الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في
سورة طه
[طه: 1]
اختلفوا في كسر الطاء والهاء من طه [طه/ 1] فقرأ ابن كثير وابن
عامر (طه) بفتح الطاء والهاء.
وقرأ نافع: (طه) بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، كذلك
قال خلف عن المسيّبيّ وقال ابن سعدان كان المسيبي إذا لفظ ب
(ها)، فكأنه يشمّها الكسر، فقلت له: إنك قد كسرت، فيأبى إلا
الفتح. وقال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (طه) بفتح الطاء
والهاء، وكذلك قال القاضي عن قالون: مفتوحتان.
وقال أحمد بن صالح عن قالون: الطاء والهاء وسط، وقال يعقوب بن
جعفر عن نافع (طه) بكسر الطاء والهاء. وقال الأصمعي:
(طه) كأنك تقطعها.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي: (طه) بكسر الطاء
والهاء.
وقرأ أبو عمرو في غير رواية عباس (طه) بفتح الطاء وكسر الهاء.
وروى عباس عن أبي عمرو: (طه) بكسر الطاء والهاء مثل حمزة. وقرأ
عاصم في رواية حفص بالتفخيم «1».
__________
(1) السبعة 416.
(5/217)
قال أبو علي: قد قلنا في الإمالة في نحو
(طه)، والتفخيم فيما تقدم، والتفخيم لغة أهل الحجاز، ولغة
النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
[طه: 11، 12]
اختلفوا في فتح الألف وكسرها من قوله عز وجل: يا موسى إني أنا
ربك [طه/ 11، 12].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (أنّي) بفتح الألف والياء.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: إني بكسر الألف، وفتح
نافع الياء «1».
من كسر فلأن الكلام حكاية، كأنه نودي فقيل: يا موسى إنّي أنا
ربك، والكسر أشبه بما بعد مما هو حكاية، وذلك قوله: إنني أنا
الله لا إله إلا أنا، وقوله: وأنا اخترتك [طه/ 13]، فهذه كلّها
حكاية، فالأشبه أن يكون قوله: إني أنا ربك كذلك أيضا.
ومن فتح كان المعنى: نودي بكذا، ونادى قد يوصل بحرف الجر، قال:
ناديت باسم ربيعة بن مكدم ... أنّ المنوه باسمه الموثوق
«2» وقال:
ونادى بها ماء إذا ثار ثورة «3» المعنى: ونادى بندائها ماء،
فقوله: ماء قد وقع النداء عليه، ومن الناس من يعمل هذه الأشياء
التي هي في المعنى قول، كما يعمل
__________
(1) السبعة 417 وزاد بعدها من نسخة: وأسكنها الباقون.
(2) البيت في الخزانة 2/ 521 عرضا ولم ينسبه وانظر البحر
المحيط 6/ 230.
(3) لم نعثر عليه.
(5/218)
القول ولا يضمر القول معها، وينبغي أن يكون
في نودي ضمير يقوم مقام الفاعل، لأنه لا يجوز أن يقوم واحد من
قولك: يا موسى ولا إني أنا ربك مقام الفاعل لأنها جمل، والجمل
لا تقوم مقام الفاعل، فإن جعلت الاسم الذي يقوم مقام الفاعل
موسى، لأن ذكره قد جرى كان مستقيما.
[طه: 13، 12]
اختلفوا في إجراء طوى [طه/ 12] وضمّ طائها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (طوى وأنا) غير مجراة والطاء
مضمومة وفي النّازعات [16، 17] مثله. وروى أبو زيد عن أبي
عمرو: (طوى) وقال: هي أرض.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: طوى مجراة مضمومة الطاء
«1».
حدّثنا الكندي، قال: حدثنا مؤمّل قال: حدّثنا إسماعيل عن ابن
أبي نجيح قلت له: فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس، قال:
يقول: امض بقدميك إلى بركة الوادي، أظنه- يعني مجاهدا- طوى،
مصروف وغير مصروف، فمن صرف فمن وجهين أحدهما:
أن يجعله اسم الوادي فيصرف لأنه سمّى مذكرا بمذكر. والوجه
الآخر: أن يجعله صفة، وذلك في قول من قال: إنه قدّس مرّتين،
فيكون طوى كقولك: ثنا، ويكون صفة كقولهم: مكانا سوى، وقوم عدى.
وجاء في طوى الضم والكسر، كما جاء في قوله: (مكانا سوى) [طه/
58] الكسر والضم، قال الشاعر «2»:
__________
(1) السبعة 417.
(2) البيت في اللسان (ثني) ونسبه لكعب بن زهير ولم أجده في
ديوانه. والثّنى، بالكسر والقصر: الأمر يعاد مرتين وأن يفعل
الشيء مرتين. وانظر تهذيب اللغة 15/ 137.
(5/219)
أفي جنب بكر قطّعتني ملامة ... لعمري لقد
كانت ملامتها ثنا
أي: ليس هذا بأوّل ملامتها، وكذلك طوى وطوى. وقد أنشدوا:
ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا
«1» ثنانا مكسورة الثاء، أنشدناه محمد بن السري، وزعم أبو
الحسن أن الضم في هذا لغة، وبالضم أنشد قول الشاعر: ترى ثنانا
...
وقال: الثنى: هو الثاني.
قال أبو علي: ومعنى ثنى وثنى: الذين يثنى بهم بعد السادة،
لأنهم قالوا للسيد: البدء، من حيث بدئ بهم فيما يهمّ من
الأمور.
ومن لم يصرف احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون اسما لبقعة أو أرض،
وهو مذكّر، فهو بمنزلة امرأة سمّيتها بحجر، ويجوز أن يكون
معدولا كعمر. فإن قلت: إن عمر معدول عن عامر، وهذا الاسم لا
يعرف عمّ عدل، بأنه لا يمتنع أن يقدر العدل عما لم يخرجوه إلى
الاستعمال، ألا ترى أنّ جمع وكتع معدولتان عمّا لم يستعمل،
وكذلك يكون طوى.
[طه: 10]
ابن سعدان عن إسحاق عن نافع وحمزة: (لأهله امكثوا) [طه/ 10]
وكذلك في القصص [29]، بضم الهاء.
__________
(1) البيت لأوس بن مغراء، انظر اللسان (ثني) وتهذيب اللغة 15/
136.
يقول: الثاني منا في الرئاسة يكون في غيرنا سابقا في السؤدد،
والكامل في السؤدد من غيرنا ثني في السؤدد عندنا، لفضلنا على
غيرنا (التهذيب).
(5/220)
والباقون يكسرون الهاء فيهما «1».
وقد تقدم القول في ذلك.
[طه: 13]
اختلفوا في التاء والنون من قوله عز وجل: وأنا اخترتك [طه/
13].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر والكسائي:
وأنا خفيف اخترتك بالتاء بغير ألف.
وقرأ حمزة (وأنّا) النون مشددة (اخترناك) بألف ونون «2» قال
أبو علي: الإفراد زعموا أكثر في القراءة، وهو أشبه بما قبله من
قوله: إني أنا ربك ووجه الجمع: أن نحو ذلك قد جاء نحو قوله:
سبحان الذي أسرى بعبده [الإسراء/ 1] ثم قال: وآتينا موسى
الكتاب [الإسراء/ 2]. وزعموا أنّه قراءة الأعمش، وزعموا أنه في
حرف أبيّ: (وأنّي اخترتك) فهذا يقوي الوجه الأول.
[طه: 30، 31]
وقرأ ابن عامر وحده: (هارون أخي أشدد به) [طه/ 30، 31] مقطوعة
مفتوحة، والياء ساكنة (وأشركه) الألف مضمومة على الجواب
والمجازاة.
وقرأ الباقون: أخي اشدد به أزري. وأشركه في أمري مفتوحة على
الدعاء، إلا أبا عمرو وابن كثير فإنهما فتحا الياء من أخي.
وقرأ نافع في رواية المسيبي وابن كثير: (وأشركهو في أمري)
بزيادة واو في اللفظ.
__________
(1) السبعة 417.
(2) السبعة 417.
(5/221)
وقرأ الباقون: وأشركه مضمومة الهاء من غير
واو «1».
