المفردات في غريب القرآن مقدّمة المحقّق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله العليم
الوارث، الحكيم الباعث، والصّلاة والسّلام على خير الخلائق،
محمد الذي جاء بأفضل الطرائق، وهدى لأقوم المناهج.
وبعد، فعلم التفسير من أشرف العلوم، وهو أولى ما يعكف عليه
الباحث، ويلزمه الدارس، والمصنّفات فيه لا تدخل تحت حدّ وحصر،
منها المطبوع، والمخطوط، والمفقود، ومن أجلّ ما صنّف في غريب
القرآن كتاب «المفردات» للراغب الأصفهاني.
لذا عملنا على تحقيقه وضبطه، وإخراجه بصورة تناسب مكانته
العلمية، وهيئة تلائم صدارته العملية، إذ أنّ النسخ المطبوعة
مليئة بالأخطاء، ومشحونة بالتصحيفات والتحريفات، وفيها أحياناً
نقص إمّا في الأبواب، وإمّا في الآيات، وإمّا في الأشعار.
وبدأنا أولًا بدراسة عن المؤلّف وحياته، وكتابه، وأتينا- بحمد
الله- بما لم يأت به أحد قبلنا فيما يتعلق بالمؤلف وترجمته. ثم
قمنا بتحقيق الخطوات التالية:
1- ضبط نص الكتاب، ومقابلته على عدة نسخ.
2- شكل الكلمات التي تحتاج إلى شكل.
3- تخريج الآيات القرآنية، وذكر أرقامها وسورها. وجعلناها في
المتن تخفيفاً للحواشي.
4- تخريج القراءات القرآنية، ونسبة كلّ قراءة إلى قارئها،
وتبيين القراءة الصحيحة من الشاذة.
5- تخريج الأحاديث والآثار من كتب السّنّة، وكنّا، غالباً نذكر
درجتها من الصحة والضعف.
6- نسبة الأبيات الشعرية لقائليها، وبيان محلها في كتب اللغة
والتفسير، وضبط الأبيات، إذ قلّ ما وجدناه منها صحيحاً.
7- ضبط الأمثال والأقوال العربية، وبيان محالها في كتب اللغة.
(1/5)
8- ترجمة مختصرة للأعلام الواردة، وذكر
أماكن ترجمتها.
9- وفي الختام قمنا بعمل الفهارس العلمية للكتاب، لتسهّل
للباحث الاطلاع والرجوع.
ونسأل الله التوفيق والسداد، والقبول والصواب، وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين.
صفوان داودي المدينة المنورة- شعبان 1408 هـ
(1/6)
ترجمة المؤلف
اسمه ونسبه «1» :
اشتهر الراغب الأصفهاني بلقبه، فلذلك كثر الاختلاف في اسمه،
والأشهر أنّ اسمه الحسين، وعليه مشى جلّ من ترجم له.
فقيل: الحسين بن محمد بن المفضل «2» ، وقيل: الحسين بن مفضل بن
محمد «3» .
وقيل: الحسين بن الفضل «4» ، وقيل: المفضل بن محمد «5» .
شيوخه وتلامذته:
لم تذكر المصادر المتوفرة بأيدينا شيئاً عمّن تلقّى عنه الراغب
علومه وثقافته، كما لم تذكر شيئاً عن تلامذته وطلابه، والظاهر
أنّ المؤلف كان مغموراً يحبّ الخمول كما يتضح لنا من شعره كما
سيأتي.
لكن الذي يغلب على ظني ويترجح عندي أنّه قرأ العربية على أبي
منصور الجبان،
__________
(1) انظر: ترجمته في بغية الوعاة للسيوطي 2/ 297، وتاريخ حكماء
الإسلام للبيهقي ص 112، ونزهة الأرواح وروضة الأفراح للشهرزوري
2/ 44، وطبقات المفسرين للداوودي 2/ 329، والأعلام للزركلي 2/
255، ومعجم المؤلفين 4/ 59، وهدية العارفين ص 3110، وكشف
الظنون 1/ 36، ومفتاح السعادة 1/ 183، والبلغة في تاريخ أئمة
اللغة للفيروزآبادي ص 69، وسير أعلام النبلاء للذهبي 18/ 120،
والوافي للصفدي 13/ 45.
(2) وعليه مشى صاحب الأعلام وصاحب معجم المؤلفين والذهبي
والصفدي.
(3) وعليه مشى صاحب فهرس الخزانة التيمورية 3/ 108.
(4) وعليه مشى صاحب نزهة الأرواح.
(5) وعليه مشى السيوطي والداوودي.
(1/7)
واسمه محمد بن علي بن عمر، قال عنه ياقوت:
أحد حسنات الري، وعلمائها الأعيان، جيّد المعرفة باللّغة،
باقعة الوقت، وفرد الدّهر، وبحر العلم، وروضة الأدب «1» .
وقال القفطي: الفاضل الكامل العلامة، شيخ وقته في اللغة
واستفادتها، وله رواية «2» .
وقال أيضاً: هو إمام في اللغة، مبرز في زمانه «3» .
وكان الصاحب يعزّه ويجلّه. وله مناظرة مع ابن سينا.
صنّف كتاب «الشامل» في اللغة، كثّر فيه الألفاظ اللغوية، وقابل
الشواهد، فهو في غاية الإفادة من حيث الكثرة، وله أيضاً كتاب
كبير سماه: «لسان العرب» استوفى فيه اللغة غاية إمكانه، لكنه
مات قبل إخراجه من المسوّدة.
وقال السيوطي: الشامل في اللغة، قرئ عليه سنة ستّ عشرة
وأربعمائة «4» .
والذي حملني على هذا الظن أنّه أولًا: كان معاصراً للراغب، وفي
طبقةٍ قبل طبقته، إذ أنه أدرك الصاحب بن عباد، والراغب لم
يدركه مجالسةً. ثانياً: أنّ الراغب نقل عنه باسمه في كتابه
«المفردات» «5» .
فأظنه حضر دروسه في كتاب «الشامل» ، لأنهما كانا في أصبهان.
والله أعلم بالصواب.
مؤلفاته:
خلّف الراغب تراثاً كبيراً من المؤلفات، وحريّ به ذلك، إذ أنّه
عاش في القرن الرابع الهجري وهو قرن الازدهار العلمي، والنهضة
والعلمية. فمنها:
1- كتاب المفردات في غريب القرآن. وسنعقد له باباً خاصاً.
2- تفسير القرآن الكريم. وبعضهم يسميه «جامع التفاسير» ، وهو
خطأ، وإنّما اسمه:
«جامع التفسير» ، وفرق واضح بين الاسمين.
وقد ذكره الراغب نفسه في كتابه: «حلّ متشابهات القرآن» عند
كلامه على سورة الكافرون، فقال: إنا قد أجبنا في «جامع
التفسير» عن ذلك بأجوبة كثيرة «6» .
__________
(1) انظر: معجم الأدباء 18/ 260.
(2) انظر: إنباه الرواة 3/ 194.
(3) انظر: إنباه الرواة 4/ 176.
(4) انظر: بغية الوعاة 1/ 185.
(5) انظر: مادة (دلى) .
(6) انظر: حل متشابهات القرآن- خ، ص 280.
(1/8)
وذكره صاحب كشف الظنون، فقال: وهو تفسير
معتبر في مجلد، أوله: الحمد لله على آلائه ... إلخ.
أورد في أوله مقدّمات نافعة في التفسير، وطرزه «1» أنّه أورد
جملًا من الآيات، ثم فسّرها تفسيراً مشبعاً، وهو أحد مآخذ
أنوار التنزيل للبيضاوي «2» .
- وقد طبعت مقدّمة التفسير مع تفسير سورة الفاتحة وأوائل سورة
البقرة بتحقيق د. أحمد فرحات في دار الدعوة في الكويت.
وقال الفيروزآبادي: له التفسير الكبير في عشرة أسفار، غاية في
التحقيق.
فإذا أردنا أن نجمع بين قول صاحب كشف الظنون وبين قول
الفيروزآبادي فهذا يعني أنّ للراغب تفسيرين: أحدهما كبير،
والآخر صغير.
أما تفسيره فتوجد منه نسخة خطية في مكتبة ولي الدين جار الله
في تركيا، وفيها الجزء الأول من أول المقدمة وينتهي بتفسير آخر
سورة المائدة، ويقع في 350 ورقة، ولم نجد بقيّته إلى الآن.
واطلعت على تفسير آخر للقرآن مختصر منسوب للراغب الأصفهاني،
واسمه:
مختصر تفسير متشابهات القرآن، ومنه نسخة مخطوطة في اليمن في
مكتبة مسجد صنعاء، في 165 ورقة، لكنه يحتاج لتأكيد النسبة.
3- درّة التأويل في متشابه التنزيل. وأظن أن اسمه أيضاً: درة
التأويل في حل متشابهات القرآن.
فكثير من الباحثين جعلوهما كتابين، أي: درة التأويل كتاب، وحل
متشابهات القرآن كتاب، وهما في الحقيقة كتاب واحد.
فنجد مثلًا حاجي خليفة ذكر كتاب «درّة التأويل في متشابه
التنزيل» في الكشف 1/ 439، وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي 3/
505.
قال حاجي خليفة: وذكر الراغب أنّه صنفه بعد ما عمل كتاب
«المعاني الكبير» وأملى كتاب «احتجاج القراء» .
ونجد أنّ الراغب ذكر ذلك في مقدمة كتابه «حل متشابهات القرآن»
«3» الذي سموه: درّة التأويل.
__________
(1) أي: أسلوبه.
(2) انظر: كشف الظنون 1/ 477.
(3) انظر: حل متشابهات القرآن- خ ص 1 (مخطوط راغب باشا) .
[.....]
