن عبد الله عن الزهري «5» عن
__________
(1) قطعة من حديث رواه البخاري في الرقاق برقم 6473 ومسلم برقم
1715 ج 3/ 1340. وانظر رياض الصالحين. طبع دار المأمون للتراث
ص/ 671.
(2) في (ط): السلف رحمهم الله.
(3) هو كثير بن هشام بن سهل الكلابي الرقي. روى عن شعبة. ومات
سنة 207. خلاصة تذهيب الكمال 273. قال ابن معين: ثقة. تهذيب
الكمال 3/ 1146.
(4) عيسى بن إبراهيم الشعيري- بفتح الشين وكسر العين- البركي-
بكسر الباء- أبو إسحاق البصري، مولى بني هاشم. روى عن حماد بن
سلمة وغيره. قيل توفي سنة 288، الخلاصة/ 256.
(5) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله القرشي الزهري
أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام، وعالم الحجاز والشام. روى
عن ابن عمر وغيره. كان من أسخى الناس، وكان تقيا، مات سنة 124.
الخلاصة/ 306.
(1/343)
سالم «1» عن أبيه قال:
مرّ عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا «2» فقال: بئس ما رميتم.
قالوا: «3» يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين.
فقال: والله لذنبكم في لحنكم أشدّ علي من ذنبكم في رميكم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رحم الله رجلا
أصلح من لسانه». «4»
وقد أجروا أتقول مجرى أتظن، فقالوا: أتقول زيدا منطلقا؟ ولم
يجر أكثر العرب حروف المضارعة الأخر «5» مجرى التاء. قال «6»
لأنّ المخاطب لا يكاد يستفهم عن ظنّ غيره.
فمن ذلك قوله:
فما تقول بدالها «7» (ما) نصب لكونها في موضع المفعول الأول،
والجملة في موضع المفعول الثاني.
__________
(1) هو سالم بن عبد الله بن عمر العدوى المدني الفقيه. روى عن
أبيه وأبي هريرة وغيرهما. قال ابن اسحاق: أصح الأسانيد كلها
الزهري عن سالم عن أبيه: مات سنة 106 على الأصح. الخلاصة/ 113.
(2) يرمون رشقا، أي: يرمون كلهم في جهة.
(3) في (ط): فقالوا.
(4) الحديث في كشف الخفاء 1/ 513 وفيض القدير 4/ 23 وكلاهما
بسند ضعيف.
(5) في (ط): الأخرى.
(6) في (ط): قالوا.
(7) للأعشى، والبيت بتمامه:
رحلت سمية غدوة أجمالها ... غضبى عليك فما تقول بدا لها
انظر الديوان/ 27. وقد سبق في ص 72.
(1/344)
قال: وبنو سليم يجعلون جميع الأمثلة بمنزلة
الظن.
والتّقوّل: تفعّل من القول، وقد غلب عليه الاستعمال فيما كان
باطلا وغير صدق، كما أن الاختلاق كذلك، وفي التنزيل:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ [الأحقاف/ 44].
وزعم بعض المفسرين أنّها نزلت لمّا قالوا: لولا اجتبيتها من
قوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا
اجْتَبَيْتَها [الأعراف/ 203] وقال: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ
[ص/ 7].
فأمّا الإقالة في البيع فليس من هذا الباب، لأنّهم قد قالوا:
قلته البيع وأقلته. «1» حكاه سيبويه وأبو زيد، فدل قولهم:
قلته على أن العين ياء. ولكنّ الإقالة من قولهم: تقيّل أباه،
إذا نزع إليه في الشبه، فكذلك الإقالة عود الملك بين
المتقايلين إلى ما كان قبل عقد البيع، ألا ترى أنّه فسخ بين
المتعاقدين وإن كانا بيعا آخر في حق الثالث.
حجة من قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [النور/ 11] فأشمّ الضمة
الكسرة وأمال بها نحوها:
أن ذلك أدلّ على فعل، ألا ترى أنّهم قد قالوا: كيد زيد يفعل،
وما زيل يفعل، وهم يريدون فعل. فإذا حرّكوا الفاء هذه التحريكة
أمن بها التباس الفعل المبنى للفاعل بالفعل المبني للمفعول،
وانفصل بها، فدلّت عليه، وكان أشدّ إبانة للمعنى المراد.
ومن الحجة في ذلك أنهم قد «2» أشمّوا نحو ردّ وعدّ وما
__________
(1) أقلته، سقطت من (ط).
(2) سقطت من (ط).
(1/345)
أشبه ذلك من التضعيف المبنى على فعل، مع
أنّ الضمة الخالصة تلحق فاءه، فإذا كانوا قد تركوا الضمة
الصحيحة إلى هذه في الموضع الذي تصح فيه «1» الضمة فإلزامها
حيث
يلزم الكسر فيه في أكثر اللغات أجدر. ودلّ استعمالهم هذه
الحركة في ردّ ونحوه من التضعيف على تمكنها في قيل وبيع وكونها
أمارة للفعل المبني للمفعول به، ولولا ذلك لم تترك الضمة
المحضة إليها في قولهم: ردّ ونحوه.
ومن الحجة في ذلك أنّهم قالوا: أنت تغزين فألزموا الزاي إشمام
الضمة و (زين) من تغزين بمنزلة قيل، فكما ألزم الإشمام هنا
كذلك يلزم ذلك في قيل، ألا ترى من «2» قال: قيل وبيع، قال:
اختير وانقيد، فأشمّ ما بعد الخاء والنون لمّا كان بمنزلة قيل
وبيع، فكما ألزم الإشمام نحو تغزين، لينفصل من باب ترمين، كذلك
ألزم قيل وبيع الإشمام في الضمة، لينفصل من الفعل المبني
للفاعل في كيد وزيل، وليكون أدلّ على فعل.
فإن قلت: فهلّا ألزم القاف في قيل ونحوه إشمام الضمة كما ألزم
ذلك في «3» تغزين؟
فالقول إنّ هذه الحركة لمّا لم تكن ضمة خالصة ولا كسرة محضة
ضعفت في الابتداء لخروجها عمّا عليه الحركات اللاحقة أوائل
الكلم المبتدأ بها، ألا ترى أنّ أبا عمرو أخذ بذلك في الإدراج
فيما حكاه عنه سيبويه في قوله تعالى:
__________
(1) في (ط): فيها.
(2) في (ط): ألا ترى أن.
(3) سقطت من (ط).
(1/346)
يا صالِحُ ائْتِنا «1» ولم يأخذ به في
الاستئناف. فإن قلت: فهل يلزم أبا عمرو في قراءته: يا صالِحُ
ائْتِنا أن يقرأ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي
[التوبة/ 49] فيشمّ الضمة نحو الكسرة.
فالقول: إن ذلك لا يلزم، لأنّ هذا الإشمام والإمالة بالضمة نحو
الكسرة إنّما جاء فيما ليس بحركة إعراب، والضمة في يقول ضمة
إعراب، والتي في يا صالِحُ ائْتِنا وإن كانت مشابهة لحركة
الإعراب فهي حركة بناء، فلا يلزم ذلك في قوله تعالى: «2»
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي.
ومما يدلّك على أنّ هذه التحريكة قد صارت أمارة لبناء الفعل
للمفعول به وأنّها مما يختصّ به الفعل أنّك لو سميت بمثل قيل
وبيع شيئا وخلعت منه الضمير إن كان فيه لأخلصت الكسرة فقلت:
قيل وبيع، فدلّ هذا من مذهب سيبويه على أن هذه الحركة أمسّ
عنده بالفعل، وأشد لزوما له من الأمثلة التي تختص بالفعل، ولا
تكون في الاسم نحو: ضرب وضورب وضرّب: ألا ترى أنّك لو سميت
بشيء من ذلك مجردا من الضمير لم تغيره عن بنائه إلى ما يختص
الاسم وقد رأى تغيير هذه الحركة وإخلاصها كسرة.
ومما يقوي قول من قال: قيل أن هذه الضمة المنحوّ بها نحو
الكسرة قد جاءت في نحو قولهم: شربت من المنقر، «3»
__________
(1) عبارة سيبويه: «وزعموا أنّ أبا عمرو قرأ: يا صالحيتنا، جعل
الهمزة ياء، ثم لم يقلبها واوا. الكتاب: 2/ 358.
(2) تعالى زيادة في (ط).
(3) قال سيبويه: «وشربت من المنقر. والمنقر: الركية الكثيرة
الماء. انظر الكتاب: 2/ 270.
(1/347)
وهذا ابن عور وابن بور، «1» فأمالوا هذه
الضمات نحو الكسرة لتكون «2» أشدّ مشاكلة لما بعدها وأشبه به
وهو كسر الراء، فإذا أخذوا بهذا لتشاكل اللفظ، وحيث لا يميّز
معنى من معنى آخر فأن يلزموا ذلك حيث يزيل اللبس ويخلّص معنى
من معنى أجدر وأولى.
حجة من قال: (قيل)، فأخلص الكسرة، ولم يحرك بضمة «3» ممالة نحو
الكسرة
الحروف التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون نقلا من حرف صحيح.
والآخر: أن يكون نقلا من حرف علة.
فحروف الصحة التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون في تضعيف.
والآخر: أن يكون في غير تضعيف.
فأما التضعيف فنحو أعدّ، وأصمّ، واستعدّ، ومفرّ، ومردّ، فما
قبل حرف التضعيف في هذه الأشياء إذا كان ساكنا ولم يك مدّة،
ألقيت حركة المضاعف عليه، وإذا كان متحركا حذفت الحركة ولم تلق
على شيء نحو: اعتدّ واشتدّ.
وأما غير التضعيف فعلى ضروب منها نقل الحركة من الهمزة إلى
الحرف الذي قبلها إذا لم يكن الحرف للمدّ فقط.
__________
(1) البور- بالضم-: الرجل الفاسد والهالك لا خير فيه، يستوى
فيه الاثنان والجمع والمؤنث.
(2) في (ط): ليكون.
(3) في (م) ضمة.
(1/348)
ومنها نقل حركة افتعل ويفتعل نحو يهتدي
ويقتدي.
ومنها الحركة في الوقف، وهي «1» على ضربين:
أحدهما: أن يكون حركة إعراب كقوله:
إذ جدّ النّقر «2» والآخر: أن يكون حركة البناء نحو اضربه
وقده، فهذا نقل الحركة من حروف الصحّة.
وأمّا نقل الحركة من حروف العلة فنحو الفعل من القول والبيع،
والفعل فيه على ضربين.
أحدهما: أن يكون فاعله ضميرا يتصل بالفعل، والآخر أن يكون
ظاهرا لا يتصل به فإذا بني الفعل للفاعل الظاهر قيل:
قام زيد، وباع عمرو، فلا تنقل في هذا حركة العين عن موضعها.
وقد شذّ قولهم: كيد زيد يفعل، وما زيل، فلا تنقل الحركة من غير
«3» هذا إلى الفاء، كما تنقل إذا اتصلت «4» بضمير المخاطب
والمتكلم، نحو قمت، وبعت، فنقلت الحركة التي كانت للعين إلى
الفاء.
فأما حجّة من قال: قيل- فحرك الفاء بالكسر- أنّهم يزعمون أنّ
هذه اللغة هي الأصل، وما عداها داخل عليها، يدلّ على ذلك أنّ
الأصل فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، كما نقلت حركة العين
إلى الفاء إذا بنيت الفعل للفاعل من
__________
(1) في (ط): وهو.
(2) تقدم في ص/ 98.
(3) في (ط): في غير.
(4) كذا في (ط): وفي (م): اتصل.
(1/349)
قلت، «1» لأنّ حركة العين من فعلت «2»
الضمة في بناء الفعل للفاعل بعد نقل فعلت إلى فعلت، نقلت «3»
الضمة إلى الفاء، كما نقلت الحركة التي هي الكسرة إلى الفاء،
إذا بنيت الفعل للمفعول، فلحق الإعلال العين بالقلب لاجتماع
المقاربة «4» كما يلحق «5» اللام في: غزا، ورمى، لتوالي ذلك.
ولو فصل السكون لصحّ كما صح نحو: غزو ورمي، وأتبع المضارع
الماضي، ولحق الإعلال في قيل العين وما قبلها.
أمّا الإعلال في العين فيقلبها إلى الألف، وما قبلها اعتلّ
بنقل حركة العين إليها وحذف حركتها، ولحق الإعلال في باب العين
العين وما قبلها كما لحق اللام وما قبلها في باب غزا ورمى.
وإنما نقلت الحركة في قيل إلى الفاء ليعلم بذلك حركة العين،
ألا ترى أنّك إذا سمعت الضمة في قلت، والكسرة في بعت علمت أن
حركة العين في باع كسرة كما تعلم أنها في قلت ضمة، وإذا سمعت
قيل وبيع علمت أن حركة العين الكسرة إذا بني الفعل للمفعول به
على فعل، فجعلت حركة العين إذا كانت واوا الضمة وإذا كانت ياء
الكسرة، لأن الضمة من جنس الواو، كما أن الكسرة من جنس الياء،
فلهذه المجانسة فعل هذا ليس لأنّ الضمة تدل على «6» أنّ العين
واو، ولا الكسرة تدلّ على أنّ العين ياء، ألا ترى أنّهم قد
جمعوا بين
__________
(1) في (ط): في قلت.
(2) في (ط): في فعلت.
(3) في (ط): فنقلت.
(4) في (ط): المتقاربة.
(5) في (ط): لحق.
(6) سقطت على من (م).
(1/350)
خفت وهبت في الكسرة وإحداهما من الياء،
والأخرى من الواو «1» وقد قلنا في ذلك في غير هذا الموضع.
[البقرة: 14]
بسم الله «2»: قال: حمزة «3» يقف على: (مستهزءون) بغير همز،
وكأنّه يريد الهمز، ويشير إلى الزاي بالكسر كما كان يفعل في
الوصل، وهذا لا يضبطه الكتاب «4». وكذلك كان يفعل بقوله:
لِيُواطِؤُا [التوبة/ 37] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ [يونس/ 53]
ومُتَّكِؤُنَ [يس/ 56]، وفَمالِؤُنَ [الصافات/ 66]
والْخاطِؤُنَ [الحاقة/ 37] والصَّابِئِينَ [البقرة/ 62، والحج/
17] والصَّابِئُونَ [المائدة/ 69] والباقون يصلون بالهمز
ويقفون أيضا كما يصلون «5».
قال أبو زيد: هزئت به هزءا ومهزأة، وأنشد غيره:
ألا هزئت بنا قرشي ... ية يهتز موكبها
«6» وقالوا: هزئت منه. أنشدنا علي بن سليمان:
وهزئت من ذاك أم موأله «7»
__________
(1) في (ط): من الواو، والأخرى من الياء.
(2) بسم الله و (قال) زيادة في (م).
(3) في (ط): قوله تعالى: مستهزءون. حمزة يقف على مستهزءون.
(4) في كتاب السبعة: ولا يضبط إلا باللفظ.
(5) السبعة 142.
(6) لابن قيس الرقيات. انظر الديوان/ 121.
(7) لرجل من بني تميم اسمه صحير بن عمير، ويقال فيه أيضا: صخير
بن عمير، وصخر بن عمير وغير ذلك. وقبل الشاهد من أول الأرجوزة:
هزأ مني أخت آل طيسلة
(1/351)
ومعنى يستهزءون يهزءون، كما أن قوله:
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ [الصافات/ 14] يسخرون،
ومثل هذا قرّ، واستقر، وقالوا: علا قرنه واستعلاه، وقال أبو
زيد: استعلى عليه، وقال أوس:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
«1» وقد جاء استفعل في معنى أفعل، كما جاء في معنى فعل. قالوا:
استجاب وأجاب، وأنشد أبو زيد.
فلم يستجبه عند ذاك مجيب «2» أي لم يجبه.
وقالوا: استخلف لأهله، وأخلف لأهله. قال:
__________
قالت: أراه مملقا لا شيء له انظر الأصمعيات: 234، ورواية
الشاهد فيها: مني بنت، مكان: من ذاك أم، وورد كذلك في هامش
(ط).
(1) زبنته: دفعته يترمرم: يحرك فاه للكلام. انظر ديوان أوس/
121 واللسان، والصحاح (رمرم).
(2) صدره:
وداع دعا هل من مجيب إلى الندى والبيت من مرثية لكعب بن سعد بن
مالك الغنوي، يرثي بها أخاه، واسمه شبيب، وقيل: هرم، وكنيته
أبو المغوار.
وتروى لسهم الغنوي، وهو من قومه وليس بأخيه، ويروى شيء منها
لسهم. انظر النوادر/ 37، وجمهرة أشعار العرب/ 276، والخزانة:
4/ 370. وشرح أبيات المغني 5/ 167.
