المقنع في رسم مصاحف الأمصار

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على محمد وعلى آله وسلم
حدثنا أستاذنا الفقيه المغربي أبو داود سليمان بن نجاح رضي الله عنه قال قرأت على أبي عمرو عثمان بن سعيد عثمان المغربي رضي الله عنه سنة إحدى وأربعين وأربع مئة فقلت رضي الله عنا.
الحمد لله الذي أكرمنا بكتابه المنزل، وشرفنا بنّبيه المرسل، احمده على ما أولانا من مننه، وخصّنا به من جزيل نعمه، حمداً يُزلف عنده، ويوجب مزيده، صلى الله على محمد نبيّ الرحمة ومبلّغ الحكمة وعلى أهله وسلم تسليما.
هذا الكتاب اذكر فيه إن شاء الله ما سمعته من مشيختي ورويته عن أئمتي من مرسوم خطوط مصاحف أهل الأمصار: المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وسائر العراق المصطلح عليه قديما مختلفا عن الإمام مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه وعن سائر النسخ التي انتسخت منه الموجّه بها إلى الكوفة والبصرة والشام وأجعل جميع ذلك أبوابا، وأُصنفه فصولا، أُخليه من بسط العلل ورح المعاني لكي يقرب حفظه، ويخفف متناوله على من التمس معرفته من طالبي القراءة وكاتبي المصاحف وغيهم ممن قد أهمل شرح ذلك وأضرب عن روايته، وأكتفى فيه دهرا بظنه ودرايته، وقد رأيت أن أفتح كتابي هذا بذكر بض ما تأدى اليّ من الأخبار والسنن في شأن أهل المصاحف وجمع القرآن فيها إذ لا يستغنى عن ذكر ذلك فيه أولا، وبالله استعين وعلى إلهامه للصواب اعتمد، وهو حسبي ونعم الوكيل.

(1/12)


باب ذكر من جمع القرآن في الصحف أولا ومن ادخله بين اللوحين ومن كتبه من الصحابة وعلى كم من نسخة جُعل وأين وُجّه بكل نسخة
في ذلك حدثنا أبو القاسم خلف بن إبراهيم بن محمد المقرئ قراءةً مّي عليه قال حدثنا احمد بن محمد المكي قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا القاسم بن سلام قال حدثنا المطّلب بن زياد عن السُدّي عن عبد خير قال اول من جمع القرآن بين لوحين أبو بكر رحمه الله حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان النحوي قراءة عليه قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم السِمَّري قال حدثنا جعفر بن عون قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل الأنصارى عن ابن شهاب عن عبيد بن السبَّاق عن زيد بن ثابت إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى أبي بكر فقال إن القتل قد أسرع في قرّاء القرآن أيام وقد خشيت إن يهلك القرآن فأكتبه فقال أبو بكر فكيف نصنع بشيء لم يأمرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يعهد إلينا فيه فقال عمر افعل فهو والله خير فلم يزل عمر بأبي بكر حتى أرى الله أبا بكر مثل ما رأى عمر قال زيد فدعاني أبو بكر فقال انك رجل شاب قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمع القرآن واكتبه فقال زيد لأبي بكر كيف تصنعون بشيء لم يأمركم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يعهد اليكم فيه عهدا قال فلم يزل بي أبو بكر حتى أرانى الله مثل الذي رأى أبو بكر وعمر فقال والله لو كلفوني نقل الجبال لكان أيسر من الذي

(1/13)


كلّفوني قال فجعلت أتتبع القرآن من صدور الرجال ومن الرقاع ومن الإضلاع ومن العسب قال ففقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أجدها عند أحد فوجدتها عند رجل من الأنصار: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر) فألحقتها في سورتها فكانت تلك الصحف عند أبي بكر حتى مات ثم كانت عند عمر حتى مات ثم كانت عند حفصة.
قال ابن شهاب فأخبرني انس بن إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكانوا يقاتلون على مرج إرمْينية فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين إني قد سمعت الناس اختلفوا في القرآن اختلاف اليهود والنصارى حتى إن الرجل ليقوم فيقول هذه قراءة فلان قال فأرسل عثمان إلى حفصة أرسلي إلينا بالصحف فننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك فأرسلت إليه بالصحف قال فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن عمرو بن العاص وإلى عبد الله بن الزبير وإلى ابن عباس وإلى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال انسخوا هذه الصحف في مصحف واحد وقال للنفر القريشيين إن اختلفتم انتم وزيد بن ثابت فاكتبوه على لسان قريش فإنما نزل بلسان قريش قال زيد فجعلنا نختلف في الشيء ثم نجمع امرنا على رأي واحد فاختلفوا في " التابوت " فقال زيد " التابوه " وقال النفر

(1/14)


" التابوت " قال فأبيت إن ارجع إليهم وأبو إن يرجعوا اليَّ حتى رفعنا ذلك إلى عثمان فقال عثمان اكتبوه " التابوت " فأنما انزل القرآن على لسان قريش قال زيد فذكرت آية سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجدها عند أحد حتى وجدتها عند رجل من الأنصار خُزيمة بن ثابت: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) قال ابن شهاب قال انس فردّ عثمان الصحف إلى حفصة والقى ما سوى ذلك من المصاحف.
حدثنا خلف بن إبراهيم بن محمد بن خاقان المقرئ قراءة منّى عليه قال حدثنا أبو بكر احمد بن محمد المكي قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الحمن بن مهدي حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد بن السباق إن زيد بن ثابت حدثه قال أرسل أليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وإذا عمر عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر بقرّاء القرآن يوم اليمامة وأني اخشى إن يستحر القتل بالقرّاء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير وأني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت له كيف افعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له ورأيت فيه الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر أنت رجل شاب عاقل لا نتّهمنك قد كنت تكتب الوحي للنبيّ صلى الله عليه وسلم فتتّبع القرآن فتجمعه