(1/9)
وذكر بروكلمان أيضاً كتاب «حل متشابهات
القرآن» فجعله غير الأول، وقال:
وهو مخطوط في مكتبة راغب باشا رقم 180، بينما قال: إنّ كتاب
درّة التأويل مخطوط في مكتبة أسعد أفندي في جامع السليمانية،
والمتحف البريطاني.
وقد اطلعت على نسخة المتحف البريطاني فإذا هي عينها كتاب «حلّ
متشابهات القرآن» الموجود في مكتبة راغب باشا.
وذكر عدد من الباحثين أنّ كتاب «درّة التنزيل وغرّة التأويل»
المطبوع، والمنسوب للخطيب الإسكافي هو نفس كتاب الراغب، وهذا
لا يبعد، ففي مقارنة الكتابين وجدنا تطابقاً كاملا بينهما عدا
الصفحة الأولى فيها بعض الاختلاف. والذي يترجح عندي أن الكتاب
للراغب لكن الصفحة الأولى وضعت خطأ عليه، أو سهواً، أو
تعمّداً، إذ ذكر إبراهيم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي
الفرج الأردستاني أنّ هذه المسائل أملاها أبو عبد الله محمد بن
عبد الله الخطيب في القلعة الفخرية إملاءً، كما ذكر في المقدمة
أنّ له- أي الخطيب- «كتابا في الحروف المقطعة» ، وهذا لم ينسبه
أحد للراغب. والله أعلم بالصواب.
4- تحقيق البيان في تأويل القرآن. ذكره الراغب في مقدمة كتابه
«الذريعة إلى مكارم الشريعة» »
، وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي 5/ 211، وحاجي خليفة في كشف
الظنون 1/ 377.
وجعله بروكلمان كتابا في الأدب، وذكر أنه مخطوط في مشهد 1/ 24،
56.
وقد اطّلعت على نسخة مخطوطة منه مصورة في أم القرى من كتابخانه
آستانة- قدس- في مشهد، وبعد المقارنة تبين أنه كتاب الاعتقاد
للراغب، وليس كتاب تحقيق البيان المذكور.
وعلى هذا يعتبر هذا الكتاب حاليا من المفقودات.
5- احتجاج القراء. ذكره الراغب في مقدمة حل متشابهات القرآن
«2» ، وذكره حاجي خليفة 2/ 15.
6- المعاني الأكبر. ذكره الراغب في مقدمة حل متشابهات القرآن،
وحاجي خليفة 2/ 1729.
__________
(1) انظر: الذريعة ص 2.
(2) انظر: ورقة 1.
(1/10)
7- الرسالة المنبهة على فوائد القرآن.
ذكرها الراغب في مقدمة المفردات، ولم نعثر عليها. وذكرها أيضا
في مادة: حرف.
8- محاضرات الأدباء ومحاورات البلغاء والشعراء. وهو كتاب ذو
شهرة كبيرة في ميدان الأدب، مطبوع في مجلدين كبيرين، بمكتبة
الحياة- في بيروت، لكنّه مليء بالأخطاء المطبعية والتصحيفات
والتحريفات في الأعلام والأشعار.
ولأهمية هذا الكتاب كان يهدى إلى الوزراء والأمراء، فقد ذكر
ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء ص 369 أنّ أمين الدولة ابن
التلميذ أهدى كتاب المحاضرات إلى الوزير ابن صدقة، وكتب معه:
لمّا تعذر أن أكون ملازما ... لجناب مولانا الوزير الصاحب
ورغبت في ذكري بحضرة مجده ... أذكرته بمحاضرات الراغب
9- مجمع البلاغة، ويسمّى أفانين البلاغة. طبع مؤخّرا في عمّان،
بمكتبة الأقصى، بتحقيق الدكتور عمر الساريسي، وبذل فيه جهدا
طيبا لكن فيه كثير من الأشعار المشهورة لم يعرف نسبتها.
10- أدب الشطرنج. ذكره بروكلمان 5/ 211، ولم نعثر عليه.
11- مختصر إصلاح المنطق. توجد منه نسخة مخطوطة في مركز البحوث
الإسلامية في جامعة أم القرى برقم 316، وهو مصوّر عن نسخة
المكتبة التيمورية رقم 137.
12- رسالة في آداب مخالطة الناس. مخطوطة ضمن مجموعة رسائل
للراغب برقم 3654 بمكتبة أسعد أفندي في تركيا.
13- رسالة في الاعتقاد. وقد قام بتحقيقها الطالب أختر جمال
محمد لقمان، ونال بها شهادة الماجستير في جامعة أم القرى بمكة
المكرمة قسم العقيدة، عام 1401- 1402 هـ، والمشرف على الرسالة
الدكتور محيي الدين الصافي، وقد اطلعت عليها، وهي مطبوعة على
الآلة الكاتبة في 400 صفحة. ولكن الطالب لم يأت بدراسة وافية
عن الراغب.
14- الذريعة إلى مكارم الشريعة. مطبوع عدة طبعات، آخرها بتحقيق
الدكتور محمد أبو اليزيد العجمي، وقد خلط في مقدمته بين الراغب
وعالم آخر، فقال عن الراغب: ذكر أنه ولي القضاء، وأقام ببغداد
خمس سنين، واستقر بمرسية، واستقضى فيها ولما كانت وقعة قتندة
بثغر الأندلس شهدها غازيا، واستشهد فيها. ا. هـ.
(1/11)
وهذه الترجمة ليست للراغب بل هي لابن
سكّرة، واسمه الحسين بن محمد بن سكرة توفي 514 هـ، فظنّه
الراغب؟!.
قال حاجي خليفة: قيل: إنّ الإمام الغزالي كان يستصحب كتاب
الذريعة دائما ويستحسنه لنفاسته.
أقول: وللغزالي أيضا كتاب اسمه «الذريعة إلى مكارم الشريعة»
ولعلّه تأثر بكتاب الراغب فسمّاه باسمه، أو لعلّ المراد أن
الغزالي يستصحب كتابه هذا معه في الأسفار، أو هو نفس كتاب
الراغب، ولكثرة ملازمته له ظنّ أنه للغزالي. والله أعلم
بالصواب «1» . والغزالي متأثر بكتب الراغب، ففي كتاب معارج
القدس ينقل فصلا كاملا من كتاب «تفصيل النشأتين» للراغب، وهو
تظاهر العقل إلى الشرع وافتقار أحدهما إلى الآخر.
15- تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين. ألّفه للوزير أبي العباس
الضبي، وقد طبع عدّة طبعات، آخرها: طبع دار الغرب الإسلامي
بتحقيق الدكتور عبد المجيد النجار، عام 1988 م 1408 هـ. ولم
يأت فيه بشيء يذكر عن الراغب وحياته.
16- الإيمان والكفر. ذكره صاحب هدية العارفين 1/ 311، ولم نجد
عنه خبرا.
17- رسالة في مراتب العلوم. مخطوطة ضمن رسائل الراغب بمكتبة
أسعد أفندي رقم 3654، وتقع في سبع ورقات.
18- كتاب كلمات الصحابة. ذكره البيهقي في تاريخ حكماء الإسلام
ص 112.
19- أصول الاشتقاق. ذكره الراغب في المفردات، انظر مادة: جدر.
20- رسالة في شرح حديث «ستفترق أمتي» والجمع بين الروايتين
للحديث الأولى: [كلها في النار إلا واحدة] والثانية: [كلها في
الجنة إلا واحدة] .
ذكره الراغب في كتاب الذريعة ص 132.
21- كتاب شرف التصوف ... ذكره الراغب في تفسيره ورقة 42 و 50.
22- تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد. ذكره في مقدمة
المفردات، وفي تفسيره ورقة 54.
23- رسالة تحقيق مناسبات الألفاظ. ذكره في مقدمة المفردات.
__________
(1) انظر: كشف الظنون 1/ 826، ومقدمة إحياء علوم الدين تحقيق
د. طبانة ص 22.
(1/12)
كتبٌ نُسبت إليه:
- وجدت في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة كتابا باسم «أطباق
الذهب» نسب للراغب الأصفهاني، عارض فيه «أطواق الذهب»
للزمخشري. ومنه نسختان خطيتان فيها.
وواضح أنه ليس للراغب، لأنّ الراغب توفي قبل الزمخشري بقرن،
والصحيح نسبة الكتاب لعبد المؤمن بن هبة الله الأصفهاني.
ثم وجدته مطبوعا بهذه النسبة بمطبعة بولاق بمصر، ومنه نسخة في
مكتبة الحرم المدني الشريف.
وصفه وخُلقه:
قال عنه الذهبي: العلّامة الماهر، والمحقق الباهر، كان من
أذكياء المتكلمين «1» .
وقال البيهقي وتبعه الشهرزوري: كان من حكماء الإسلام، وهو الذي
جمع بين الشريعة والحكمة «2» ، وكان حظّه من المعقولات أكثر
«3» .
وقال الصلاح الصفدي: أحد أعلام العلم، ومشاهير الفضل، متحقق
بغير فنّ من العلم وله تصانيف تدل على تحقيقه وسعة دائرته في
العلوم، وتمكّنه فيها «4» .
- ووجد على نسخة مخطوطة من كتاب الذريعة: كان حسن الخلق
والخلق، وكان يستعبد الناس حسن محاورته بهم «5» .
- وجاء على الورقة الأخيرة من مخطوطة حل متشابهات القرآن: تصدر
للوعظ والتدريس والتأليف، وله مصنفات كثيرة جليلة، ومناظرات
عجيبة «6» .
