الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام محققا القسم الأول من
الكتاب الدراسة
وتشمل ثلاثة فصول ومدخل:
الفصل الأول: ترجمة شاملة لأبي عبيد القاسم بن سلّام الهروي.
الفصل الثاني: دراسة لكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز.
الفصل الثالث: ذكر لمن صنف في الناسخ والمنسوخ، ذكر لمن أنكر
ثبوت النسخ.
المدخل: وصف المخطوط وذكر المنهج الذي سرت عليه في التحقيق
والمصطلحات التي ألزمت بها نفسي أثناء ذلك.
(المقدمة/11)
الفصل الأول ترجمة
المؤلف
وتشمل:
1 - نسبه وشهرته.
2 - مولده.
3 - العصر الذي عاش فيه: الحالة السياسية- الحالة العلمية.
4 - مكانته وثناء العلماء عليه.
5 - ذكر من أخذ عنهم العلم: شيوخه في القراءات- شيوخه في
الحديث- شيوخه في اللغة والأدب- شيوخه في الفقه.
6 - ذكر الذين أخذوا عنه العلم.
7 - عقيدته: مذهبه في الإيمان- مذهبه في الصفات.
8 - أقوال أثرت عنه.
9 - مصنفاته.
10 - وفاته.
(المقدمة/12)
ترجمة المؤلف
1 - نسبه وشهرته
القاسم بن سلام (بتشديد اللام) (1) أبو عبيد (آخره دال مهملة)
التركي (2) الخراساني (3) الهروي (4) المولد والمنشأ، الأزدي
(5) الأنصاري (6) الخزاعي (7) بالولاء، الجمحي (8) البغدادي
(9) اللّغوي (10) الشافعي (11) القاضي (12).
كان أبوه مملوكا روميا لرجل من أهل هراة (13).
__________
(1) انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/ 35، وفيات الأعيان 4/ 60،
طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/ 270، الرسالة المستطرفة 35
هدية العارفين 1/ 825، الكامل لابن الأثير 5/ 259.
(2) انظر: طبقات المفسرين للداودي المرجع السابق.
(3) انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 17، المعارف لابن
قتيبة 549.
(4) انظر: معجم المطبوعات العربية المعرّبة 121.
(5) انظر: المعارف المرجع السابق، هدية العارفين المرجع
السابق.
(6) انظر: معرفة القراء الكبار 1/ 141، غاية النهاية في طبقات
القراء المرجع السابق.
(7) انظر: تاريخ العلماء النحويين 197.
(8) انظر: كشف الظنون 2/ 1277.
(9) انظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 7/ 111، معرفة القراء
الكبار 1/ 141، الخلاصة للخزرجي 2/ 343، غاية النهاية في طبقات
القراء المرجع السابق، الرسالة المستطرفة المرجع السابق، العبر
في خبر من غير 1/ 392، التاريخ الكبير للبخاري 4/ 172.
(10) انظر: تذكرة الحفاظ 2/ 417، الرسالة المستطرفة المرجع
السابق، الكامل لابن الأثير المرجع السابق.
(11) انظر: الرسالة المستطرفة المرجع السابق.
(12) انظر: طبقات الحفاظ للسيوطي 179.
(13) انظر: طبقات المفسرين للداودي المرجع السابق، نزهة
الألبّاء 136 معجم الأدباء 8/ 254، تاريخ بغداد 12/ 403، شذرات
الذهب 2/ 55. هراة: بالفتح مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن
خراسان. (معجم البلدان 5/ 396)
(المقدمة/13)
2 - مولده
ولد أبو عبيد بهراة (1) سنة أربع وخمسين ومائة (2) وقيل سنة
خمسين ومائة (3). وقيل سبع وخمسين ومائة (4).
... 3 - العصر الذي عاش فيه
كان الزمن الذي أظل أبا عبيد من أزهى عصور الإسلام إذ بين سنة
الستين والمائة وسنة الأربع والعشرين والمائتين وهي الفترة
التي عاش خلالها القاسم ابن سلّام، تعاقب على خلافة المسلمين
فيها ستة من خلفاء بني العباس:
المهدي (5)، الهادي (6) الرشيد (7)، الأمين (8)، المأمون (9)،
__________
(1) انظر: إنباه الرواة 3/ 13، معجم المؤلفين 8/ 101، تذكرة
الحفاظ 2/ 417.
(2) انظر: هدية العارفين 825، وفيات الأعيان 4/ 60.
(3) انظر: وفيات الأعيان المرجع السابق.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 491.
(5) انظر: المهدي: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد
بن علي بن عبد الله بن العباس، بويع له بالخلافة حين وصل الخبر
بوفاة المنصور وذلك سنة ثمان وخمسين ومائة، ومات آخر سنة تسع
وستين ومائة. انظر: (الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني
69، الثقات لابن حبان 2/ 324 وما بعدها).
