الحجة للقراء السبعة ذكر اختلافهم في سورة تبّت
[المسد: 1]
قرأ ابن كثير: تبت يدا أبي لهب [المسد/ 1] ساكنة الهاء.
وقرأ الباقون: أبي لهب محرّكة الهاء، ولم يختلفوا في فتح الهاء
من قوله: نارا ذات لهب [3]، وقرأ عاصم: وامرأته حمالة الحطب
[4] نصبا.
[المسد: 4]
وقرأ الباقون: حمالة الحطب رفعا «1».
يشبه أن يكون: لهب ولهب، لغتين كالسّمع والسّمع، والنّهر
والنّهر، واتفاقهم في الثانية على الفتح يدلّ على أنه أوجه من
الإسكان، وكذلك قوله: ولا يغني من اللهب [المرسلات/ 31].
فأما قوله: وامرأته حمالة الحطب فمن رفع حمالة جعله وصفا
لقوله: وامرأته ويدلّ على أن الفعل قد فعل، كقولك: مررت بزيد
ضارب عمرو أمس، فهذا لا يكون إلا معرفة، ولا يقدر فيه
الانفصال، كما يقدّر في هذا النحو إذا لم يكن الفعل واقعا.
وزعموا أن في حرف ابن مسعود: وامرأته حمالة للحطب
__________
(1) السبعة 700.
(6/451)
بالرفع، وفي حرف أبيّ: ومريئته حمالة
للحطب، والحرفان يدلّان على الرفع في حمّالة.
فأما ارتفاع امرأته* فيحتمل وجهين أحدهما: العطف على سيصلى
[المسد/ 3]، التقدير: سيصلى نارا هو وامرأته، إلا أنه حسن أن
لا يؤكد لما جرى من الفصل بينهما، ويكون حمالة الحطب على هذا
وجها لها، ويجوز في قوله: في جيدها [المسد/ 5] أن يكون في موضع
حال، وفيه ذكر منها يتعلق بمحذوف، ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن
ترفع قوله: وامرأته بالابتداء، ويكون حمالة الحطب وصفا لها،
وفي جيدها، خبرا لمبتدإ، ومعنى: في جيدها حبل من مسد أنها تصلى
النار، فكأن التقدير: سيصلى نارا، وهي أيضا: ستصلى نارا، ودلّ
قوله: في جيدها حبل من مسد أنها تصلاها أيضا، وجاء في التفسير:
أنها كانت تسعى بالنميمة، قال الشاعر: يصف امرأة «1»:
ولم تسع بين الحيّ بالحطب الرّطب يريد: أنها لم تسع بالنميمة،
وأما النصب في حمالة فعلى الذّم لها، وكأنها كانت اشتهرت بذلك،
فجرت الصفة عليها للذم لا للتخصيص والتخليص من موصوف غيرها
كقوله «2»:
__________
(1) عجز بيت لمجهول صدره:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة أي: لم تمش بالنمائم. وجعل
الحطب رطبا ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. انظر
تفسير القرطبي 20/ 239، واللسان مادة/ حطب/، تهذيب اللغة 4/
395.
(2) البيت لإمام بن أقرم وهو من شواهد سيبويه، وقبله:
(6/452)
ولا الحجّاج عيني بنت ماء تقلّب طرفها حذر
الصّقور لم يرد وصفه إياه بالجبن، ولكن ذمّه به وسبّه.
__________
طليق اللَّه لم يمنن عليه أبو داود وابن أبي كثير يقول: إنه
كان محبوسا فتحيل حتى استنقذ نفسه دون أن يمنّ عليه من حبسه
فيطلقه، ووصف الحجّاج بالجبن مع تسلّق الجفنين فجعل عينيه عند
تقليبه لهما حذرا وجبنا كعيني بنت ماء، وهي ما يصاد من طير
الماء. انظر سيبويه 1/ 254، وابن الشجري 1/ 344
(6/453)
ذكر اختلافهم في
سورة الإخلاص
[الاخلاص: 2 - 1]
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي أحد
بالتنوين، وقرأ أبو عمرو أحد. الله بغير تنوين، فيما حدّثني به
الخزاز عن محمد بن يحيى عن عبيد عن هارون عنه.