(1/352)
ومستخلفات من بلاد تنوفة ... لمصفرّة
الأشداق حمر الحواصل
«1» وقال آخر:
................ ... ... سقاها فروّاها من الماء مخلف
«2» وقال: «3» مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً
[البقرة/ 17] وقال: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ
[المائدة/ 64].
قال أبو زيد: وقالوا: «4» رجل هزأة: يهزأ بالناس، وهزأة:
يهزأ به الناس. «5»
اختلف النحويون في تخفيف الهمزة في: (يستهزءون).
فقال سيبويه: تجعلها إذا خففتها بين بين، فتقول:
(يستهزوون).
وزعم أن جعلها بين بين، قول العرب والخليل. وكذلك
__________
(1) البيت لذي الرمة. والمستخلفات: المستسقيات، أو المستبقيات،
ويعني بها القطا، لأنها تستسقي الماء في حواصلها لفراخها.
التنوفة: الأرض الواسعة البعيدة الأطراف. ومصفرة الأشداق حمر
الحواصل يعني بها صغارها. ورواية (ط): في بلاد، مكان من بلاد.
وانظر اللسان (خلف) والديوان: 2/ 1345.
(2) صدره:
كأن دموعي سح واهية الكلى والبيت للحطيئة. واهية الكلى، يعني
بها المزادة، والكلى: جمع كلية أو كلوة، وهي من المزادة رقعة
مستديرة، تخرز عليها تحت العروة.
المخلف: المستسقي (انظر اللسان/ خلف/، والديوان/ 382).
(3) في (ط): وقال عز وجل.
(4) في (ط): قالوا.
(5) النوادر/ 134.
(1/353)
قال في الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها
مضموما نحو مرتع إبلك «1» تجعلها بين بين.
ويذهب أبو الحسن في يستهزءون إلى أن يقلب الهمزة ياء قلبا
صحيحا، ولا يجعلها بين بين كما ذهب إليه سيبويه والخليل.
فأمّا إذا كانت مكسورة وقبلها ضمة فإنّه لا يخلو من أن يكون
«2» في كلام متصل أو منفصل، فإن كان متصلا قلبها واوا مثل
بأكموك، «3» وإن كان منفصلا قلبها ياء مثل: عبد يخوتك «4»
وسنذكر قوله بعد ذكر ما احتج به لسيبويه.
قال أبو عثمان: سأل مروان بن سعيد المهلبيّ «5» أبا عمر الجرمي
في مجلس أبي الحسن الأخفش، «6» فقال:
كيف تخفف همزة جؤن؟ فقال: جون، فجعلها واوا خالصة.
فقال له مروان: لم لا جعلتها بين بين، فنحوت بها نحو الألف؟
__________
(1) انظر الكتاب: 2/ 164.
(2) في (ط): من أن تكون.
(3) أكمؤ: جمع كمء، وهو نبات ينقض الأرض فيخرج كما يخرج الفطر.
(4) في (ط): عبد يخوانك. وورد في (م) بعدها زيادة: (عبد إخوتك)
لبيان أصل الكلمة.
(5) نحوي مبرز من أصحاب الخليل. معجم الأدباء: 19/ 146.
(6) هو سعيد بن مسعدة، مولى مجاشع. أخذ عن سيبويه، وكان أحذق
أصحابه. توفي سنة 215. الإنباه: 2/ 36.
(1/354)
قال: فقال: من قبل أن الألف لا تقع بعد ضمة
فكذلك «1» ما قرب منها.
فقال: فكيف تخفف همزة مئر؟ «2» فقال: مير، فجعلها ياء خالصة
مثل الأولى في العلة.
فقال له مروان: فكيف تخفف همزة يستهزءون؟
فقال: أبو عمر يستهزوون، فجعلها بين بين، ونحا بها لانضمامها
نحو الواو.
قال أبو عثمان: وهو قول سيبويه.
فقال «3» له مروان: لم لا صيرتها ياء لأن الواو المضمومة لا
تقع بعد كسرة.
قال أبو علي: يريد مروان أن الكسرة لا تقع بعدها الواو
المضمومة فكذلك ينبغي ألا يقع بعدها ما قرب من الواو المضمومة
بالتخفيف، كما أنّ الضمة والكسرة، لمّا لم تقع بعدهما الألف
فكذلك لم يقع بعدهما ما قرب منهما «4» بالتخفيف، فقلبت الهمزة
بعدهما قلبا، فكذلك كان يلزم أن نبدل من الهمزة المضمومة بعد
الكسرة ياء إذا لم تقع بعد الكسرة واو مضمومة في موضع، فكذلك
ما قرب من الواو المضمومة من الهمز بالتخفيف ينبغي ألا تقع «5»
بعدها.
(رجع إلى كلام أبي عثمان):
__________
(1) في (ط): وكذلك.
(2) مئر: ككتف وعنب: مفسد.
(3) في (ط): قال فقال.
(4) في (ط): منها وهو تحريف.
(5) في (ط): يقع.
(1/355)
قال أبو عثمان: فقال أبو عمر وأجاد عندي:
هي وإن لم يكن مثلها في الكلام فأنا أقدر أن «1» ألفظ بها،
وتلك الأولى لا أقدر على أن ألفظ بها إذا نحوت بها نحو الألف
وقبلها كسرة أو ضمة.
قال أبو عثمان: وهذا قولي، وحجتي فيه هذه. «2»
وأما الأخفش فكان يقول: (يستهزيون) إذا خفف فيجعلها ياء خالصة
من أجل الكسرة التي قبلها. انتهت حكاية أبي عثمان.
قال أبو علي: إن قال قائل: إذا لم يجعلها بين بين فلم قلبها
ياء للكسرة التي قبلها، وهلّا قلبها واوا لتحركها بالضمة؟
قيل: إنّه إذا ترك أن يجعلها بين بين، فلا يخلو من أن يقلبها
ياء أو واوا، فلا يجوز أن يقلبها واوا وقبلها «3» كسرة، لخروجه
إلى ما لا نظير له، «4» ألا ترى أنّه ليس واو مضمومة قبلها
كسرة؟
وإذا لم يجعلها بين بين كما جعلها غيره لكراهته تقريبها من واو
مضمومة قبلها كسرة فأن يرفض قلبها إلى نفس الواو المضمومة
المكسور ما قبلها أجدر، فإذا لم يجز قلبها واوا صارت نحو «5»:
شيوخ وفِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ [النور/ 36] على أنّ
(يستهزيون) أسوغ في هذا «6» لأن الضمة فيها إعراب فليست
__________
(1) في (ط): على أن.
(2) في (ط): فيه ذلك.
(3) في (ط): قبلها.
(4) كذا في (ط). وفي (م): عما لا نظير له.
(5) في (ط): مثل.
(6) في (ط): من هذا.
(1/356)
بثابتة ثبات عين فعول، فهو مثل فخذ في
الرفع ليس مثل فعل المرفوض من كلامهم.
ويقوي قلبها إلى الياء أنّها في جون ومير «1» قد قلبت إلى
الحرف المجانس لما قبلها من الحركة وهي متحركة، فكذلك في
(يستهزيون) تقلب إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة مع
كونها متحركة.
فإن قال قائل: فهلا قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها كما قلبها
إلى الحرف الذي منه حركتها في أيمّة، ولم يقلبها إلى ما يجانس
الحركة التي قبلها كما لم تقلبها «2» في أئمة إلى ما يجانس
الحركة التي قبلها، ألا ترى أنّك لم تقل أامّة ولكن «3» قلبتها
إلى الياء لما تحركت بالكسرة؟
قيل: لم يجز أن تقلب إلى ما ذكرت في يستهزءون «4» لخروجها إلى
ما لا مثل له في كلامهم.
وجاز في أئمة أن تقلب إلى الحرف الذي منه حركتها من حيث لزم
إلقاء حركة المدغم فيه على ما قبله، ولولا ذلك لقلبتها على ما
قبلها من الحركة كما قلبتها في إناء وآنية، ولكن لما لزم إلقاء
حركة المدغم عليها كما لزم في أخلّة ونحوه وجب تحركها، «5»
ولما وجب تحركها، «5» وجب قلبها إلى الياء لتحركها بالكسرة إذ
لم يمكن قلبها إلى الحرف المجانس
__________
(1) في (ط): جؤن، ومئر.
(2) في (ط): لم يقلبها.
(3) في (ط): لكن.
(4) في (ط): يستهزيون.
(5) في (ط): تحريكها.
(1/357)
للحركة التي قبلها، ولم يجز إسكانها وقلبها
ألفا لأنها فاء كالفاء في أخلّة ونحوه، وليس في يستهزءون حركة
لمدغم يلزم أن تلقيها عليها، فتقلبها إلى ما يجانس حركتها دون
ما يجانس الحركة التي قبلها.
فإن قلت: كيف استجاز أن يقلب الهمزة ياء محضة في يستهزءون
ويحركها بالضم، وليس ياء هي لام على هذا الوصف تتحرك بالضمة؟
فإن ذلك فيما أصله الهمزة لا يمتنع، وإن لم يجز فيما أصله غير
الهمز، لأنّ الهمزة لما كانت منويّة كانت في تقدير الثبات، ألا
ترى أنّه وإن «1» خففها تخفيفا قياسيا لم يقلبها قلبا إلى
الياء، وإذا كان كذلك لم يمتنع ثباتها وتحريكها، وإن لم يجز
ذلك في الياءات التي ليس أصلها همزات، كما لم تمتنع الواو
الساكنة من أن تقع قبل الياء مبيّنا غير مدغم «2» إذا كان
أصلها الهمزة نحو نؤي، ورؤيا وإن كان فيما يمتنع ذلك فيما أصله
غير الهمز من الواوات.
ومما يدلك على صحة ذلك من قوله: إنّها في قولهم جميعا تثبت
ساكنة في الجزم. فكما جاز أن يخالف «3» الياءات التي هي لامات
عند الجميع في السكون للجزم، كذلك جاز عنده أن يخالفهن «4» في
الحركة أيضا.
وقال أبو الحسن في كتابه في القرآن: من زعم أن الهمزة المضمومة
لا تتبع الكسرة إذا خففت دخل عليه أن يقول: هذا قارو، وهؤلاء
قاروون، ويستهزوون، قال: وليس
هذا من كلام من خفف من العرب.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في (ط): مبينة غير مدغمة.
(3) في (ط): تخالف.
(4) في (ط): تخالفهن.
(1/358)
قال أبو علي: وجه دخول هذا عليه ولزومه له
عنده أن الهمزة إذا كانت مفتوحة وكان ما قبلها مفتوحا فخففت
جاز تخفيفها، فكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، وكذلك
إذا كانت مضمومة وما قبلها مفتوح، وذلك أنّها إذا كانت مفتوحة،
وما قبلها مفتوح أو مضمومة أو مكسورة وما قبلها مفتوح، فإنّك
في ذلك كله تقرب الهمزة من الحرف الذي منه حركتها، فتقرب
المفتوحة من الألف، والمكسورة من الياء الساكنة، والمضمومة من
الواو الساكنة، فكما أن الألف والواو والياء الساكنين يجوز أن
يقع كل واحد «1» منها بعد الفتحة نحو: دار وبيت، وثوب، كذلك
جاز أن تخفّف الهمزة بعدها فتقربها بالتخفيف من هذه الحروف
السواكن.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة خففتها بالقلب إلى
الحروف التي حركتها منها بلا خلاف. وذلك نحو التّودة، وجون
ومير، وذيب، وإنما قلبتها إليهما لأنك إذا «2» خففت المفتوحة
بعد الكسرة في مير قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها
كسرة، وكذلك جون إذا خففتها قربتها من الألف، والألف لا تكون
«3» قبلها ضمة، فلما لم تكن «4» بعد الكسرة ألف ولا بعد الضمة
كذلك، لم يكن بعدهما ما قربته منه فقلبت قلبا لذلك إلى الواو
أو إلى الياء.
فإن كانت مضمومة وقبلها كسرة فخففتها مثل يستهزءون، ومن عند
أختك، فلا يخلو إذا خففتها من أن تنحو بها نحو
__________
(1) في (ط): أن تقع كل واحدة.
(2) إذا: ساقطة من (ط).
(3) في (ط): لا يكون.
(4) في (ط): لم يكن.
(1/359)
الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: أقربها منه فأقول: يستهزوون «1»، لم يستقم لأنّك
تقربها من واو ساكنة والواو الساكنة لا تكون «2» قبلها كسرة،
فلا يجوز إذا أن تقربها من الواو الساكنة فتجعلها بين بين، كما
لم يجز ذلك في جون ومير، ولزمك قلبها ياء على حسب الحركة التي
قبلها كما قلبتها ياء أو واوا في جون، ومير، بحسب الحركة التي
قبلها إذ لم يجز أن تكون بين بين لتقريبك إياها بالتخفيف من
الواو الساكنة، والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة.
وإذا لم تكن قلبتها إلى الياء فقلت: يستهزءون حيث لم تكن بعد
الكسرة واو ساكنة كما قلبتها بعد الكسرة أو الضمة إذا كانت
مفتوحة إلى الياء أو إلى الواو حيث لم يجز أن يكون «3» بعد
الكسرة والضمة ألف فقد بان أن جعلها بين بين غير مستقيم للكسرة
التي قبلها مع كونها مضمومة.
فإن قلت: لا أقلبها ياء ولا أتبعها الحركة التي قبلها ولكن
أتبعها الحركة التي عليها وهي الضمة، فأقلبها واوا إذ لم يجز
أن أتبعها الكسرة التي قبلها- لزمك أن تقول: هذا قارو، فتصحح
الواو بعد الكسرة إذ لم يكن سبيل إلى أن تجعلها بين بين، وأنت
قد قلت: لا أتبعها الكسرة التي قبلها فأقلبها إلى الياء فأقول:
قاري، ويستهزيون، فبقي أن تقلبها واوا، فتجعلها من جنس الحركة
التي تحركت بها فتقول: قارو، لتكون قد خففتها إذ
__________
(1) في (م): يستهزيون.
(2) في (ط): لا يكون.
(3) في (ط): أن تكون.
(1/360)
لا سبيل إلى أن تجعلها بين بين، ولا تنقلب
ياء عندك، فهذا وجه لزوم قلبه إياها واوا وهذا ليس عليه أحد
ممن يخفف الهمز، فإن لم يقلبها ياء خرجت بترك قلبها ياء عن قول
العرب فيها إذا قلبتها واوا فقلت: قاروون ويستهزوون.
وكذلك إذا كانت الهمزة مكسورة وقبلها ضمة عكس قولك قارئ
ويستهزءون فإنك تقلبها واوا، فتقول: مررت بأكموك، فقلبت الهمزة
على الحركة التي قبلها كما أتبعتها في يستهزءون الحركة التي
قبلها بأن قلبتها ياء كذلك في أكموك تتبعها الحركة التي قبلها،
بأن تقلبها واوا فتجعلها من جنس الضمة التي قبلها، فتقول
بأكموك، ولا يجوز بأكميك فتجعلها على حركتها كما لم يقولوا:
قارو، فيجعلوها على حركتها، ولا يتبعوها «1» ما قبلها.
ولا يجوز أن تجعل: بأكموك بين بين، لأنّك تقربها من الياء
الساكنة، فكما لا تكون الياء الساكنة بعد الضمة كذلك لا تكون
الهمزة المكسورة بعد الضمة بين بين على قياس
قولهم:
جون ومير، والاتفاق الواقع في ذلك.
فإن قلت: فإذا لم تجعلها بين بين لما قلت من أنّها تقرّب من
الياء الساكنة، والياء الساكنة لا تكون بعد الضمة فهلّا قلبتها
ياء ولم تقلبها واوا لأنّك قد تجد الياء المكسورة في كلامهم
تقع بعد ضمة، ألا ترى أنّك لو قلت: صيد في هذا المكان لجاز كما
يجوز عور، في هذا المكان؟ فما الذي جعل قلبها
__________
(1) في (ط): فلا يتبعوها.
(1/361)
إلى الواو عنده في أكموك من قلبها إلى
الياء في أكميك لما أريناك من صيد.
فالقول: إن قلبها إلى الواو أولى، لأنّك قد وجدتهم في تخفيف
الهمز يتبعون الهمزة حركة ما قبلها كثيرا، وقد وجدتهم قلبوا
عكس هذا على ما قبلها، وذلك قولهم: (يستهزيون)، وقاري، فكما
أتبعوا هذه الهمزة حركة ما قبلها كذلك يتبعون الهمزة في أكموك
حركة ما قبلها ويقلبونها إليه، فيكون لذلك أولى وأقوى في
القياس من قلبها إلى الياء على حركة نفسها.