(6) الهادي: هو موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور، بويع
له بالخلافة بجرجان لثمان من المحرم سنة تسع وستين ومائة ولم
يلبث في الخلافة إلا سنة ثم توفي سنة سبعين ومائة.
انظر: الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني 73، الثقات لابن
حبان 2/ 324 وما بعدها).
(7) هارون الرشيد: هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن
المنصور عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس.
مولده بالري سنة ثمان وأربعين ومائة، ولي الخلافة في ربيع
الآخر سنة سبعين ومائة، وانتهت خلافته بموته في جمادى الآخرة
سنة ثلاث وتسعين ومائة.
انظر: (الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني 75).
(8) الأمين: هو أبو عبد الله محمد بن هارون الرشيد، ابتدأت
خلافته بموت أبيه الرشيد وانتهت بمقتله على يد أخيه المأمون
بعد صراع نشب بينهما على إثر ما هم به الأمين من نزع ولاية
العهد من أخيه وجعلها في ابنه، سنة سبع وتسعين ومائة لسبع بقين
من المحرم.
انظر: (الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني 89، الثقات 2/
324 وما بعدها).
(9) المأمون: هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد، تقلد
الخلافة بعد مقتل أخيه وسنه سبع وعشرون سنة، وكان مولده ببغداد
في الليلة التي استخلف فيها الرشيد سنة سبعين ومائة، وجمع له
الرشيد الفقهاء والمحدثين من الآفاق فبرع وفاق في سائر العلوم
على سائر أبناء جنسه. وقد اتخذ خراسان
(المقدمة/14)
المعتصم (1).
وكانت الخلافة لبني العباس قد استقرت في حياة المؤسس الحقيقي
أبي جعفر المنصور فاستلمها الذين ورثوا الأمر من بعده ثابتة
القواعد موطأة الأكناف (2) يكدر صفوها ثورات في المشرق والمغرب
لا تلبث أن تخمد في مهدها.
وكان لاهتمام الخلفاء كالرشيد والمأمون بالعلم وإعلائهم منزلة
العلماء أبلغ الأثر في ظهور نهضة علمية في أرجاء ولايات دولة
الخلافة في بغداد وخراسان ومصر والحرمين. وأبو عبيد القاسم بن
سلّام الذي ولد ونشأ وترعرع في هراة ومرو (3) من أعمال خراسان
ثم انتقل بعد ذلك إلى كل من بغداد، طرسوس، مصر، مكة، قد تأثر
وأثر بالحالة السياسية والعلمية القائمة آنذاك.
الحالة السياسية
: 1 - خراسان:
كانت خراسان موطنا للثورات والفتن طيلة عهد خلفاء بني العباس.
فعلى سبيل المثال في سنة إحدى وستين ومائة خرج رجل يقال له
المقنع في قرية من قرى مرو فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه
وأنفذ إليه جيوشا كثيرة (4).
__________
مقرا للخلافة إلى سنة أربع ومائتين إذ قدم بغداد واستقر بها،
فلما كان في سنة ثماني عشرة ومائتين غزا الروم وقهرها وفي
عودته أقام أياما بطرسوس فمات بها في تلك السنة وكان عمره ثمان
وأربعين سنة وأربعة أشهر.
انظر: (الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني 96 - 103).
(1) المعتصم: هو أبو اسحاق محمد بن هارون الرشيد، ولد في شعبان
سنة ثمان وسبعين ومائة، وبويع له بالخلافة يوم الخميس لاثنتي
عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين وتوفي المعتصم
ب- سر من رأى- لثمان بقين من ربيع الأول من سنة سبع وعشرين
ومائتين.
انظر: (الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني 104 - 110).
(2) انظر: العالم الإسلامي في العصر العباسي/ حسن أحمد محمود،
أحمد إبراهيم الشريف ص 132.
(3) مرو: هي مرو العظمى أشهر مدن خراسان. (معجم البلدان 5/
112).
(4) البداية والنهاية 10/ 133.