وقال الخوانساري عنه: الإمام، الأديب، والحافظ العجيب، صاحب
اللغة والعربية، والحديث والشعر والكتابة، والأخلاق والحكمة
والكلام، وعلوم الأوائل، وغير ذلك، وفضله أشهر من أن يوصف،
ووصفه أرفع من أن يعرف، وكفاه منقبة أنّ له قبول العامة
والخاصة، وفيما تحقّق له من اللغة خاصة، وكان من الشافعية كما
استفيد لنا من فقه محاضراته «7» .
ثم قال: ذكره صاحب «معجم الأدباء» كما نقل عنه بهذه الصورة:
الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني، أحد أعلام العلم بغير فنّ من
العلوم أدبيّها وحكميّها، وله كتاب تفسير القرآن، قيل: وهو
كبير.
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 120.
(2) وسنفرد لذلك بابا خاصا في آخر المقدمة.
(3) انظر: تاريخ حكماء الإسلام ص 112، ونزهة الأرواح 2/ 44.
(4) انظر: الوافي في الوفيات 13/ 45.
(5) انظر: الراغب الأصفهاني وجهوده للساريسي ص 33.
(6) انظر: الراغب الأصفهاني وجهوده للساريسي ص 33.
(7) انظر: روضات الجنات ص 238- 250.
(1/13)
قلت: فإن صحّ نقل الخوانساري عن ياقوت فهذا
يعني أن كتاب معجم الأدباء المطبوع ناقص، أو احتمال آخر أنه
ذكره في غير هذا الكتاب. والله أعلم.
- وكان المؤلّف يؤثر التواضع والخمول، ويكره الشهرة والذيوع،
ويعتبر أنّ من مدح نفسه فقد ذمها وعابها، فنجده يقول في
محاضراته: (وأعوذ بالله أن أكون ممن مدح نفسه وزكّاها، فعابها
بذلك وهجاها، وممن أزرى بعقله بفعله) «1» .
ويؤيّد هذا أنه يعتبر أنّ من ذكر أشعاره في مصنفاته فهو مزر
بعقله، فيقول: أعوذ بالله أن أكون ممن يزري بعقله بتضمين
مصنفاته شعر نفسه «2» .
وأيضا كان الراغب أيضا من الصوفية الذين يفضلون الخمول، وقد
ذكره الهجويري في كتابه «كشف المحجوب» 2/ 584 أنه كان من مشايخ
الطريقة.
عقيدته:
تنازع الناس في عقيدة الراغب، فقال قوم: هو من المعتزلة، وقال
آخرون: هو من الشيعة، وقال غيرهم: هو من أهل السّنة والجماعة.
والصحيح الذي لا غبار عليه- إن شاء الله تعالى- أنّه من أهل
السنة والجماعة.
ويؤيد هذا ما ذكره السيوطي فقال: كان في ظني أنّه معتزلي، حتى
رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي على ظهر نسخة من «القواعد
الصغرى» لابن عبد السلام ما نصه: ذكر الإمام فخر الدين الرازي
في: «تأسيس التقديس» في الأصول أنّ أبا القاسم الراغب كان من
أئمة السّنة، وقرنه بالغزالي.
قال: وهي فائدة حسنة، فإنّ كثيرا من النّاس يظنون أنّه معتزلي
«3» . ا. هـ..
ويتضح هذا أيضا من خلال كتابه «المفردات» حتى نجده يردّ على
المعتزلة، فمن ذلك ردّه على الجبائي شيخ المعتزلة في مادة
(ختم) ، وعلى البلخي في مادة (خل) .
وأيضا فإن الراغب قال في كتاب الاعتقاد: أمّا رؤية العباد لله
عزّ وجلّ في القيامة فقد أثبتها الحكماء وأصحاب الحديث كما نطق
به الكتاب والسنة «4» .
__________
(1) انظر: المحاضرات 1/ 7.
(2) انظر: المحاضرات 1/ 110.
(3) انظر: بغية الوعاة 2/ 297، وأساس التقديس ص 7.
(4) انظر: رسالة الاعتقاد ص 105. [.....]
(1/14)
وبذلك يخالف المعتزلة المنكرين للرؤية
محتجين بقوله تعالى: لَنْ تَرانِي [الأعراف/ 143] .
وله ردود أخرى عليهم في كتابه «الاعتقاد» .
وأمّا تشيعه فقد أراد الشيعة أن يجعلوه في صفهم ومن جماعتهم،
نظرا لكثرة علمه، وسعة اطلاعه، واستدلوا على ذلك بكثرة نقوله
عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأئمة آل البيت.
وهذا ليس بحجة، إذ حبّ آل البيت جاءت به الأخبار الصحيحة، فإذا
ما أحبّهم أحد ونقل كلامهم فلا يعني أنه شيعي، وكثير من
العلماء استشهدوا بأقوال آل البيت كالزمخشري مثلا في «ربيع
الأبرار» ، والغزالي في «إحياء علوم الدين» ، والفيروزآبادي في
«بصائر ذوي التمييز» ، وغيرهم، ولم يقل أحد إنّهم من الشيعة.
والذي يبطل مزاعمهم أيضا قول الراغب نفسه في رسالة الاعتقاد،
لما ذكر أهل البدع قال:
وأعظمهم فرقتان: فرقة تدبّ في ضراء، وتسير حسوا في ارتضاء،
تظهر موالاة أمير المؤمنين، وبها إضلال المؤمنين، يتوصلون
بمدحه وإظهار محبته إلى ذمّ الصحابة وأزواج النبيّ رضي الله
عنهم، وشهد التنزيل بذلك لهم، ويقولون: كلام الله رموز وألغاز
لا ينبئ ظاهره عن حق، ومفهومه عن صدق، يجعل ذلك من الذرائع إلى
إبطال الشرائع «1» .
وقال أيضا في موضع آخر: والفرق المبتدعة الذين هم كالأصول
للفرق الاثنين والسبعين سبعة: المشبّهة، ونفاة الصفات،
والقدرية، والمرجئة، والخوارج، والمخلوقية، والمتشيعة.
فالمشبّهة ضلّت في ذات الله، ونفاة الصفات في أفعاله، والخوارج
في الوعيد، والمرجئة في الإيمان، والمخلوقية في القرآن،
والمتشيعة ضلّت في الإمامة.
والفرقة الناجية هم أهل السّنّة والجماعة الذين اقتدوا
بالصحابة «2» .
كل هذا يبيّن لنا أنّ الراغب ليس من المعتزلة ولا من الشيعة،
بل من أهل السنة والجماعة.
__________
(1) انظر: رسالة الاعتقاد ص 43.
(2) انظر: كتاب الاعتقاد ص 54.
(1/15)
مذهبه الفقهي:
الذي تبيّن لنا بعد مطالعة كتبه أنّه لم يكن من المقلّدين لأحد
في الفروع الفقهية، وإنما كان مجتهدا في ذلك. وبعضهم جعله
شافعيا، ولم يصب، بل للمؤلف ردّ على بعض أقوال الشافعية.
ففي مادة (طهر) - مثلا- يقول في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً:
قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه: الطّهور بمعنى المطهّر، وذلك
لا يصح من حيث اللفظ، لأنّ فعولا لا يبنى من: أفعل وفعّل،
وإنما يبنى من فعل.
وانظر كلامنا على ذلك في موضعه.
ونراه يعرض أقوال الفقهاء في خلال كتبه، فتارة يأخذ بقول ذا،
وتارة بقول ذاك مما يدلّ على عدم التزامه بمذهب معين.
ففي مادة: عود، عند قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يقول: فعند أهل
الظاهر: هو أن يقول للمرأة ذلك ثانيا، فحينئذ يلزمه الكفارة،
وقوله: ثُمَّ يَعُودُونَ كقوله: فَإِنْ فاؤُ.
وعند أبي حنيفة: العود في الظهار هو أن يجامعها بعد أن يظاهر
منها.
وعند الشافعي: هو إمساكها بعد وقوع الظهار عليها مدّة يمكنه أن
يطلّق فيها فلم يفعل.
وفي مادة (طهر) ، عند قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ يقول:
فدلّ باللفظين على أنّه لا يجوز وطؤهنّ إلا بعد الطهارة
والتطهير، ويؤكد ذلك قراءة من قرأ:
يَطْهُرْنَ أي: يفعلن الطهارة التي هي الغسل.
وهذا مذهب الشافعي، إذ لا يجوز عنده الوطء إلا بعد الاغتسال.
وفي مادة (فكه) ، يقول: الفاكهة قيل: هي الثمار كلها، وقيل: بل
هي الثمار ما عدا العنب والرّمان.
وقائل هذا كأنّه نظر إلى اختصاصهما بالذكر، وعطفهما على
الفاكهة.
قلت: وهذا قول أبي حنيفة، فإنه لم يجعل العنب والرمان من
الفاكهة، لأنّ قوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ
وَرُمَّانٌ فيه العطف، وأصل العطف أن يكون للمغايرة.
وكذلك في كتابه «محاضرات الأدباء» يذكر أبوابا من الفقه
كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج ويذكر أحكامها على المذهب
الشافعي، والمالكي، والحنبلي، والحنفي، ومذهب الشيعة، ومذهب
الخوارج.
(1/16)
كل هذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أنه لم يكن
ملتزما مذهبا معينا، وإن كان يميل أحيانا لبعض أقوال الشافعي،
ونجده في تفسيره يردّ على ابن داود الظاهري في انتقاداته على
الشافعيّ ويدافع عنه.