قال: وحدّثنا عبيد عن أبي عمرو: قل هو الله أحد ثم يقف، فإن
وصل قال: أحدن. الله وزعم أن العرب لم تكن تصل مثل هذا،
وحدّثني عبد اللَّه بن نصر بن علي عن أبيه «1»، قال: سمعت أبا
عمرو يقرأ: أحد* يقف، فإذا وصل ينوّنها، وزعم أنّ العرب لم تكن
تصل مثل هذا. وقال أبو زيد عن أبي عمرو أحد. الله لا يصل
بمقطوع. وقال عباس: سألت أبا عمرو فقرأ: أحد* ووقف الله الصمد.
حدّثني الجمال عن أحمد بن يزيد عن روح عن أحمد بن موسى عن أبي
عمرو: أحد. الله. وقال أبو عمرو: أدركت القرّاء كذلك يقرءونها:
أحد. الله، قال أبو عمرو: فإن وصلت نوّنت، هارون عن أبي عمرو:
أحد* لا ينوّن وإن وصل «2».
__________
(1) في السبعة: عبيد اللَّه بن علي عن علي بن نصر عن أبيه.
(2) السبعة 701.
(6/454)
من قرأ: أحدن الله فوجهه بيّن، وذلك أن
التنوين من أحد ساكن، ولام المعرفة من الاسم ساكن، فلما التقى
الساكنان، حرّك الأول منهما بالكسر، كما تقول: اذهب اذهب،
فتجري الساكن الأول بالكسر، ومثل ذلك قوله: فإما ترين من البشر
أحدا [مريم/ 26] حرّكت الياء التي هي علامة الضمير لسكونها،
وسكون الأولى من الثقيلة، ولولا التقاؤها معها لتركتها ساكنة
كما قال «1»:
إمّا تري شمطا في الرّأس لاح به من بعد أسود داجي اللّون فينان
وأما الألف المنقلبة عن الياء التي هي لام فقد حذفت لسكونها
وسكون ياء الضمير بعدها.
فأما من قال: أحد الله فحذف النون، فإن النون قد شابهت حروف
اللين في أنها تزاد كما يزدن، وفي أنها تدغم فيهنّ كما يدغم كل
واحد من الياء والواو في الأخرى، وفي أنها قد أبدلت منها الألف
في الأسماء المنصوبة، وفي الخفيفة، وأبدلت من الواو في صنعاني،
فلما شابهت حروف اللين ضروبا من هذه المشابهات، أجريت مجراها
في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو
والياء لذلك في نحو رمى القوم، ويغز والقوم ويرمي القوم، ومن
ثم حذفت ساكنة في الفعل كما حذف من نحو لم يك [الأنفال/ 53]،
فلا تك في مرية* [السجدة/ 23] فحذف في أحد الله لالتقاء
الساكنين كما
__________
(1) البيت لرومي بن شريك الضبّي. وقد أدرك الإسلام. وداجي
اللون: شديد السواد، والفينان. الشجر الكثير الأصول. انظر
النوادر/ 192، والمقتضب 2/ 199، واللسان مادة/ فني/.
(6/455)
حذفت هذه الحروف، وكما حذف في نحو: هذا زيد
بن عمرو في الكلام، واستمر ذلك فيه، وكثر حتى صار الأصل الذي
هو الإثبات مرفوضا فإن جاء في شعر، فكما يجيء في الشعر على
الأصل المرفوض، وكان حذفها في هذا الموضع حسنا إذ كانت زائدة
تسقط مرة وتثبت أخرى، وقد حذف النون التي هي من نفس الكلمة في
قولهم: وملآن، يريدون: من الآن، وإذا خفّف الهمزة على قول من
قال: الحمر، لأن اللام في تقدير السكون، فتحذف النون كما تحذف
إذا التقى مع ساكن، لأن هذا التحرّك في حكم السكون، وعلى هذا
قالوا: هلمّ، فحذفوا الألف من ها، لأن حركة اللام التي هي فاء
ليست لها، فهي في تقدير السكون وحذف في نحو قول الشاعر «1»:
أبلغ أبا دختنوس مألكة غير الذي يقال ملكذب وحذفت من قوله «2»:
__________
(1) مجهول القائل، ورواية البيت « ... غير الذي قد يقال
ملكذب».