(المقدمة/15)
وفي سنة اثنتين وستين ومائة خرجت طائفة
بجرجان (1) فلبسوا الحمرة شعارا لهم فغزاهم عمرو بن العلاء من
طبرستان وقهرهم فأبادهم جميعا (2). وفي سنة تسع ومائتين جرت
حروب مع بابك الخرّمي فأسر بعض أمراء الإسلام وأحد مقدّمي
العساكر فاشتد ذلك على المسلمين (3). وفي سنة تسع عشرة ومائتين
ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بالطالقان من
خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد واجتمع عليه خلق كثير،
وقاتله قواد عبد الله بن طاهر (4) مرات متعددة ثم ظهروا عليه
وهرب (5). وهكذا تبين من خلال هذا العرض التاريخى لمسرح
الأحداث في خراسان في فترات من الزمن الذي عاصره أبو عبيد مدى
ضراوة الوضع السياسي والأمني لتلك البلاد ولم يكن القاسم بن
سلّام أيام إقامته بخراسان بمعزل عن الأحداث بل كان قريبا من
وهجها فلقد كان مؤدبا لآل هرثمة (6)، وهرثمة هذا هو ابن أعين
(7) الذي دخل خراسان نائبا عليها
__________
(1) جرجان: بالضم وآخره نون مدينة عظيمة مشهورة بين طبرستان
وخراسان وليس بالمشرق بعد أن تجاوز العراق مدينة أجمع ولا أظهر
حسنا منها. (معجم البلدان 2/ 119).
(2) البداية والنهاية 10/ 135.
(3) المرجع السابق 10/ 263.
(4) عبد الله بن طاهر بن الحسين أبو العباس الخزاعي، كان
المأمون ولاه الشام حربا وخراجا فخرج من بغداد إليها واحتوى
عليها وبلغ إلى مصر ثم عاد، فولاه المأمون إمارة خراسان فخرج
إليها وأقام بها حتى مات، وكان أحد الأجواد الممدّحين والسمحاء
المذكورين، توفي بنيسابور سنة ثلاثين ومائتين وعمره ثمان
وأربعون سنة.
(تاريخ بغداد 9/ 483 - 489).
(5) البداية والنهاية 10/ 282.
(6) انظر: إنباه الرواة على أنباء النحاة للقفطي 3/ 13.
(7) هرثمة بن أعين: مولى بني ضبة، أحد القواد الكبار في دولة
بني العباس ولي في عهد المهدي والرشيد والمأمون فعرف بالنصح
لبني العباس والقدرة على سياسته من تحت يده، ولّاه الرشيد بلاد
إفريقيا فسار بهم سيرة حسنة ثم الموصل ثم خراسان، ثم أصبح
قائدا للمأمون فاستعان به على إخماد الثورات والفتن، وفي سنة
مائتين وشي به عند المأمون فأمر بسجنه ثم دس له السم فمات بعد
أيام من سجنه.
انظر: (الكامل في التاريخ 5/ 70، 96، 107، 126، 179).
(المقدمة/16)
سنة اثنتين وتسعين ومائة من قبل المأمون
(1). وكان طاهر بن الحسين (2) لما نزل مرو من خراسان طلب رجلا
يحدثه ليلة فقيل ما هاهنا إلا رجل مؤدب فأدخل عليه أبو عبيد
القاسم بن سلّام فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة
والفقه فقال له: من المظالم تركك أنت بهذا البلد فدفع إليه ألف
دينار وقال له أنا متوجه إلى خراسان إلى حرب وليس أحب استصحابك
شفقا عليك فأنفق هذا إلى أن أعود إليك فألف أبو عبيد غريب
المصنف إلى أن عاد طاهر من خراسان، فحمله معه إلى سر من رأى
(3) وطاهر هذا هو قائد من كبار قواد المأمون قد ولاه خراسان
سنة خمس ومائتين (4) أضف إلى ذلك أن أبا عبيد قد لازم عبد الله
بن طاهر أيام مقامه واليا على خراسان من قبل المأمون إذ تولى
عليها بعد وفاة والده سنة ست ومائتين (5). قال ابن خلكان:
وانقطع أبو عبيد إلى عبد الله بن طاهر مدة ولما وضع كتابه
الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر فاستحسنه وقال: إن عقلا بعث
صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش وأجرى
عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر (6) وهكذا يظهر بجلاء ووضوح مدى
ما كان يتمتع به أبو عبيد من مكانة عالية لدى ولاة خراسان
وأهلها.
2 - بغداد
: لقد عاش أبو عبيد في بغداد دار السلام عاصمة الخلافة مدة من
الزمن.
قال الخطيب في تاريخه: كان قد أقام ببغداد مدة ثم ولي القضاء
بطرسوس وخرج
__________
(1) البداية والنهاية 10/ 206.
(2) طاهر بن الحسين: بن مصعب بن رزين بن أسعد بن زاذان أبو
طلحة الخزاعي، والي خراسان، كان من رجالات الناس، جوادا
ممدّحا، توفي بمرو سنة سبع ومائتين.
(انظر: تاريخ بغداد 9/ 353، 355).
(3) انظر: تاريخ بغداد 12/ 405، 406. سر من رأى: مدينة كانت
بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة استحدث المعتصم بناءها. فسماها
بذلك وكانت قبل تعرف بسامراء. (معجم البلدان 3/ 173، 215).
(4) انظر: البداية والنهاية 10/ 255.
(5) البداية والنهاية 10/ 259.
(6) انظر: وفيات الأعيان 4/ 6.