شعره:
لم تذكر المصنفات التي ترجمت للراغب سوى بيتين من الشعر،
ذكرهما الشهرزوري في نزهة الأرواح وروضة الأفراح «1» ، وهما:
يا من تكلّف إخفاء الهوى كلفا ... إنّ التكلّف يأتي دونه الكلف
وللمحبّ لسان من ضمائره ... بما يجنّ من الهواء يعترف
ومن خلال مطالعة مصنفاته استطعنا العثور على محاورة شعرية له،
فنجده يقول:
كتبت إلى أبي القاسم بن أبي العلاء أستعير منه شعر عمران بن
حطّان، وضمّنتها أبياتا لبعض من امتنع من إعارة الكتب إلا
بالرهن، وأبياتا عارضها أبو علي بن أبي العلاء في مناقضته
فقلت:
1-
يا ذا الذي بفضله ... أضحى الورى مفتخره
2- أصبحت يدعوني إلى ... شعر ابن حطّان شره
3- فليعطينيه منعما ... عارية لأشكره
4- مقتفيا والده ... ألبس ثوب المغفره
5- عارض من أنشده ... إذ رام منه دفتره:
6- هذا كتاب حسن ... قدّمت فيه المعذرة
7-[حلفت بالله الذي ... أطلب منه المغفره
8- أن لا أعير أحدا ... إلا بأخذ التذكرة
9- بنكتة لطيفة ... أبلغ منها لم أره]
10- فقال- والقول الذي ... قد قاله وحبّره-:
11-[من لم يعر دفتره ... ضاقت عليه المعذرة
12- يقبح في الذكر وفي ... السماع أخذ التذكرة
13- ما قال ذاك الشعر إلا ... ماضغ للعذرة]
14- فامنن به مقتفيا ... سلوك طرق البرره
__________
(1) انظر: روضة الأفراح 1/ 44.
(1/17)
فأجابني بأبيات، منها:
1- حبّر شعرا خلتني ... أنشر منه خبره
2- يريدني فيه على ... خليقة مستنكره
3- مستنزل عن عادة ... عوّدتها مشتهره
4- أن لا أعير أحدا ... لا رجلا ولا مره
5- لا أقبل الرّهن ولا ... تذكر عندي تذكره
6- ولو حوت كفي بها ... فضل الرضا والمغفره
7- كان لشيخي مذهب ... من مذهبي أن أهجره
8- خالفت فيه رسمه ... معفّيا ما أثره
9- ولو أتاني والدي ... من بيته في المقبرة
10- يروم سطرا لم يجد ... ما رامه وسطره
قال الراغب: والغرض من ذلك ما قاله أبو القاسم لا ما خاطبته
به، أعوذ بالله أن أكون ممن يزري بعقله بتضمين مصنفاته شعر
نفسه.
ذكر ذلك الراغب في محاضرات الأدباء 1/ 109- 110.
ما نسب إليه من الشعر:
ذكر الدكتور الساريسي نقلا عن كتاب «مجمع البلاغة» للمؤلف ص
397 ما يلي:
وأنشدت بعض الناس- وقد لامني لمنعي إياه شيئا سألنيه-:
ألام وأعطي والبخيل مجاور ... له مثل مالي لا يلام ولا يعطي
فقال: نعم تلام، ثم تلام، وأنشد:
فما كلّ بمعذور ببخل ... ولا كلّ على بخل يلام
فظن الساريسي أن هذا من شعر الراغب فنسبه إليه «1» .
والحق أنّ البيت تمثّل به تمثّلا وليس له، وإنما البيت لعبد
الله بن جدعان، ذكره النهرواني في الجليس الصالح 2/ 238، وذكر
قصة له، وذكره ابن قتيبة دون نسبة في عيون الأخبار 2/ 33.
__________
(1) انظر: الراغب الأصفهاني وجهوده ص 39.
(1/18)
منهج الراغب في كتاب «المفردات» :
لقد سلك الراغب في كتابه منهجا بديعا، ومسلكا رفيعا، ينمّ عن
علم غزير، وعمق كبير فنجده أولا يذكر المادة بمعناها الحقيقي،
ثم يتبعها بما اشتقّ منها، ثم يذكر المعاني المجازية للمادة،
ويبيّن مدى ارتباطها بالمعنى الحقيقي.
وهذا أمر لا يقدر عليه إلا من سبر غور اللغة، وخاض في لججها
وبحارها.
ويذكر على كل ذلك شواهد من القرآن أولا، ثم من الحديث ثانيا،
ثم من أشعار العرب وأقوالهم ثالثا.
ففي نطاق الآيات يكثر الراغب من الاستشهاد بها على المعنى
المراد، كما يورد القراءات الواردة، ثم نراه يفسر القرآن
بالقرآن كثيرا، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، ثم يأتي بأقوال
الحكماء التي تتفق مع الشريعة.
ولنضرب أمثلة على ذلك:
ففي مادة (إبل) ، يقول: الإبل يقع على البعران الكثيرة، ولا
واحد له من لفظه.
فهذا المعنى الحقيقي، ثم يقول:
وأبل الوحشي يأبل أبولا، وأبل أبلا: اجتزأ عن الماء، تشبيها
بالإبل في صبرها عن الماء.
فهذا المعنى المجازي للفظ، والجامع بين المعنى الحقيقي
والمجازي الصبر عن الشيء، ثم يقول:
وكذلك: تأبّل الرجل عن امرأته: إذا ترك مقاربتها.
وهذا أيضا مجاز، والعلاقة واضحة بينه وبين المعنى الحقيقي.
وفي مادة (بور) قال: البوار: فرط الكساد.
فهذا هو المعنى الحقيقي، ثم قال:
ولمّا كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد، كما قيل: كسد حتى فسد،
عبّر بالبوار عن الهلاك.
فهذا المعنى المجازي، وهذا يسمى مجازا بالأوّل.
ثم ذكر أمثلة من القرآن والحديث، فقال: قال عزّ وجلّ: تِجارَةً
لَنْ تَبُورَ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ، وروي: «نعوذ
بالله من بوار الأيم» ، وقال عزّ وجل: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
دارَ الْبَوارِ.
(1/19)
وفي مادة (خبت) يقول:
الخبت: المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل: قصد الخبت أو نزله.
نحو: أسهل وأنجد.
فهذا المعنى الحقيقي، ثم قال:
«ثمّ استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع» .
فهذا المعنى المجازي، والعلاقة بينهما المشابهة، ثم قال:
قال الله تعالى: وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، وقال: وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ أي:
المتواضعين، نحو: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ.
ففسّر القرآن بالقرآن، ثم قال: وقوله تعالى: فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ أي: تلين وتخشع.
والإخبات هاهنا قريب من الهبوط في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْها
لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
ففسّر القرآن بالقرآن أيضا.
وفي مادة (مرد) يقول:
قال تعالى: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. والمارد
والمريد من شياطين الجن والإنس: المتعري من الخيرات.
فهذا المعنى المجازي، وأصله كما قال: من قولهم: شجر أمرد: إذا
تعرّى من الورق.
فالجامع بين المعنيين العري. ثم قال:
ومنه قيل: رملة مرداء: لم تنبت شيئا، ومنه: الأمرد، لتجرّده عن
الشعر.
وروي: «أهل الجنّة مرد» قيل: حمل على ظاهره. وقيل: معناه:
معرّون من الشوائب والقبائح.
ففسّر الحديث أولا على قول اللغويين والمحدّثين، ثم ذكر قول
الحكماء ثانيا. ثم قال:
ومنه قيل: مرد فلان عن القبائح، ومرد عن المحاسن وعن الطاعة.
قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفاقِ أي: ارتكسوا عن الخير، وهم على النفاق.
وقوله تعالى: مَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
أي: مملّس. من قولهم: شجرة مرداء: إذا لم يكن عليها ورق، وكأنّ
الممرد إشارة إلى قول الشاعر:
في مجدل شيّد بنيانه ... يزلّ عنه ظفر الظافر
(1/20)
فهنا أتى بالشاهد الشعري.
وهكذا إلى آخر الكتاب، وكان يناقش الأئمة، ويردّ بعض أقوالهم،
وله اختيارات في المسائل «1» .
المصادر التي اعتمد عليها الراغب في كتاب «المفردات» :
اعتمد الراغب على مؤلّفات العلماء قبله، فبحث فيها، وناقش
أصحابها، وارتضى أقوالا، وردّ أخرى، وأهم هذه المصادر:
1- كتاب «المجمل في اللغة» لابن فارس.
ويبدو أنّ الراغب قد اعتمد عليه كثيرا، مع أنه لم يذكره باسمه،
ويتضح ذلك من نفس ترتيب الكتاب، والتشابه الكبير في العبارة،
وربما ينقل عنه حرفيا، والموافقة في الأبيات الشعرية.
وقد بيّنا ذلك في خلال تعليقاتنا على الكتاب، انظر مثلا مادة
(أبّ) ، (أسّ) ، (جنف) ، (خصف) ، (ركز) ، (سجل) ، (صفد) ، تجد
تقاربا تاما في العبارات، إلا أن الراغب اختصر، وقلّل الأبيات
الشعرية.
2- كتاب «الشامل في اللغة» لأبي منصور الجبان.
وقد ذكره المؤلّف صراحة في مادة (دلّى) . وكتاب «الشامل» وصف
بأنه كثير الألفاظ، قليل الشواهد، في غاية الإفادة، ونجد أنّ
هذه الأوصاف تنطبق على كتاب المفردات أيضا.
3- «تهذيب الألفاظ» لابن السكيت.
وقد نقل عنه المؤلف في مادة (بقل) .
4- «المسائل الحلبيات» لأبي علي الفارسي.
نقل عنه المؤلف في عدّة مواضع دون ذكر اسم الكتاب، بل يقول:
قال الفارسي. انظر مثلا مادة (حشا) ، (رأى) .
5- «معاني القرآن» للفرّاء.
انظر مثلا مادة (تترى) .
6- كتاب «الجمهرة» لابن دريد.
__________
(1) وقد أفردنا في الفهارس قسما خاصا لآراء الراغب واختياراته.
(1/21)
ويظهر ذلك في تشابه النقول والعبارات، وقد
صرّح باسم ابن دريد في كتابه.