وأبو دختنوس لقيط بن زرارة، ودختنوس سمّاها باسم بنت كسرى،
وقوله:
ملكذب يراد به «من الكذب».
انظر أمالي ابن الشجري 1/ 97، والخصائص 1/ 311، 3/ 275،
والمفصل 8/ 35، 9/ 100، واللسان مادة/ ألك/.
(2) عجز بيت للنجاشي وصدره:
فلست بآتيه ولا أستطيعه يقول بأنه اصطحب ذئبا في فلاة مضلّة لا
ماء بها، وزعم أن الذئب ردّ عليه فقال: لست بآت ما دعوتني إليه
من الصحبة ولا أستطيعه لأنني وحشي وأنت إنسي ولكن اسقني إن كان
ماؤك فاضلا عن ريّك.
والبيت من شواهد سيبويه 1/ 9، والخصائص 1/ 310، وابن
(6/456)
ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل فلما حذفت
هذه التي هي من نفس الكلمة، كانت الزيادة أجدر بالحذف، وقد جاء
حذفها في الشعر كثيرا، أنشد أبو زيد «1»:
حيدة خالي ولقيط وعليّ وحاتم الطائيّ وهّاب المئي وأنشد أيضا
«2»:
لتجدنّي بالأمير برّا وبالقناة مدعسا مكرّا إذا عطيف السّلمي
فرّا وقال «3»:
فألفيته غير مستعتب ولا ذاكر اللَّه إلّا قليلا وقال «4»: تذهل
الشيخ عن بنيه وتبدي عن خدام العقيلة العذراء
__________
الشجري 1/ 315، والخزانة 4/ 367، وهو الشاهد/ 539/ من شواهد
المغني.
(1) لامرأة من عقيل، سبق انظر 4/ 185 (عند الكلام على خلافهم
في التوبة/ 30).
(2) رجز لقائل مجهول ... والمدعس: الطعّان. سبق في 4/ 185 (عند
الكلام على التوبة/ 30.
(3) لأبي الأسود سبق انظر 2/ 454.
(4) لعبد اللَّه بن قيس. سبق انظر 4/ 186 (عند التوبة/ 30).
(6/457)
فعلى هذا حذف في قوله: أحد الله، فأما
إعراب اسم اللَّه من قوله: الله أحد فيجوز فيه ضربان من
الإعراب: من ذهب إلى أن هو كناية عن اسم اللَّه، كان قوله الله
مرتفعا بأنه خبر مبتدأ، ويجوز في قولك أحد ما يجوز في قولك:
زيد أخوك نائم. ومن ذهب إلى أن هو* كناية عن القصة والحديث،
كان اسم اللَّه عزّ وجلّ عنده مرتفعا بالابتداء، وأحد خبره،
وعلى مثل هذا قوله: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا
[الأنبياء/ 97]، إلا أن هي* جاء على التأنيث لأن التقدير اسما
مؤنثا «1»، وعلى هذا جاء: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى
القلوب [الحج/ 46]، فإذا لم يكن في التفسير مؤنث، لم يؤنث ضمير
القصة لقوله: إنه من يأت ربه مجرما [طه/ 74]، فأما قوله: أحد
فإنه اسم على ضربين: أحدهما: أن يكون اسما، والآخر صفة، فالاسم
نحو: أحد وعشرون يريد الواحد، والآخر: أن يكون صفة، كبطل وحسن،
وذلك كقول النابغة «2»:
كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد وكذلك
قولهم: واحد يكون على ضربين: يكون اسما كالكاهل والغارب، ومنه
قولك في العدد: واحد، اثنان، ويكون وصفا كقوله «3»:
__________
(1) كذا الأصل والوجه أن تكون بالرفع.