(المقدمة/17)
بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها (1)
وقال أبو يعلى في طبقات الحنابلة:
قد أقام ببغداد ثم ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة وخرج بعد
ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها (2).
وقد كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني قد أنهى بناء
بغداد وسكنها سنة ست وأربعين ومائة (3) فظلت مركزا للخلافة في
عهد المهدي والهادي والرشيد والأمين فغدا أمرا بدهيا أن تظل في
حكمهم موطدة الأركان مزدهرة العمران، عزيزة السلطان يكدر صفوها
تلك الثورات والهجمات المتوالية بين الحين والآخر.
وكمثال على ذلك نكبة هارون الرشيد سنة سبع وثمانين ومائة
للبرامكة ومحوه آثارهم من مدينة دار السلام، وفي ذلك يقول ابن
كثير: قتل جعفر بن يحيى البرمكي، ودمر ديارهم، واندرست آثارهم،
وذهب صغارهم وكبارهم اه (4). وهو حدث كبير الخطورة إذ كان
للبرامكة من العزة والسلطان عند الرشيد وعامة الناس القدر الذي
يضاهي منزلة الخليفة ويكاد يعلو عليه.
على أن أعظم رزية حلت ببغداد محاصرة طاهر بن الحسين وهرثمة بن
أعين للخليفة الأمين بدار السلام بأمر من المأمون، وذلك بعد أن
نشب النزاع بين الأخوين على إثر نزع الأمين ولاية العهد من
أخيه المأمون وجعلها في ابنه موسى.
ولقد أسفر هذا الحصار عن قتل الأمين بعد أن عم الخراب بغداد
وأصابها الذعر والجوع، قال ابن كثير يصف تلك الحالة: واشتد
الحال على أهل البلد وأخاف الدّعار والشطار أهل الصلاح، وخربت
الديار وصارت الفتنة بين الناس حتى قاتل الأخ أخاه للأهواء
المختلفة، والابن أباه، وجرت شرور عظيمة واختلفت الأهواء وكثر
الفساد والقتل داخل البلد (5).
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد 12/ 403.
(2) انظر: طبقات الحنابلة 1/ 260.
(3) البداية والنهاية 10/ 96.
(4) البداية والنهاية 10/ 189.
(5) البداية والنهاية 10/ 237، 243.
(المقدمة/18)
وفي سنة اثنتين ومائتين بويع لإبراهيم بن
المهدي بالخلافة في بغداد وخلع خلافة المأمون ولقب بالمبارك
فأرسل له المأمون جيشا ألحق به أبلغ الهزيمة فاختفى بعد سنة من
ظهوره (1) وفي تلك السنة شخص المأمون من مرو إلى بغداد فقدمها
سنة أربع ومائتين وانقطعت مادة الفتن بمقدمه (2).
هذه بعض نماذج من وقائع جرت في مدينة السلام كان لها دون أدنى
شك أبلغ الأثر في عرقلة التقدم العلمي والرقي العمراني.
3 - طرسوس (3):
كانت ثغرا من ثغور المسلمين في مواجهة الروم وكانت حياة الثغور
يعوزها الاستقرار إذ تتسم بالمرابطة والترقب الدائم تحسبا لأي
غارة قد يشنها أعداء الأمة المسلمة من أمم الكفر المجاورة وقد
كانت هذه المدينة- مثلها مثل غيرها من الثغور المتاخمة
للأعداء- يؤمها الصالحون والأخيار (4) رجاء الحصول على الأجر
والفوز من الله جل ثناؤه، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله
خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من
الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة
خير من الدنيا وما عليها» رواه البخاري (5).
أقام أبو عبيد في طرسوس ثماني عشرة سنة تولى خلالها منصب
القضاء لواليها ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وقد كان من قبل
ذلك مؤدبا لأولاده (6).
__________
(1) البداية والنهاية 10/ 250.
(2) تاريخ الأمم والملوك الطبري 8/ 574 - ت محمد أبو الفضل
إبراهيم.
(3) طرسوس: بفتح أوله وثانيه، مدينة بثغور الشام بين أنطاكية
وحلب وبلاد الروم.
(معجم البلدان 4/ 28).
(4) انظر معجم البلدان المرجع السابق.
(5) انظر: صحيح البخاري 3/ 224.
(6) انظر: طبقات النحويين 217، مرآة الجنان لليافعي 2/ 84،
والمعارف لابن قتيبة 549.
(المقدمة/19)
وبعد طرسوس نزل أبو عبيد مصر بصحبة يحيى بن
معين سنة ثلاث عشرة ومائتين وكتب وصنف بها (1).
وفي سنة تسع عشرة ومائتين وقيل سنة أربع عشرة ومائتين خرج أبو
عبيد من العراق إلى مكة للحج (2). فلما عزم العودة إلى العراق
واستأجر مركبا بعد الفراغ من حجه رأى رؤيا كانت سببا في
مجاورته للبلد الأمين حتى مات.