(1/15)


وساق الخبر على معنى ما تقدم وقال فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف ومن صدور الرجال فوجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) حتى ختم السورة.
قال عبد الحمن حثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن انس بن مالك إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان فذكر القصة وقال فيها فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث وأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ثم قال للرهط القريشين الثلاثة ما اختلفتم فيه انتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش فانه نزل بلسان قريش فنه بلسانهم قال ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان إلى كل افق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف إن يخرق.
حدثنا خلف بن هاشم قراءة عليه قال حدثنا زياد ابن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن أبيه قال اخبرني صاحب لي عن سعيد عن قتادة إن حذيفة بن اليمان قال لعثمان بن عفان ما كنت صانعا إذا قيل قراءة فلان وقراءة فلان كما صنع أهل الكتاب فاصنعه ألان فجمع عثمان الناس على هذا المصحف وهو حرف زيد.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الفرايضي قراءة عليه قال حدثنا

(1/16)


علي بن عبد بن محمد بن احمد بن نصير البغدادي قال حدثنا أحمد بن نصير البغدادي قال حدثنا احمد بن الصقر بن ثوبان قال حدثنا محمد بن عبيد بن حسَاب قال حدثنا حمّاد بن زيد عن أيوب عن أبي قِلابة عن رجل من بني تميم فقال: احسب انس بن مالك قال اختلف المعّلمون في القرآن حتى اقتتلوا أو كان بينهم قتال فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تختلفون وتكذبون به وتلحنون فيه يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فاكتبوه للناس إماما يجمعهم قال وكانوا في المسجد فكثروا فكانوا إذا تماروا في الآية يقولون انه اقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فلان بن فلان وهو على رأس أميال من المدينة فيُبعث إليه من المدينة فيجيء فيقولون كيف اقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كذا وكذا فيكتبون كما قال.
حدثنا سلمون بن داود القروي قراءة منّي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد بن أبي رافع قال رافع قال حدثنا إسماعيل بن اسحق قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة حدثني من كان يكتب معهم قال حماد أظنه أنس بن مالك القشيري قال كانوا يختلفون في الآية فيقولون أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان ابن فلان فعسى إن يكون أن يكون على رأس ثلاث ليال من المدينة فيُرسل إليه فيجاء به فيقال له كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذا وكذا فيكتب كما يقول.
حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن عفان القشيري الزاهد قراءة عليه قال

(1/17)


حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا مجالد عن عامر قال قال صعصعة استخلف الله أبا بكر فأقام الصحف.
حدثنا أبو محمد خلف بن أحمد العبدري قراءة عليه قال حدثنا زياد بن عبد الرحمن اللؤلؤي قال حدثنا محمد بن يحيى بن حميد قال حدثنا محمد بن يحيى بن سلام عن ابيه عن إبراهيم بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه إن أبا بكر الصديق أول من جمع القرآن في المصاحف حين قتل اصحاب اليمامة وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف واحد.
حدثنا خلف بن حمدان بن خاقان المالكي قال حدثنا محمد بن عبد الله بن زكريا قال حدثنا عمّي يحيى بن زكريا قال حدثنا يونس قال ابن وهب سمعت مالكا يقول إنما أُلّف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا الخاقاني قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا علي بن عبد العزيز قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن علقمة بن مَرْثَد عن رجل عن سويد بن غفلة قال علي رضي الله عنه لو وُلّيتُ لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان.
حدثنا خلف بن حمدان قال حدثنا أحمد المكي قال حدثنا علي قال حدثنا القاسم قال حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي اسحق عن مصعب بن سعد قال أدركت الناس حين شقّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم يعب ذلك أحد.

(1/18)


حدثنا أحمد بن إبراهيم بن فراس المكي اجازةً قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد قال حدثني جدّي قال حدثنا ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي قال سألنا المهاجرين من اين تعلمتم الكتاب قالوا من أهل الحيرة وقالوا لآهل الحيرة من أين تعلمتم قالوا من الانبار.
قال أبو عمرو اكثر العلماء على إن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن فوجّه إلى الكوفة احاهن وإلى البصرة أخرى وإلى الشام الثالثة وامسك عند نفسه واحدة وقد قيل انه جعله سبع نسخ ووجّه من ذلك أيضا نسخة إلى مكة ونسخة إلى اليمن ونسخة إلى البحرين والأول أصح وعليه الأئمة.
وسئل مالك رحمه الله هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال لا إلا على الكتبة الأولى.
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن الحسن إن عبد العزيز بن علي حدثهم قال حدثنا المقدام بن تليد قال حدثنا عبد الله بن عبد الحكم قال قال اشهب سئل مالك فقيل له ارأيت من استكتب مصحفا اليوم أترى أن يكتب على ما احدث الناس من الهجاء اليوم فقال لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى قال أبو عمرو ولا مخالف له في ذلك من علماء الآمة وبالله التوفيق.

(1/19)