ومما يدلّ على أن قلبها إلى الواو في المتصل أقوى من قلبها إلى
الياء أن ما جاء فيه الواو من المتصل مصححة أكثر مما جاء فيه
الياء، ألا تراهم قالوا: عور في هذا المكان، وحول فيه، واجتور،
واعتون، «1» واعتور، والياء إنّما جاء في صيد فيه وحيي به وعيي
به فيمن بيّن ولم يدغم، ومع ذلك، فإنّ أبا الحسن قد جوّز على
قياس أكميك في المنفصل فقال:
إلّا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنّها قد
بعدت، يريد بقوله على موضعها أنّها تقلب إلى جنس حركتها.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو غلام «2» يخوانك،
والمكر السيئ يلا [فاطر/ 43] فلما وجد لقلبها إلى الياء طريقا
بدلالة صيد فيه كما وجد لقلبها إلى الواو طريقا ألزم الواو
المتصل لتكون على ما قبلها مثل جون ومير وقاري. فإنّها قلبت
على ما قبلها وجعل المنفصل بالياء وقال: لأنّ الواو تقلب إلى
__________
(1) «اعتون» زيادة في (م).
(2) في (ط): هذا غلام ...
(1/362)
الياء فأخذ بالأمرين، «1» ورأى القلب إلى
الواو في الاتصال أولى، وجعل المنفصل بالياء، لأنّ الضمة
بالانفصال قد بعدت، فجعلها على حركة نفسها.
فإن قلت: أفليس قد أتبعوها حركة نفسها في المتصل في قولهم:
أيمّة، ولم يتبعوها حركة ما قبلها فيقلبوها ألفا، ويقولوا:
«أامة»، فهلا جاز في قولهم: بأكموك، أن يتبعوها حركة نفسها،
فيقولوا: بأكميك كما فعل «2» في (أيمة).
فالقول: إن هذا ليس كأيمة، وذلك أنّ التي في أيمة لزم إلقاء
حركة المدغم عليها فلما لزم إلقاء حركة المدغم عليها لم يجد
بدّا «3» من تحريكها، ولما لم يجد بدّا من تحريكها كانت حركتها
أولى أن تقلب إليها من أن تجعل على ما قبلها مع تراخي تلك عنها
وقرب الكسرة منها، ألا ترى أنّها لو قلبت على ما قبلها من
الفتحة فقلبت ألفا وحركة المدغم التي يلزم إلقاؤها عليها
الكسرة لم يستقم، لأنّ الألف لا تحرّك فقلبت الهمزة في أيمّة
على حركتها لذلك؟
فأمّا ما حكاه محمد بن السري في كتابه في القراءات عن أبي
الحسن من أنّه قال: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة
إذا خففت. دخل عليه أن يقول: هذا قاري، وهؤلاء قاريون،
ويستهزيون. «4»
__________
(1) في (ط): بالأمرين جميعا.
(2) في (ط): فعلوا.
(3) في (ط): لم تجد.
(4) في (ط): هذا قارو وهؤلاء قاروون ويستهزوون.
(1/363)
وقال: قال: يعني أبا الحسن: وليس هذا من
كلام من خفف من العرب إنّما يقولون: يستهزيون- فخطأ في النقل،
أتراه يلزم الخليل وسيبويه أن يقولوا هذا في المتصل، وقد رآهم
قالوا ذلك في المنفصل نحو: من عند أختك؟ ويسمعهم يقولون: إنّه
قول العرب، فيلزمهم قولهم؟ وما يقولون: إنّه قول العرب! هذا ما
لا يظن.
وأبو الحسن قد فصل بين المتصل والمنفصل في أكموك وغلام يخوانك
فقلب المتصل واوا، والمنفصل ياء. هذا الذي حكاه عنه غلط في
النقل، وإنّما هو دخل عليه أن يقول: هذا قارو بالواو، كما
حكيناه عنه، وكذلك رواه أبو عبد الله اليزيديّ «1» عنه في
كتابه في «المعاني»، ثم ما حكاه عن أبي الحسن من قولهم: إنّما
يقولون يستهزيون على ماذا تحمله: على التحقيق أم على جعلها بين
بين؟ [فإن حمله] «2» على التحقيق لم يجز، لأنّ الكلام ليس فيه،
إنّما الكلام على التخفيف [فإن حملته] على جعلها بين بين قد
أثبتّ إذا ما أنكره وما لم يقله أحد من أهل التخفيف عنه، هذا
خطأ عليه فاحش في النقل.
وأمّا ما ذكره محمد بن يزيد في هذه المسألة في كتابه المترجم
بالشرح من قوله: والأخفش لا يقول إلا كما يقول النحويون: هذا
عبد يبلك، ولكن يخالف في يستهزءون، فهذا
__________
(1) هو محمد بن العباس بن محمد اليزيدي البغدادي، روى القراءة
عنه ابن مجاهد وغيره (طبقات القراء: 2/ 158).
(2) ما بين المعقوفتين منقول عن [ط]، والعبارة في (م) مضطربة.
(1/364)
الإطلاق يوهم أنّه لا يفصل بين المتّصل
والمنفصل، «1» وقد فصل أبو الحسن بين أكموك وعبد يخوانك،
فينبغي إذا كان كذلك ألّا ترسل الحكاية عنه حتى تقيّد، ويفصل
بين المتصل والمنفصل كما فصل هو.
[البقرة: 19، 15]
اختلفوا في قوله (تعالى): فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة/ 15] وفِي
آذانِهِمْ [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري «2» ونصير بن يوسف النحوي: «3»
__________
(1) في (ط): المنفصل والمتصل.
(2) أبو عمر الدوري: هو حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان بن
عدي ابن صهبان، ويقال: صهيب الأزدي البغدادي النحوي الدوري
الضرير نزيل سامرا، إمام القراءة، وشيخ الناس في زمانه، ثقة
ثبت كبير ضابط، أول من جمع القراءات، ونسبته إلى الدور موضع
ببغداد، ومحله بالجانب الشرقي. رحل الدوري في طلب القراءات،
وقرأ بسائر الحروف السبعة وبالشواذ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا.
قرأ على إسماعيل بن جعفر عن نافع، وقرأ عليه يعقوب بن جعفر
ويحيى بن المبارك اليزيدي، توفي سنة 246 هـ.
(طبقات القراء: 1/ 255 - 257).
(3) نصير بن يوسف بن أبي نصر أبو المنذر الرازي ثم البغدادي
النحوي، أستاذ كامل ثقة، أخذ القراءة عرضا عن الكسائي. وهو من
جلة أصحابه، وعلمائهم، كما أخذ عن أبي محمد اليزيدي، روى عنه
القراءة محمد بن عيسى الأصبهاني، وعلي بن أبي نصر النحوي، قال
أبو عبد الله الحافظ: كان من الأئمة الحذاق، ولا سيما في رسم
المصحف، وله فيه تصنيف .. وقال عنه الأستاذ أبو محمد سبط
الخياط: وكان ضابطا عالما بمعاني القراءات ونحوها، ولغتها، مات
في حدود الأربعين ومائتين (طبقات القراء: 2/ 340). وسبقت
ترجمته في ص 322.
(1/365)
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي
«1» آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد «2» وغيره: كان الكسائي لا يميل
هذا وأشباهه. والباقون يفتحون «3».
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان
«4».
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي
التنزيل: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ [طه/ 81]
فألف طغا تكون منقلبة عن «5» الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت
تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى،
ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن
جعلته مضارع طغوت أو
__________
(1) «في» ساقطة في (ط).
(2) هو الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي، ثقة معروف حاذق
ضابط، عرض على الكسائي، وهو من جلة أصحابه، وروى الحروف عن
حمزة ابن القاسم الأحول، وعن اليزيدي، روى القراءة عنه عرضا
وسماعا سلمة بن عاصم صاحب الفراء، ومحمد بن يحيى الكسائي
الصغير ..
مات سنة 240. (طبقات القراء: 2/ 34).
(3) كتاب السبعة 143.
(4) زاد في (ط): قال أبو علي.
(5) في (ط): من.
(1/366)
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة/ 5]
فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي «1» بالريح الطاغية.
وقوله: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة
من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، «2» لأنّ
لغة التنزيل «3» الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت
طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة
كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة
التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة
في نحو السّيال «4» والضّياح. «5» ومررت ببابه، وبداره، فإذا
اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
__________
(1) في (ط): كأنه بدل أي.
(2) الرعوى: اسم من الإرعاء، وهو الإبقاء على أخيك. والبقوى:
الاسم من الإبقاء.
(3) في (ط): لأن اللغة التنزيل، وهو تحريف.
(4) السيال: واحدة سيالة- كسحابة- وهو شجر له شوك أبيض طويل
إذا نزع خرج منه اللبن، أو ما طال من السمر.
(5) الضياح: اللبن الرقيق الكثير الماء.
(1/367)
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم،
فكلّ «1» واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها
هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف
بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط
لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا
تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر
بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، «2» وقباب، ولم
يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف.
وقالوا: بِطارِدِ [هود/ 29] وبقادر «3» [يس/ 81] لمّا تقدم
المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ «4» وأما في (آذانهم)
فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة
الإعراب، وهي «5» حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن.
[البقرة: 16]
بسم الله «6» اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة/ 16]: قال أحمد
بن موسى:
ضمّ الواو اتفاق «7».
__________
(1) في (ط): وكل.
(2) صفاف جمع صف. والفراض جمع فرضة، وهي ثلمة تكون في النهر
يستقى منها أو فوهة النهر.
(3) في (ط): بقادر وبطارد.
(4) البارض: أول ما يظهر من نبت الأرض.
(5) زاد في (ط): فيه بعد وهي.
(6) هذه البسملة زيادة في (م).
(7) السبعة 143.
(1/368)
قال أبو علي: الواو في (اشتروا) ساكنة،
فإذا سقطت همزة الوصل للدرج التقت مع الساكن المبدل من لام
المعرفة فالتقى ساكنان، فحركت الأوّل منهما لالتقاءيهما، ولا
يخلو التحريك فيها من أن تكون «1» بالضمّ أو بالكسر، فصار
الضمّ أولى بها ليفصل بالضمّ بينها وبين واو أو ولو، فحركت
بالضم دون الكسر لذلك.
ومما يدل «2» على تقدم التحرك بالضم على الكسر لالتقاءيهما،
أنّهم قد حرّكوا هذه الواو في غير هذا الموضع بالضم لالتقاء
الساكنين، واتفق الجميع فيه على التحريك بالضم دون غيره، وذلك
في قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ [آل عمران/ 186]،
ولَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ [التكاثر/ 6] فدلّ اتفاقهم على تحريك
هذه بالضمّ على أنها في (اشتروا الضلالة) محرّكة بالضمّ أيضا
لالتقاء الساكنين، كما حرّكت «3» في لتبلونّ ولترونّ الجحيم.
ويدلّ على تقدّم ذلك على الكسر ما جاء من ضمهم لها في: مصطفو
الله، فكما حرّكوا هذه الواو بالضمّ كذلك ينبغي أن تحرّك
بالضمّ في (اشتروا الضّلالة بالهدى)؛ لاتفاقهما في الدّلالة
على الجمع.
ويدل على تقرر ذلك في هذه الواو أنّهم شبهوا بها الواو التي في
أو، ولو، فحركوها بالضم تشبيها بقوله: (اشتروا الضّلالة). وكما
شبهوا التي في أو بالتي تدل على الجمع،
__________
(1) في (ط): أن يكون.
(2) في (ط): يدلك.
(3) في (ط): حركت به.
(1/369)
كذلك شبهوا التي للجمع بها فأجازوا فيها
الكسر، كما أجازوا في: لَوِ اسْتَطَعْنا [التوبة/ 42] الضمّ
تشبيها بالتي للجمع، وليس هذا بالوجه، كما أنّ الكسر في: لا
تنسوا الفضل [البقرة/ 237] «1» ليس بالوجه.
ومثل هذا في أن كل قبيل من الواوين شبّه بالآخر إجازتهم الجر:
في الضارب الرجل، تشبيها بالحسن الوجه، وإجازتهم النصب في
الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل، والنصب في الضارب الرجل
الوجه. والجرّ في الحسن الوجه الوجه، إلّا أنّ الكسر في: (ولا
تنسوا الفضل) أقبح وأقل في الاستعمال من الحسن الوجه.
ويدلّ على تقدّم التحريك بالضمّ في هذه الواو لالتقاء
الساكنين، أنّ قوما أبدلوا منها الهمزة، فقالوا: (اشترءوا
الضّلالة) كما يبدلون من الواو المضمومة، فلو كان تحريكها
بالكسر متعارفا لكان جديرا ألا يهمزوا، لأنّها كانت تشبه حركة
الإعراب لتعاقب الحركتين عليها، كما تتعاقب حركة الإعراب على
المعرب.
ألا ترى أن حركة غير الإعراب «2» لمّا تعاقبت على ما كان
مضاعفا أدغم في قول عامة العرب غير أهل الحجاز، كما أن حركات
الإعراب لمّا تعاقبت على المعرب أدغم، فتحريك من حرّكها بالضمّ
دلالة على أنّه جعلها بمنزلة سائر الواوات
__________
(1) كسر الواو قراءة يحيى بن يعمر، كما في البحر: 2: 228.
(2) في (ط): حركة الإعراب.
(1/370)
المضمومة التي تبدل الهمزة منها، ولا
يدخلها غير الضمّ، نحو التي في الغئور والنّئور وأسؤق وأنؤر.
«1»
وليس إبدال هذه الواو همزة، وإن كان فيه ما استدللنا به من
تمكن تحركها بالضم في هذا الموضع بالقياس، لأنّ تحريكها بالضمّ
إنّما هو لالتقاء الساكنين، والتحريك لالتقاء الساكنين في
تقدير السكون لما تقدّم من الدّلالة على ذلك.
فإذا كان كذلك فكأنّه قد أبدل الهمزة من واو ساكنة، والهمزة لا
تبدل من الواو الساكنة.
ولو استقام أن تبدل من هذه الواو الهمزة إذا تحركت بهذه
الحركة، لاستقام أن تبدل منها إذا تحركت بحركة الإعراب، لأنّها
مثلها في أنّها ليست بلازمة، إلّا أنّ إبدال الحركة لالتقاء
الساكنين همزة أوجه لموافقتها نحو أدؤر في «2» أنّ الحركتين
فيهما حركتا بناء لا حركتا إعراب.
وقد شبهوا غير اللازم باللازم في مواضع، نحو ادغامهم الواو في
رويا وروية وما أشبه ذلك، وليس قول من قال-: إنّ هذه الواو
إنّما حركت بالضمّ لالتقاء الساكنين، لأنّه فاعل في المعنى
فجعلت حركة التقاء الساكنين فيه كحركة الإعراب- بمستقيم. ألا
ترى أنّ الياء في: أخشي القوم يا مرأة، فاعلة في المعنى،
واتفقوا «3» على تحريكها بالكسر! وقد كسر ناس الواو
__________
(1) الغئور: مصدر غار القوم غورا، وغئورا، وهو كل ما انحدر
مسيله.
النئوور: دخان الشحم الذي يلتزق بالطست، والأنؤر: جمع نار.
(2) كذا في (ط)، وفي (م): وفي، ولا موضع للواو هنا. وأدؤر: جمع
دار.
(3) في (ط): فاتفقوا.
(1/371)
في: (اشتروا الضّلالة)، (ولا تنسوا الفضل
بينكم) فلو كان كما ذهب إليه من ذكرنا قوله، لم يجز اختلاف
الحركات فيه كما لم يجز ذلك في حركة الإعراب إذا كان معربا
وأمّا «1» ما حكاه أحمد بن يحيى عن الفراء في «2» أن قوله:
(اشتروا الضّلالة) إنما حرّكها بالحركة التي كانت تجب للام
الفعل من الضمة، فإنّه ذهب في ذلك إلى أن الحركة فيها ليست
لالتقاء الساكنين، كما يذهب إليه سيبويه وأصحابه.
وهذا الذي ذهب إليه الفراء «3» لا يستقيم من غير جهة:
منها أن اشترى واصطفى وما أشبه ذلك إنما انقلبت اللام فيه ألفا
لتقدير الحركة فيها، ولولا تقديرها لم تنقلب، كما لم تنقلبا
في: لو، وكي، فإذا انقلبا لذلك لم يستقم أن يقدّر نقل الحركة
عنها، لأن ثباتها ألفا بمنزلة كون الحركة معها، فكيف «4» يقدر
نقلها إلى موضع وهي في حكم الثبات في الحرف المتحرك بها؟
ومن ثم لم ينقلوا الحركة في قال، وباع، وهاب، وخاف، «5» إلى
الفاء، كما نقلوا في قلت، وطلت، وبعت، وخفت، وهبت، ألا ترى
أنّها في تقدير الثبات مع الألف؟
ويمتنع ذلك من وجه آخر: وهو أنّا رأينا الحركات إنّما تلقى على
الحروف التي تكون قبل الحروف التي تنقل منها، ولا تنقل إلى ما
بعد الحروف المنقولة منها الحركة، ألا ترى أن
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) في (ط): من.