قال أبو علي: الوجه: الدعاء دون الإخبار، لأن ذلك معطوف على ما
تقدّمه من قول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [طه/ 25، 26]
فكما أن ذلك كلّه دعاء، فكذلك ما عطف عليه. وأما الإشراك فيبعد
فيه الحمل على غير الدعاء، لأن الإشراك في النبوّة لا يكون إلا
من الله سبحانه، اللهم إلا أن يجعل أمره شأنه الذي هو غير
النبوة، وإنما ينبغي أن يكون النبوة، ألا ترى أنه قد جاء: اذهب
إلى فرعون [النازعات/ 17] فقال: فأرسله معى ردءا يصدقني
[القصص/ 34] فأما (أشدد به أزري) فحمله على الإخبار، وغير
الدعاء أسهل، لأن الشدّ يكون من هارون لموسى.
وقال أبو عبيدة: اشدد به أزري أي: ظهري «2» قال: يقولون آزرني
أي: صار لي ظهرا، ويشبه أن يكون آزر لغة في وازر، كأكدت ووكدت،
وآصدت وأوصدت وأرّخت وورّخت، ونحو ذلك، ولا يسوغ أن يحمل أشركه
في أمري على غير السورة، لأنه قد جاء ما يعلم منه مسألة موسى
لذلك، وذلك قوله: وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي
ردءا يصدقني، قال سنشد عضدك بأخيك [القصص/ 33، 34]. وقال:
بمحنية قد آزر الضّال نبتها ... مضمّ جيوش غانمين وخيّب
«3»
__________
(1) السبعة 418.
(2) مجاز القرآن 2/ 18.
(3) البيت لامرئ القيس، انظر ديوانه/ 45، وفيه: «مجرّ جيوش»
مكان «مضمّ
(5/222)
كأن المعنى أن كلأها قد طال حتى صار في
قوام الضال، ويدل على أن قول الجماعة غير ابن عامر أرجح أن
قوله: كي نسبحك كثيرا [طه/ 33] كالجواب بعد هذه الأشياء التي
سألها موسى ربّه، فينبغي أن يكون ذلك كلّه في جملة ما دعا به.
اختلفوا [في] «1» قوله: (مهادا) [طه/ 53] في زيادة الألف
ونقصانها هاهنا وفي الزخرف [10] ولم يختلفوا في غيرها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر: (مهادا) بالألف في
كل القرآن.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: مهدا بغير ألف فيهما «2».
قال أبو علي: المهد: مصدر كالفرش، والمهاد مثل الفراش في قوله:
الذي جعل لكم الأرض فراشا [البقرة/ 22] والله جعل لكم الأرض
بساطا [نوح/ 19] فالمهاد مثل الفراش والبساط، وهما اسم ما يفرش
ويبسط، ويجوز أن يكون المهد استعمل استعمال الأسماء، فجمع كما
يجمع فعل على فعال، والأوّل أبين، ويجوز في قول من قرأ:
مهدا أن يكون المعنى: ذا مهد، فيكون المعنى كقول من قال مهادا.
[طه: 58]
اختلفوا في قوله: (مكانا سوى) [طه/ 58] في ضم السين وكسرها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: (مكانا سوى) كسرا.
__________
جيوش». والمعنى: هذه المحنية في موضع تمر الجيوش به من غانم أو
خائب.
فلا ينزلها أحد ليرعاها خوفا من الجيوش، فذلك أوفر لخصبها
وأتمّ لكلئها.
وانظر اللسان (خيب).
(1) سقطت من الأصل.
(2) السبعة 418.
(5/223)
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: سوى بضم السين
«1».
أبو عبيدة: مكانا سوى وسوى يضم أولها ويكسر مثل طوى وطوى. قال:
وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين «2»، وأنشد لموسى بن جابر
الحنفي «3»:
فإن أبانا كان حلّ ببلدة ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
«4» قال أبو علي: قوله: سوى، هو فعل من التسوية، فكأن المعنى
مكانا تستوي فيه مسافته على الفريقين فتكون مسافة كل فريق إليه
كمسافة الفريق الآخر، وهذا بناء يقل في الصفات، ومثله: قوم
عدى، وأما فعل فهو في الصفات أكثر من فعل، نحو: رجل سلع، ودليل
خنع، ومال لبد، ورجل حطم.
فأما انتصاب قوله: (مكانا سوى)، فلا يخلو من أن يكون مفعولا
للموعد في قوله: فاجعل بيننا وبينك موعدا [طه/ 58] أو يكون
ظرفا واقعا موقع المفعول الثاني، أو يكون منتصبا بأنه المفعول
الثاني، فلا يجوز أن يكون متعلّقا بالموعد لا على أنه مفعول
به، ولا على أنه ظرف له، وذلك أن الموعد قد وصف بالجملة التي
هي: لا نخلفه نحن [طه/ 58] وإذا وصف لم يجز أن يعمل عمل الفعل
لاختصاصه بالصفة، ولأنه إذا وصف لم يجز أن يتعلق به بعد الوصف
شيء منه، كما أنه إذا عطف عليه لم يجز أن يتعلق به بعد العطف
شيء منه،
__________
(1) السبعة 418.
(2) في مجاز القرآن: القريتين.
(3) سبق انظر 1/ 248.
(4) مجاز القرآن 2/ 20.
(5/224)
وكذلك إذا أخبر عنه لم يجز أن يقع بعد
الخبر عنه شيء يتعلق بالمخبر عنه، ولم يجز سيبويه: هذا ضارب
ظريف زيدا، ولا: هذا ضويرب زيدا، إذا حقر اسم الفاعل، لأن
التحقير في تخصيصه الاسم بمنزلة إجراء الوصف عليه، وقد جاء من
ذلك في الشعر شيء، سمعت أبا إسحاق ينشد:
وراكضة ما تستجنّ بجنّة ... بعير حلال غادرته مجعفل
«1» وقرأت على محمد بن السري من خط السكري لبشر بن أبي خازم:
إذا فاقد خطباء فرخين رجّعت ... ذكرت سليمى في الخليط المباين
«2» وقال ذو الرّمة:
وقائلة تخشى عليّ أظنه ... سيودي به ترحاله ومذاهبه
«3» وهذا الذي جاء منه في الشعر يحمل النحويون مثله على إضمار
فعل آخر: كما ذهبوا إليه في نحو قول الشاعر:
إن العرارة والنّبوح لدارم ... والمستخفّ أخوهم الأثقالا
«4»
__________
(1) البيت لطفيل الغنوي انظر ديوانه/ 68 وفيه: «راجعته» مكان
«غادرته» والمعنى:
وراكضة: تركض بعيرا تعدّيه، ما تستجنّ: ما تستتر. الحلال: مركب
من مراكب النساء المجعفل: المقلوب، جعفل المتاع: إذا قلبه ورمى
بعضه على بعض. انظر اللسان (جعفل).
(2) انظر المقرب لابن عصفور/ 124، واللسان (فقد) وليس في
ديوانه.
(3) انظر ديوانه 2/ 858.
(4) البيت للأخطل، انظر ديوانه 1/ 116 وابن الشجري 1/ 189
واللسان (نبح).
والعرارة هنا: الكثرة والعزّ. والنبوح: ضجة الناس وجلبتهم،
والمستخف: رويت بالنصب والرفع.
(5/225)
وكذلك قوله:
لسنا كمن حلت إياد دارها ... تكريت ترقب حبّه أن يحصدا
«1» فإن قلت: فقد جاء إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من
مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون [غافر/ 10] والظرف
في المعنى يتعلق بالمقت الأول لأن المعنى: لمقت الله إياكم إذ
تدعون إلى الإيمان فتكفرون، أكبر من مقتكم أنفسكم الآية.
وقوله: إذ تدعون متعلّق بالمقت الأول، وقد وقع بعد خبره، قيل:
إن الظروف يتجوّز فيها ما لا يتجوّز في غيرها، ألا ترى أنها
تقع مواقع لا يقعها غيرها، وهو أيضا مع ذلك ينبغي أن يحمل على
فعل آخر دلّ المقت عليه كأنه: مقتكم إذ تدعون إلى الإيمان
فتكفرون. فعلى هذا الضرب من الأفعال يحمل هذا النحو إذا جاء،
ولم نعلم في التنزيل مجيء شيء منه إلا في الظروف، فقد علمت أن
مكانا في قوله: مكانا سوى ليس يتعلق بالموعد لما ذكرنا، وليس
بالسهل أن تجعل انتصاب مكانا في قوله: (مكانا سوى) على أن يكون
ظرفا، وقع موقع المفعول الثاني، كقولك: ظننت خروجك اليوم،
وعلمت ركوبك غدا، لأنك إن حملته على ذلك جعلت المبتدأ الذي
يلحقه، جعلت، وظننت ونحوه، موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا
قصدا، فتنصب المكان كما تنصب اليوم، في قولك: القتال اليوم.