(2) روى الأصمعي: «بذي السليل» وهو موضع. وزال النهار: انتصف.
والمستأنس: الذي يخاف الناس. وبذي الجليل: اسم موضع ينبت فيه
الجليل وهو الثمام. والوحد: الفرد الذي لا شيء معه. ديوانه/ 6.
(3) عجز بيت للكميت وصدره:
(6/458)
وقد رجعوا كحيّ واحدينا فهذا فاعل صفة وعلى
هذا قالوا: على حدة، وعلى وحدة، وقد جمعوا أحدا الذي هو صفة،
على أحدان، وهذا أحد الذي هو صفة جمعوه على التكسير، كما جمعوا
واحدا على التصحيح في قوله:
كحيّ واحدينا وهذا جمع لأحد الذي يراد به الرفع من الموصوف،
والتعظيم له، وأنه منفرد عن الشبه والمثل وذلك قولهم: أحد
وأحدان، شبّهوه بسلق وسلقان، ونحوه قال الشاعر «1»:
يحمي الصّريمة أحدان الرجال له صيد ومجترئ بالليل همّاس
وقالوا: هو إحدى الإِحَد: إذا رفع منه وعظّم، قال الشاعر «2»:
عدّوني الثّعلب فيما عدّدوا
__________
فضمّ قواصي الأحياء منهم انظر التاج 2/ 525، والمفصل 6/ 32،
واللسان (مادة وحد).
(1) لأبي ذؤيب، أو لمالك بن خويلد. وفي الديوان: «ومستمع
بالليل هجّاس».
والصريمة: موضع. وأحدان الرجال: ما انفرد من الرجال. وهجاس:
يهجس ويفكر في نفسه. انظر المفصل 6/ 32، اللسان/ وحد/ شرح
السكري 1/ 227.
(2) من رجز للمرّار الفقعسي وكان قصيرا مفرط القصر ضئيل الجسم
فوصف نفسه قائلا: حسبوني من عداد الثعالب عند لقاء الأبطال
أروغ عنهم ولا أكافحهم. واستثاروا: هيّجوا وأنهضوا. وإحدى
الأحد: أي الأمر المشتدّ.
أو واحد لا نظير له. ورواية الأغاني: عدّوني الثعلب عند العدد.
انظر الأغاني 10/ 324، والخزانة 3/ 293.
(6/459)
حتى استثاروا بي إحدى الإِحَد ليثا هزبرا
ذا سلاح معتدي قال: يقال: هو إحدى الإِحَد، وواحد الأحدين،
وواحد الآحاد. فأما وصل أحد وتحريك التنوين فالكسر في أحدن
الله القياس الذي لا إشكال فيه، وأما الوصل على السكون نحو أحد
الله فإنه يشبّه بالفواصل، وقد تجري الفواصل في الإدراج مجراها
في الوقف، فتتبع الحروف التي تتبع في الوقف في الإطلاق، فكذلك
الفواصل، وعلى هذا قال من قال: فأضلونا السبيلا ربنا آتهم،
[الأحزاب/ 67، 68]، وما أدراك ماهيه نار [القارعة/ 10، 11] ...
وعلى الإسكان ننشد نحو «1»:
إذا ما انتسبت له أنكرن وجار أجاوره «2» وليس البيت، وإن
استكمل قافيته، وما يقتضيه من حروف الروي، وما يتبعه بمنقطع
مما بعده، ألا ترى أنّ فيه التضمين، وليس التضمين بعيب، وإن
كان غيره أحسن منه، وفيه نحو «3»:
__________
(1) عجز بيت للأعشى وصدره:
ومن شانئ كاسف وجهه سبق انظر 5/ 34.