(3) في (ط): ذهب إليه الفراء في ذلك.
(4) في (ط): وكيف.
(5) في (ط): وخاف وهاب.
(1/372)
بعت، وقلت، وخفت، وهبت، ومست وظلت، فيمن
نقل حركة عينيهما وأحست كذلك، وكذلك أقام، وأقال، وأصمّ،
وأيلّ، «1» وأعدّ، وأمدّ، وأخلة، وأيمّة، وكذلك نقل حركات
الهمز في التخفيف نحو جيل، «2» وحوبة «3» والمرة، «4» والجية
«5»، والخب «6» والعب «7». وكذلك يمدّ، ويعفّ، ويشمّ، وكذلك من
نقل في خطّف، وقتّل «8» ويهدّي، إنما ينقل إلى الحرف الذي قبل
الحرف المنقولة منه الحركة. وكذلك قولهم:
قاضون وغازون، ومشترون «9» ونحو ذلك. فإذا كان الأمر في ذلك
على ما وصفنا ولم نجد في هذه الأصول شيئا على ما ادّعاه- ثبت
فساد ما ذهب إليه لدفع الأصول له وتعرّيه من دلالة تدلّ عليه.
ووجه آخر، وهو أن الحركة في: اشتروا الضلالة، ومصطفو القوم،
واخشي القوم يا هذه- لا تخلو من أن تكون منقولة، من اللام كما
قاله، أو حركة لالتقاء «10» الساكنين كما ذهب إليه غيره.
__________
(1) الأيل: القصير الأسنان العليا. وفي (ط): وأبال.
(2) جاء في اللسان: جيئل، وجيئلة: الضبع، وربما قالوا: جيل
بالتخفيف، ويتركون الياء مصححة، لأن الهمزة وإن كانت ملقاة من
اللفظ فهي مبقاة في النية معاملة معاملة المثبتة غير المحذوفة.
(3) الحوبة مخفف حوأبة، أضخم ما يكون من العلاب، وهي الجفان
التي تحلب فيها الناقة.
(4) مرة: مخفف مرأة.
(5) الجية: مخفف الجيئة.
(6) الخب: مخفف الخبء، وهو كل شيء غائب مستور.
(7) العبء: بالكسر: الحمل والثقل من أي شيء كان.
(8) في (ط): قتل وخطف.
(9) في (ط): مستهزون.
(10) في (ط): للالتقاء.
(1/373)
فلو «1» كانت حركة نقل كما قال لوجب أن
يتحرك الحرف الذي نقلت إليه بها، التقى مع الساكن، أو لم يلتق،
ألا ترى أن سائر ما نقلت الحركة إليه نحو ما ذكرنا قبل يتحرك
بالحركة المنقولة إليه وفي أن هذه الحروف: الواو في اشتروا وفي
مصطفو القوم، والياء في اخشي الله يا هذه، لا تتحرك حتى تلتقي
مع ساكن منفصل منها دلالة على أنّها تحركت من حيث تحركت الحروف
الساكنة الملتقية «2» مع سواكن أخر منفصلة منها نحو: عَذابٍ
ارْكُضْ [ص/ 41، 42] وأحدن، الله [الصمد/ 2، 3] أو انقص
[المزمل/ 3] واذهب اذهب، وما أشبه ذلك مما تحرك لالتقاء
الساكنين، فأما تحريكها بالضمّ، وتحريك هذه الحروف التي
ذكرناها بغيره من الحركات فمسألة أخرى. ولو لم يكن في ذلك إلّا
أن الياء التي هي مثل الألف في اللين نقل حركتها إلى ما قبلها
فى: قاضون وفَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ [المؤمنون/ 7] لكان
كافيا، فعلم «3» منه أن حركة اللام المنقلبة ألفا لا تنقل إلى
ما بعدها كما لم تنقل في «العادون» إلى ما بعده.
[البقرة: 16]
اختلفوا في قوله تعالى: «4» بِالْهُدى «5» [البقرة/ 16] وما
أشبه ذلك فكان نافع لا يفتح ذوات الياء ولا يكسر مثل قوله:
(الهدى، والهوى «6» والعمى، واستوى وأعطى، وأكدى)
__________
(1) في (ط): ولو.
(2) في (ط) المنقلبة، وهو تحريف.
(3) في (م) تعلم.
(4) في (ط): عز وجل.
(5) كذا في (ط): وفي (م) الهدى.
(6) الهوى ساقطة في (ط).
(1/374)
وما أشبه ذلك، كانت «1» قراءته وسطا في «2»
ذلك كله، وكذلك (يحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى،
والعسرى، ورأى، ونأى).
وقال المسيّبي: «3» كان نافع يفتح ذلك كلّه، والأول قول قالون
وورش عن نافع.
وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه.
وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس «4» الآي بين
الفتح والكسر «5» مثل آيات سورة طه، والنجم و (عبس وتولى، «6»
والضحى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، ودحاها وطحاها) «7»،
فإذا لم يكن رأس آية فتح، مثل: قَضى أَجَلًا [الأنعام/ 2]
والهدى، «8» واسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة/ 29] و (أزكى) و
(فسواهن)، و (أحيا) فإنّه بالفتح كلّه.
__________
(1) كانت ساقطة من (ط).
(2) في (ط): من.
(3) المسيبي: هو إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن
المسيب المخزومي وأبو محمد المسيبي المدني إمام جليل عالم
بالحديث قيم في قراءة نافع، ضابط لها محقق فقيه، قرأ على نافع
وغيره، أخذ القراءة عنه ولده محمد، وأبو حمدون الطيب إسماعيل
وخلف بن هشام.
قال أبو حاتم السجستاني: إذا حدثت عن المسيبي عن نافع، ففرغ
سمعك، وقلبك، فإنه أتقن الناس، وأعرفهم بقراءة أهل المدينة،
وأقرؤهم للسنة، وأفهمهم للعربية ... توفي سنة ست ومائتين.
(طبقات القراء:
1/ 157، 158).
(4) في (ط): ما كان رءوس الآي.
(5) في (ط): بين الكسر والفتح.
(6) في (ط): عبس بدون تولى.
(7) في (ط): وضحاها وطحاها.
(8) في (ط): أجلا، واستوى.
(1/375)
فإذا كان الاسم مؤنثا على فعلى أو فعلى أو
فعلى مثل (ذكرى) «1» وضِيزى [النجم/ 22] وأنثى «2» وشتّى «3»
وما أشبه ذلك فهو بين الفتح والكسر، وإذا كانت راء بعدها همزة
وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء مثل رَأى كَوْكَباً
[الأنعام/ 76] ورَأى أَيْدِيَهُمْ [هود/ 70] وإذا «4» جاءت راء
بعدها ياء كسر الراء مثل قوله: هل ترى، ويرى والنصارى وأرى.
فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء كقوله
تعالى «5»: حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة/ 55]
والنَّصارى الْمَسِيحُ [التوبة/ 30] وتَرَى الَّذِينَ [الزمر/
60]، لأنّ الإمالة إنّما كانت من أجل الياء فلما زالت الياء
زالت الإمالة.
وروى عبد الوارث «6» وعباس بن الفضل «7» عن أبي
__________
(1) ذكرى (انظر مثلا سورة الأنعام آية 68).
(2) أنثى: انظر مثلا سورة النحل آية 58، 97.
(3) شتى: انظر مثلا سورة طه آية 3.
(4) في (ط): فإذا.
(5) في (ط): كقوله بدون تعالى.
(6) هو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان أبو عبيدة التنوري العنبري
مولاهم البصري إمام حافظ مقرئ ثقة، ولد سنة اثنتين ومائة، وعرض
القرآن على أبي عمرو. روى القراءة عنه ابنه عبد الصمد، وبشر بن
هلال. وكان ثقة حجة موصوفا بالعبادة والدين والفصاحة والبلاغة،
ولكنه اتهم بالقدر.
قال عنه أبو عمر الجرمي: ما رأيت فقيها أفصح من عبد الوارث إلا
حماد بن سلمة. مات سنة ثمانين ومائة بالبصرة، وله ثمان وسبعون
سنة.
(طبقات القراء: 1/ 478).
(7) العباس بن الفضل بن عمرو بن عبيد بن الفضل بن حنظلة أبو
الفضل الواقفي الأنصاري البصري، قاضي الموصل، أستاذ حاذق ثقة
جليل المنزلة في العلم والدين والورع. كان من أكابر أصحاب أبي
عمرو في
(1/376)
عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن «1» أو
لم يستقبله.
والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل: نَرَى اللَّهَ
جَهْرَةً [البقرة/ 55].
وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه إلّا: (رأى، ورمى
ورآه)، و (نأى) في سورة بني إسرائيل [الآية/ 83] وفتح التي في
السجدة [فصلت/ 51] وأَعْمى [الإسراء/ 72] فإذا سقطت الياء
لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمزة مثل: رَأَى
الْقَمَرَ [الأنعام/ 77].
وروى خلف عن يحيى بن آدم «2» عن أبي بكر عن عاصم أنّه كان يميل
الراء والهمزة من «3» قوله تعالى «4»: رأى الشمس [الأنعام/ 78]
ورأى القمر [الأنعام/ 77] ورأى
__________
القراءة. روى القراءة عرضا وسماعا عن أبي عمرو بن العلاء وضبط
عنه الإدغام، كما روى عن خارجة بن مصعب عن نافع وأبي عمرو وعن
مطرف بن معقل الشقري عن ابن كثير ... وجاء عن أبي عمرو أنه
قال:
لو لم يكن في أصحابي إلا عباس لكفاني ولد سنة خمس ومائة وتوفي
سنة ست وثمانين ومائة. (طبقات القراء: 1/ 353).
(1) في (ط): الساكن.
(2) يحيى بن آدم بن سليمان بن خالد بن أسيد أبو زكريا الصلحي،
إمام كبير حافظ. روى القراءة عن أبي بكر بن عياش سماعا. وروى
أيضا عن الكسائي روى القراءة عنه الإمام أحمد بن حنبل. وخلف بن
هشام البزار وسئل الإمام أحمد بن حنبل عنه فقال:
ما رأيت أحدا أعلم، ولا أجمع للعلم منه، وكان عاقلا حليما.
توفي سنة ثلاث ومائتين بفم الصلح قرية من قرى واسط. (طبقات
القراء:
2/ 363).
(3) في (ط): في.
(4) في (ط): قوله بدون تعالى.
(1/377)
الذين ظلموا [النحل/ 85] وما كان مثله.
وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك بفتح
الهمزة بعد كسر الراء، مثل حمزة.
وأما حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح، إلّا قوله:
مَجْراها [هود/ 41] فإنه أمالها.
وكان حمزة يميل ذوات الياء، مثل: (أعطى واتقى) و (استوى). وما
أشبه ذلك، وأَماتَ وَأَحْيا [النجم/ 44] ويَحْيى مَنْ حَيَّ
[الأنفال/ 42] ولا يميل (أحياكم) و (أحيا) إلّا إذا كان قبل
الفعل واو. ويميل موسى، وعيسى، ويحيى، ولا يميل ذوات الواو مثل
قوله: وَاللَّيْلِ إِذا سَجى [الضحى/ 2] و (دَحاها)، و
(طَحاها)، و (تَلاها)، ويميل ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ [النور/ 30]
والْأَعْلَى [الأعلى/ 1] وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله
ألف فإنه يميله.
وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، ويميل، (فأحياكم) و (أمات وأحيا)،
ويميل ذوات الواو إذا كنّ مع ذوات الياء مثل:
(وضحاها) و (الضحى)، لا يفتح شيئا من ذلك، وكذلك (دحاها).
واتفقا في ترك «1» الإمالة في قوله تعالى: «2» ثُمَّ دَنا
[النجم/ 8] وما زكا منكم [النور/ 21] ودَعا [آل عمران/ 38]
وَعَفا [البقرة/ 187]، وما أشبه ذلك.
وابن عامر يفتح ذلك كلّه.
__________
(1) في (ط): واتفقا على ترك. وفي السبعة زيادة: يعني حمزة
والكسائي.
(2) في (ط): قوله بدون تعالى.
(1/378)
أبو عمرو يميل الكاف من (الكافرين) في موضع
الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا، كقوله تعالى: «1»
أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة/ 41] أو جمعا في موضع رفع مثل
قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون/ 1] لم يمل.
وكذلك روى أبو عمر الدّوري، ونصير بن يوسف النحوي جميعا عن
الكسائي ولم يرو ذلك عن الكسائي إلا أبو عمر ونصير والباقون لا
يميلون «2».
قال أبو علي: أما إمالة نافع (الهدى، والهوى، «3» والعمى،
واستوى، وأعطى، وأكدى، ويحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى،
والعسرى، ورأى، ونأى) فحسنة، لأنّها ألفات منقلبة عن الياء، أو
في حكم المنقلب عنها.
فأمالوها ليدلوا على أن أصلها الياء، أو في حكم ذاك. وإذا
كانوا قد أمالوا شيئا من الأسماء التي على ثلاثة أحرف نحو:
العشا والكبا والمكا «4» مع أنها منقلبة عن الواو، فلا نظر في
حسن إمالة ما كان انقلابه من هذه الألفات عن الياء، أو كان في
حكم ذلك لتدل الإمالة والانتحاء بالألف نحو
الياء على الياء.
ومثل ذلك في إلزام الكلمة ما يدل على الحرف الذي وقع الانقلاب
عنه إبدالهم من الهمزة المعترضة في الجمع الواو
__________
(1) في (ط): قوله بدون تعالى.
(2) انظر السبعة 143 - 146.
(3) «والهوى» ساقطة من (ط).
(4) العشا: سوء البصر بالليل والنهار. «الكبا»: الكناسة.
المكا: هو جحر الثعلب. (انظر الكتاب: 2: 260، وشرح الشافية
لابن الحاجب: 3: 8).
(1/379)
ونحو هراوى وأداوى، ليدل ذلك على الواو
التي كانت اللام في إداوة وهراوة.
ومثله أيضا قول من قال: قيل «1» فانتحى بالكسرة نحو الضمة ليدل
على أن الأصل فعل.
ومثل ذلك قولهم: أنت تغزين يا هذه. فأشموا الزاي الضمة لتدل
على الواو المحذوفة التي هي لام الفعل، فكذلك إمالة الألف نحو
الياء لتدل على أنّ انقلابها عن الياء دون الواو.
ومما يؤكد ذلك أنّ قوما قالوا هذا ماشّ وهذا «2» جادّ، فأمالوا
ليدلوا على الكسرة التي تكون في إظهار المثلين وفي عين الفعل
في الدّرج.
وأما قصده في الإمالة بها نحو الياء وتوسطه في ذلك فلأنّه كره
أن يبالغ في الانتحاء نحو الياء، فيصير كأنّه عائد إلى الياء
التي كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، وهكذا ينبغي أن تكون الألف
في الإمالة.
قال وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه. وحكي عن ابن عامر أنّه كان
يفتح ذلك كلّه.
قال أبو علي، «3» الحجة له أنّه كره الإمالة في نحو:
هدى، وعمى، واستوى، لأنّه كره أن ينحو نحو الياء، وقد كان
__________
(1) في (ط): قيل فيشم فانتحى.
(2) انظر الكتاب: 2/ 266 والماش: وصف من المش، وهو مسح اليد
بالشيء لتنظيفها وقطع دسمها.
(3) «قال أبو علي» ساقطة من (ط).
(1/380)
كرهها وفرّ منها حتى قلبها ألفا، فكره أن
يعود إلى مقاربة ما كان رفضه، وهو قول الأكثر فيما زعم سيبويه،
أعني ألا يميل ما كان انقلابه من الألفات عن الياء كما أن
الأكثر من يقول ردّ، فيصحح الضمة ولا ينحو بها نحو الكسرة،
لأنّه قد كان كرهها حتى أذهبها بالإدغام.
ومما يؤكد ترك الإمالة في هذا الضرب، لأنّ فيها انتحاء نحو ما
كان كرهه، تركهم الإمالة في جادّ ومجادّ ونحوه من المضاعف
لأنّه فربّما تحقّق فيه الكسرة التي كانت تقع بعد الألف لو لم
تدغم فلم يعد إلى ما يدل عليها من الإمالة بعد رفضه لها، ولم
يميلوا في الجر فقالوا: مررت برجل جادّ.