ولم يجروا قولهم: الموعد مجرى سائر هذه الأحداث، ألا ترى
__________
(1) البيت للأعشى، انظر ديوانه/ 231 وفيه: «جعلت» مكان «حلت» و
«تنظر» مكان «ترقب». وانظر الخصائص 2/ 402، 403، 3/ 256.
(5/226)
أنه قد جاء في التنزيل: إن موعدهم الصبح
[هود/ 81] برفع الصبح، وجاء: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس
ضحى [طه/ 59] فالقراءة بالرفع على أن الثاني هو الأول، وهذا
حذف واتساع، ولا تقول على قياس موعدك الصبح: مرجعك الصبح، ولا
مجيئك باب الأمير، ولا مقعدك السوق. وقد رأيت أنهم قد أخرجوا
الموعد من أحكام نحوه، فلا يحسن فيه ما حسن في نحو ما يشبهه،
ومما يدلّك على أنهم أخرجوا ما بعد الموعد من أن يكون ظرفا
قوله:
موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [طه/ 59] ألا ترى أن
قوله: وأن يحشر الناس ليس من الظروف في شيء فلولا أن اليوم في
قوله: موعدكم يوم الزينة، قد خرج من أن يكون ظرفا لم يعطف عليه
ما لا يكون ظرفا. ولو نصب ناصب (اليوم) من قوله: موعدكم يوم
الزينة فجعل (اليوم) خبرا عن الحدث مثل: القتال اليوم، مع عطف
قوله: وأن يحشر الناس ضحى عليه جاز على أن يتعلق يوم الزينة
بالمحذوف، ويضمر لقوله: وأن يحشر الناس ضحى ما يكون مبنيا
عليه، كأنه: موعدكم يوم الزينة، وموعدكم أن يحشر الناس ضحى،
وهذا هو الأصل، وإذا صار الاستعمال فيه على ما وصفناه مما جاء
التنزيل به كان غير ذلك كالأصول المرفوضة، ولو قال قائل: إن
الموعد في الآي اسم الزمان، فيكون مجيء الموعد اسما للزمان
كقولهم: كان هذا مبعث الجيوش، ومضرب الشّول «1»، ومحبل فلانة،
أي وقت بعضهم، ومضرب الشّول: أي وقت ضربها، ومحبل فلانة، أي:
زمان حبلها. فإذا جاز أن يكون اسما للزمان ارتفع الصبح، ويوم
__________
(1) الشّول: جمع شائلة وهي من الإبل التي أتى عليها من حملها
أو وضعها سبعة أشهر فخف لبنها. انظر اللسان (شول).
(5/227)
الزينة من حيث كان الثاني لأنه هو الأول،
وأنشد أبو الحسن:
كلما قلت غد موعدنا ... غضبت هند وقالت بعد غد
«1» فهذا يتجه أيضا على الوجهين اللذين قدمنا: أن يكون جعل
الموعد الحدث، وجعله غدا، قبل على الاتساع، أو يكون جعل الموعد
اسم زمان مثل المحبل، وعلى هذا الاتساع فيه، ويجوز أن يكون
الموعد اسم المكان فمما جاء فيه اسم مكان: وإن جهنم لموعدهم
أجمعين [الحجر/ 43] فالموعد ينبغي هاهنا أن يكون مكانا، لأن
جهنم مكان، والثاني فيه هو الأول، وهذا أبين من أن تحمله على
أن جهنم مكان موعدهم لأن الكلام على الظاهر ولا حذف فيه، فإذا
جعلت قوله: مكانا مفعولا ثانيا لجعلت كان بمنزلة قوله:
جعلوا القرآن عضين [الحجر/ 91] وقوله: وجعلوا الملائكة الذين
هم عباد الرحمن إناثا [الزخرف/ 19] في أنه انتصب على أنه مفعول
ثان لجعلت.
[طه: 61]
اختلفوا في ضم الياء وفتحها من قوله عز وجل فيسحتكم [طه/ 61].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وابن
عامر: (فيسحتكم) بفتح الياء من يسحت.
وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي: فيسحتكم بضم الياء من
أسحت، وكسر الحاء.
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة انظر ديوانه/ 323 وروايته فيه:
كلما قلت متى ميعادنا ... ضحكت هند وقالت بعد غد
السبعة 419.
(5/228)
أبو عبيدة: يسحتكم: يهلككم قال: وبنو تميم
يقولون:
يسحتكم، وأنشد:
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو
مجلّف
«1» وفسر لم يدع: لم يبق، وقال أبو الحسن نحو ذلك، أبو عثمان:
سحت وأسحت نحو قول أبي عبيدة.
[طه: 63]
اختلفوا في قوله تعالى: إن هذين [طه/ 63] في تشديد النون
وتخفيفها.
فقرأ ابن عامر ونافع وحمزة والكسائي: (إنّ) مشدّدة النون.
هذان بألف خفيفة النون من هذان.
وقرأ ابن كثير (إن هذانّ) بتشديد نون (هذانّ) وتخفيف نون
(إنّ).
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر (إنّ هذان) نون إنّ مشدّدة، وروى
حفص عن عاصم إن ساكنة النون وهي مثل قراءة ابن كثير، وهذان
خفيفة.
وقرأ أبو عمرو وحده (إنّ) مشدّدة النون (هذين) بالياء.
__________
(1) البيت للفرزدق وقد نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن 2/ 21
إليه. وانظر ديوانه 2/ 556. وفيه «مجرّف» بدل «مجلّف» وأنشده
اللسان وقال: ويروى: «إلا مسحت أو مجلّف». وهي كذلك في مجاز
القرآن ورفع قوله: «أو مجلف» بإضمار كأنه، قال: أو هو مجلف،
وهذا هو قول الكسائي. والمسحت: المستأصل. اللسان (سحت)،
والمجلف: الذي أتى عليه الدهر فأذهب ماله. وجلّف النبات أكل عن
آخره. اللسان (جلف).
(5/229)
قال قائلون: (إنّ) في قوله: (إنّ هذان
لساحران) بمعنى: أجل، وأن تكون (إنّ) للتأكيد والناصبة للاسم
أشبه بما قبل الكلام وما بعده، فأما قبل فقوله: فتنازعوا أمرهم
بينهم وأسروا النجوى [طه/ 62] فالتنازع إنما هو في أمر موسى
وهارون، هل هما ساحران على ما ظنوه من أمرهما، وقد تقدم من
قولهم ما نسبوهما فيه إلى السحر، وهو قولهم: أجئتنا لتخرجنا من
أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله [طه/ 57، 58] فهذا وإن
لم يتقدمه سؤال عن سحرهم كما تقدم السّؤال مثل قوله: قالوا نعم
وهو قوله: فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم [الأعراف/ 44]
فقد تقدم أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر
مثله [طه/ 57، 58] فيكون نعم منصرفا إلى تصديق أنفسهم فيما
ادّعوه من السحر و (إن) بمنزلة نعم.
وقال: قد قال سيبويه: نعم عدة وتصديق، وأن تصرف إلى الناصبة
للاسم أولى. قال الجرميّ: هو قراءة أبي عمرو وعيسى وعمرو بن
عبيد وقوله: يريدان أن يخرجاكم إلى آخر الكلام، أن يكون تأكيدا
لأنهما ساحران أشبه بالكلام فإن حمله على التصديق ضرب من
التأكيد فإن حملت (إنّ) على أنّه بمعنى نعم بقي الكلام: هذان
لساحران، فتحصل لام الابتداء داخلة على خبر المبتدأ، وهذا قد
قال النحويون فيه: إنّه يجوز في الشعر على الضرورة، فإن قلت:
أقدر الابتداء محذوفا، فإن هذا لا يتجه «1» لأمرين: أحدهما: أن
الذي حمله النحويون على الضرورة لا يمتنع من أن يستمر هذا
التأويل فيه، ولم يحملوه مع ذلك عليه. والآخر: أن التأكيد
باللام لا يليق به الحذف، ألا ترى أن الأوجه في الرتبة أن يتم
الكلام ولا يحذف، ثم يؤكّد فأما أن
__________
(1) جاء على حاشية الأصل عبارة بلغت.