(2) من بيت للفرزدق وتمامه:
فأصبحت أعطى النّاس للخير والقرى عليه لأضياف وجار يجاوره انظر
ديوانه 1/ 348.
(3) للربيع بن ضب والبيتان:
(6/460)
ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب أخشاه
فهذا مبني على وصل البيت الأول بالبيت الثاني، ألا ترى أنه قد
نصب الذئب كما نصب نحو قوله: والظالمين أعد لهم عذابا أليما
[الإنسان/ 31] بعد قوله: يدخل من يشاء في رحمته [الإنسان/ 31]،
فكذلك الفواصل إذا أدرجت ووصلت بما بعدها، ومما يؤكد ذلك قطعهم
لهمزة الوصل في أنصاف البيوت كقوله «1»:
ولا يبادر في الشتاء وليدنا القدر ينزلها بغير جعال فهذا لأن
النصف الثاني من الأول كالبيت الثاني من الأول، ألا ترى أن فيه
التصريع والخرم «2» كما يكون في البيوت التامّة التي ليست
بأنصاف، وكذلك أحد الله لما كان أكثر القراء فيما حكى أبو عمرو
__________
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا والذئب
أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الريح والمطرا سبق انظر 4/ 303.
(1) للبيد وليس في ديوانه. وهو من شواهد سيبويه. يقول: إذا
اشتد الزمان فوليدنا لا يبادر القدر حسن أدب، والجعال خرقة
تنزل بها القدر. انظر سيبويه 2/ 274.
(2) التصريع: هو تغيير عروض البيت رويا ووزنا. والخرم: هو
تغيير يطرأ على التفاعيل في البيت. انظر الدروس العروضية
للغلاييني.
(6/461)
على الوقف، أجراه في الوصل مجراه في الوقف
لاستمرار الوقف عليه، وكثرته على ألسنتهم،
[الاخلاص: 4]
فأما قوله: ولم يكن له كفؤا أحد [الإخلاص/ 4] فإن له* ظرف غير
مستقر، وهو متعلق بكان. وكفؤا* منتصب بأنه خبر مقدّم، كما كان
قوله: وكان حقا علينا نصر المؤمنين [الروم/ 47] كذلك. وزعموا
أن من البغداديين من يقول أن في قوله:
ولم يكن له كفؤا أحد أن في يكن ضمير مجهول، وقوله: كفؤا* ينتصب
على الحال، والعامل فيها له، وهذا إذا أفردته عن يكن كان
معناه: له أحد كفؤا، وإذا حمل على هذا لم يسغ. ووجه ذلك أنه
محمول على معنى النفي. وكأنه: لم يكن أحد له كفؤا، كما كان
قولهم: ليس الطيب إلا المسك، محمولا على معنى النفي، ولولا
حمله على المعنى لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: زيدا لا منطلق،
لم يكن كلاما، فكما أن هذا محمول على المعنى، كذلك له كفؤا أحد
على المعنى، وعلى هذا جاز أن يكون أحد فيه الذي يقع لعموم
النفي لولا ذلك لم يجز أن يقع أحد هذا في الإيجاب، فإن قلت:
أفيجوز أن يكون قوله له* عندكم حالا، على أن يكون المعنى: ولم
يكن كفؤا له أحد: فيكون له صفة للنكرة، فلما قدّم صار في موضع
حال كقوله «1»:
لعزّة موحشا طلل
__________
(1) صدر بيت لكثير عزّة- وعجزه:
يلوح كأنّه خلل من شواهد سيبويه 1/ 276، وهو الشاهد رقم 132 و
802 و 1119 من شواهد المغني وفيه: «لمية موحشا طلل»، والخزانة
1/ 531، وفي ديوان كثير 2/ 210 وينسب لذي الرمّة وليس في
ديوانه. والخلل: ج خلّة وهي البطانة المنقوشة التي يلفّ بها
جفن السيف.