فأمّا من أمال ذلك في الجر فكما أمال: مررت بماله، لا على ما
يمال من نحو: عابد وعالم، وهذا قول الأكثر.
قال سيبويه: وكثير من العرب وأهل الحجاز لا يميلون هذه الألف.
«1»
قال: وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين
الكسر والفتح، مثل آيات سورة طه، والنجم، وعبس وتولى، والضحى
والليل، والشمس وضحاها، ودحاها، وطحاها، «2» فإذا لم تكن «3»
رأس آية فتح.
قال أبو علي: إنّما أمال الألفات في رءوس الآي، لأنّ الفواصل
بمنزلة القوافي في أنّها مواضع وقوف، كما أنّ أواخر
__________
(1) انظر الكتاب: 2/ 261.
(2) «طحاها» ساقطة من (ط).
(3) في (ط): يكن.
(1/381)
البيوت كذلك، وقد فصلوا بين الوصل والوقف،
فأمالوا إذا وقفوا، ولم يميلوا إذا وصلوا، وذلك قولهم في
الوقف: يريد أن يضربها ومنّا، ومنها «1» وبنا، ونحو ذلك.
فإذا وصلوا نصبوا فقالوا: يريد أن يضربها زيد، وأن يضربا زيدا،
ومنا زيد. وإنّما حملهم على هذا الفصل بين الوقف والوصل أنّهم
أرادوا في الوقف تبيين الألف، فكما بيّنوها بأن قلبوا من الألف
الياء في نحو هذه أفعى، كذلك بينوها بأن نحوا بها نحو الياء.
فإذا وصل ترك الإمالة كما يترك إبدال الياء منها فيقول: هذه
أفعى فاعلم، لأنّ
الألف في الوصل أبين منها في الوقف، فعلى هذا فصل أبو عمرو بين
رءوس الآي وغيرها.
وأما تسويته بين ضحاها، وطحاها، فليشاكل بينها في اللّفظ، لأنّ
الفواصل كالقوافي، فاستحب الملاءمة بين بعض الفواصل وبعض، كما
استحبوا ذلك في القوافي، وأمال طحاها ونحوها لذلك ولأنّ
الامالة في نحو: طحا وغزا سائغة.
وأما إمالة ما كان آخره ألف التأنيث نحو ذكرى وأنثى وشتى، فلأن
هذه الألفات تبدل منها الياء ولا تبدل منها الواو أبدا، فصارت
بمنزلة ما أصلها الياء، فأمالها بذلك «2». وإمالتها وترك
إمالتها جميعا كثيران.
قال: فإذا كانت الراء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة
وفتح الراء، يريد بالياء الألف، ولعله سمّاها ياء لأنّ الكتّاب
يكتبونها ياء، وذلك نحو: رَأى أَيْدِيَهُمْ [هود/ 70]
__________
(1) «منها» ساقطة من (ط).
(2) في (ط): لذلك.
(1/382)
فأمال الفتحة التي على الهمزة من رأى نحو
الياء، لتميل الألف بإمالة الفتحة نحو الياء، وترك الراء
مفتوحة لأنّها لم تل الألف، فتركها على فتحتها ولم يغيرها.
قال فإذا «1» جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله:
(ترى، ونرى، والنصارى، وأرى).
قوله: بعدها ياء، يريد بها الألف الممالة أيضا.
فإن قلت: فهلّا لم يمل الألف هنا «2» لأنّ الراء مفتوحة،
والراء إذا كانت مفتوحة منعت الإمالة كما تمنعها الحروف
المستعلية. فالقول إن فتح الراء هنا لا يمنع «3» الإمالة كما
أن المستعلية أنفسها لم تمنع منها في نحو: سقى وصفا، وكذلك
الراء في (النصارى).
قال: فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء،
كقوله تعالى: «4» حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة/ 55]
والنَّصارى الْمَسِيحُ [التوبة/ 30]، وَيَرَى الَّذِينَ [سبأ/
6].
قال أبو علي: هذا الذي ذهب إليه أبو عمرو مذهب، وللعرب في هذا
مذهبان:
أحدهما ألّا يميلوا بالفتحة نحو الكسرة، لأنّ إمالتها إنّما
كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف لالتقاء
__________
(1) في (ط): وإذا.
(2) في (ط): هاهنا.
(3) كذا في (ط) وفي (م): «لم تمنع».
(4) في (ط): قوله بدون تعالى.
(1/383)
الساكنين صحح الفتحة ولم يملها «1» لسقوط
الألف التي كانت الفتحة تمال لتميلها.
قال سيبويه: قالوا: لم يضربها الذي تعلم، «2» فلم يميلوا، لأنّ
الألف قد ذهبت.
والآخر أن يميل الفتحة نحو الكسرة وإن كانت الألف قد سقطت،
لأنّ الألف لمّا كان حذفها لالتقاء الساكنين- والتقاء الساكنين
غير لازم- صارت الألف كأنّها في اللفظ.
وقد روى أحمد بن موسى هذا الوجه الثاني أيضا عن أبي عمرو،
فقال: روى عبد الوارث، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو إمالة ذلك
كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
قال أحمد: والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل نَرَى
اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة/ 55].
وقد حكى هذا الوجه أبو الحسن، وحكى الأول الذي حكيناه عن
سيبويه فقال: إن شئت تركت الإمالة على حالها.
قال: وذلك نحو فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ [الأنعام/ 77] وفِي
الْقَتْلى الْحُرُّ [البقرة/ 178] وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ
[البقرة/ 2].
قال: وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه، إلّا رأى ورمى
ورآه ونأى في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة [فصلت/
51] وأَعْمى [الاسراء/ 72]، فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في
الوصل أمال الراء وفتح الهمز مثل (رأى القمر).
__________
(1) في (م): «ولم يميلها».
(2) انظر الكتاب: 2/ 266.
(1/384)
قال: وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر
عن عاصم في ذلك كلّه «1» بفتح الهمزة بعد كسرة الراء مثل حمزة.
وأمّا حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح إلّا قوله:
(مجراها)، فإنّه أمالها.
قال: أبو علي: الفتح في ذلك هو الأصل، وأمّا الإمالة في رأى
ورآه ونأى فإنّه أمال فتحة الهمزة لتميل الألف المنقلبة عن
الياء في رأيت ونأيت نحو الياء، فلمّا أمال فتحة الهمزة لما
ذكرناه أمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة، وكما «2» أمالوا
الألف لإمالة الألف في نحو رأيت عمادا، كذلك أمالوا الفتحة في
راء: «3» رأى لإمالة فتحة الهمزة، ألا تراهم أمالوا الفتحة في
الراء من نحو: من الضرر، لكسرة الراء، والفتحة في الطاء من
نحو: رأيت خبط الريف «4» لكسرة الراء، فكذلك أمالوا الفتحة
للفتحة الممالة، لأنّ الفتحة الممالة منتحى بها نحو الكسرة،
كما أنّ الألف الممالة منتحى بها نحو الياء، فكما أمالوا الألف
الآخرة في رأيت عمادا لإمالة الألف الأولى التي أميلت للكسرة،
كذلك أميلت الفتحة في راء رأى لإمالة الفتحة من «5» همزتها.
فأمّا فتحه الهمزة إذا سقطت الألف لساكن لقيها وتبقيته الإمالة
في الراء مع فتحة الهمزة، فكان القياس أن يخلص فتحة
__________
(1) «كله» ساقطة من (ط).
(2) في (ط): فكما.
(3) «راء» ساقطة من (ط).
(4) الخبط: خبط ورق العضاه من الطلح ونحوه يخبط، يضرب بالعصا
فيتناثر ثم يعلف الإبل (اللسان).
(5) في (ط): في.
(1/385)
الراء ولا يميلها لزوال ما كانت «1» أميلت
له كما حكاه سيبويه في «2» قولهم: لم يضربها الذي تعلم.
ولما فعله عاصم من إمالة فتحة الراء مع تفخيمه فتحة الهمزة وجه
ظاهر، وقياس صحيح، وذلك أنهم قد قالوا:
رحمه الله، فكسروا الراء لكسرة حرف الحلق الذي هو العين، ثم
أسكنوا الحاء فبقيت الراء على كسرتها ولم يردوها إلى الفتحة
التي كانت الأصل في فعل، فكذلك بقّى في رأى إمالة فتحة الراء
مع زوال الإمالة عن فتحة الهمزة، ومما يثبت ذلك قوله:
وإن شهد أجدى فضله وجداوله «3» وممّا يقوي ذلك قولهم: صعق «4»
ثم نسبوا إليه فقالوا:
صعقي، فقرروا كسرة الصاد وإن كانت كسرة العين التي لها كسرت
الصاد قد زالت.
فأمّا إمالة فتحة الراء من قوله تعالى: «5» وَلكِنَّ اللَّهَ
رَمى [الأنفال/ 17] فإنّ إمالة الراء في رأى، أحسن من إمالة
الراء «6» في رمى، لأنّ الراء في رأى ونأى بعدهما همزة.
__________
(1) في (ط): ما كان.
(2) في (ط): من.
(3) عجز بيت للأخطل وصدره: إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا انظر
الكتاب: 2/ 259 وديوان الأخطل 1/ 348 وهو البيت التاسع
والثلاثون من قصيدة يمدح فيها بشر بن مروان.
(4) الصعق: لقب عمرو بن خويلد، من بني عمرو بن كلاب، لقب به
لأن صاعقة أصابته في الجاهلية. الاشتقاق: 297.
(5) في (ط): قوله بدون تعالى.
(6) في (ط): من إمالتها.
(1/386)
والكسر [في الفاء إذا كانت بعدها همزة] «1»
أو غيرها من حروف الحلق قد كثر.
قال أبو الحسن: وقد ذكروا أنّها لغة، ووجهه ما تقدم من أنّه
لمّا أمال الميم أمال الراء لإمالتها.
وليس اختلاف رواية الرواة في هذه الحروف عنه بتدافع، لأنّه إذا
كان لكل قراءة من ذلك وجه فقد يجوز أن يكون رأى أن يقرأ بكل
واحد منها، «2» ويجوز أن يكون رأى القراءة ببعض ذلك ثم انتقل
عنه إلى وجه آخر.
ويقوي الوجه الأول ما رواه أبو بكر عنه من إمالة «نأى» في سورة
بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة.
وأمّا «3» إمالة حمزة مثل: (أعطى، واتّقى، واستوى، وأمات،
وأحيا) «4» إلّا إذا كان قبل الفعل واو فيمكن أن يكون لمّا رأى
الإمالة وتركها سائغين جائزين أخذ بهما جميعا فقرأ بعض ذلك
ممالا، وبعضا غير ممال على نحو ما روي عن عاصم.
وإمالته موسى وعيسى ويحيى قد تقدّم القول في ذكر وجهه.
وترك إمالته ذوات الواو مثل: (والليل إذا سجا)، و (طحاها)، و
(تلاها) حسن جميل، لأنّه لا ياء هنا ينحو بالألف نحوها: لتدلّ
«5» عليها فلم يمل الألف المنقلبة عن الواو إذ
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطة من (ط).
(2) كذا في (ط): وفي (م) منهما.
(3) في (ط): فأما.
(4) في (ط): أحيا، ويحيي، وترك إمالته أحياكم وأحيا.
(5) في (ط): ليدل.
(1/387)
كانت الإمالة في الألف المنقلبة عن الياء
قد تترك، وفتح الألف في نحو رمى. فإذا جاء التفخيم في بنات
الياء فبنات الواو أجدر.
والذين أمالوا نحو: طحا، أمالوا لأن اللام قد تنقلب ياء،
والعدّة على ما هي عليه نحو: غُزًّى [آل عمران/ 156].
وأمّا إمالته «1» ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ [البقرة/ 232] و
(الأعلى) وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله همزة، «2»
فحسنة، لأنّ الألف في هذه العدّة قد صارت في حكم المنقلب عن
الياء لموافقتها لها في التثنية وغيرها، ألا ترى أنّك تقول:
الأزكيان، والأعليان، وتقول: أعليت زيدا، وزكيّته، فلما صار
«3» في حكم المنقلب عن الياء أمالها كما يميل ما انقلب عن
الياء.
وموافقة الكسائي له في ذلك، واختصاص الكسائي بإمالة (وأحيا) في
ذلك حسن، لأنّ الواو إذا لحقت أولا في هذا النحو فلا شيء فيه
يمنع الإمالة، كما لا شيء فيه يمنع منها إذا لم تلحق في قياس
العربية. ولعل حمزة اتبع في ذلك أثرا، لأنّ القراءة ليست
موقوفة على مقاييس العربية دون اتباع الأثر فيها، أو أحبّ أن
يجمع بين الأمرين الجائزين. «4»
وأمّا اختصاص الكسائي من «5» دون حمزة بإمالته ذوات
__________
(1) في (ط): إمالة.
(2) في (ط): الهمزة.
(3) في (ط): صارت.
(4) في (ط): الجائزين فيها.
(5) «من» ساقطة من (ط).
(1/388)
الواو إذا كنّ مع ذوات الياء في مثل
(والشّمس وضحاها)، و (الضّحى)، و (دحاها)، وأنّه لا يفتح من
ذلك شيئا، بل يسوي بين ذوات الياء وذوات الواو في هذه الفواصل-
فهو في ذلك موافق لأبي عمرو، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك عند ذكرنا
لقول أبي عمرو.
قال: واتفقا في ترك الإمالة في قوله: «1» ثُمَّ دَنا [النجم/
8]، وما زكا منكم [النور/ 21]، ودعا، وعفا، وقد تقدّم ذكر وجه
«2» ذلك.
قال: أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين فى موضع الخفض والنصب
إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا مثل: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ
[البقرة/ 41]، أو جمعا مرفوعا مثل قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ [الكافرون/ 1] لم يمل، وكذلك رواه بعضهم عن
الكسائي.
قال أبو علي: إمالته الكافرين في موضع النصب والخفض «3» إنّما
هي للزوم الكسرة الراء بعد الفاء المكسورة، والراء لما فيها من
التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين، وكلّما كثرت الكسرات
غلبت الإمالة وحسنت. فلمّا كانت الراء في الكافرين قد لزمتها
الكسرة، والفاء قبلها مكسورة أيضا- حسنت الإمالة.
فأمّا الواحد المجرور نحو: أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة/ 41]
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) كذا في (ط)، وفي (م): نحو.
(3) في (ط): في موضع الخفض والنصب.
(1/389)
فإنّما لم يمله كما أمال الجميع، لأنّ كسرة
الإعراب غير لازمة فيه لزوم الكسرة للراء في الكافرين، فلم
يلزم أن يميل الواحد من حيث أمال الجميع، ومع ذلك فإنّ الراء
لما كانت مشبّهة بالمستعلي للتكرير الذي فيها، ولم يمل قوم
كافرا في الرفع والنصب، كما لم يميلوا نافقا وشاحطا- لم
يميلوها في الجر أيضا، وأتبعوا الجرّ الرفع والنصب، فتركوا
الإمالة فيه كما تركوها «1» فيهما.
وأمّا تركه إمالة الألف في الرفع نحو: قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ فللزوم الراء فيه الضمة، والراء تمنع الإمالة إذا
انضمت أو انفتحت كما تجلبها إذا انكسرت.
[البقرة: 20]
حدثنا أحمد بن موسى «2»: قال: اتفقوا على يَخْطَفُ [البقرة/
20] أنّ طاءه مفتوحة.
[الحج: 31]
واختلفوا في: فَتَخْطَفُهُ [الحج/ 31] فقرأ نافع: فتخطفه الطير
بفتح التاء والخاء والطاء مشددة «3».
قال أبو علي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري «4» أنّ خطف
يخطف أعلى من خطف يخطف.
وقال «5» أبو الحسن: زعم يونس أن خطف يخطف أكثر في كلام العرب،
وأنّها قراءة أبي عمرو، قال: وكذلك كان «6»
__________
(1) كذا في (ط)، وفي (م): تركوه.
(2) في (ط): قال أحمد بن موسى.
(3) السبعة ص 146.
(4) سقط من (ط): إبراهيم بن السري. وهو الزجاج شيخ أبي علي
الفارسي وتلميذ المبرد. وتقدمت ترجمته ص 198.
(5) في (ط): قال.
(6) «كان» ساقطة من (ط).
(1/390)
يقرأ: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ
[الصافات/ 10].
قال: والقراء لم يقرءوا إلا يخطف، وخطف مثل علم قال «1» ولا
نعلم أحدا قرأ الأخرى.