(5/230)
يحذف ثم يؤكّد، فليس باللائق في التقدير،
ووجه قول من قال: إن ذان، وإن هذان مخفف (إن): أنّ إنّ إذا
خفّفت لم يكن النصب بها كثيرا، وكان الأوجه أن يرفع الاسم
بعدها، والدليل على ذلك كثرة وقوع الفعل بعدها في نحو: إن كاد
ليضلنا [الفرقان/ 42] وإن كانوا ليقولون [الصافات/ 167] وإن
كنا عن دراستهم لغافلين [الأنعام/ 156]، وإذا كان الأوجه الرفع
بعدها رفع هذان بعدها، وأدى مع ذلك خطّ المصحف، ومن زعم أنّ
هذان في الآية الألف التي فيه الألف التي كانت في هذا، ليس إلا
ألف التي جلبته التثنية، فإن الأمر لو كان على ما زعم لم تنقلب
هذه الألف في تثنيته، كما أن الألف التي في هذا لا تنقلب على
حال، وفي كون هذه الألف مرّة ياء، ومرة ألفا دلالة على أنه
كسائر التثنية، ولا فصل بين هذا وبين غيره من الأسماء المعربة،
وذلك أن هذه الأسماء في الانفراد إنما بنيت لمشابهتها الحروف،
فإذا ثنيت زال بالثنية مشابهتها للحروف، من حيث لم تثنّ الحروف
فتصير كسائر الأسماء المعربة، ويدلّ على أن هذه الألف للتثنية
أن التي كانت في الواحد قد حذفت، كما حذفت الياء من التي والذي
إذا قلت: اللتان واللذان، فالياء التي كانت في الاسم قد حذفت
وجيء بالتي للتثنية. ومثل حذف هذه الألف حذف الألف من أولات
ومن ذوات ومن هيهات، هذه كلّها حذفت فيها الألف والياء لقلة
تمكّنها، فكذلك تحذف من قولهم: هذا، ألفه، وتلحق التي تكون
علما للتثنية، ومن ثم انقلبت مرّة ياء ومرة ألفا، والتي تثبت
في الواحد لا يتعاورها القلب، ولا تزول عن أن تكون ألفا، وقال
أبو الحسن: إن هذان لساحران بتخفيف إن لأن الكتاب: هذان
فيحملها على لغة من يخفّف إنّ فيرفع بها، وإن ثقلت فهي لغة
لبني الحارث بن كعب
(5/231)
يرفعون الاثنين في كل موضع قال: فأيّ
التفسيرين فسرت فهو جيد.
[طه: 64]
اختلفوا في همز الألف من قوله تعالى: فأجمعوا كيدكم [طه/ 64]
في كسر الميم وإسقاط الألف وفتح الميم.
فقرأ أبو عمرو وحده (فاجمعوا) مفتوحة الميم من جمعت.
القطعيّ عن عبيد وهارون عن أبي عمرو: فأجمعوا ألف مقطوعة مثل
حمزة.
وقرأ الباقون: فأجمعوا بقطع الألف وكسر الميم من أجمعت «1».
احتج أبو عمرو، زعموا، للقراءة بالوصل بقوله: فجمع كيده [طه/
60] والفعل في الموضعين جميعا معدّى إلى الكيد. قال أبو الحسن،
وإنما يقولون بالقطع إذا قالوا: أجمعنا على كذا وكذا، فأما إذا
قالوا: أجمعوا أمركم، وأجمعوا كيدكم، فلا يقولون إلا بالوصل،
قال: والقطع أكثر القراءة، قال: فأما أن يكون لغة في ذا المعنى
لأن باب فعلت وأفعلت كثير، أو يكون أجمعوا أي: أجمعوا على كذا
وكذا، ثم قال: كيدكم على أمر مستأنف، فإن قيل: فقد تقدّم ذكر
قوله: فجمع كيده فإذا قالوا: فأجمعوا كيدكم، كان تكريرا، قيل:
لا يكون كذلك، لأن ذاك في قصة وذا في أخرى، ذاك إخبار عن فرعون
في جمعه كيده وسحره، وهذا فيما يتواصى به السحرة في جمع كيدهم،
وما يستظهرون في المبالغة في سحرهم، ويشبه أن يكون ذلك على
لغتين كما ظنه أبو الحسن كقول الشاعر:
__________
(1) السبعة: 419، 420.
(5/232)
وأنتم معشر زيد على مائة ... فأجمعوا أمركم
طرّا فكيدوني
«1» فقوله: فأجمعوا أمركم بمنزلة: فأجمعوا كيدكم لأن كيدكم من
أمركم.
قال: وروى القطعي عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: ثم ائتوا صفا
[طه/ 64] بفتح الميم «2»، ثم يأتي بياء بعدها ساكنة. وروى خلف
عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: (ثمّ ايتوا) بكسر الميم بغير همز،
ثم يأتي بالياء التي بعدها تاء، وهذا غلط، لا تكسر الميم من
ثمّ، وحظها الفتح، ولا وجه لكسرها، وإنما أراد ابن كثير أن
يتّبع الكتاب فلفظ بالياء التي خلفت الهمزة بعد فتحة الميم.
وروى الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل عن ابن
كثير:
ثم ايتوا صفا مفتوحة الميم وبعدها ياء. وكذلك روى محبوب عن
إسماعيل المكي عن ابن كثير وهذا هو الصواب.
وروى النّبال وغيره عن ابن كثير: ثم ائتوا صفا مثل حمزة، وكذلك
قرأ الباقون «3» قول ابن كثير: (ثمّ ايتوا صفّا) بفتح الميم ثم
يأتي بياء بعدها ساكنة، وجهه فيه أنه مثل قوله: (أيذا) كأنّه
قلب الهمزة ياء بعد ما خفّفها بأن جعلها بين بين إلا أنه في
هذا قلبها ياء، وإن لم يكن خففها، وهذا مثل ما حكاه سيبويه في
المتصل بيس، وقد كان أبين من هذا أن يقلبها ألفا لسكونها
وانفتاح ما قبلها، مثل: راس وفاس في
__________
(1) البيت لذي الإصبع العدواني، انظر اللسان (عشر) ابن يعيش 1/
30.
(2) في السبعة: بفتح الميم من ثم.
(3) السبعة 420.
(5/233)
المتصل، فأمّا قوله: (ثمّ ايتوا صفا) فخطأ
بيّن وأصل هذا أنك تقول:
أتى يأتي، فإذا أمرت منه قلت: ايت، تجتلب همزة الوصل لسكون
الهمزة التي هي فاء فلزم أن تقلب الفاء ياء لاجتماع الهمزتين،
فقلت:
ايت، وإن وصلته بشيء سقطت همزة الوصل، فلا يخلو ما يتصل به من
أن يكون ساكنا أو متحركا، فإن كان متحركا لم يخل من أن يكون
ضمّة أو فتحة أو كسرة، فإن كانت ضمّة وخففت الهمزة قلبتها
واوا، فقلت: يا زيد وت، وعلى هذا: (يا صالح وتنا) [الأعراف/
77] وعلى هذا (ومنهم من يقول اوذن لي ولا) [التوبة/ 49] وإن
كانت كسرة فخفّفت الهمزة قلت: يا غلام يت بكذا، فقلبتها ياء،
وإن شئت حقّقت «1» الهمزة فقلت: يا غلام ئت بكذا، كما حققت بعد
الضمة من قولك يا زيد ؤت، وإن كانت فتحة قلبتها ألفا إذا خففت
الهمزة فقلت:
يا غلام ات، وإن شئت حقّقت الهمزة. وعلى قياس قراءة ابن كثير:
يا غلام يت، فتقلبها ياء ولا تقلبها ألفا، والوجه ما عليه
الجمهور والكثرة، وقد قال قوم فيما روى بعض البغداذيين في أتى
يأتي: ت بكذا وكذا، وأنشد:
ت لي آل زيد «2» وهذا على قياس من حذف الهمزة حذفا من حيث كان
حرف علّة، كما حذف من: خذ، ومر، وكل، وليس ذلك بالكثير ولا
المعروف، والوجه في الآية قراءة النّبال وغيره عن ابن كثير.