قال أبو عبيد: فرأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في النوم وهو
جالس على فراشه وقوم يحجبونه والناس يدخلون إليه ويسلمون عليه
ويصافحونه. قال: فلما دنوت لأدخل مع الناس منعت فقلت لهم: لم
لا تخلّون بينى وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟
فقالوا: إي والله، لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غدا
إلى العراق فقلت لهم: فإني لا أخرج إذا، فأخذوا عهدي ثم خلوا
بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخلت وسلمت وصافحت،
فلما أصبح قرر الإقامة في مكة فلم يغادرها حتى مات (3).
الحالة العلمية في عصره
: لقد عاش أبو عبيد القاسم بن سلّام في أرقى عصور الإسلام من
الجانب العلمي والفكري. إذ في العصر العباسي الأول أيام خلافة
هارون الرشيد، المهدي، الهادي، المأمون مثلا، ظهر في حاضرة
بلاد الإسلام علماء أجلاء قعّدوا العلوم وأصّلوها وأفردوها
بالتصنيف والإضافة والتكميل فكان بحق العصر الذهبي لعلوم هذا
الدين.
وقد حفل معظم خلفاء بني العباس بالعلم وأولوه عنايتهم وقربوا
العلماء وأعلوا منازلهم كالخليفة المهدي فإنه أول من أمر
بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين (4). وهارون
الرشيد الذي أحال بغداد قبلة لطلاب العلم
__________
(1) انظر: التهذيب 8/ 315، 316.
(2) انظر: نزهة الألباء ص 141، وتهذيب الأسماء واللغات الجزء
الثاني من القسم الأول/ 258. ومعجم الأدباء 8/ 254.
(3) انظر: معجم الأدباء 8/ 256، 257، إنباه الرواة 21، مرآة
الجنان 2/ 85، 86، طبقات النحويين واللغويين 2190.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطى ص 271.
(المقدمة/20)
يرحلون إليها من مختلف الأمصار لإتمام ما
ابتدءوه من العلوم والفنون، فكانت بمثابة مدرسة عليا لطلاب
العلوم الشرعية والعربية. وكان فيها كبار المحدثين والقراء
والفقهاء والنحويين وحفاظ اللغة وآداب العرب، وقلما كان يتم
لإنسان وصف عالم أو فقيه أو محدث إلا إذا رحل إلى بغداد وأخذ
عن علمائها (1).
والمأمون كان عهده من أرقى عهود العلم في عصر بني العباس ساعد
على ذلك أمران:
أولهما: اشتغال الخليفة نفسه بالعلم وطلبه منذ نعومة أظفاره
فلقد جالس العلماء وأخذ عنهم الحديث والتفسير والفقه واللغة
فعلى سبيل المثال قد عمل أبو عبيد غريب الحديث للمأمون وقرأه
عليه (2).
وثانيهما: نبوغ الأعداد الغفيرة من العلماء آنذاك في مختلف
العلوم (3) إذ امتلأت أرجاء الولايات الإسلامية بكبار الحفاظ
والأئمة كالإمام أحمد والبخاري والأصمعي والكسائي، والفراء،
وابن المبارك، وسفيان الثوري، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن
الجراح وأمثالهم وأشباههم.
وتبع الخلفاء في الاهتمام بشأن العلم وإعلاء منزلة العلماء
كثير من القواد والولاة في هذا العصر أمثال طاهر بن الحسين
والي خراسان وابنه عبد الله من بعده وهرثمة بن أعين والي
طرسوس.
.... ولئن كان ذلك كذلك فإني لا أعتبر اهتمام الخلفاء وولاتهم
في أي عصر من العصور الزاهرة في تاريخ أمتنا وحده سببا في نبوغ
العلماء ووصول الخط البياني للعلم إلى أعلى درجة في الارتفاع.
إذ أن البذور لا تستنبت في الهواء ولو لم يلق الخلفاء والولاة
نهضة علمية جادة قوية التمكين لما نشأ لديهم الاهتمام بالعلم
أصلا ولما وجدوا إبداعا علميا يكافئون عليه أصحابه ومبدعيه. بل
إن
__________
(1) انظر: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ص 135.
(2) انظر: تاريخ بغداد 12/ 408.
(3) انظر: محاضرات تاريخ الأمم 206.
(المقدمة/21)
الخليفة أحيانا يوصد الأبواب أمام حرية
الاتجاه العلمي. ويحاول إكراه ما وصلت يده إليه من العلماء على
اعتناق مذهب يرون بطلانه، وشبهة أوضحت لهم الأدلة والنصوص ضلال
من انتحلها أو دعا إليها.