فأما قوله تعالى: «2» «فتخطفه الطير» فنذكره في موضعه إن شاء
الله.
قوله تعالى: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة/ 20].
كان حمزة يسكت على الياء من (شيء) «3» قبل الهمزة سكتة خفيفة،
ثم يهمز فيقول: شيء قدير، وكذلك يسكت على اللام من الْآخِرَةُ
[البقرة/ 94] والْأَرْضَ [البقرة/ 22] والْأَسْماءَ [البقرة/
31] وما أشبه ذلك.
وغيره من هؤلاء القراء يصل الياء من (شيء) بالهمز واللام من
(الأرض) وأخواتها بالهمز بلا سكتة. «4»
قال أبو علي: الحجة لحمزة في ذلك أنّه أراد بهذه الوقيفة التي
وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها، فجعل الهمزة بهذه الوقيفة التي
وقفها قبلها على صورة لا يجوز فيها معها إلّا التحقيق، لأنّ
الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدإ بها، والمبتدأ بها لا
يجوز تخفيفها، ألا ترى أنّ أهل التخفيف لا يخفّفونها مبتدأة،
فكذلك هذه الوقيفة آذنت بتخفيفها لموافقتها بها صورة ما لا
يخفّف من الهمزات.
وقد زادوا مدّ الألف إذا وقعت قبل الهمزة نحو:
__________
(1) «قال» ساقطة من (ط).
(2) في (ط): قال بدون تعالى.
(3) في (ط): على كل الياء في شيء.
(4) السبعة 146 من قوله تعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
(1/391)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [الحج/ 63]
ألا ترى أن المدّ الذي في الألف قبل الهمزة أزيد من المدّ الذي
في الألف في نحو «1» قوله تعالى:
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل/ 53] ليكون
ذلك أبين للهمزة، فكذلك وقف حمزة هذه الوقيفة الخفيفة ليكون
أبين للهمزة كما مدوا جميعا الألف زيادة مدّ ليكون أبين
للهمزة.
روى «2» ورش عن نافع أنّه كان يلقي حركة الهمزة على اللام التي
قبلها مثل: (الأرض) و (الآخرة) و (الأسماء) ويسقط الهمزة،
وكذلك إذا كان الساكن. آخر كلمة والهمزة أول الأخرى ألقى
حركتها على الساكن وأسقطها مثل: (قد افلح)، «3» و (من اله)،
«4» ونحو ذلك، إلا أن يكون الساكن الأول واوا قبلها ضمة مثل:
قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف/ 29]، أو ياء قبلها كسرة مثل: فِي
أَنْفُسِكُمْ [البقرة/ 235] فإنّه لم يكن يلقي حركة الهمزة
عليها، فإذا انفتح ما قبل الواو والياء وهي ساكنة ولقيتها همزة
ألقى عليها حركة الهمزة. وأسقط الهمزة مثل: خَلَوْا إِلى
شَياطِينِهِمْ [البقرة/ 14] ونَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [المائدة/
27] وما كان مثله «5».
قال أبو علي: أما إلقاء نافع حركة الهمزة المتحركة على لام
المعرفة في نحو: الأرض، والآخرة، والأسماء، وحذف الهمزة، فذلك
قياس مستمر في الهمزة المتحركة إذا خففت،
__________
(1) في (ط): من نحو.
(2) في (ط): وروى. وهي كذلك في السبعة.
(3) المؤمنون آية 1، والأعلى آية 14، والشمس آية 9.
(4) سورة القصص آية 71، 72.
(5) السبعة 147 من قوله: روى ورش ..
(1/392)
وقبلها ساكن غير الألف، وسواء كان ذلك في
كلمة واحدة، كقوله: الخب في السموات [النمل/ 25] أو في كلمتين
منفصلتين مثل: (قد افلح)، و (من اله)، فإذا خفّفت الهمزة فحذفت
وألقيت حركتها على لام المعرفة الساكنة كان فيها لغتان:
منهم من يحذف همزة الوصل فيقول: لحمر.
ومنهم من لا يحذفها وإن تحرك ما بعدها فيقول: الحمر.
فأما وجه حذف هذه الهمزة في التخفيف، فإنها إذا أريد تخفيفها
لم تخل من أن تحذف، أو تجعل بين بين، فلو جعلتها بين بين
وقبلها ساكن لم يستقم، كما لا يستقيم أن يجتمع ساكنان، ألا ترى
أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، وأنهم رفضوا تخفيفها على هذه
الحال، كما رفضوا الابتداء بالحرف الساكن؟
فكما كانت في حكم الساكن في الابتداء، كذلك إذا جعلتها بين بين
بعد الساكن.
ومما يبين وجوب حذفها أن الحركة في التقدير كأنّها تلي الحرف
المتحرك بها والحرف «1» قبلها. يدلّك على ذلك أنّها لا تخلو من
أن تكون قبله أو بعده، فلا يجوز أن تكون قبله، لأنّها لو كانت
كذلك لكانت الياء من اليسار لا تنقلب واوا، والواو من الوعد لا
تنقلب ياء في ميعاد أو موسر، «2» ألا ترى أنّ الميم لا تقلب
هذين الحرفين؟ فلما انقلبا علمت أن الموجب لقلبهما ملازمتهما
الياء أو الواو.
__________
(1) في (ط): أو الحرف.
(2) في (ط): وموسر.
(1/393)
فإذا خففت الهمزة قبل ساكن لم تحذف نحو:
رأيته، لأنّ الحركة قد فصلت- وإن أضعف الصوت بها- بين الهمزة
المخففة والساكن.
فأمّا ترك نافع أن يلقي «1» حركة الهمزة في التخفيف على الواو
إذا انضمّ ما قبلها نحو: قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف/ 29] وعلى
الياء إذا انكسر ما قبلها نحو: فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة/ 235]
فإنّ ذلك لا يمتنع في قياس العربية. وقد قال أهل التخفيف في:
اتبعوا أمره: اتبعوا مره، وفي: اتبعي أمره:
اتبعي مره، فلم يفصلوا بين هذا الحرف اللين إذا كانت حركة ما
قبله منه، وبينه إذا لم تكن حركة ما قبله منه.
وقد فصل نافع بينهما فخفّف بعد ما لم تكن حركتها منها، نحو:
خلو الى [البقرة/ 14] نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [المائدة/ 27]
فألقى حركة الهمزة من إلى على الواو من (خلوا)، وحركة الهمزة
من (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) على ياء التثنية من ابني، وليست
حركة ما قبل كل واحد منهما منه، فيجوز أن يكون أراد الأخذ
بالأمرين: بالتخفيف، والتحقيق، إلّا أنّه حقق الهمزة بعد الواو
والياء إذا كانت حركة ما قبلهما منهما، لأنّه لو خفف ولم يحقق
في «2» قوله: (قالوا أنصتوا) لاختل بالتخفيف زيادة المدّ التي
«3» في الواو إذا ألقي عليها حركة الهمزة، فأحب أن يسلم المدّ
ولا يخلّ به.
__________
(1) كذا في (ط): وفي (م): لأن تلقى.
(2) في (ط): في نحو.
(3) في (ط): الذي.
(1/394)
وخفّف في: (خلوا إلى) و (ابني آدم)، لأنّه
لمّا لم تكن حركة ما قبلهما منهما أمن اختلال المدّ بالتخفيف.
فأمّا إلقاء حركة الهمزة على ياء (في) من قوله: فِي
أَنْفُسِكُمْ [البقرة/ 235] فلا يمتنع في القياس، وذلك أنّها
ليست كالتي في خطيئة، لأنّها من نفس الكلمة، فهو مثل:
يرمي خاه.
فإن قلت: فهل يجوز أن تدغم في المنفصل كما جاز إدغامها في
المتصل نحو: فيّ خير فتجيز: فيّدها سوار؟ فالقول أن إدغامها في
المنفصل لا ينبغي أن يجوز من حيث جاز في المتصل، ألا ترى أنّك
تقول: هذا قاضيّ، ووضعته «1» في فيّ، فتدغم فيما هو غير منفصل،
ولا يجوز أن تدغم هذا قاضي ياسر، ولا يغزو واقد، لما يختل من
المدّ؟
وعلى هذا لم يجيزوا الإدغام في ظلموا واقدا، واظلمي ياسرا،
وكان الإدغام في هذا أبعد لمعاقبة الألف الواو إذا قلت ظلما،
فصار بمنزلة ساير وسوير، ولا يكون تخفيف الهمزة بعد في، كما
«2» قال أبو عثمان في ميئل: «3» إنه يلزم أن تكون الهمزة فيها
بعد الياء على قياس قول الخليل بين بين، وذلك أن الخليل لم
يدغم أووم فلما لم يدغمه صار عنده بمنزلة سوير وقوول، والياء
في ميئل هي التي لم يدغمها في مثلها ولا في
__________
(1) في (ط): وسمعته من في.
(2) «كما» ساقطة من (ط).
(3) ميئل: لم نعثر عليها فيما بين أيدينا من مراجع، ويبدو أنها
مفعل من وأل بمعنى لجأ، كمسعر من سعر الحرب: أوقد نارها.
(1/395)
مقاربها، فصار بمنزلة الألف التي لم تدغم
في شيء، ولم ينبغ أن تلقى عليها حركة الهمزة كما لم تلق على
الألف، فلزم أن تجعل الهمزة بعدها بين بين كما كانت بعد الألف
كذلك.
وهذه الياء التي في (في) وإن لم تدغم في المنفصل، كما لم
يدغموا: هو يرمي ياسرا، فقد أدغمت في المتصل كما أدغم قاضيّ،
فلا يمتنع أن تخفّف الهمزة بعدها. وتلقى حركتها عليها، كما
ألقيت على الياء من يقضي وما أشبهه.
وأما «1» تخفيف الهمزة في «2» قوله: شيء، فإنّه يكون بحذفها
وإلقاء حركتها على الياء، كما كان في ضوء وسوأة.
ضو وسوة فكذلك تقول: شي.
وقد قال قوم في تخفيف الهمزة في المنفصل نحو: أبو أيوب:
أبويّوب فأبدلوا من الهمزة الواو لمّا كان قبلها، وفعلوا ذلك
في المنفصل لأمنهم الالتباس بباب قوّة وجوّ. وشبه قوم به
المتصل فقالوا: ضوّ وسوّة، وهو ذوّنسه في ذو أنسه.
وقد حكي أن قوما قالوا في الياء: أنا أرميّ باك، في أنا أرمى
أباك، فقياس هؤلاء أن يقولوا في تخفيف شيء شيّ، كما قالوا في
ضوء: ضوّ، وسوّة، وموّلة «3».
وقد قال: إن من قال: سوّة قال: سيّ، يريد في «4» نحو
__________
(1) في (ط): فأما.
(2) في (ط): من قوله.
(3) قال الصغاني في التكملة (وءل): وموألة، مثال مسعدة: من
الأعلام.
وجوز ابن جني أن يكون من (وأل) وأن يكون من (مأل) فيكون مفعلة،
وفوعلة.
(4) في (ط): يريد من.
(1/396)
قوله: سِيءَ بِهِمْ [هود/ 77].
فأمّا ما قاله من نحو: مسوّ «1» فينبغي أن يكون أبدل من الهمزة
الواو، وأدغم الواو التي هي عين فيها، لأن المبقّى عنده عين
الفعل، وواو مفعول محذوفة.
وقياس قول أبي الحسن في مسوء بالتخفيف «2» القياسيّ:
مسوّ، كما يقول «3» في مقروءة: مقروّة، وفي قول «4» سيبويه
مسو، ومقرو، «5» لأنّ الواو العين وليست المدة التي في مثل
الهدوء، فتقول في تخفيفه الهدوّ. وإنّما مسوّ الذي ذكره على
قوله سوّة كما قالوا في المنفصل: أوّنت «6» فهذا التخفيف على
القولين جميعا.
فأمّا القياس فعلى ما أعلمتك في القولين.
فأمّا قولهم: الكمأة والمرأة، فقياسهما الكمة والمرة، وقد
قالوا: الكماة والمراة. «7» والقول في وجه ذلك أنّ الذي قال:
الكماة، قدر أن حركة الكاف على الميم، كما أنّ الذي قال:
مؤسى، قدرها على الواو، فلذلك استجاز همزها، فإذا قدرها عليها
صارت الميم في تقدير الحركة، والهمزة بعدها مفتوحة، فكان ينبغي
أن يجعلها بين بين ولا يقلبها ألفا، إلّا أنّه استجاز
__________
(1) في (ط): وأما ما قاله في مسو.
(2) كذا في (ط): وفي (م): في التخفيف.
(3) في (ط): تقول.
(4) في (ط): في قياس قول سيبويه.
(5) «ومقرو» ساقطة من (ط).
(6) انظر الكتاب: 2/ 170، وأصل أونت: أو أنت.
(7) انظر الكتاب: 2/ 165.
(1/397)
القلب لأنّهم قد قالوا في الكلام: منساة
«1» فقلبوا.
وجاء في الشعر:
لا هناك المرتع «2» ونحوه، وإن شئت قلت: إنّه قدر الحركة التي
على الهمزة على العين، فلمّا انفتحت العين صارت الهمزة في
تقدير السكون، فلمّا خففتها قلبتها ألفا كالتي في راس وفاس.
والوجه الأول أقيس، لأنّ الحركة التي بعد الكاف في الكمأة أقرب
إلى الميم من التي على الهمزة، ألا ترى أن الهمزة تحجز بينها
وبين الميم، فحركة الكاف أقرب إليها.
وهذا الوجه أيضا لا يمتنع، لأنّ الحركة والحرف كأنّهما معا
لقرب ما بينهما، وإن كان في الحقيقة أحدهما يلي الآخر بلا كبير
فصل.
ذكر اختلافهم في إمالة الألف التي
تليها الراء
قال أحمد بن موسى: كان نافع لا يميل الألف التي تأتي
__________
(1) المنسأة: العصا.
(2) من قول الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة، لا هناك المرتع
من قطعة يقولها حين عزل مسلمة بن عبد الملك من العراق، ووليه
عمر بن هبيرة الفزاري، يهجوه ويدعو ألا يهنأ قومه النعمة
بولايته. وأراد بالبغال بغال البريد التي ذهبت بمسلمة عند
عزله. انظر الكتاب:
2/ 170، والخصائص: 3/ 152، وشرح شواهد الشافية/ 335. والبيت في
ديوانه 2/ 508 برواية:
ومضت لمسلمة الركاب مودّعا ... ................
(1/398)
بعدها راء مكسورة، مثل «1»: مِنَ النَّارِ
ومِنْ قَرارٍ والْأَبْرارِ والْأَشْرارِ ودارَ الْبَوارِ
والْأَبْصارِ، وبِقِنْطارٍ وبِدِينارٍ ودِيارِهِمْ وعَلى
آثارِهِمْ بل كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر وهو إلى الفتح
أقرب.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون ذلك كلّه «2».
قال أبو علي: قد تقدم ذكر وجه قولهم في ترك الإمالة.
وقول أحمد «3» في حكايته عن نافع: لا يميل الألف التي تأتي
بعدها راء مكسورة، يريد به «4» - إن شاء الله- لا يميل الفتحة
نحو الكسرة إمالة شديدة فتميل «5» الألف نحو الياء كثيرا، ولكن
لا يشبع إمالة الفتحة نحو الكسرة فيخف لذلك إجناح الألف
وإضجاعها، لأنّ أحمد قد قال بعد: كان في ذلك كلّه بين الفتح
والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، وإذا زال عن الفتح الخالص فهو
إمالة، وإن كان بعض الإمالة أزيد من بعض.
ووجه حسن إمالة الألف إذا كان بعدها راء مكسورة. أنّ الراء حرف
فيه تكرير، وذلك يتبين فيها إذا وقف عليها، فكأنّ الكسر متكرر
وإذا تكرر الكسر ازدادت الإمالة حسنا، ليتجانس «6» الصوت، فكما
أنّها إذا انضمت أو انفتحت منعت الإمالة، لأنّ كلّ واحد من
الحرفين المضموم والمفتوح كأنّه «7»
__________
(1) الأمثلة التي ضربها هي على التوالي من: البقرة/ 167
وإبراهيم/ 26 وآل عمران/ 193 وص/ 62 وإبراهيم/ 28 وآل عمران/
13 و 75 و 75 والبقرة/ 85 والمائدة/ 36.
(2) كتاب السبعة 147.
(3) في (ط): أحمد بن موسى.
(4) كذا في (ط): وفي (م) يريد إن.
(5) في (ط): فيميل.
(6) في (ط): لتجانس.
(7) كذا في (ط): وحذفت كأنه في (م).