__________
(1) في الأصل «خففت» وهو تصحيف.
(2) هذه قطعة من بيت لم يعرف قائله وتمامه:
ت لى آل زيد واندهم لي جماعة ... وسل آل زيد أي شيء يضيرها
انظر اللسان (أتى) وابن الشجري 2/ 17 وفيه (له) بدل (ت) والدرر
2/ 239.
(5/234)
[طه: 69]
اختلفوا في تشديد القاف وتخفيفها من قوله: (تلقف) [طه/ 69].
فقرأ ابن عامر وحده: (ما في يمينك تلقّف ما) برفع الفاء وتشديد
القاف.
وروى حفص عن عاصم: تلقف خفيفة.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: (تلقّف ما) مجزومة الفاء.
وروى النّبال عن ابن كثير: ما في يمينك تلقف خفيفة التاء كذلك
قرأت على قنبل. وكان [ابن كثير] يشدّد التاء [والقاف] في رواية
البزي وابن فليح «1»: (ما في يمينك تلقّف).
وجه قول ابن عامر: (تلقّف) يرتفع على أنه في موضع حال، والحال
يجوز أن يكون من الفاعل الملقي ومن المفعول الملقى، فإن جعلته
من الفاعل الملقي جعلته المتلقف، وإن كان التّلقّف فى الحقيقة
للعصا، ووجه جعل المتلقف للفاعل على أن التلقف بإلقائه كان،
فجاز أن ينسب إليه، كما قال: وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى
[الأنفال/ 17] فأضاف الرمي إلى الله سبحانه، وإن كان للنبيّ
صلّى الله عليه وآله وسلّم لما كان بقوّة الله وإقداره، ويجوز
أن تكون الحال من المفعول، وقال فيه: (تلقّف) على حدّ قولك:
هند تذهب، لأنه حمل الكلام على المعنى، والذي في يمينه عصا
فأنثه، كما قال: (ومن تقنت منكن لله ورسوله) [الأحزاب/ 31]
وكما قال: (فله عشر أمثالها) [الأنعام/ 160] فأنث الأمثال لما
كانت في المعنى حسنات، ومثل هذا
__________
(1) السبعة 420، 421 وما بين معقوفين منه.
(5/235)
في أنّ لفظ يفعل يكون فيه مرّة للمخاطب
ومرّة للمؤنث الغائب قوله:
يومئذ تحدث أخبارها [الزلزلة/ 4] فهذا على أن تكون: تحدث أنت
أيها الإنسان، وعلى أن الأرض تحدث، فأما قوله:
... فإن تكن ... ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
«1» فإن تهوى للغائبة لا غير، وجعلت (تلقف) حالا، وإن لم تتلقف
بعد، كما جاء في التنزيل: هديا بالغ الكعبة [المائدة/ 95] وكما
أجاز النحويون: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، وهذا النحو من
الحال كثير في التنزيل وغيره.
وأما (تلقف) فعلى أن يكون جوابا كأنه: إن تلقه تلقف، وكذلك
تلقف، ويجوز في (تلقّف) وتلقف أن يكون لك أيها المخاطب، ويجوز
أن يكون للغيبة وعلى الحمل على المعنى، ومن خفّف التاء من تلقف
ومن شدّد فقال: ما في يمينك تلقف، فإنما أراد: تتلقّف وهذا
يكون على تتلقف أنت أيها المخاطب، وعلى تتلقّف في الآية أنه
أدغم التاء في التاء، والإدغام في هذا ينبغي أن لا يجوز، لأن
المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب له همزة الوصل كما جلبت في
أمثلة الماضي، نحو: ادّرأ وازّينت واطّيّروا، وهمزة الوصل لا
تدخل على المضارع، ألا ترى أن من قال في تتّرس: اتّرس، لا يقول
في المضارع: اتّرسون، ولا: اتّفكّرون، يريد: تتفكرون. وهذا
يلزم أن يقوله من قال:
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب وتمامه:
زجرت لها طير الشمال فإن تكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها
يريد إن صدق هذا الطير السنيح سيصيبك اجتنابها، أي تجنبها
وتباعدها.
انظر شرح السكري 1/ 42.
(5/236)
ما في يمينك تلقف وإنما لم تدخل همزة الوصل
على المضارع، كما لم تدخل على اسم الفاعل، لأن كلّ واحد منهما
مثل الآخر، وليس حكم الوصل أن يدخل على الأسماء المعربة إلا أن
تكون المصادر الجارية على أفعالها، وإنما دخلت على هذه الأسماء
القليلة التي دخلت عليها لما كانت محذوفة الأواخر، لأنه بذلك
أشبه الأفعال المحذوفة منها، فأشبهت الأفعال التي للأمر عند
النحويين.
وسألت أحمد بن موسى: كيف يبتدئ من أدغم؟ فقال كلاما معناه أنه
يصير بالابتداء إلى قول من خفف ويدع الإدغام.
[طه: 69]
اختلفوا في فتح السين وكسرها، وإخراج الألف وإدخالها، وتسكين
الحاء وكسرها من: كيد ساحر [طه/ 69]. فقرأ حمزة والكسائي: (كيد
سحر) بغير ألف.
وقرأ الباقون: كيد ساحر بألف «1».
حجة: كيد ساحر أن الكيد للساحر في الحقيقة، وليس للسحر إلا أن
تريد: كيد ذي سحر، فيكون في المعنى حينئذ مثل:
كيد ساحر، ويقوّي ذلك: (تلقّف ما صنعوا إنّما صنعوا كيد ساحر)،
والسحر لا يمتنع أن يضاف إليه الكيد على التوسع، وزعموا أنه
قراءة الأعمش.
[طه: 71]
قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، وورش عن نافع: آمنتم [طه/ 71] على
لفظ الخبر.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر: آمنتم «2» بهمزة ممدودة.
__________
(1) السبعة 421.
(2) رسمت في السبعة هكذا: إامنتم.
(5/237)
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم:
(أآمنتم) بهمزتين، الثانية ممدودة «1».
يعني أحمد: أن الهمزة الأولى للاستفهام، والثانية همزة القطع،
وبعدها الألف المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء الفعل، وقوله عن
أبي عمرو وابن عامر بهمزة ممدودة يعني: أنهما يستفهمان فيأتيان
بهمزة الاستفهام، وبعدها مدّة، وتكون الأولى همزة القطع،
والثانية الأصل.
قال أبو علي: الخبر هاهنا وجهه حسن، كأن يقرّعهم على تقدمهم
بين يديه، وعلى استبدادهم على ما كان منهم من الإيمان عن غير
أمره وإذنه، والاستفهام إلى هذا المعنى يؤول، لأنه تقريع
وتوبيخ منه لهم بأيمانهم، وأمّا اللفظ، وقوله: قرأ نافع وابن
عامر: آمنتم بهمزة ممدودة، يعني به: أنهم يستفهمون، فيأتون
بهمزة الاستفهام بعد مدّة: الأولى: همزة الاستفهام، والثانية:
همزة أفعل في أامن، وأبو عمرو إذا اجتمع هذا النحو من الهمزتين
أدخل بينهما ألفا، وكأنه ترك هنا هذا الأصل لما كان يلزم من
اجتماع همزتين وألفين، الهمزة الأولى همزة الاستفهام والألف
الأولى التي بعد الهمزة الأولى هي التي يفصل بها بين الهمزتين
في نحو:
آأنت أم أمّ سالم «2».
والهمزة الثانية وهي الثالثة من أول الكلمة همزة أفعل في:
__________
(1) السبعة 421.
(2) من بيت لذي الرمة تمامه:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آأنت أم أمّ سالم
سبق انظر 4/ 286.
(5/238)
أامن، والألف التي بعدها هي الألف المنقلبة
عن فاء الفعل من الأمن والأمان، وأبدلت ألفا لاجتماعهما مع
همزة أفعل، فكان يلزم اجتماع همزتين وألفين متواليات:
أاأامنتم، فترك ذلك في هذا الموضع لكراهة اجتماع الأمثال. وقرأ
حمزة والكسائي على أصلهما في هذا النحو وقد مرّ ذلك في مواضع.