ومع هذا تستمر مسيرة هؤلاء العلماء فوق الصخور ومن خلال
الأشواك.
لأن حكمة الله جلّ ثناؤه اقتضت ذلك: إذا أراد الله إعزاز شرعه
قيض له من يناوئه. وبعد فإن رصدا عاجلا لشيوخ أبي عبيد الذين
تلقى عنهم الحديث والتفسير واللغة والقراءات ليعطي صورة واضحة
عن المستوى العلمي الذي كان علماء ذلك العصر يرفلون في حلله.
4 - مكانته وثناء العلماء عليه
إن لأبي عبيد من حصافة الرأي ورجاحة العقل وبعد النظر والتمكن
من العلم ما جعله يحظى بالمنزلة الرفيعة لدى جلسائه وندمائه
ومن عاصره من الولاة والأئمة والحفاظ، ومن وصلت إليهم مصنفاته
وسيرته.
قال أبو الحسن النحوي: كان طاهر بن الحسين حين مضى إلى خراسان
نزل بمرو فطلب رجلا يحدثه ليلة فقيل: ما هاهنا إلا رجل مؤدب
فأدخل عليه أبو عبيد القاسم بن سلام، فوجده أعلم الناس بأيام
الناس والنحو واللغة والفقه، فقال له: من الظلم تركك بهذا
البلد، ودفع إليه ألف دينار.
ولما عمل أبو عبيد كتاب: غريب الحديث وعرضه على عبد الله بن
طاهر استحسنه وقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب
لحقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل
شهر (1).
__________
(1) انظر: إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي 3/ 13، 15،
16، تاريخ بغداد 12/ 405، 406. قلت: ولا يظن ظان أن أبا عبيد
كان يمتهن شرف العلم بأخذ العطايا على تصنيفه إذ قد روى
(المقدمة/22)
وبينما أبو عبيد في صحبة عبد الله بن طاهر
إذ وجه إليه أبو دلف (1) يستهديه أبا عبيد مدة شهرين، فأنفذ
أبا عبيد إليه فأقام شهرين بمثابة الأستاذ الزائر، فلما أراد
أبو عبيد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها
وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجنى إلى صلة غيره ولا آخذ ما فيه
علي نقص (2).
ولما مات أبو عبيد بمكة نعي إلى عبد الله بن طاهر فرثاه بقصيدة
قال فيها:
يا طالب العلم قد مات ابن سلّام ... وكان فارس علم غير محجام
مات الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم يلف مثلهم إسناد أحكام
حبر البرية عبد الله أولهم ... وعامر ولنعم الثاويا عامي
هما اللذان أنافا فوق غيرهما ... والقاسمان ابن معن وابن سلام
(3)
ولقد اتفق أهل عصره في الثناء عليه والاعتراف بعلو قدره
وإنزاله مدارج العلماء الكبار، أثنى عليه المحدثون والفقهاء
والأدباء وعلماء اللغة ونطقوا في بيان أمانته وورعه وسعة علمه
وجودة مؤلفاته وتصانيفه.
__________
الخطيب في تاريخه بسنده قال ابن عرعرة: كان طاهر بن عبد الله
ببغداد فطمع في أن يسمع من أبي عبيد وطمع أن يأتيه في منزله
فلم يفعل أبو عبيد، حتى كان هذا يأتيه، فقدم علي بن المديني
وعباس العنبرى فأرادا أن يسمعا غريب الحديث فكان يحمل كل يوم
كتابه ويأتيهما في منزلهما فيحدثهما فيه.
انظر: (تاريخ بغداد 12/ 407).
قلت: أفلست ترى أن أبا عبيد يذهب إلى الأب عبد الله بن طاهر
لمكانته وإجلاله للعلم كما كان يذهب إلى يحيى بن معين والعنبرى
ويمتنع عن المجيء إلى الابن طاهر بن عبد الله صيانة للعلم
وحفظا لشرفه.
(1) أبو دلف: هو القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمرو أبو
دلف العجلي أمير الكرج، كان شاعرا أديبا سمحا جوادا وبطلا
شجاعا، مات ببغداد سنة خمس وعشرين ومائتين.
انظر: (تاريخ بغداد 12/ 422).
(2) انظر: تاريخ بغداد 12/ 406، معجم الأدباء 8/ 256.
(3) المرجع السابق 412.
(المقدمة/23)
قال إسحاق بن راهويه: الحق يحبه الله عز
وجل أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني وقال: أبو
عبيد أوسعنا علما وأكثرنا جمعا. إنا نحتاج إلى أبى عبيد وأبو
عبيد لا يحتاج إلينا (1).
وقال الإمام أحمد: أبو عبيد القاسم بن سلّام ممن يزداد كل يوم
عندنا خيرا (2).