انظر مثلا مادة (لهث) .
7- «معاني القرآن» للزجاج.
ويبدو ذلك واضحا حينما تكلّم المصنف على مادة (توراة) ، كأنه
نقل كلام الزجاج حرفيا، وأيضا في مادة (شور) ، نجده يتقارب جدا
مع كلام الزجاج على قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.
انظر معاني القرآن 1/ 483.
وصرّح المؤلف بالنقل عنه، وذلك في مادة (هيت) ، عند قوله
تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ.
8- كتاب «العين» للخليل.
وقد صرّح باسم الخليل في عدة أمكنة، انظر مثلا مادة (مكّ) ،
(قول) ، (ظلم) ، (ضعف) . (أوّل) .
9- «تفسير أبي مسلم الأصفهاني» .
انظر مادة (جهنم) ، و (عرض) .
ولعلّ تأثّر الراغب بالمعتزلة حاصل من أخذه كلام أبي مسلم.
10- «مجاز القرآن» لأبي عبيدة.
انظر مثلا مادة (بعض) ، (دبّ) ، (ناء) .
11- «معاني القرآن» للأخفش.
انظر مثلا مادة (قوم) ، (عود) .
12- «المسائل البصريات» للفارسي.
انظر مثلا مادة (برأ) .
13- «المسائل العضديات» للفارسي.
انظر مثلا مادة (دم) .
14- «تفسير غريب القرآن» لابن قتيبة.
انظر مثلا مادة (دون) .
15- كتاب سيبويه.
(1/22)
انظر مثلا مادة (أين) ، (آية) ، (كان)
(طهر) .
16- الغريب المصنف لأبي عبيد، ويظهر ذلك من التشابه الكبير في
بعض المواد والشواهد وانظر مادة (دين) .
17- الأمثال لأبي عبيد.
18- «غريب الحديث» لأبي عبيد. انظر مادة (حرس) .
19- مجالس ثعلب. انظر مثلا مادة (أين) و (أوّه) .
20- غريب الحديث لابن قتيبة. انظر مادة (بشر) .
21- الحجة للقراءات السبعة للفارسي. انظر مادة (طهر) و (دخل) .
وغير ذلك من الكتب.
بالإضافة إلى نقله كلام السلف من المفسرين كابن عباس «1» ،
وابن مسعود «2» ، وعليّ ابن أبي طالب «3» ، وعمر بن الخطاب «4»
، ومجاهد «5» ، وقتادة «6» ، والحسن البصري «7» ، والأصم «8» ،
وجعفر الصادق «9» ، والشعبي «10» ، وسفيان «11» .
ومن اللغويين: المبرّد «12» ، والكسائي، وسيبويه «13» ، ويونس
1»
، وأبو زيد «15» ، والتوزي «16» ، والأصمعي «17» ، وابن
الأعرابي «18» .
ومن القراء: حمزة «19» ، ويعقوب «20» ، والنقاش «21» .
__________
(1) انظر: مثلا مادة: (رفث) ، (رقى) ، (شرع) ، (شهد) ، (ضعف) ،
(عذر) ، (قطع) .
(2) انظر مثلا مادة: (بشر) . (قر) .
(3) انظر مثلا: (سكن) ، (عقل) ، (عود) ، (حبر) .
(4) انظر مثلا مادة: (خلف) ، (صعد) .
(5) انظر مثلا مادة: (شهد) ، (قبل) .
(6) انظر مثلا مادة: (شبه) ، (كره) .
(7) انظر مثلا مادة: (رف) ، (شغف) ، (صغر) ، (ظل) ، (قرّ) .
(8) انظر مثلا مادة: (شبه) ، (قوم) .
(9) انظر مثلا مادة: (علم) ، (وجه) . [.....]
(10) انظر مثلا مادة: (حر) .
(11) انظر مثلا مادة: (سرف) .
(12) انظر مثلا مادة: (حجر) . (سطر) .
(13) انظر مادة: (أين) ومادة: (طهر) .
(14) انظر مادة: (زلق) .
(15) انظر مادة: (كسف) ، (شعل) .
(16) انظر مادة: (جبل) .
(17) انظر مادة: (ويل) .
(18) انظر مادة: (صهر) .
(19) انظر مادة: (أتى) .
(20) انظر مادة: (ينع) .
(21) انظر مادة: (صور) .
(1/23)
ومن المتكلمين: الجبائي «1» ، وأبو القاسم
البلخي «2» ، وأبو بكر العلاف «3» .
ونقل طائفة من كلام الحكماء دون ذكر أسمائهم.
كل هذا مما جعل الكتاب مرجعا هاما من مراجع البحث في اللغة
والتفسير.
الناقلون عنه والمتأثرون به:
أكثر العلماء من النقل من كتاب «المفردات» ، وفي مقدمتهم
الفيروزآبادي صاحب القاموس، فنجده قد عكف على كتاب الراغب،
واختصره، وزاد فيه أشياء، ثم أصدرها في كتابه القيّم: «بصائر
ذوي التمييز» ، فنجده كثيرا ما ينقل عبارات الراغب بتمامها،
وأحيانا ينقل فصولا كاملة.
ومنهم أيضا السمين الحلبي، حيث ألّف، كتابه: «عمدة الحفاظ في
أشرف الألفاظ» وجعل كتاب الراغب لبّ كتابه، ثم زاد عليه أشياء
كثيرة، وكتابه ما زال مخطوطا.
ومنهم الزركشي في البرهان في علوم القرآن. انظر مثلا 2/ 148،
4/ 18.
والسيوطي في المزهر 1/ 184، والإتقان، 1/ 218- 210، ومعترك
الأقران 1/ 22.
والرازي في تفسيره.
والبغدادي في خزانة الأدب. انظر مثلا 1/ 37، 3/ 397، 7/ 128-
245، 8/ 92، 9/ 302.
والزبيدي في تاج العروس. انظر مثلا مادة (رجع) ، (ربع) ، (أبد)
، (أمد) ، (عود) .
وابن حجر في فتح الباري. انظر مثلا 3/ 120، و 11/ 503 كتاب
القدر.
وابن الحنبلي في عقد الخلاص. انظر مثلا ص 281.
والسمين في الدر المصون. انظر مثلا 3/ 689، 4/ 389، 547، 5/
570، 6/ 182- 442.
والألوسي في روح المعاني. انظر مثلا 1/ 262 و 2/ 129- 131.
وابن القيم في بدائع الفوائد 2/ 36.
__________
(1) انظر مادة: (ختم) .
(2) انظر مادة: (خل) . [.....]
(3) انظر مادة: (لات) .
(1/24)
والبروسوي في تفسيره روح البيان. انظر مثلا
عند قوله تعالى: أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ
مُقْتَرِنِينَ.
وكثير غيرهم، وقد ذكرنا جلّ ذلك في تعليقاتنا على الكتاب،
وستجدها في محالها في الحواشي.
ولعلّ من أكثر المتأثرين بكتاب الراغب ومنهجه فيه الزمخشري في
كتابه: «أساس البلاغة» حيث نحا منحى الراغب في ذكر المعنى
الحقيقي للكلمة، ثم إتباعها بالمعاني المجازية، إلا أن كتاب
الزمخشري يمتاز بكثرة الشواهد الشعرية التي يزيد عددها على
6000 بيت، بينما كتاب الراغب لا يتجاوز 500 بيت.
ثناء العلماء على المفردات:
قال الزركشي: النوع الثامن عشر: معرفة غريبه. وهو معرفة
المدلول، وقد صنف فيه جماعة، منهم: أبو عبيدة كتاب «المجاز» ،
وأبو عمر غلام ثعلب: «ياقوتة الصراط» ، ومن أشهرها كتاب ابن
عزيز، والغريبين للهروي، ومن أحسنها كتاب «المفردات» للراغب
«1» .
وقال أيضا: القرآن قسمان:
أحدهما: ورد تفسيره بالنقل عمّن يعتبر تفسيره.
وقسم لم يرد فيه نقل عن المفسرين، وهو قليل، وطريق التوصل إلى
فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها
واستعمالها بحسب السياق، وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب
المفردات، فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول
اللفظ، لأنه اقتنصه من السياق «2» .
وقال الفيروزآبادي: لا نظير له في معناه «3» .
وقال حاجي خليفة: مفردات ألفاظ القرآن للراغب، وهو نافع في كلّ
علم من علوم الشرع «4» .
__________
(1) انظر: البرهان في علوم القرآن 1/ 291، وكذا قال السيوطي في
الإتقان 1/ 149.
(2) انظر: البرهان في علوم القرآن 2/ 172.
(3) انظر: البلغة ص 69.
(4) انظر: كشف الظنون 2/ 1773.
(1/25)
وقال السمين الحلبي: على أنّ الراغب قد وسع
بحاله، وبسط مقاله بالنسبة إلى من تقدّمه، وحذا بهذا الحذو
رسمه «1» .
وجاء على الصفحة الأولى من مخطوطة المفردات في المكتبة
المحمودية ما يلي:
هذا كتاب لو يباع بوزنه ... ذهبا لكان البائع المغبونا
أوما من الخسران أني آخذ ذهبا ... ومعط لؤلؤا مكنونا
بعد هذا نقول: إنّ كتاب المفردات يعتبر موسوعة علمية صغيرة،
فقد حوى اللغة، والنحو، والصرف، والتفسير، والقراءات، والفقه،
والمنطق، والحكمة، والأدب، والنوادر، وأصول الفقه، والتوحيد.
فأجدر به أن يحتلّ الصدارة بين الكتب المؤلفة في غريب القرآن
ومعانيه.