[طه: 77]
اختلفوا في قوله: لا تخاف دركا [طه/ 77].
وقرأ حمزة وحده: (لا تخف دركا) جزما بغير ألف.
وقرأ الباقون: لا تخاف رفعا بألف.
ولم يختلفوا في فتح الراء من دركا «1».
وجه قول من رفع أنه حال من الفاعل: اضرب لهم طريقا غير خائف
ولا خاش، ويجوز أن تقطعه من الأول: أنت لا تخاف، ومن قال: (لا
تخف) جعله جواب الشرط، إن تضرب لا تخف دركا ممن خلفك، ولا تخشى
غرقا بين يديك، فأما من قال: (لا تخف دركا)، ثم قال: لا تخشى،
فيجوز أن يقطعه من الأول، أي: إن تضرب لا تخف، وأنت لا تخشى،
ولا تحمله على قول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا «2» ولا على نحو:
لا ترضّاها ولا تملّق «3»
__________
(1) السبعة 421.
(2) هذا عجز بيت لعبد يغوث بن وقاص سبق في 1/ 93، 325.
(3) عجز بيت لرؤية سبق في 1/ 93.
(5/239)
لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر كما أن
نحو قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمى «1» ونحو قوله:
لم تهجو ولم تدع «2» كذلك، ولكنّك تقدّر أنّك حذفت الألف
المنقلبة عن اللام ثم أشبعت الفتحة لأنها فاصلة، فأثبتّ الألف
الثانية عن إشباع الفتحة، ومثل هذا مما ثبت في الفاصلة قوله:
فأضلونا السبيلا [الأحزاب/ 67] وقد جاء إشباع هذه الفتحة في
كلامهم قال:
فأنت من الغوائل حين تلقى ... ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح
«3»
[طه: 78]
قال: روى عبيد «4» (فاتبعهم) [طه/ 78] وحدها موصول في هذا،
وكلّ شيء في القرآن فأتبعهم. وقرأ: فأتبعوهم مشرقين [الشعراء/
60] مقطوع الألف.
وعبيد عن هارون عن أبي عمرو (فاتّبعهم فرعون) موصولة، وكلّ شيء
في القرآن فأتبعوهم مقطوع «5».
قال أبو علي: الباء الجارة على هذا معدية الفعل إلى المفعول
لأنك تقول: تبعته واتبعته كما تقول: شويته واشتويته، وحفرته
__________
(1) صدر بيت لقيس بن زهير سبق في 1/ 93، 325 و 2/ 69.
(2) قطعة من بيت سبق في 1/ 325.
(3) سبق انظر 1/ 81.
(4) جاء على هامش الأصل: عنده محمد.
(5) السبعة 422 مع اختلاف في التفصيل.
(5/240)
واحتفرته، وفديته وافتديته «1»، فإذا
استوفيت المفعول الذي يتعدّى إليه الفعل. فعدّيته إلى آخر
عدّيته بالجار. ومن قطع الهمزة هنا، فقال:
فأتبعهم فرعون بجنوده فالباء زائدة في قوله، لأنّ أتبعهم منقول
من تبعهم، وتبع يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمزة
تعدّى إلى آخر كقوله: وأتبعوا في هذه لعنة [هود/ 99] فإذا كان
كذلك جعلت الباء زائدة كما تزاد في كثير من المفعولات، نحو:
لا يقرأن بالسور «2» وقد يجوز أن تكون هذه الباء في موضع حال
من الفاعل، كأنه اقتصر بالفاعل على فعله ولم يعدّه إلى مفعوليه
اللذين يتعدى فعله إليهما فصار مثل: تبعه زيد بسلاحه، وقد تقدم
ذكر هذه الكلمة.
[طه: 80، 81]
اختلفوا في قوله عز وجل: قد أنجيناكم ... وواعدناكم ...
ما رزقناكم ... [طه/ 80، 81].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الثلاثة الأحرف
بالنون.
وقرأ أبو عمرو وحده: (ووعدناكم) بغير ألف في كلّ القرآن.
وقرأهنّ حمزة والكسائى بالتاء «3».
حجة: (وعدناكم) أنّ ذلك يكون من الله سبحانه. وقال أبو
__________
(1) في الأصل: وافديته.
(2) هذه قطعة من بيت للراعي وتمامه:
تلك الحرائر لا ربات أحمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
انظر المخصص 14/ 70 وشرح أبيات المغني للبغدادي 1/ 128.
(3) السبعة 422 وزاد بعده: بغير ألف.
(5/241)
الحسن: زعموا أن واعدناكم لغة في معنى
وعدناكم، وإذا كان كذلك فاللفظ لا يدلّ على أن الفعل من
الاثنين، كما أن استسحر واستقرّ، ونحو ذلك من بناء استفعل، لا
يدلّ على استدعاء، والقراءة بوعد أحسن، لأن واعد بمعنى وعد،
ويعلم من وعد أنه فعل واحد لا محالة، وليس واعد كذلك، والأخذ
بالأبين أولى.
وحجة من قرأ: (أنجيناكم ... ووعدناكم) قوله: ونزلنا عليكم المن
[طه/ 80] واتفاقهم في ذلك على إسناد الفعل إلى اللفظ الدالّ
على الكثرة، وفي أخرى: وإذ أنجيناكم من آل فرعون [الأعراف/
141].
[طه: 81]
اختلفوا في قوله: فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي [طه/
81].
فقرأ الكسائي وحده: (فيحلّ عليكم) بضم الحاء، (ومن يحلل) بضم
اللام.
وقرأ الباقون: فيحل، ومن يحلل عليه.
ولم يختلفوا في قوله: أن يحل عليكم غضب من ربكم [طه/ 86] أنها
بكسر الحاء «1».
أبو زيد تقول: قد حلّ عليه أمر الله يحلّ حلولا، وحلّ الدار
يحلّها حلولا: إذا نزلها، وحلّ العقدة يحلّها حلا. وحلّ له
الصوم يحلّ له حلّا، وأحلّه له إحلالا، وحل حقي عليه يحل محلا
وأحل من إحرامه إحلالا، وحل يحل حلا.
وجه قراءة من قرأ: (يحلّ) بكسر الحاء أنه
روى في زمزم:
__________
(1) السبعة 422.
(5/242)
«أنه لشارب حلّ وبلّ»
«1» أي: مباح له غير محظور عليه، ولا ممنوع منه، والحلّ
والحلال في المعنى مثل المباح، فهو خلاف الحظر والحجر والحرام،
والحرم، فهذه الألفاظ معناها المنع، وهي خلاف الحلّ والحلال
الذي هو الإباحة والتوسعة، والإباحة: من باح بالسر والأمر يبوح
به، إذا لم يجعل دونه حظرا، والمحلّ خلاف المحرم، فمعنى يحلّ
عليكم: ينزل بكم وينالكم بعد ما كان ذا حظر وحجر ومنع عنكم.
ويبين ذلك ما حكاه أبو زيد من قولهم: حلّ عليه أمر الله يحلّ،
والأمر قد جاء في التنزيل يراد به العذاب، قال: أتى أمر الله
فلا تستعجلوه [النمل/ 1] فهذا يعنى به العذاب لقوله: يستعجلونك
بالعذاب [العنكبوت/ 54] وقال: أتاها أمرنا ليلا أو نهارا
فجعلناها حصيدا [يونس/ 24] ويقوّي ذلك قوله: ويحل عليه عذاب
مقيم [هود/ 39] أي: ينزل به بعد أن لم يكن كذلك، ولم يختلفوا
في هذا الحرف فيما زعموا، وهذا بمنزلة قوله: أن يحل عليكم غضب
من ربكم [طه/ 86] في أنه يحلّ بالكسر.
ووجه من قال: (يحلّ عليكم غضبي) أنّ الغضب لما كان يتبعه
العقوبة والعذاب جعله بمنزلة العذاب فقال: يحلّ أي: ينزل،
فجعله بمنزلة قولهم: حلّ بالمكان يحلّ، وعلى هذا جاء: تصيبهم
بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم [الرعد/ 31] فكما أن
هذا عذاب، فأخبر عنه بأنّه يحلّ، كذلك أخبر عن الغضب بمثله،
فجعله بمنزلته لأنه يتبعه ويتصل به.