(1/399)
متكرر، والفتح والضمّ يمنعان الإمالة، كذلك
إذا تكرر الكسر جلبها، كما أنّه إذا انضمّ أو انفتح منعها كما
يمنعها الحرف المستعلي في نحو: طالب، وظالم، وناقد، ونافق.
قال أحمد: وأمّا الكسائي فروى عنه أبو الحارث «1» أنّه لم يمل
من ذلك شيئا، إلّا إذا تكررت الراء في موضع الخفض مثل:
(الأشرار)، و (الأبرار)، و (من قرار).
وكان أبو عمر الدّوري يروي عنه أنّه كان يميل كل ألف بعدها راء
مكسورة.
قال أبو علي: ما رواه عن الكسائي في إمالة مثل الأبرار
والأشرار ونحو ذلك مما تكرر «2» فيه الراء مستقيم «3» في قياس
العربية ظاهر الوجه، وذلك أنّ الراء المكسورة إذا غلبت
المستعلي في نحو: قارب وطارد، فجازت الإمالة مع المستعلي
لمكانها، فأن تغلب الراء المفتوحة في نحو: من الأشرار، أولى،
لأنّ الرّاء لا استعلاء فيها.
ورواية أبي عمر الدّوري أنّه كان يميل كلّ ألف بعدها راء
مكسورة أقيس، لأنّ الإمالة إنّما يجلبها ويحسنها التكرر الذي
كأنّه في الراء، فإذا كان كذلك فسواء كانت قبل الألف التي
تميلها الراء راء أو غيرها.
قال أحمد «4»: وأمّا حمزة فكان لا يميل من ذلك شيئا إلّا قوله:
(الأشرار) و (القرار) و (ذات قرار) و (القهار)
__________
(1) هو الليث بن خالد، وقد سبقت ترجمته في ص/ 366.
(2) في (ط): تتكرر.
(3) في (ط): فمستقيم.
(4) السبعة ص 148.
(1/400)
و (البوار). وكل ذلك بين الكسر والتفخيم.
ذكر ذلك خلف وأبو هشام عن سليم عنه في هذين الحرفين.
قال أبو علي: ما «1» رواه من تخصيص حمزة بإمالة «2» الأشرار
والقرار والحروف الأخر دون ما عداها من الكلم مما كان في
قياسها وعلى «3» صورتها- فالقياس في ذلك وفي غيرها واحد، ولعله
تبع في ذلك أثرا ترك القياس إليه، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين،
وكره أن يرفض أحدهما، ويستعمل الآخر مع أن كل واحد مثل الآخر
في الحسن والكثرة.
قال أحمد: وكان أبو عمرو يميل كل ألف بعدها راء في موضع اللام
من الفعل وهي مكسورة والكلمة في موضع خفض إلا في أحرف يسيرة،
مثل قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى [النساء/ 36] و
(جبارين)؛ «4» فإنّه كان لا يميل في هذين الحرفين إلا ما رواه
عنه عبيد الله بن معاذ بن معاذ «5» عن أبيه عن أبي عمرو
(والجار ذي القربى والجار) «6» ممالة.
فإذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف
__________
(1) في (ط): فما.
(2) كذا في (ط): وفي (م) بالإمالة وهو تحريف.
(3) كذا في (ط): وفي (م) على من غير واو.
(4) سورة المائدة آية 22، والشعراء آية 130.
(5) عبيد الله بن معاذ بن معاذ أبو عمر العنبري حافظ مشهور.
روى القراءة عن أبي عمرو وسمع من أبيه، روى القراءة عنه روح بن
عبد المؤمن، وحدث عنه مسلم وأبو داود وكان يحفظ عشرة آلاف
حديث، وكان فصيحا، مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. (طبقات
القراء: 1/ 493).
(6) كذا في (ط): وفي (م): «والجار ذي القربى» فقط. وهي في
الآية: 36 من سورة النساء.
(1/401)
فاعل كقوله: «1» بارِدٌ وَشَرابٌ [ص/ 42]
والْبارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر/ 24] وبارِئِكُمْ [البقرة/ 54]
ومِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ [الصافات/ 7] وما كان مثل ذلك.
وروى عنه محبوب بن الحسن وعباس والأصمعي بِخارِجِينَ [البقرة/
167] ممالة ولم يروها غيرهم، وهذا خلاف ما عليه العامة من
أصحابه مع فتح الإمالة لاستعلاء الخاء.
على أنّه قد روى اليزيدي عنه: كَالْفَخَّارِ [الرحمن/ 14]
ممالة، وقرأ بِقِنْطارٍ [آل عمران/ 75].
قال أبو علي: أما ما روي عن أبي عمرو من إمالته كل ألف بعدها
راء في موضع اللام فقد تقدم القول في حسن الإمالة في ذلك.
وأمّا ما روي عنه من أنّه إذا كانت الراء في موضع العين كعين
فاعل لم يمل ألف فاعل كقوله: «2» بارِدٌ وَشَرابٌ والْبارِئُ
الْمُصَوِّرُ، وبارِئِكُمْ، ومِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ،
ونحوه، فلعله تبع في ذلك أثرا، وذلك أن الإمالة في ألف فاعل
إذا كانت الراء عينا أقوى من الإمالة في الألف إذا كانت الراء
لاما، لأنّ الكسرة في العين لازمة غير مفارقة، وكسرة اللام قد
تنتقل عنها للرفع والنصب، وبحسب لزوم ما يوجب الإمالة تحسن
الإمالة، ولا يكون غير اللازم كاللازم، ألا ترى أنّه قد يكون
من الأشياء أشياء لا تلزم فلا يعتد بها لانتفاء لزومها.
__________
(1) في (ط): كقوله: عز وجل.
(2) في (ط): كقوله تعالى.
(1/402)
وأمّا ما رواه عنه محبوب وعباس والأصمعي في
قوله: «1» (بخارجين من النّار) فإمالته حسنة لمكان كسرة الراء.
فأمّا الحرف المستعلي في قوله: (بخارجين) فلا يمنع الإمالة،
وإمالته أقوى في قياس العربية من إمالة (بقنطار) لما أعلمتك من
لزوم الراء الكسرة، وليست في قوله بقنطار، ولا قوله (كالفخّار)
كذلك.
قال سيبويه: «2» مما تغلب فيه الراء قولك: قارب، وغارم، وطارد،
«3» وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف
التي تليها وذلك أنّ الراء لما كانت تقوى على كسر الألف في
فعال في الجر، وفعال لما ذكرنا من التضعيف قويت على هذه
الإمالة.
وإنّما قويت عليها لأنّك تضع «4» لسانك في موضع استعلاء ثم
ينحدر فصارت المستعلية هاهنا وجواز الإمالة فيها بمنزلتها في
صفاف وقفاف.
ولو قلت: ناقة فارق، وإبل مفاريق، «5» لم تمل الألف هاهنا مع
المستعلي لأنّه عكس ما تقدّم، ألا ترى أنّك لو أملت فارقا
لانحدرت بالإمالة ثم أصعدت بالمستعلي؟ «6» فالإصعاد بعد
الانحدار يثقل ولا يثقل الانحدار بعد الاستعلاء، فلذلك
__________
(1) في (ط): في قوله تعالى.
(2) انظر الكتاب: 2/ 268.
(3) في (ط): غارم وقارب وطارد.
(4) في (ط): لتضع.
(5) في (ط): وأينق. والناقة الفارق: التي أخذها المخاض فندت في
الأرض، ونوق فوارق وفرق كركع ومفاريق (الأساس).
(6) كذا في (ط)، وفي (م): المستعلى.
(1/403)
أملت طاردا، وقاربا، وغارما، ولم تمل
فارقا، والذين يميلون قاربا يفخمون الألف في قادر، لأن الراء
بعدت.
وزعم أنّ قوما يقولون: مررت بقادر فيميلون للراء. قال:
وسمعنا من نثق به من العرب يقول:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر «1» قال «2»: وكان عبد الله بن
كثير وابن عامر وعاصم يفتحون الياء في هذا الباب كلّه:
فَأَحْياكُمْ [البقرة/ 28]، وَأَحْيا [النجم/ 44] ونَمُوتُ
وَنَحْيا، «3» ويَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال/
42]، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [النحل/ 65]،
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ [الحج/ 66]، وما كان مثله.
قال أبو علي: قد مضى «4» ذكر الحجة لمن لم يمل هذه الألفات.
قال: وكان نافع يقرأ ذلك كلّه بين الإمالة والتفخيم.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة في ذلك.
قال: وكان أبو عمرو لا يميل من ذلك إلا ما كان في رءوس الآي
إذا كانت السورة أواخر آياتها الياء، مثل: أَماتَ وَأَحْيا
فإنّه كان يلفظ بهذه الحروف في هذه المواضع بين
__________
(1) عجزه:
بمنهمر جون الرباب سكوب والبيت لهدبة بن خشرم، المنهمر:
السائل. الجون: الأسود. الرباب: ما تدلّى من السحاب دون سحاب
فوقه. سكوب: منصب. (انظر الكتاب:
1/ 478، 2/ 269).
(2) يريد ابن مجاهد. انظر السبعة 149.
(3) سورة المؤمنون آية 37، والجاثية آية 24.
(4) في (ط): وقد مضى.
(1/404)
الإمالة والتفخيم، ويفتح سائر ذلك.
قال أبو علي: قد تقدّم ذكر الحجة لذلك، وهو أن أواخر الآي موضع
وقوف، والوقف رأيناه قد أوجب إعلالا في الموقوف عليه، وتغييرا
عمّا «1» عليه في الوصل. ألا ترى أنّهم قد أبدلوا من النون
الساكنة الألف في الاسم والفعل، وأبدلوا من التاء الهاء في
نحو: رحمة، ومن الألف الياء أو الواو في نحو: «2» أفعى وأفعو،
وزادوا فيه في نحو: هذا فرجّ وهو يجعلّ، ونقصوا منه في نحو:
............... وبع ... ض القوم يخلق ثمّ لا يفر
«3» فكما غيّر موضع الوقف بهذا النحو من التغيير، كذلك غيرت
الألف بأن نحي بها نحو الياء، وكان ذلك حسنا إذ أبدلوا «4» من
الألف الياء في الوقف في نحو قوله: «5» أفعى، فكذلك «6» قربوا
الألف منها، فليست الإمالة هاهنا لتدل على انقلاب الألف عن
الياء، ولكن لتقرب من الياء التي أبدلت من الألف للوقف، ولهذا
أمال قوم من العرب نحو: لم يضربها، فإذا أدرج قال: لم يضربها
زيد.
__________
(1) في (ط): عما كان.
(2) في (ط): الياء والواو نحو.
(3) من قول زهير (شرح ديوان 94) وهو بتمامه:
وأراك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفر
ويروى: ولأنت، مكان: وأراك. تفري: تقطع. خلقت: قدرت. يقال:
خلقت الأديم إذا قدرته لتقطعه. يمدح الشاعر هرم بن سنان المري
بالحزم ومضاء العزم. انظر الكتاب 2: 289، 300، وشرح شواهد
الشافية/ 229. وتفسير الأسماء الحسنى ص 36.
(4) في (ط): إذا.
(5) سقط «قوله» من (ط).
(6) في (ط): فلذلك.
(1/405)
قال: وكان حمزة لا يميل من ذلك إلّا الفعل
الذي في أوله الواو، مثل: نَمُوتُ وَنَحْيا وأَماتَ وَأَحْيا
وَيَحْيى مَنْ حَيَّ «1» وَلا يَحْيى. كان يميل هذه الحروف أشد
من إمالة أبي عمرو ونافع «2».
قال أبو علي: يشبه أن يكون بالغ في إجناح الألف ليقربها من
الياء، إذ كانوا قد أبدلوا من الألف الياء في نحو أفعى في
الوقف، فبالغ في الإجناح، ليقربها من الياء التي أبدلوها من
الألف في الوقف.
قال: وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، كان قبل الفعل واو أو فاء،
أو لم يكن قبله ذلك، مثل: أحياكم وما أشبهه «2».
قال أبو علي: «4» قد مضى ذكر الحجة لذلك، وما ذهب إليه الكسائي
من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء، وبين ما ليس
قبله من ذلك شيء- هو الوجه في قياس العربية.
اختلفوا في الهاء من قوله تعالى:
(فهو) (وهي)
إذا كان قبلها لام، أو واو، «5» أو ثم، أو فاء. فقرأ ابن كثير،
وعاصم، وابن عامر، وحمزة: وهو، وفهو، ولهو، وثم هو، فهي، «6»
وهي. يثقّل «7» ذلك كلّه في جميع القرآن.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه وتسكين الهاء.
وكان أبو عمرو يضم الهاء في قوله: ثُمَّ هُوَ في سورة
__________
(1) في (ط): ويحيا من حي عن بينة.
(2) السبعة 150.
(4) «قال أبو علي» ساقطة من (ط).
(5) في (ط): إذا كان قبلها واو أو لام.
(6) في (م) وثم هو، وهي، فهي.
(7) في (ط): بتثقيل.
(1/406)
القصص [آية/ 61] ويسكنها في كل القرآن.
واختلف عن نافع، فروي عنه التثقيل، وروي عنه التخفيف.
قال أبو علي: من قال: وهو، فهو، «1» ولهو، وثم هو- فوجهه ظاهر،
وذلك أن الهاء كانت «2» متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها،
فدخلت هذه الحروف، ولم تتغير عما كانت عليه من قبل، «3» كما لم
تتغير سائر الحروف سوى ألف الوصل عما كان عليه في الابتداء به
والاستئناف له.
ومثل الهاء في هو وهي في تغييره في الوصل عما كان عليه في
الابتداء به- لام الأمر في نحو: وَلْيَطَّوَّفُوا [الحج/ 29].
وأما تسكين أبي عمرو هذه الهاء مع الواو، والفاء، واللام، فلأن
هذه الكلم لمّا كنّ على حرف واحد أشبهت في حال دخولها الكلمة
ما كان من نفسها، وذلك لأنّها لم تنفصل منها لكونها على حرف
واحد كما لم تنفصل الباء من سبع وغيره «4» منه- خفّف الهاء
منها كما خفّفت العينات من سبع وعضد ونحوهما، ولم يستقم عنده
أن يجعل ثمّ
بمنزلة الفاء وما كان على حرف، لأنّه قد يجوز أن تنفصل منها
وتنفرد عنها، وليست الواو والفاء ونحوهما كذلك، فمن ثم قال:
ثمّ هو.
وقد جعلوا في غير هذا ما كان من الحروف على حرف
__________
(1) في (ط): فهو، وهو.
(2) في (ط): قد كانت.
(3) في (ط): كانت عليه قبل.
(4) في (ط): سبع ونحوه.
(1/407)
واحد إذا اتصل بكلمة بمنزلة ما هو منها،
فاستجازوا في ذلك ما استجازوا في الحرف الذي هو منها، وذلك
قولهم: لعمري، ورعملي، فقلبوه كما قلبوا مسائية وقسيّا، ونحو
ذلك. وكذلك قول من قال: كائن أبدل الألف من الياء كما أبدلها
من «1» طائي ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه، ولم يفصل كما فصل أبو عمرو،
كأنّه جعل الميم المتحركة من ثم «2» هو بمنزلة الواو، فخفف
الهاء معها كما خففها مع الواو.
ومثل «3» تخفيف فهو ولهو لتنزيلهم ذلك منزلة ما ذكرناه قولهم:
«أراك منتفخا» لما كان «تفخا» مثل كتف خفف، فكذلك فهو.
ومثله قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا «4» فيمن رواه هكذا. «5»
ومثل ذلك قول من قرأ: وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ [النور/
52]
__________
(1) في (ط): في.
(2) في (ط): في ثم.
(3) كذا في (ط)، وفي (م): مثل، من غير واو.
(4) ديوان العجاج 1/ 197 يصف حمارا وحشيا. التكردس: التجمع،
(انظر اللسان: كردس).
(5) وهي رواية الخصائص 2/ 254 واللسان (نصب) وروي في الديوان
واللسان (كردس ونصص) (منتصّا) من انتصت العروس على المنصة، أي:
ارتفعت. ولا شاهد فيه على هذه الرواية.
(1/408)
لمّا كان (تقه) مثل كتف. «1»
ومثل ذلك ما حكاه الخليل من قولهم: انطلق، لما كان (طلق) من
انطلق مثل: كتف، أسكن ثم حرّك لالتقاء الساكنين.