ملاحظات على كتاب المفردات:
مهما خاض الإنسان في بحور العلم والمعرفة فلا يمكنه أن يحيط
بكل العلوم، بل يبقى في حدود بشريته وإنسانيته، فالإنسان طبعه
النسيان، ومنه اشتقّ اسمه، والمؤلف قد غاص في بحور العلم، حتى
أخرج دررا منها كتابه «المفردات» ولكنه مع أهميته العلمية،
وقيمته الأدبية لا يخلو من بعض الملاحظات التي سنذكرها:
1- فمنها أنه لم يميّز بين القراءات المتواترة والشاذة، بل
يكتفي أن يقول: وقرئ كذا.
وبون كبير بين القراءات المتواترة من حيث نسبتها ودرجتها، وبين
القراءة الشاذة، إذ لا تصح الصلاة مثلا بالقراءة الشاذة، ولا
القراءة بها إلا على سبيل التعليم.
2- ومنها قلّة بضاعته في علم الحديث الشريف، ويتجلّى ذلك في
نسبته بعض الأقوال إلى الرسول، وليست هي من قوله، كقوله في
مادة (جبر) : قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا جبر ولا تفويض»
وهذا من كلام المتكلمين لا من كلام الرسول، كما يذكر بعض
الأحاديث الموضوعة، انظر مادة ورث.
وأحيانا يكون الحديث من كلام الرسول فلا ينسبه إليه، بل يقول:
وقيل، ومن ذلك قوله في مادة (صرف) : ومنه قول العرب: لا يقبل
منه صرف ولا عدل. وهذا من الحديث الصحيح كما بيّنته في محله.
وغير ذلك من الأمثلة التي تظهر عند قراءة الكتاب.
__________
(1) انظر: عمدة الحفاظ- خ ورقة 1.
(1/26)
3- ومنها تأثّره بالمعتزلة في بعض الأحيان
مع أنه يخالفهم. ومن ذلك قوله في مادة (زمل) ، في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ: أي: المتزمّل في ثوبه، وذلك على
سبيل الاستعارة، كناية عن المقصّر والمتهاون بالأمر، وتعريضا
به. ا. هـ.
وحاشا للنبي صلّى الله عليه وسلم أن يقصّر في الأمر أو يتهاون،
وهو الذي كان يقوم الليل حتى تفطّرت قدماه، وإنما هذه المسائل
من مسائل المعتزلة، وغالب ظني أنه أخذها عن أبي مسلم الأصفهاني
كبير مفسّري المعتزلة، وقد ذكر ذلك أيضا الزمخشري في تفسيره،
وهو من أئمة المعتزلة. وانظر تعليقنا على هذه المادة.
4- ومنها أوهام تحصل للمؤلف أحيانا فينسب أقوالا لغير قائليها.
فمن ذلك قوله في مادة (روى) : قال أبو علي الفسوي: المروءة هو
من قولهم: حسن في مرآة العين، كذا قال، وهذا غلط، لأنّ الميم
في «مرآة» زائدة، ومروءة: فعولة. ا. هـ.
وهذا لم يقله أبو علي، وإنما قال: وزعم بعض رواة اللغة أنّ
المروءة مأخوذة من قولهم: هو حسن في مرآة العين، وهذا من فاحش
الغلط، وذلك أنّ الميم في مرآة زائدة، ومروءة فعولة. ا. هـ.
انظر: المسائل الحلبيات ص 59.
ومثال آخر، قال في مادة (فتن) ، في قوله تعالى: بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ: قال الأخفش: المفتون: الفتنة، كقولك: ليس له
معقول، وخذ ميسوره ودع معسوره، فتقديره: بأيكم الفتون. وقال
غيره: أيكم المفتون، والباء زائدة، كقوله تعالى: كَفى
بِاللَّهِ شَهِيداً ا. هـ.
قلت: الذي نسبه المصنف لغير الأخفش هو عينه قول الأخفش، ذكره
في معاني القرآن 2/ 505، والقول الأول الذي نسبه للأخفش هو قول
الفرّاء، فقد قال الفرّاء:
المفتون هاهنا بمعنى الجنون، وهو في مذهب الفتون، كما قالوا:
ليس له معقول رأي.
انظر: معاني القرآن للفراء 3/ 173.
5- ومنها حصول بعض التصحيفات، وهذا لا يكاد يسلم منه أحد.
كقوله في مادة (بحر) :
بنات بحر: للسحاب. ا. هـ.
والصواب إنما هو بنات بخر، بالخاء المعجمة، أو بنات مخر، وانظر
تعليقنا على ذلك في مادة (بحر) .
6- وكذا تصحيفه لبيت من الشعر في مادة (بطل) ، فرواه:
[لأول بطل أن يلاقي مجمعا]
(1/27)
وهو عجز بيت للشنفرى، والصحيح في روايته:
[لأول نصل] . وانظر كلامنا عليه في التعليق.
7- ومنها إغفاله لبعض المواد لم يتكلم عليها.
وفي ذلك يقول السمين الحلبي: ( ... غير أنّه قد أغفل في كتابه
ألفاظا كثيرة لم يتكلم عليها، ولا أشار في تصنيفه إليها، مع
شدة الحاجة إلى معرفتها، وشرح معناها ولغتها، مع ذكره لبعض
مواد لم ترد في القرآن الكريم، أو وردت في قراءة شاذة جدا
كمادة (بظر) ، في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وهذه لا ينبغي أن يقرئ بها البتة. فمما
تركه مع الاحتياج الكلي:
- مادة غ وط، وهي في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
مِنَ الْغائِطِ.
- مادة: ز ب ن، وهي في قوله تعالى: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ.
- ومادة: ق ر ش، وهي في قوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.
- ومادة: ك ل ح، وهي في قوله تعالى: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ.
- ومادة: قدو، وهي في قوله تعالى: وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ
مُقْتَدُونَ.
- ومادة: نضخ، وهي في قوله تعالى: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
«1» .
وممّا فاته من المواد ولم يذكرها السمين.
- مادة فني، وهو في قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ.
- ومادة خردل وهي في قوله تعالى: مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ.
8- ومن ذلك أن يقسّم الشيء أقساما، ثم عند ما يُعدّدها يزيد
فيها واحدا أو ينقص. فمما نقص فيه عند مادة (وحد) ، قال:
فالواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه، ثم ذكر خمسة، ولم يذكر
السادس.
ومما زاد فيه، في مادة (هلك) ، قال: والهلاك على ثلاثة أوجه،
ثم لما عدّها ذكر أربعا.
9- ومنها أنه لم يراع ترتيب الحرف الثالث في الكلمة، فقدّم
مثلا مادة أبا على أبّ.
10- ومن ذلك اعتراض بعض العلماء على أقوال ذكرها في كتابه.
منها في مادة (سبح) ، قال: وقول الشاعر:
[سبحان من علقمة الفاخر] .
__________
(1) راجع: عمدة الحفاظ (ورقة 1) .
(1/28)
قيل: تقديره: سبحان علقمة، على طريق
التهكم، فزاد فيه «من» ردّا إلى أصله.
وتعقّبه البغدادي، فقال:
وزعم الراغب أنّ سبحان في هذا البيت مضاف إلى علقمة، ومن
زائدة. وهو ضعيف لغة وصناعة. أمّا الأول فلأنّ العرب لا
تستعمله مضافا إلا إلى الله، أو إلى ضميره، أو إلى الربّ، ولم
يسمع إضافته إلى غيره. وأمّا صناعة فلأنّ «من» لا تزاد في
الواجب عند البصريين. راجع: خزانة الأدب 7/ 245.
ومنها في مادة (ميد) ، قال: والمائدة: الطبق الذي عليه الطعام،
ويقال لكلّ واحد منها مائدة. وتعقّبه السمين فقال: والمائدة:
الخوان عليه الطعام، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة.
هذا هو المشهور إلا أن الراغب قال: ... وذكر عبارته. انظر:
الدر المصون 4/ 502.
- ومن ذلك اختياره لوجوه ضعيفة، كقوله في مادة: ربّ: الرباني
لفظ سرياني، وقد ردّه السمين في عمدة الحفاظ.
وغير ذلك من المسائل التي تراها في حواشي الكتاب. وفي كتاب
عمدة الحفاظ أيضا.
وكل هذه الملاحظات لا تقدح في الكتاب، إذ أبى الله أن يصحّ إلا
كتابه، وكما قال ابن عباس ومن بعده الإمام مالك: ما منّا إلا
ردّ أو ردّ عليه إلا صاحب هذا المقام، وأشار إلى رسول الله
صلّى الله عليه وسلم.
وهذا يؤكّد ويبين معنى قوله تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ.
محنة في حياة الراغب:
ذكر الراغب في مقدمة كتابه «حلّ متشابهات القرآن» ما يلي:
فاتفقت خلوة سطوت على وحشتها بالقرآن، ولولا أنسه لم يكن لي
بها يدان، وذلك بعد ما عملت من كتاب «المعاني الأكبر» وأمليت
من «احتجاج القراءات» . وكانت هذه الخلوة خلوة عين، لا خلوة
قلب، واضطرار لا عن اختيار، بل لقهر وغلب، في حالة توزّع الرأي
فيها مذاهب، واقتسم الهمّ بها مطالب «1» . ا. هـ.
والظاهر أنه سجن، لأنه يقول: (خلوة عين) ، أي: لم يعد يرى
أحدا، لا خلوة قلب لأنّ قلبه مليء بالهموم والمشاغل، وقوله:
(واضطرار) يؤكد ذلك.
__________
(1) حل متشابهات القرآن (ورقة 1) .