__________
(1) انظر النهاية لابن الأثير 1/ 154 ونصه:
«هي لشارب حل وبل»
البل: المباح. وقيل الشفاء. من قولهم: بلّ من مرضه وأبل.
وبعضهم يجعله اتباعا لحلّ، ويمنع من جواز الإتباع الواو.
(5/243)
[طه: 87]
اختلفوا في قوله تعالى: موعدك بملكنا [طه/ 87] في ضم الميم
وكسرها وفتحها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: (بملكنا) بكسر الميم.
وقرأ نافع وعاصم بملكنا بفتح الميم.
وقرأ حمزة والكسائي: (بملكنا) بضم الميم. القطعي عن عبيد عن
هارون عن أبي عمرو بملكنا «1».
قال أبو علي: هذه لغات، وزعموا أن الكسر أكثر في القراءة،
والفتح لغة فيه، المعنى: ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب، ولكن
لخطئنا، فأضاف المصدر إلى الفاعل وحذف المفعول، كما أنه قد
يضاف إلى المفعول ويحذف الفاعل في نحو: من دعاء الخير [فصلت/
49] و (سؤال نعجتك) [ص/ 24].
وأما من قال: ما أخلفنا موعدك بملكنا فإنه لا يخلو من أن يريد
به مصدر الملك: أو يكون لغة في مصدر المالك، فإن أريد بالملك
مصدر الملك فالمعنى لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك لمكان ملكنا،
وهذا على هذا التقدير كقوله: لا يسألون الناس إلحافا [البقرة/
273] أي: ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف فيها، ليس على أنه
أثبت ملكا، كما أنه لم يثبت في قوله: لا يسألون الناس إلحافا
مسألة منهم، ومثله قول ابن أحمر:
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضّبّ بها ينجحر
«2»
__________
(1) السبعة 422، 423.
(2) سبق انظر 2/ 47.
(5/244)
أي: ليس لها أرنب فيفزع لهولها، ومثله:
وبلدة لا يستطيع سيدها ... حسرى الأراكيب ولا يهيدها
«1» ومثله قول ذي الرمة:
لا تشتكى سقطة منها وقد رقصت ... بها المفاوز حتّى ظهرها حدب
«2» أي: ليس منها سقطة فتشتكى، ولا يجوز أن يراد به تثبيت
الملك الذي هو مصدر الملك، لأنهم لم يكن لهم ملك بل كانوا
مستضعفين قال: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
[القصص/ 5] قال: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق
الأرض ومغاربها [الأعراف/ 137]. وأظنّ أنّ أبا الحسن حكى أنّ
الملك مصدر في المالك، وحكى غير أبي الحسن: أن بعضهم قال:
ما لي ملك، يريد: شيئا أملكه، وقد يكون الملك: الشيء المملوك،
والملك: المصدر، مثل الطّحن والطحن، والسّقي والسّقي. وقد يجوز
في قراءة من قرأ (بملكنا) أن تقدّر حذف المفعول وتعمله إعمال
المصدر، كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا «3»
[طه: 87]
اختلفوا في قوله تعالى: ولكنا حملنا [طه/ 87] في ضم الحاء
وتشديد الميم، وفتحها وتخفيف الميم.
__________
(1) لم نعثر عليه، ولا يهيدها: أي لا يزعجها ولا يكترث لها.
(2) انظر ديوانه 1/ 44 والمعنى: لا يقال فيها ما يكره،
والسقطة: العثرة، رقصت بها المفاوز: ليست على طمأنينة. وقد حدب
ظهرها من الهزال.
(3) سبق انظر 1/ 182، 2/ 130، 333، 351.
(5/245)
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن
عاصم: حملنا بضم الحاء مشدّدة الميم.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
(حملنا) خفيف. وقال أبو زيد عن أبي عمرو: (حملنا) وحملنا «1».
قال أبو علي: حمل الإنسان الشيء وحمّلته إياه، يتعدّى الفعل
إلى مفعول واحد، فإذا ضاعفت العين عدّيته إلى المفعولين، قال:
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها [الجمعة/ 5] والحمل:
المصدر، والحمل: المحمول، وفي التنزيل فأبين أن يحملنها ...
وحملها الإنسان [الأحزاب/ 72] كأنّه: أبين أن لا يؤدّين
الأمانة فيما استؤمنّ فيه، وحملها الإنسان أي: لم يؤدّها، لأن
حمل الحامل الشيء إمساك وخلاف لأدائه، فكأنه لم يؤدّ الأمانة،
وكأن المعنى: على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال وأشفقن
منها أي: من حمل الأمانة، فحذف المضاف. وما
روى في الحديث: (أنه إذا كان الماء قلّتين أو خمس قلال لم يحمل
خبثا)
«2». معناه أنه لقلّته يضعف عن أن يحتمل النجس، فينجس لأنّه لا
يحتمله كما يحتمله الكثير الذي بخلافه، وقالوا: احتمل الشيء
وحمله: إذا اضطلع به وقوى عليه، أنشد الأصمعي:
واحتمل اليتم فريخ التمره ... ونشر اليسروع بردي حبره
«3»
__________
(1) السبعة 423.
(2) رواه أحمد في مسنده 2/ 23، 27، 107 وانظر اللسان (قلل).
(3) لم نعثر عليه واليسروع نوع من الدود يعيش على الأعشاب
والأشواك جمعه أساريع.
(اللسان/ سرع) والتمرة كقبّرة: طائر أصغر من العصفور
(القاموس).
(5/246)
المعنى: أنه استقلّ بنفسه، واحتمل طلب قوته
وفارق ما كان عليه من التيم في حاجته إلى الكاسب له، فمن قرأ
حملنا كان المعنى عنده: جعلونا نحمل أوزار القوم و (حملنا) على
ذلك وأردنا له. ومن قال: (حملنا) أراد أنّهم فعلوا ذلك، وقد
يجوز إذا قرأ (حملنا) أن يكونوا حملوا على ذلك وكلّفوه لأنهم
إذا حمّلوه حملوه.
[طه: 93]
اختلفوا في إثبات الياء من قوله تعالى: (أن لا تتبعني) [طه/
93] وحذفها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ألّا تتّبعني) بياء في الوصل ساكنة.
ويقف ابن كثير بالياء، وأبو عمرو يقف بغير ياء.
واختلف عن نافع، فروى ابن جمّاز وإسماعيل بن جعفر: (ألا
تتّبعني أفعصيت) بياء منصوبة، وليس في الكتاب، وفي رواية قالون
والمسيبي وورش وأحمد بن صالح عن أبي بكر وإسماعيل بن أبي أويس:
(تتّبعني) بياء في الوصل ساكنة، ويقف بغير ياء.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف
«1».
قد ذكر هذا النحو في غير موضع.
[طه: 94]
اختلفوا في فتح الميم وكسرها من قوله عز وجل: يابن أم [طه/
94].
فقرأ يابن أم بنصب الميم ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن
عاصم.
__________
(1) السبعة 423.
(5/247)
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي
وابن عامر (يا ابن أمّ) بكسر الميم.
قال أبو علي: من قال: يا ابن أم احتمل قوله أمرين:
أحدهما: أن يكون أراد: يا ابن أمّا، فحذف الألف كما يحذف من
غلامي في النداء إذا قال: يا غلام، وحذف الياء من المضاف إليه،
وإن كانت لا تحذف في المضاف إليه إذا قال: يا غلام غلامي، كما
تحذف من المضاف إذا قال: يا غلام، لأن هذا الاسم قد كثر
استعماله، فتغيّر عن أحوال النظائر، والفتحة في ابن على هذا
نصبة، كما أنها في قولك يا غلام أمي كذلك، ويجوز أن يكون جعل
ابن وأمّ جميعا بمنزلة اسم واحد فبنى الآخر على الفتح وكذلك
الاسم الذي هو المصدر، فالفتحة في الأول ليس بنصبة كما كانت في
الوجه الأول، ولكنها بمنزلة الفتحة في خمسة من خمسة عشر،
والاسم في موضع ضمّ من حيث كانا بمنزلة خمسة عشر، كما أن خمسة
عشر كذلك.