وقال حمدان بن سهل: سألت يحيى بن معين عن الكتابة عن أبي عبيد
والسماع منه فتبسم وقال: مثلي يسأل عن أبي عبيد؟! أبو عبيد
يسأل عن الناس لقد كنت عند الأصمعي يوما إذ أقبل أبو عبيد فشق
إليه بصره حتى اقترب منه فقال: أترون هذا المقبل؟ قالوا: نعم.
قال: لن تضيع الدنيا أو لن يضيع الناس ما حيى هذا (3).
وقال القاضي أحمد بن كامل: أبو عبيد فاضل في دينه وعلمه متفنن
في أصناف علوم الإسلام من القرآن والفقه والعربية والأخبار،
حسن الرواية صحيح النقل لا أعلم أحدا من الناس طعن عليه في شيء
من أمر دينه (4).
وقال الهلال بن العلاء الرقي: منّ الله تعالى على هذه الأمة
بأربعة في زمانهم: بالشافعي تفقه في حديث رسول الله صلّى الله
عليه وسلم وبالإمام أحمد ثبت في المحنة ولولا ذلك لكفر الناس
أو قال ابتدعوا، وبيحيى بن معين نفى الكذب عن حديث رسول الله
صلّى الله عليه وسلم وبأبي عبيد القاسم بن سلّام فسر غريب
الحديث ولولا ذلك لاقتحم الناس الخطأ (5).
__________
(1) تاريخ بغداد 12/ 411، طبقات النحويين واللغويين للزبيدي ص
217، إنباه الرواة للقفطي 3/ 19.
(2) تاريخ بغداد 12/ 414، 415، إنباه الرواة 3/ 21.
(3) تاريخ بغداد 12/ 414، إنباه الرواة 3/ 21.
(4) مرآة الجنان لليافعي 2/ 84، إنباه الرواة المرجع السابق،
نور القبس لليغموري 315.
(5) انظر: مرآة الجنان لليافعي 2/ 85، نزهة الألباء ص 139.
(المقدمة/24)
وقال الحاكم: هو الإمام المقبول عند الكل
(1).
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: ومن المعلمين ثم الفقهاء والمحدثين،
ومن النحويين والعلماء بالكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وبغريب
الحديث، وإعراب القرآن، وممن قد جمع صنوفا من العلم أبو عبيد
القاسم بن سلام، وكان مؤدبا لم يكتب الناس أصح من كتبه ولا
أكثر فائدة (2).
وبالغ السيوطى في الثناء عليه فقال: كان أبو عبيد إمام أهل
عصره في كل فن من العلم (3).
وقال ابن درستويه الفارسي النحوي؛ كان أبو عبيد ذا فضل ودين
وستر ومذهب حسن (4).
وبعد فهذه شخصية أبي عبيد العلمية من خلال شهادات علماء كبار
وأئمة حفاظ تتلمذ على بعضهم، والبعض الآخر أخذوا عنه وسمعوا
تصانيفه، فكانوا كما قال ابن درستويه: وكتبه مستحسنة مطلوبة في
كل بلد والرواة عنه مشهورون ثقات ذوو ذكر ونبل (5).
5 - ذكر من أخذ عنهم العلم
أخذ أبو عبيد وسمع القراءات والتفسير والحديث واللغة والأدب،
والفقه عن خلائق لا يحصون وسأذكر جملة من بعض هذه الفئات معرفا
بكل منهم على جهة الاختصار والإيجاز.
__________
(1) انظر: طبقات الشافعية للسبكي 1/ 271.
(2) انظر: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي 217.
(3) انظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة 2/ 253.
(4) انظر: تاريخ بغداد 12/ 404.
(5) المرجع السابق.
(المقدمة/25)
شيوخه في القراءات:
أخذ أبو عبيد القراءة عرضا وسماعا عن قراء مشهود لهم بالإمامة
والفضل فكان منهم:
1 - الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن قيس بن فيروز
الأسدي مولاهم الكوفي الكسائي أحد أئمة القراءة والتجويد في
بغداد، أخذ القراءة عن حمزة الزيات مذاكرة وقرأ عليه القرآن
أربع مرات، يقال أن سبب تسميته الكسائي أنه كان يحضر مجلس حمزة
بالليل ملتفا في كساء. وقيل أحرم في كساء فلقب الكسائي، أثنى
عليه الشافعي في النحو، وقال ابن الأنباري كان أعلم الناس
بالنحو والعربية والقراءات، مات بالري سنة ثمانين ومائة. وقيل
سنة تسع وثمانين ومائة وقيل غير ذلك (1).
2 - شجاع بن أبي نصر البلخى أبو نعيم المقري، قال أبو عبيد
القاسم ابن سلّام: حدثنا شجاع بن أبي نصر وكان صدوقا مأمونا،
سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: بخ بخ، وأين مثله اليوم، توفي شجاع
ببغداد سنة تسعين ومائة (2).