(1/29)
ويؤكّد هذا عندي أنه ذكر في كتاب «مراتب
العلوم» الذي صنّفه غالبا للوزير أبي العباس الضبّي، ما نصه:
لكن طال تعجّبي في ذلك من الشيخ الفاضل حرسه الله، لأمور رأيته
منها طريفة: أحدها: إنكاره عليّ التفوه بلفظ (القوة) ، اعتلالا
بأنّ هذه اللفظة يستعملها ذوو الفلسفة، وأن أقول بدله:
(القدرة) ، كأنّه لم يعلم ما بينهما من الفرق في تعارف عوام
الناس فضلا عن خواصهم.
ثم ما كان من إبهاماته وتعريضاته، بل تصريحاته، تنفق منه على
أشياعه وأتباعه بالوضع مني، والغضّ مني، وازدياده بعد المقال
مقالا لما رأى مني في مجاوبته جملا ثقالا، ولم أكن أرى بأسا
وضيرا في احتمال شيع شيخ كريم عليّ، بما لا يعود بمعاب في
الحقيقة عليّ «1» .
وكلامه هذا يوحي بأنه اختلف مع الوزير، وأنّ أتباع الوزير
آذوه، ولم يسكت هو له بل ردّ عليه، فلعلّ هذا أدى إلى سجنه.
والله أعلم.
وسيأتي مزيد من الكلام على الراغب الأصفهاني في مقدمة فهارس
الكتاب الفنية ص 899.
__________
(1) مراتب العلوم (ورقة 2) .
(1/30)
الشريعة وعلوم
الحكمة
نبدأ أولا بتعريف علم الحكمة وأقسامها وأصل موردها، ثم تبيين
الباطل منها، فنقول:
علم الحكمة:
هو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر
بقدر الطاقة البشرية «1» .
وهي من العلوم العقلية، وقد قال ابن خلدون:
وأمّا العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو
فكر، فهي غير مختصة بملة، بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم،
ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النوع الإنساني
منذ كان عمران الخليقة، وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة
«2» .
- وأهل الحكمة يقسمونها قسمين:
1- حكمة عملية: وهي العلم بما يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد
والعمل به.
2- حكمة نظرية: المقصود منها ما حصل بالنظر.
ويقول الشهرزوري:
وإذا كانت الحكمة عبارة عن معرفة أعيان الموجودات على ما هي
عليها لا غير، فالأسماء تختلف بحسب اختلاف طرق التعليم، فإن
أدركها بعضهم بزمان يسير من غير تعلّم بشري، وكان مأمورا من
الملأ الأعلى بإصلاح النوع الإنساني سمّيت نبوّة، وإن كان
بالتعلم والدراسة سمّيت فلسفة.
__________
(1) راجع: كشف الظنون 1/ 676.
(2) انظر: مقدمة ابن خلدون ص 399.
(1/31)
وفي الحقيقة الحكيم المطلق هو الله تعالى،
وكلّ من أدرك من المعقولات نصيبا سمّي على سبيل التجوّز
والاستعارة حكيما لدنوّه من الله تعالى وتشبّهه به «1» .
- وأمّا حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من
العلوم الإسلامية، كما أنّ الحكمة الطبيعية الإلهية بمنزلة
الكلام منها.
وبيان ذلك أنّ السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة
هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال، والتنزّه عن النقصان.
والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين:
1- طريقة أهل النظر والاستدلال، 2- وطريقة أهل الرياضة
والمجاهدات.
والسالكون للطريقة الأولى إن التزموا ملة من ملل الأنبياء فهم
المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاءون.
والسالكون للطريقة الثانية إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع
فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون.
وعلوم الفلسفة والحكمة سبعة:
المنطق، وهو المقدّم، وبعده التعاليم فالارتماطيقي أولا ثم
الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات.
- وأكثر من عني بها من الأجيال فارس والروم.
ولما فتح المسلمون بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم، كتب سعد بن
أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأن كتبها، وتنفيلها
للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها
هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله،
فطرحوه في الماء أو في النار فذهبت علومهم.
ولم تدخل في الصدر الأول في علوم المسلمين، وصانهم الله عنها.
وأمّا الروم فكان لهذه لعلوم عندهم شأن عظيم، ويزعمون أن سند
تعليمهم يتصل بلقمان الحكيم.
ولما ظهر الإسلام بعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث
إليه بكتب التعاليم مترجمة، فبعث إليه بكتاب إقليدس وبعض كتب
الطبيعيات، وقرأها المسلمون واطلعوا
__________
(1) انظر: نزهة الأرواح وروضة الأفراح 1/ 8- 9.
يريد بذلك التخلّق بأخلاق الله، كما ورد ذلك في الحديث الشريف.
(1/32)
على ما فيها، ولما تولّى الخلافة المأمون
كتب إلى بعض ملوك النصارى يطلب منه خزانة كتب اليونان، وكانت
عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد، فجمع الملك خواصه من
ذوي الرأي واستشارهم في ذلك، فكلهم أشار إليه بعدم تجهيزها
إليه إلا واحدا، فإنه قال:
جهزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها
وأوقعت بين علمائها «1» .
وكان الشيخ ابن تيمية يقول: ما أظن أن الله يغفل عن المأمون،
ولا بد أن يقابله على ما اعتمد مع هذه الأمة من إدخاله هذه
العلوم الفلسفية بين أهلها.
وأول من أدخل الفلسفة الأندلس أمير الأندلس عبد الرحمن بن
الحكم، كان يشبّه بالمأمون العباسي في طلب الكتب الفلسفية.
الجمع بين الشريعة والحكمة:
ويقال: أول من خلط المنطق بأصول المسلمين أبو حامد الغزالي.
والذي نراه أنّ الراغب الأصفهاني بدأ هذه المحاولة قبل
الغزالي، حيث قال الشهرزوري في ترجمته: (وهو الذي جمع بين
الشريعة والحكمة في تصانيفه) «2» .
والغزالي حاول الجمع بين الشريعة والحكمة، وهو أحسن من جمع
بينهما، ويتجلى ذلك في كتابه الكبير «إحياء علوم الدين» ، لكنه
مع ذلك لم يخل من انتقادات، وكتابه الإحياء قمة في الإنتاج
العلمي، ومع ذلك فقد حذّر العلماء من بعض المواضع فيه. وقال
أبو المظفر سبط ابن الجوزي: «الإحياء» وضعه على مذاهب الصوفية،
وترك فيه قانون الفقه، فأنكروا عليه ما فيه من الأحاديث التي
لم تصح «3» .
وممن حاول الجمع بينهما تاج الدين الشهرستاني، فقد كان يصنف
تفسيرا، ويؤوّل الآيات على قوانين الفلسفة والحكمة، فقال له
ظهير الدين البيهقي: هذا عدول عن الصواب، والقرآن لا يفسّر إلا
بتأويل السلف والتابعين، والحكمة بمعزل عن تفسير القرآن، خصوصا
ما كنت تؤوله، ولا تجمع بين الشريعة والحكمة أحسن مما جمعه
الغزالي، فامتلأ غضبا «4» . والشهرستاني متوفى سنة 548 هـ.
ولابن رشد كتاب فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من
الاتصال «5» .
__________
(1) انظر: الغيث المسجم شرح لامية العجم للصفدي 1/ 79، وصون
المنطق والكلام للسيوطي ص 9.
(2) انظر: نزهة الأرواح 1/ 44. [.....]
(3) انظر: كشف الظنون 1/ 24.
(4) انظر: نزهة الأرواح 2/ 59.
(5) الوافي 2/ 114.
(1/33)
ثم فشت الفلسفة وانتشرت، وكان ابتداء
فشوّها في المتأخرين ما ذكره الحافظ ابن كثير في تأريخه سنة
672 هـ قال:
بعد أخذ التتار بغداد سنة (656 هـ) عمل الخواجا نصير الطوسي
الرصد، وعمل دار حكمة فيها فلاسفة، لكل واحد في اليوم ثلاثة
دراهم، ودار طبّ فيها للحكيم درهمان، وصرف لأهل دار الحديث لكل
محدث نصف درهم في اليوم.
ومن ثمّ فشا الاشتغال بالعلوم الفلسفية وظهر «1» .
وكانت سوق الفلسفة والحكمة نافقة في الروم أيضا بعد الفتح
الإسلامي إلى أواسط الدولة العثمانية، وكان في عصرهم فحول ممن
جمع بين الحكمة والشريعة كالعلامة شمس الدين الفناري، والفاضل
قاضي زاده الرومي وغيرهم «2» .
ولأبي علي عيسى بن زرعة البغدادي رسالة في أنّ علم الحكمة أقوى
الدواعي إلى متابعة الشريعة، وفيها يقول: من قال: إن الحكمة
تفسد الشريعة فهو الطاعن في الشريعة «3» .
وبعد ذلك نقول: كلّ من اشتغل بعلوم الحكمة ممن التزم ملة من
ملل الأنبياء بقي على طريقته وحاول الجمع بينها وبين الشريعة
فسدّد وقارب، ولكنه لم يخل من انتقادات.
وأمّا من سلك طريق الحكماء المشاءين الذين لم يلتزموا ملة من
الملل، أو طريق الحكماء الإشراقيين الذين لم يوافقوا في
رياضتهم أحكام الشرع فقد زلّت به القدم وربما وصل إلى الكفر
والارتداد، إذ لم يستطع الجمع بين الشريعة والحكمة فردّ ما
جاءت به الشريعة، وانتصر لقول الحكماء.
وفي الختام نذكر طائفة من أقوال السلف:
قول السلف في ذم العلوم الكلامية
والفلسفية:
قال الشافعي: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب،
وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس «4» .
قال السيوطي: ولم ينزل القرآن ولا أتت السّنة إلا على مصطلح
العرب ومذاهبهم في
__________
(1) انظر: البداية والنهاية 13/ 283.
(2) راجع: كشف الظنون 1/ 680.