ومن قال: (يا ابن أمّ) احتمل أمرين: أحدهما: أن يكون أضاف ابنا
إلى أمّ، وحذف الياء من الثاني، وكان الوجه إثباتها مثل يا
غلام غلامي، والآخر: أن يكون جعل الاسم الأوّل مع الثاني اسما
واحدا.
وأضافه إلى نفسه، كما تقول: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذف الياء
كما تحذف من أواخر المفردة نحو: يا غلام.
[طه: 96]
اختلفوا في قوله عز وجل: بما لم يبصروا به [طه/ 96] في الياء
والتاء.
(5/248)
فقرأ حمزة والكسائي: (تبصروا) بالتاء.
وقرأ الباقون: يبصروا بالياء «1».
من قال: يبصروا وهو قراءة الأكثر فيما زعم بعضهم، أي: لم يبصر
به بنو إسرائيل. ومن قال: (تبصروا به) صرف الخطاب إلى الجمع.
[طه: 97]
واختلفوا في قوله: لن تخلفه [طه/ 97] في فتح اللام وكسرها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (لن تخلفه) بكسر اللام.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: لن تخلفه بفتح
اللام «2».
اختلفت يتعدّى إلى مفعولين، ولن تخلفه مثل لن تعطاه، لما أسندت
الفعل إلى أحد المفعولين، فأقمته مقام الفاعل بقي الفعل
متعدّيا إلى مفعول واحد، وفاعل الفعل الذي هو تخلف: الله
سبحانه، أو موسى، ومعناه: سنأتيك به ولن يتأخر عنك. و (لن
تخلفه) أي:
ستأتيه ولا مذهب لك عنه، وهو وعيد، وهذا المعنى في القراءة
الأولى أبين.
[طه: 125، 124]
أبو بكر عن عاصم (أعمى) و (أعمى) [طه/ 124، 125] مكسورتان مثل
حمزة والكسائي.
حفص عن عاصم بفتحهما.
__________
(1) السبعة 424.
(2) السبعة 424.
(5/249)
نافع بين الكسر والفتح. أبو عمرو بفتحهما،
وكذلك ابن كثير وابن عامر «1».
الإمالة وتركها جميعا حسنان في هذا، وقد ذكر فيما مرّ قبل.
وقال بعض المفسرين: لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا: أعمى عن
الحجّة، وقد كنت بصيرا بها، ويجوز أن يكون أعمى عن طرق الثواب.
[طه: 102]
اختلفوا في قوله عز وجل: ينفخ في الصور [طه/ 102] في الياء
والنون.
فقرأ أبو عمرو وحده: (يوم ننفخ) بالنون.
وقرأ الباقون: ينفخ بالياء على ما لم يسمّ فاعله «2».
قال أبو علي وجه من قال: ينفخ: ونفخ في الصور فصعق [الزمر/ 68]
ويوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا [النبأ/ 18].
ووجه النون: فنفخنا فيه من روحنا [التحريم/ 12] ونفخ الروح في
التنزيل يجيء حيث يراد الإحياء، قال: يوم ينفخ في الصور عالم
الغيب والشهادة [الأنعام/ 73] ويقوّي ذلك أيضا ما عطف عليه من
قوله: ونحشر [طه/ 102]، والصّور: جمع صورة في قول الحسن، مثل:
صوف وصوفة، وثوم وثومة، وفي قول مجاهد: آلة ينفخ فيها، قال:
ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض [الزمر/ 68]
كأنّهم أصابهم الصعق لما
__________
(1) السبعة 425.
(2) السبعة 424.
(5/250)
عاينوا من أهوال القيامة، وقال: ثم نفخ فيه
أخرى [الزمر/ 68] لأنهم دفعوا إلى حال كالموت في الشدّة وقال:
وخر موسى صعقا فلما أفاق [الأعراف/ 143] فقوله: ثم نفخ فيه
أخرى [الزمر/ 68] في المعنى كقوله: فلما أفاق.
[طه: 119]
اختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله: (وإنك لا تظمأ فيها)
[طه/ 119].
فقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر: (وإنك) بكسر الألف.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن
عاصم: وأنك مفتوحة الألف.
[طه: 112]
وكلهم قرأ: فلا يخاف ظلما [طه/ 112] بالألف على الخبر غير ابن
كثير فإنه قرأ: (لا يخف) على النهي «1».
من قال: وأنك ففتح الألف حملها على أنّ إن لك أن لا تجوع وإنّ
لك أنّك لا تظمأ فيها، فإن قلت: إن (إنّ) لا يجوز أن تحمل
عليها (أنّ)، ألا ترى أنك لا تقول: إنّ أنّك منطلق، فهلّا لم
يجز في ذلك العطف أيضا، قيل له: إنما لم يجز: إنّ أنّ، لكراهة
اجتماع حرفين متقاربي المعاني، فإذا فصل بينهما لم يكره ذلك،
ومثل ذلك إنّ مع اللام لا تقول: إنّ لزيدا منطلق، ولا: لأنّ
زيدا منطلق، ولو فصلت بينهما لجاز نحو: إن في ذلك لآيات وإن
كنا [المؤمنون/ 30] وإن في ذلك لآية وما كان أكثرهم [الشعراء/
67] فلذلك لم يجز: أنّ إنك، فإذا فصلت بينهما حسن، وجاز.
__________
(1) السبعة 424.
(5/251)
ومن كسر فقال: (وإنّك) قطع الكلام من الأول
واستأنف، وعلى هذين الوجهين حمل سيبويه الآية «1».
قال: وكلّهم قرأ: فلا يخاف ظلما بألف على الخبر، غير ابن كثير
فإنه قرأ: (فلا يخف) على النهي. المعنى: ومن يعمل من الصالحات
وهو مؤمن [طه/ 112] الجملة في موضع نصب على الحال، والعامل
فيها يعمل وذو الحال: الذكر، الذي في يعمل من (من)، وموضع
الفاء وما بعدها من قوله: يخاف أو (يخف) جزم، لكونه في موضع
جواب الشرط، والمبتدأ محذوف مراد بعد الفاء، والمعنى: فهو لا
يخاف، وكذلك الفاء في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه [المائدة/
95] ومن كفر فأمتعه قليلا [البقرة/ 126] ومن يؤمن بربه فلا
يخاف [الجن/ 13] أي: لا يخاف أن يؤخذ بذنب غيره، والأمر في (لا
يخف) جنس لأن المعنى: من يعمل من الصالحات، أي: شيئا من
الصالحات، أي: من يعمل من الصالحات فليأمن، لأنه لم يفرط فيما
وجب عليه، وكذلك: (فلا يخف)، واللفظ على النهي والمراد الخبر
بأن المؤمن الصالح لا خوف عليه.
[طه: 130]
اختلفوا في ضمّ التاء وفتحها من قوله تعالى: لعلك ترضى [طه/
130].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر والكسائي: (لعلّك ترضى) مضمومة
التاء.
وقرأ الباقون، وهبيرة عن حفص عن عاصم وعمرو بن الصباح عن حفص
عن عاصم: ترضى بفتح التاء.
__________
(1) انظر الكتاب: 1/ 463.
(5/252)
أبو عمارة عن حفص عن عاصم: (ترضى) مضمومة
التاء، والمعروف عن حفص عن عاصم بالفتح «1».
حجّة من فتح التاء قوله: ولسوف يعطيك ربك فترضى [الضحى/ 5].
وحجّة من قال: (ترضى) أنه قد جاء في صفة بعض الأنبياء: وكان
عند ربه مرضيا [مريم/ 55]. وكأن معنى ترضى لفعلك ما أمرت به من
الأفعال التي يرضاها الله، أو ترضى بما تعطاه من الدرجة
الرفيعة، وترضى: ترضى بما يعطيكه الله من الدرجة العالية
والدرجة المرضية.
[طه: 133]
اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: أولم تأتهم بينه [طه/
133].
فقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم: أولم تأتهم بالتاء.
وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالياء «2».
من قرأ: بالتاء فلتأنيث لفظة البيّنة، ومن قرأ بالياء فلأن
البيّنة والبيان معناهما واحد، كما أن الوعظ والموعظة، والصوت
والصيحة كذلك.
__________
(1) السبعة 425.
(2) السبعة: 425.
(5/253)
|