ومثل ذلك ما أنشده الخليل:
ألا ربّ مولود وليس له أب ... وذي ولد لم يلده أبوان
«2» فهذه الأشياء متصلة، وقوله: وهو، وفهو، «3» ولهو، في «4»
حكمها، وليس كذلك (ثم هو)، ألا ترى أن ثم منفصل من هو لإمكان
الوقوف عليها وإفرادها مما بعدها، وليست الكلم التي على حرف
واحد كذلك، وقد يستخف في المنفصلة أشياء لا تستخف في المتصلة
وما في حكمها، فكذلك يحتمل (ثم هو) للانفصال، ولا يكون وهو
وفهو ونحو ذلك مثلها، لكونها في حكم الاتصال.
وللكسائي أن يقول: إن ثم مثل الفاء، والواو، واللام، في أنهن
لسن من الكلمة كما أن ثم ليس «5» منها، وقد جعلوا المنفصل
بمنزلة المتصل في أشياء. ألا ترى أنّهم أدغموا نحو:
يد داود «6»، وجعل لك، كما أدغموا: ردّ وغلّ.
__________
(1) من ذلك ما أنشده ابن جني في الخصائص 1/ 306 و 2/ 316:
ومن يتّق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي
وانظر ما سبق ص 66 - 67.
(2) سبق الشاهد ص 66.
(3) في (ط): فهو من غير واو.
(4) في (ط): فهو في حكمها.
(5) في (ط): ليست.
(6) في (م): يدّاوود.
(1/409)
وقالوا: لم يضربها ملق، «1» فامتنعوا من
الإمالة لمكان المستعلي وإن كان منفصلا، كما امتنعوا من إمالة
نافق ونحوه من المتصلة.
ومما يقوي قوله في ذلك أنّه قد جاء من هذا النحو في المنفصل
أشياء أجريت مجرى المتصل مثل قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب «2» ف «رب غ» «3» مثل: سبع، وقد أسكن.
وأنشد أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا «4» وقول أبي عمرو أرجح عندنا.
فإن قلت: فلم لا تجعل قوله «اشتر لنا سويقا» على أنّه أجرى
الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في: سبسبّا «5» وعيهلّا «6»
ونحو ذلك مما قد أجري الوصل فيه مجرى الوقف؟
فالقول إنّ ذلك، وإن أمكن أن يقال، فما ذكرناه أولى، لأنّا
رأيناهم قد أجروا المنفصل مجرى المتصل في الكلام كقولهم:
«عبشمس»، فأجروه وإن كان منفصلا مجرى المتصل، فكذلك يحمل قوله:
«اشتر لنا سويقا» على ذلك، لا على
__________
(1) الملق: الضعيف.
(2) انظر ص 117 من هذا الجزء.
(3) ف (ر ب غ) من قوله: (أشرب غير) في البيت الشاهد.
(4) سبق الرجز ص 67.
(5) من رجز سبق في ص/ 65.
(6) يشير إلى قول منظور بن مرثد الأسدي:
ببازل وجناء أو عيهل البازل: الداخل في السنة التاسعة من
الإبل. الوجناء: الناقة الشديدة.
العيهل: الناقة الطويلة. الكتاب: 2/ 282.
(1/410)
مذهب الضرورة إذا أمكن توجيهه على غيرها.
[البقرة: 30]
واختلفوا في تحريك الياء التي تكون اسما للمتكلم إذا انكسر ما
قبلها، مثل قوله: «1» إِنِّي أَعْلَمُ [البقرة/ 30] وعَهْدِي
الظَّالِمِينَ [البقرة/ 124]، ورَبِّيَ اللَّهُ [غافر/ 28].
فكان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف
المهموزة المفتوحة والمكسورة إذا كانت متصلة باسم أو بفعل ما
لم يطل الحرف.
فالخفيف إِنِّي أَرى [الأنفال/ 48] وأَجْرِيَ إِلَّا عَلَى
اللَّهِ [يونس/ 72، وهود/ 29].
والثقيل مثل: وَلا تَفْتِنِّي أَلا [التوبة/ 49] ومَنْ
أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، «2» وذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غافر/
26]، فَأَنْظِرْنِي إِلى [الحجر/ 36]، فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ [البقرة/ 152] سَبِيلِي أَدْعُوا [يوسف/ 108]
وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي [يوسف/ 100] وأَرِنِي
أَنْظُرْ [الأعراف/ 143] ويُصَدِّقُنِي إِنِّي [القصص/ 34] وما
كان مثله.
قال أبو بكر، أحمد: «3» وقد بينت آخر كل سورة ما يحرك منها «4»
ليقرب مأخذه.
قال: ولا يحرّك الياء التي ذكرت لك عند الألف
__________
(1) في (ط): مثل قوله عز وجل.
(2) سورة آل عمران آية 52، والصف آية 14.
(3) في (ط): أحمد بن موسى.
(4) في (ط): فيها.
(1/411)
المضمومة كقوله: عَذابِي أُصِيبُ [الأعراف/
156] فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ [المائدة/ 115]، إِنِّي أُرِيدُ
[المائدة/ 29] وما كان مثله.
فإذا استقبلت ياء الإضافة ألف وصل حركها، طالت الكلمة التي
الياء متصلة بها أو لم تطل مثل: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
[الفرقان/ 27]، وما كان مثله.
وكان ابن كثير لا يستمر على قياس واحد كما فعل أبو عمرو.
قال أبو بكر، أحمد: فجعلت ما حرّك من الياءات مذكورا في آخر كل
سورة.
وكان نافع يحرك ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف
المكسورة والمفتوحة والمضمومة وألف الوصل إلا حروفا قد ذكرتها
لك.
فمما لم يحرّك ياءه عند ألف الوصل ثلاثة أحرف في الأعراف:
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ [الآية/ 144] وفي طه: أَخِي اشْدُدْ
[الآية/ 30، 31] وفي الفرقان: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ [الآية/
27].
وروى أبو خليد «1» عن نافع يا ليتني اتخذت محركة.
ومما ترك تحريك يائه عند الألف المقطوعة المتصلة بالفعل
__________
(1) أبو خليد، هو عتبة بن حماد الحكمي الدمشقي البلاطي، روى
القراءة عن نافع، وروى عنه القراءة هشام بن عمار وغيره. طبقات
القراء:
1/ 498.
(1/412)
المجزوم قوله «1» فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وأَنْظِرْنِي إِلى، في الأعراف، والحجر [36]، وص
[79] وفي مريم: فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ [43]، وفي النمل [19]
والأحقاف [15]: أَوْزِعْنِي أَنْ، وفي المؤمن [26]: ذَرُونِي
أَقْتُلْ، وادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر/ 60]، وَلا تَفْتِنِّي
أَلا [التوبة/ 49] وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ [هود/ 47]، وأَرِنِي
أَنْظُرْ [الأعراف/ 143] يُصَدِّقُنِي إِنِّي [القصص/ 34]،
آتُونِي أُفْرِغْ [الكهف/ 96].
وقد اختلف في بعض هذه الحروف عنه.
ومما لم يحرك ياءه عند الألف المقطوعة وهو مع فعل غير مجزوم
فيما ذكر أحمد بن جماز «2» وإسماعيل بن جعفر «3» قوله:
بِعَهْدِي أُوفِ [البقرة/ 40] وأَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ [يوسف/
59]، وفِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي [الأحقاف/ 15]،
__________
(1) في (ط): قوله تعالى.
(2) كذا في (ط): وفي (م): ابن جماز.
وابن جماز هو سليمان بن أبي مسلم بن جماز، وقيل: سليمان بن
سالم أبو الربيع الزهري مولاهم المدني المقرئ الجليل، عرض على
أبي جعفر، وشيبة ثم عرض على نافع وأقرأ بحرف أبي جعفر ونافع،
عرض عليه إسماعيل بن جعفر، وقتيبة بن مهران، مات بعد السبعين
ومائة.
(طبقات القراء: 1/ 315).
(3) هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري مولاهم أبو
إسحاق، ويقال:
أبو إبراهيم المدني، جليل ثقة، ولد سنة ثلاثين ومائة، وقرأ على
شيبة بن نصاح، ثم على نافع وسليمان بن مسلم بن جماز، روى عنه
القراءة عرضا وسماعا الكسائي، وأبو عبيد القاسم بن سلام
والدوري: توفي سنة 180.
(طبقات القراء: 1/ 163).
(1/413)
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر/ 41]
وأَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [غافر/ 43].
قال أبو علي: حجة من فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها أن أصل
هذه الياء الحركة، لأنّها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف
كذلك تفتح الياء.
فإن قلت: إنّ الحركة في حروف اللين مكروهة. قيل:
الفتحة من بينها لا تكره فيها، وإن كرهت الحركتان الأخريان،
ألا ترى أن القاضي ونحوه، يحرّك بالفتح كما تحرك «1» سائر
الحروف التي لا لين فيها، أو لا ترى أنّ الياء في غَواشٍ
[الأعراف/ 41] ونحوها تثبت في النصب ولا تحذف كما تحذف في
الوجهين الآخرين، فتجري في النصب مجرى مساجد ونحوها «2» من
الصحيح، فكذلك الياء. وإن تحرك «3» ما قبلها يلزم أن تحرك
بالفتح كما حركت الكاف بها، لأنّها قد جرت مجراها «4». ومجرى
الحروف الصحيحة إذا تحركت بالفتح.
ومما يدل على استحقاقها التحرك بالفتح أنّها إذا سكن ما قبلها
اتفقوا على تحريكها بالفتح، نحو: هذا بشراي، وغلاماي، وهذا
قاضيّ، ورأيت غلاميّ، فاجتماعهم على تحريكها بالفتح في هذا
النحو يدل على أن ذلك أصلها إذا تحرك ما قبلها.
ويدل على لزوم تحركها بالفتح تحريكهم النون في
__________
(1) في (ط): يحرك.
(2) في (ط): وغيرها.
(3) في (ط): فإن.
(4) في (ط): أو.
(1/414)
فعلن، ويفعلن، وهو حرف ضمير كالياء، فكما
اتفقوا على تحريك النون- وهي اسم كذلك- يلزم أن تحرّك الياء.
فإن قلت: ما تنكر أن تكون النون في فعلن إنّما حركت لالتقاء
الساكنين في فعلن ويفعلن؟ ألا ترى أن ما قبلها لا يكون إلا
ساكنا؟ فلما كان إسكانها يؤدي إلى التقاء الساكنين حركت لذلك،
وحركة التقاء الساكنين غير معتد بها.
قيل: الذي يدلّ على أن تحريكها من حيث كانت اسما أنّها نظير
الكاف، وقد حركوا تاء المخاطب والمتكلم أيضا.
فأمّا الألف في قاما، ويقومان، والواو في فعلوا، ويفعلون،
فإنّما أسكنتا، لأنّ الألف إذا حركت انقلبت، والواو إذا انضم
ما قبلها كره أكثر الحركات فيها، ومع ذلك فإنها جعلت في السكون
مثل الألف، كما جعلت الكسرة في مسلمات بمنزلة الياء في مسلمين،
ومع ذلك فما فيهما من المد قد صار عوضا فيهما من الحركة.
وحجة من أسكن أن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام، كما كرهت
الحركتان الأخريان فيها. ألا ترى أنّهم قد أسكنوها في الكلام
في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم
تحريكها بالحركتين الأخريين؟ وذلك قولهم: قالي قلا، وبادي بدا،
«1» ومعد يكرب، وحيري دهر، «2» فالياء في هذه المواضع في موضع
الفتحة التي في آخر
__________
(1) قال الفراء: يقال: افعل هذا بادى بدا، أي: أول شيء.
(2) يقال: لا أفعل ذلك حيري دهر، أي: أمد الدهر.
(1/415)
أول الاسمين، نحو حضر موت، وبعلبكّ، وقد
أسكنت كما أسكنت في الجر والرفع.
ومما يؤكد الإسكان فيها أنّها مشابهة للألف، والألف تسكن، في
الأحوال الثلاث، فكما أسكنت الألف فيها كذلك تسكن الياء.
والدليل على شبه الياء الألف «1» قربها منها في المخرج،
وإبدالهم إياها منها في نحو: طائيّ وحاريّ في النسب إلى: طيئ
والحيرة، وقولهم: حاحيت وعاعيت. «2»
و: لنضربن بسيفنا قفيكا «3» فكما تسكن الألف في الأحوال الثلاث
كذلك تسكن الياء فيها. «4»
والدليل على صحة هذه الطريقة أن العرب قد فعلت ذلك بها في
الكلام وحال السعة فيما أريناكه. «5»
وأسكنوها أيضا في الشعر في موضع النصب لهذه
__________
(1) في (ط): للألف.
(2) يقول: حاحيت حيحاء وحاحاة وهو التصويت بالغنم إذا قلت:
حاي، وعاهيت،: صوت مثله، وهو العيعاء والعاعاة، إذا قلت عاي.
المنصف:
3/ 77.
(3) قبله:
يا ابن الزبير طالما عصيكا ... وطالما عنيتنا إليكا
وهو لرجل من حمير. عنيتنا إليكا: أتعبتنا بالمسير إليك. ويروى:
عنيكنا، بالكاف بدلا من التاء (انظر النوادر/ 105، وسر صناعة
الإعراب:
1/ 281، والخزانة: 2/ 257، وشرح شواهد الشافية/ 425). وشرح
أبيات المغني 3/ 349 - 350.
(4) في (ط): تسكن فيها.
(5) في (ط): أرينا.
(1/416)
المشابهة، وكثر ذلك في الشعر حتى ذهب بعضهم
إلى استجازته «1» في الكلام.
فأمّا حجة أبي عمرو في فتحه الياء مما رآه خفيفا مع الهمزة،
فهي أن الهمزة قد فتح «2» لها ما لم يكن يفتح لو لم يجاور
الهمزة، نحو: «3» يقرأ، ويبرأ ولولا الهمزة لم يفتح شيء من
ذلك.
فإذا فتح لها ما لا يفتح إذا لم يجاور الهمزة فأن يفتح لها ما
قد يفتح «4» مع غيرها أحرى.
والمفتوحة والمكسورة سيان في إتباع الياء لها في التحريك
بالفتح، ألا ترى أنّهم قد غيروا للهمزة المكسورة الحرف الذي
قبلها، فقالوا: الضئين، «5» وصأى صئيّا، «6» ورجل جئز، «7»
وشهد، ولم يفعلوا ذلك في رءوف، فكذلك لم تفتح الياء قبل «8»
الهمزة المضمومة في نحو عذابي أصيب، كما فتحت قبل المفتوحة
والمكسورة «9» في نحو: سَبِيلِي أَدْعُوا [يوسف/ 108]
وإِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي [يوسف/ 100].
فإن قلت: إن ما ذكرته من التغيير للهمزة المفتوحة
__________
(1) في (ط): استجادته.
(2) في (ط): فتحوا الهاء، وهو تحريف.
(3) في (ط): ألا ترى أنهم فتحوا نحو.
(4) في (ط): فتح.
(5) الضئين، جمع الضائن وهو خلاف المعز.
(6) صأى الطائر صئيا: أي صاح.
(7) جئز بالماء يجأز: غص به، فهو جئز.
(8) كذا في (ط): وسقطت كلمة قبل من (م).
(9) في (ط): المكسورة والمفتوحة.
(1/417)
والمكسورة إنّما جاء في المتصل، نحو: يقرأ،
ويبرأ، والضئين والصئي، وجئز، وما فعله أبو عمرو من فتح الياء
مع المفتوحة والمكسورة منفصل.
قيل: يشبّه المنفصل بالمتصل هنا، كما شبهه به في: يا يا صالح
يتنا [الأعراف/ 7] «1» لما فعلته العرب من تشبيه المنفصل
بالمتصل في مواضع كثيرة، قد ذكرنا منها أشياء في هذا الكتاب.
ومن قال إنّه إنّما فتح الياء مع الهمزة لتتبين الياء معها
لأنّها خفية، كما بينوا النون مع حروف الحلق وأخفوها مع غيرها،
فإنّا لا نرى أنّ أبا عمرو اعتبر هذا الذي سلكه هذا القائل،
ولو كان كذلك لحرّك الياء مع الهمزة إذا كانت مضمومة، لأنّ
النون تبيّن مع الهمزة، مضمومة كانت، أو مكسورة، أو مفتوحة،
ومع ذلك فإنّ النون تبيّن مع سائر حروف الحلق، ولسنا نعلم أبا
عمرو يفتح الياء مع سائر حروف الحلق.
[يتلوه إن شاء الله وبه القوة، في الجزء الثاني:
«فإن قلت: فإن الهمزة قد تفتح لها ما قبلها وإن كانت مضمومة».
والحمد لله رب العالمين كما هو أهله ومستحقه.
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلّم تسليما] «2».
__________
(1) رسم المصحف يا صالِحُ ائْتِنا والتمثيل هنا ظاهر.
(2) ما بين المعقوفتين زيادة من (م) ختم بها الجزء الأول.
(1/418)
|