(6/462)
فإن سيبويه قال: إن ذلك كلام يقلّ في
الكلام، وإن كثر في الشعر، فإن حملته على هذا على استكراه كان
غير ممتنع، والعامل في قولك: له* إذا كان حالا يجوز أن يكون
أحد شيئين: أحدهما يكن* والآخر: أن يكون ما في معنى كفء من
معنى المماثلة. فإن قلت: إن العامل في الحال إذا كان معنى لم
يتقدّم الحال عليه، فإن له* لما كان على لفظ الظرف، والظرف
يعمل فيه المعنى وإن تقدّم عليه كقولك:
أكل يوم لك ذنوب، كذلك يجوز في هذا الظرف ذلك من حيث كان ظرفا،
وفيه ضمير في الوجهين يعود إلى ذي الحال، وهو: كفؤا*.
وأما كفؤا* قال أبو عبيدة: كفء وكفيء وكفاء واحد «1»، والدلالة
على الكفاء قول حسان «2»:
وجبريل رسول اللَّه منّا وروح القدس ليس له كفاء والكفيء قول
الآخر «3»:
أما كان عبّاد كفيئا لدارم بلى ولأبيات بها الحجرات
__________
(1) مجاز القرآن 2/ 316.
(2) انظر ما سبق 2/ 176.
(3) البيت الرجل من الحبطات وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم
وكان قد خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن
زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق:
بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع وتنكح في أكفائها الحبطات فأجابه
الرجل من الحبطات فقال: أما كان ... البيت. وعباد يريد:
بني هاشم. انظر الكامل 1/ 64، و 2/ 68، وتفسير الطبري 26/ 121.
(6/463)
وحكى غيره: كفؤ، وكفء، والأصل: الضم فخفّف
مثل:
طنب وطنب، وعنق وعنق، فإن خفّفت الهمزة من كفء احتمل أمرين:
أحدهما: أن يخفّفه على قول من قال: الخب في السموات والأرض
[النمل/ 25]، والآخر: أن تخفّفه على قول من قال:
الكماة والمرأة. فإن خفّفت على الوجه الأول قلت: كفا أحد، وإن
وقفت عليه قلت: كفا، الألف فيه بدل من التنوين، وإن خفّفت على
القول الثاني قلت: كفا أحد أيضا، فإن وقفت على هذا قلت: كفا
ولا خلاف في أن الألف بدل من التنوين في موضع النصب، كما
يختلفون إذا كان في موضع الرفع والجرّ، وإن خفّفت كفؤا* الذي
هو على وزن عنق، قلت: كفوا فأبدلت من الهمزة الواو كما أبدلتها
إذا خفّفت نحو: جون، وتودة، وإنما أبدلت منها الواو لأنك لم
تخل في التخفيف من أن تبدل أو تجعلها بين بين، فلم يجز أن
تجعلها بين بين، لأنه يلزم أن تجعل بين الألف والهمزة، والألف
لا يكون ما قبلها حرفا مضموما، فكذلك ما قرب منها لم يجز أن
يكون ما قبلها إلا مفتوحا، ألا ترى أنه لما قرب من الساكن لم
يجز أن يبتدأ بها، كما لم يجز أن يبتدأ بالساكن، فلما لم يجز
ذلك أبدل الواو منها كما أبدل منها الياء في نحو: مير،
وغلاميبيك «1»، لمثل ما ذكرناه في الواو، فإن وقفت على هذا
قلت: كفوا وكانت الألف فيه كالألف في قولك: نصبت عنقا، فإن
خفّفت الحركة قلت: كفوا* فأسكنت الفاء، وأبقيت الواو، كما كان
مع إشباع الحركة، فإن قلت: هلّا رددت الهمزة مع الإسكان، لأن
الضمة التي أوجبت قلبها واوا قد زالت؟ قيل: قرّرت الواو، ولم
تردّ الهمزة لأن الحركة في النيّة، فلمّا كانت في النيّة، كانت
__________
(1) انظر سيبويه 3/ 543 (ت. هارون). والمئرة: الذحل والعداوة.
