المفردات في غريب القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة المؤلف
[أعبد الله وأحمده، وأذكره وأشكره، الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة على خير خلقه، ومظهر حقّه، محمّد خاتم النبيين، وسيد المرسلين، ومؤمّل الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين] «1» . قال الشيخ أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب رحمه الله:
أسأل الله أن يجعل لنا من أنواره نورا يرينا الخير والشر بصورتيهما، ويعرّفنا الحق والباطل بحقيقتيهما، حتى نكون ممّن يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، ومن الموصوفين بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح/ 4] ، وبقوله:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة/ 22] .
كنت قد ذكرت في «الرسالة المنبهة على فوائد القرآن» «2» [أنّ الله تعالى كما جعل النبوّة بنبوة نبيّنا مختتمة، وجعل شرائعهم بشريعته من وجه منتسخة، ومن وجه مكمّلة متمّمة كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة/ 3] ، جعل كتابه المنزّل عليه متضمّنا لثمرة كتبه، التي أولاها أوائل الأمم، كما نبّه عليه بقوله تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة/ 2- 3] ، وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه- مع قلّة الحجم- متضمّن للمعنى الجمّ، وبحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه، والآلات الدنيوية عن استيفائه، كما نبّه عليه بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
__________
(1) ما بين [] زيادة من المحمودية.
(2) لم نعثر عليها. وما بين القوسين نقله السيوطي عن الراغب في كتابه «معترك الأقران» 1/ 22، والإتقان 2/ 163.

(1/53)


[لقمان/ 27] . وأشرت في كتاب «الذريعة إلى مكارم الشريعة» «1» أن القرآن- وإن كان لا يخلو الناظر فيه من نور ما يريه، ونفع ما يوليه- فإنه:
1- كالبدر من حيث التفتّ رأيته ... يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا
2- كالشّمس في كبد السّماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا «2»
لكن محاسن أنواره لا يثقّفها إلا البصائر الجليّة، وأطايب ثمره لا يقطفها إلا الأيدي الزكية، ومنافع شفائه لا ينالها إلا النفوس النقيّة، كما صرّح تعالى به فقال في وصف متناوليه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة/ 77- 79] .
وقال في وصف سامعيه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت/ 44] .
وذكرت أنه كما لا تدخل الملائكة الحاملة للبركات بيتا فيه صورة أو كلب، كذلك لا تدخل السكينات الجالبة للبينات قلبا فيه كبر وحرص، فالخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، والطيبات للطيّبين والطيّبون للطيّبات، ودلّلت في تلك الرسالة «3» على كيفية اكتساب الزاد الذي يرقى كاسبه في درجات المعارف، حتى يبلغ من معرفته أقصى ما في قوة البشر أن يدركه من الأحكام والحكم، فيطّلع من كتاب الله على ملكوت السموات والأرض، ويتحقق أنّ كلامه كما وصفه بقوله: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
[الأنعام/ 38] .
جعلنا الله ممن تولّى هدايته حتى يبلّغه هذه المنزلة، ويخوّله هذه المكرمة، فلن يهديه البشر من لم يهده الله، كما قال تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص/ 56] .
وذكرت أنّ أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللّبن في كونه من أول المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه، وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كلّ علم من علوم الشرع
__________
(1) الكتاب مطبوع بمكتبة الكليات الأزهرية بمصر عام 1973 م 1393 هـ. وانظر الذريعة ص 116. [.....]
(2) البيتان لأبي الطيب المتنبي، وهما في شرح ديوانه 1/ 130، والوساطة بين المتنبي وخصومه ص 262، ومعترك الأقران 1/ 23.
(3) أي: الذريعة، وهذا ذكره في الباب الحادي عشر: كون طهارة النفس شرطا في صحة خلافة الله تعالى وكمال عبادته. انظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 29.

(1/54)


فألفاظ القرآن هي لبّ كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم، وما عداها وعدا الألفاظ المتفرّعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة.
وقد استخرت الله تعالى في إملاء كتاب مستوف فيه مفردات ألفاظ القرآن على حروف التهجي، فنقدّم ما أوله الألف، ثم الباء على ترتيب حروف المعجم، معتبرا فيه أوائل حروفه الأصلية دون الزوائد، والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب، وأحيل بالقوانين الدالة على تحقيق مناسبات الألفاظ على «الرسالة» «1» التي عملتها مختصّة بهذا الباب.
ففي اعتماد ما حررته من هذا النحو استغناء في بابه من المثبّطات عن المسارعة في سبيل الخيرات، وعن المسابقة إلى ما حثّنا عليه بقوله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد/ 21] ، سهّل الله علينا الطريق إليها.
وأتبع هذا الكتاب- إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل- بكتاب ينبئ عن تحقيق «الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد، وما بينها من الفروق الغامضة» «2» ، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ المترادفة دون غيره من أخواته، نحو ذكر القلب مرّة والفؤاد مرة والصدر مرّة، ونحو ذكره تعالى في عقب قصّة: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الروم/ 37] ، وفي أخرى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس/ 24] ، وفي أخرى:
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [البقرة/ 230] ، وفي أخرى: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [الأنعام/ 98] ، وفي أخرى: لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران/ 13] ، وفي أخرى: لِذِي حِجْرٍ [الفجر/ 5] ، وفي أخرى: لِأُولِي النُّهى [طه/ 54] ، ونحو ذلك ممّا يعدّه من لا يحقّ الحقّ ويبطل الباطل أنّه باب واحد «3» ، فيقدّر أنه إذا فسّر: الْحَمْدُ لِلَّهِ بقوله: الشكر لله «4» ،
و
__________
(1) وهي باسم «تحقيق مناسبات الألفاظ» . وانظر: ما كتبناه في المقدمة عند الكلام على مؤلفات المصنف.
(2) لم نجد هذا الكتاب.
(3) انظر مقدمة تفسير الراغب ص 76.
(4) هذا من باب التقريب، والتحقيق أنّ بين الحمد والشكر عموما وخصوصا من وجه، وقد أوضح ذلك العلّامة الشنقيطي ابن متّالي فقال:
ونسبة العموم والخصوص من ... وجه فقط للحمد والشكر تعن
وجمع معقولين بانفراد ... كل هو العموم وجها بادي
فالحمد بالثناء مطلقا بدا ... كان جزاء نعمة أو ابتدا
والشكر ما كان جزاءا للنعم ... فالحمد من ذا الوجه وحده أعم
والشكر يأتي عند كل شارح ... بالقلب واللسان والجوارح
والحمد باللسان لا غير وسم ... فاشكر من ذا الوجه وحده أعم
ا. هـ وكذا بين الريب واالشك فرق، فالريب: تحصيل القلق وإفادة الاضطراب، والشك: وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا ترجح أحدهما على الآخر، فتقع في الاضطراب والحيرة. فاستعمال الريب في الشك مجاز من إطلاق اسم المسبب وإرادة السبب. راجع حاشية زاده على البيضاوي 1: 75.

(1/55)


لا رَيْبَ فِيهِ «1» ب: لا شك فيه، فقد فسّر القرآن ووفّاه التبيان.
جعل الله لنا التوفيق رائدا، والتقوى سائقا، ونفعنا بما أولانا وجعله لنا من معاون تحصيل الزاد المأمور به في قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى [البقرة/ 197] .
__________
(1) سورة البقرة آية 2.

(1/56)