(3) انظر: نزهة الأرواح 2/ 99- 100.
(4) انظر: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ص 15.
(1/34)
المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال،
لا على مصطلح اليونان، ولكل قوم لغة واصطلاح، وقد قال تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم/ 4] .
وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن شيء من الأهواء: عليك
بدين الصبي الذي في الكتّاب والأعراب، والْهَ عما سواهما.
وقال مالك: ما قلّت الآثار في قوم إلا ظهرت فيهم الأهواء، ولا
قلّت العلماء إلا ظهر في الناس الجفاء.
وقال القاضي أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق.
وقال الغزالي: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام «1» .
وأنشد الخطابي:
حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقا، وكلّ كاسر مكسور
أمثلة من جمع الراغب بين الشريعة
والحكمة:
نقول أولا: إن القاعدة التي اتّبعها الراغب في الجمع بينهما
أنه جعل الشريعة هي الأساس والميزان، ثم عرض كلام الحكماء
عليها، فما وافق قبله، وما لا فلا، لذلك نجده يقول في كتابه
الذريعة: (واجب على الحكيم العالم النحرير أن يقتدي بالنبيّ
صلّى الله عليه وسلم فيما قال:
إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزّل الناس منازلهم «2» ، ونكلم
الناس بقدر عقولهم) «3» .
فمن ذلك قوله:
قيل لبعض الحكماء: هل من موجود يعمّ الورى؟ فقال: نعم أن تحسن
خلقك، وتنوي لكل أحد خيرا «4» .
ثم يتبعه بما يقابله من الشريعة فيقول: وقال صلّى الله عليه
وسلم: «إنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» «5» .
__________
(1) انظر: نقض المنطق لابن تيمية ص 26.
(2) الحديث أخرجه مسلم تعليقا في مقدمة صحيحه، مع بعض
الاختلاف، وانظر: كشف الخفاء 1/ 194. والشطر الثاني «أمرنا أن
نكلّم الناس على قدر عقولهم» رواه الديلمي بسند ضعيف عن ابن
عباس مرفوعا.
(3) انظر: الذريعة ص 121.
(4) انظر: الذريعة ص 46.
(5) الحديث أخرجه الحاكم والبزّار وابن عديّ والبيهقي عن أبي
هريرة. انظر: كشف الخفاء 1/ 217.
(1/35)
ومن ذلك قوله:
قال بعض الحكماء: قلّ صورة حسنة يتبعها نفس ردية، فنقش
الخواتيم مقروء من الطين، وطلاقة الوجه عنوان ما في النفس،
وليس في الأرض شيء إلا ووجهه أحسن ما فيه.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اطلبوا الحاجات من حسان
الوجوه «1» .
وقال عمر رضي الله عنه: إذا بعثتم رسلا فاطلبوا حسن الوجه وحسن
الاسم.
ومن ذلك قولهم: من جهل شيئا عاداه، والناس أعداء ما جهلوا «2»
.
وقال الله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ:
هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف/ 11] .
ومن ذلك قوله:
حقّ المعلم أن يجري متعلميه منه مجرى بنيه، فإنه في الحقيقة
أشرف من الأبوين، كما قال الإسكندر- وقد سئل: أمعلمك أكرم عليك
أم أبوك؟ - قال: بل معلمي، لأنه سبب حياتي الباقية، ووالدي سبب
حياتي الفانية «3» .
وقد نبّه صلّى الله عليه وسلم على ذلك بقوله: «إنما أنا لكم
مثل الوالد أعلمكم» «4» .
ومن ذلك قول بعض الحكماء «5» : الحلافة تدل على كذب أربابها،
لأنّ ذلك لقلّة الركون إلى كلامهم. وقد قال تعالى: وَلا
تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة/ 41] ، وقال
تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ
تَبَرُّوا [البقرة/ 224] .
ومن ذلك قوله:
قال بعض الحكماء: مثل طالب معرفته مثل من طوّف في الآفاق في
طلب ما هو معه «6» والله تعالى يقول: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
ما كُنْتُمْ [الحديد/ 4] ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ
وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف/ 84] .
وليس كل ما جاء به الحكماء يوافق الشريعة، ففي باب القناعة ذكر
الشيخ قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس
عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا
__________
(1) الحديث أخرجه الطبراني والدارقطني وتمّام والبخاري في
تاريخه. انظر: كشف الخفاء 1/ 137.
(2) انظر: الذريعة ص 112. [.....]
(3) انظر: الذريعة ص 119.
(4) الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن
حبان. انظر: الفتح الكبير 1/ 437.
(5) انظر: الذريعة ص 145.
(6) انظر: المفردات مادة (بطن) .
(1/36)
انتقش» «1» ، ثم يقول: قيل لحكيم: لم لا
تغتم؟ قال: لأني لم أجد ما يغمّني «2» .
قال الراغب: واعلم أنّ الزهد ليس من ترك المكاسب في شيء، كما
توهمه قوم أفرطوا حتى قربوا من مذهب المانوية والبراهمة
والرهابنة، فإنّ ذلك يؤدي إلى خراب العالم، ومضادة الله فيما
قدّر ودبّر، ثم قال: ولأنّ الزاهد في الدنيا راغب في الآخرة،
فهو يبيعها بها، ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ
الْجَنَّةَ [التوبة/ 111] ، ومحال أن يبيع كيّس عينا بأثر إلا
إذا عرفها عارف، وعرف فضل المبتاع على المبيع.
وقيل لبعض الزهاد: ما أزهدك وأصبرك! فقال: أمّا زهدي فرغبة
فيما هو أعظم مما أنا فيه، وأما صبري فلجزعي من النار.
هذا آخر ما أوردناه في هذا الباب، والحمد لله رب العالمين.
وفاته:
كما اختلف في اسم الراغب، وعقيدته، ومذهبه الفقهي، وعصره، كذلك
اختلف في تاريخ وفاته:
- فالسيوطي ذكر أنها في أوائل المائة الخامسة «3» .
- والذهبي- وقد ذكره في الطبقة الثانية والأربعين- قال: يسأل
عنه في هذه إن شاء الله تعالى «4» .
وهذه الطبقة تبدأ وفياتها بسنة 440 هـ وتنتهي في حدود سنة 470
هـ.
- وحاجي خليفة قال: وفاته سنة 502 هـ «5» ، وتبعه في ذلك
بروكلمان.
- وصاحب هدية العارفين ذكر أنّ وفاته سنة 500 هـ.
- وفي فهرس الخزانة التيمورية أنّ وفاته سنة 503 هـ.
- والزّركلي في «الأعلام» ، ذكر أنه سنة 502 هـ، ومثله عمر رضا
كحالة.
- ومحمد كرد علي أشار في حاشية ترجمة الراغب في كتاب «تاريخ
الحكماء»
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري وابن ماجة. انظر: كشف الخفاء 1/ 307.
(2) انظر: الذريعة ص 166.
(3) انظر: بغية الوعاة 2/ 297.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء 18/ 120.
(5) انظر: كشف الظنون 1/ 36.
(1/37)
للبيهقي إلى أنّ وفاته سنة 402 هـ، ثم ذكر
في تقريظه لكتاب المفردات في مجلته المقتبس 2: 98 أنّ وفاته
كانت سنة 503 هـ.
وفي مجلة المجمع العلمي العربي 24/ 275 أنّ وفاته سنة 452 هـ.
- وذكر عدنان الجوهرجي أنّه رأى نسخة مخطوطة نادرة من كتاب
«المفردات» في مكتبة السيد «محمد لطفي الخطيب» في دمشق، وأنها
نسخت سنة 409 هـ وفي وسط الكتاب تعليق على حاشية الكتاب ذكر
فيه أنّ هذا الكتاب بخط الراغب الأصفهاني، وأنه ولد في مستهلّ
رجب من شهور سنة 343 هـ في قصبة أصبهان وتوفي سنة 412 هـ اثني
عشر وأربعمائة.
وهو ما وجده بخط أبي السعادات «1» .
فلم يعلم أهو أبو السعادات ابن الشجري، أم أبو السعادات ابن
الأثير؟.
بعد كل هذا نقول: إن الأرجح أنّ وفاته في حوالي سنة 425 هـ.
وهذا يتفق مع ما ذكره السيوطي، ويقارب ما ذكره الذهبي، ويقارب
ما وجد على النسخة الخطية في دمشق.
والذي يؤكد لنا هذا، ويبعد ما وجد على النسخة الخطية الدمشقية
أنه 412 هـ أنه نقل عن أبي منصور الجبان من كتابه «الشامل في
اللغة» . وقد ذكر ياقوت والسيوطي أنّ الجبّان أقرأ كتابه
«الشامل» في أصفهان سنة 416 هـ.
وأيضا فإنّ الراغب ألّف كتابه في متشابهات القرآن بعد كتاب
المفردات.
وهو أيضا ينقل في كتبه عن الشريف الرضي المتوفى 406 هـ،
ومسكويه المتوفى 421 هـ، وأبي القاسم ابن أبي العلاء المتوفى
في حدود 420 هـ، وأبي القاسم بن بابك المتوفى سنة 410 هـ،
وغيرهم، مما يؤكد ما ذكرناه «2» .
فهذا ما توصلنا إليه، ونسأل الله التوفيق والسداد، فإن أصبنا
الحق فبتوفيق الله، وإن أخطأنا فمن أنفسنا. وآخر دعوانا أن
الحمد لله ربّ العالمين.
صفوان داودي
__________
(1) انظر: مجلة اللغة العربية بدمشق، الجزء الأول، المجلد
الحادي والستون، ربيع الثاني سنة 1406 هـ كانون الثاني 1986 م،
ص 194.
(2) وانظر مقدّمة فهارس الكتاب الفنية ص 899.
(1/38)
|