(6/464)
بمنزلة الثابتة في اللفظ، كما كانت في نحو:
لقضوا الرجل، وفي قولهم: رضي بمنزلة الثانية في اللفظ، ولذلك
رفض جمع رداء وكساء على فعل، لأنه لو جمع عليه كانت الضمّة
المنويّة بمنزلة الثابتة في اللفظ، فإن قلت: فهلّا كان التخفيف
على هذا ولم يكن التخفيف على كفا، لأن الحركة في النيّة، قيل:
إن التخفيف لما كثر استعمالهم له وإجراؤه عليه، صار كأنه لغة
بنفسه، كما أن كفاء وكف ءا كذلك، وكذلك قالوا: لبوة ولباة،
فهذا على المراة، فلذلك خفّف على حدّ ما خفّف الخبء [النمل/
25] ونحوه، فنقول: إذا أشبعت ولم تخفّف: كفؤا* وإذا خفّفت
كفوا* تثبت الواو في الوجهين جميعا، كما تثبت في جون والتودة،
والقراءات التي ذكرناها لا تخرج عن هذه الوجوه التي كتبناها.
(6/465)
ذكر اختلافهم في
سورة الفلق
[الفلق: 5]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي:
حاسد [5] بفتح الحاء، قال: وخبّرني الجمال عن أحمد بن يزيد عن
روح عن أحمد بن موسى عن أبي عمرو: حاسد بكسر الحاء «1».
قال أبو علي: التفخيم والإمالة في هذا النحو حسنان.
ذكر اختلافهم في سورة الناس
[الناس: 1]
كلهم قرأ: الناس [1] غير ممالة: إلا ما روى الحلواني عن أبي
عمر الدوري عن الكسائي أن قراءته كانت بإمالة النون في الناس
في موضع الخفض، ولا يميل في الرفع والنصب «2».
قال أبو علي: القول في ذلك: أن إمالة الناس في الآية لا
__________
(1) السبعة 703.
(2) السبعة 703.
(6/466)
إشكال في حسنه وجوازه، وذلك أنه لو كان
مكان الناس، نحو: المال والعاب، لجازت إمالة الألف فيه لكسرة
الإعراب، فإذا كان الناس كان أحسن، لأن هذا الحرف قد أميل في
الموضع الذي لا يوجب القياس إمالته فيه، كما أميل: الحجّاج،
إذا كان علما، لأنهما كثرا في الكلام واستجيز ذلك فيهما
للكثرة.
فإذا أميل الناس* حيث لم يكن معه شيء يوجب الإمالة للكثرة، فأن
يمال لكسرة الإعراب، أجدر، والناس* أصله: الأناس، فحذفت الهمزة
التي هي فاء، ويدلّك على ذلك الأنس والأناس، فأما قولهم في
تحقيره: نويس، فإن الألف لمّا كانت ثانية زائدة أشبهت ألف
فاعل، فكما قلبت واوا لشبهه ألف فاعل، كذلك جازت الإمالة فيه
في المواضع التي أميل الاسم فيه لذلك «1».
تمّ الجزء الرابع وهو آخر كتاب الحجة، والحمد للَّه ربّ
العالمين، وصلواته على نبيّه محمد وعلى أهله وسلامه، وذلك في
المحرّم يوم عاشوراء من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة «2»
__________
(1) في هامش الأصل- ابن غلبون- ما نصّه: قابلت جميعه فصحّ إن
شاء اللَّه.
(2) [كما تم بحمد اللَّه وحسن توفيقه التعليق على الكتاب،
واستكمال تحقيقه ومراجعته، وتصحيحه، والنظر فيما قام به الإخوة
الزملاء: الأساتذة أحمد دقاق، وبشير جويجاتي، وبدر الدين
قهوجي، جزاهم اللَّه خيرا، وذلك بحسب الوسع والطاقة، وجل
المنزه عن الخطأ والسهو. وصلى اللَّه وسلم على خاتم المرسلين،
وصفوة أنبيائه (كتبه عبد العزيز رباح)] يتلوه الفهارس العامة
للكتاب.
(6/467)
|