3 - إسماعيل بن جعفر القاري: هو إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير
الأنصاري الزرقي مولاهم أبو إسحاق القاري. أخذ القراءة عرضا
على شيبة بن نصاح وبرع في القراءة فنزل بغداد ونشر بها علمه
وأقرأ بها، قال ابن معين:
إسماعيل بن جعفر ثقة مأمون قليل الخطأ، توفي ببغداد سنة ثمانين
ومائة (3).
4 - حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبو محمد مولى سليمان بن
مجالد ترمذي الأصل، سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة قال الإمام
أحمد:
__________
(1) انظر: التهذيب 7/ 313، 314، تاريخ العلماء النحويين ص 190،
193.
(2) التهذيب 4/ 313، معرفة القراء الكبار 1/ 134.
(3) التهذيب 1/ 287، معرفة القراء الكبار 1/ 120.
(المقدمة/26)
ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف، مات
ببغداد سنة ست ومائتين وقال في التقريب: ثقة ثبت لكنه اختلط في
آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته (1).
5 - أبو مسهر: عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى بن مسلم
الغساني أبو مسهر الدمشقي، قال أحمد: رحم الله أبا مسهر ما كان
أثبته، وقال ابن حبان كان إمام أهل الشام في
الحفظ والإتقان. أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم القارئ
ونافع بن أبي نعيم، روى القراءة عنه أبو عبيد. ولد سنة أربعين
ومائة ومات محبوسا بسبب الفتنة بالقرآن بالعراق سنة ثمان عشرة
ومائتين (2).
6 - هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة أبو الوليد السلمي، إمام
أهل دمشق وخطيبهم ومقرئهم ومحدثهم وفقيههم، ولد سنة ثلاث
وخمسين ومائة، روى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلّام قبل
وفاته (3) بنحو أربعين سنة، مات سنة خمس وأربعين ومائتين وقيل
سنة أربع وأربعين (4).
7 - سليمان بن داود بن حماد بن سعد الرشديني، أبو الربيع
المهري المصري، المقري كان من جلة القراء وعبّادهم، ولد سنة
ثمان وسبعين ومائة، وتوفي في أول ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين
ومائتين (5).
8 - سليم بن عيسى بن سليم بن عامر بن غالب، أبو عيسى ويقال أبو
محمد الحنفي مولاهم الكوفي المقري، صاحب حمزة الزيات، وأخص
تلامذته، وأحذقهم بالقراءة وأقومهم بالحرف. حتى إن رفقاءه في
القراءة على حمزة قرءوا عليه لإتقانه.
قال الدوري: حدثنا الكسائي، قال: كنت أقرأ على حمزة فجاء سليم
فتلكأت فقال لي حمزة: تهاب سليما ولا تهابني، فقلت يا أستاذ
أنت إن
__________
(1) التهذيب 2/ 205، 206، التقريب 1/ 154، غاية النهاية في
طبقات القراء 1/ 203.
(2) التهذيب 6/ 98 - 101، غاية النهاية في طبقات القراء 1/
355.
(3) أي وفاة هشام بن عمار.
(4) انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 354 - 356.
(5) انظر: معرفة القراء الكبار 1/ 151، 152، غاية النهاية في
طبقات القراء 1/ 313.
(المقدمة/27)
أخطأت قومتني وهذا إن أخطأت عيرني. ولد ابن
عامر سنة ثلاثين ومائة، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة وقيل سنة
تسع وثمانين ومائة (1).
9 - يحيى بن آدم بن سليمان بن خالد بن أسيد أبو زكريا الصلحي،
إمام كبير حافظ.
سئل الإمام أحمد بن حنبل عنه فقال: ما رأيت أحدا أعلم ولا أجمع
للعلم منه وكان عاقلا حكيما، توفي يوم النصف من ربيع الآخر سنة
ثلاث ومائتين بفم الصلح قرية من قرى واسط (2).
شيوخه فى الحديث
: 1 - إسماعيل بن عياش بن سليم العنسي أبو عتبة الحمصي، قال
الإمام أحمد: ليس أحدا أروى لحديث الشاميين من إسماعيل بن
عياش. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحفظ من إسماعيل بن عياش،
وقال علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام
فأما ما روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف، وقال أبو حاتم: لين
يكتب حديثه، وقال في التقريب: صدوق في روايته عن أهل بلده مخلط
في غيرهم، مات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين، وله بضع وتسعون سنة
(3).
2 - إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، وقد مر له ترجمة
(4).
3 - هشيم- بالتصغير- بن بشير: ابن القاسم بن دينار السلمي أبو
معاوية بن أبي خازم الواسطي، ثقة ثبت، كثير التدليس والإرسال
الخفي، من السابعة، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة وقد قارب
الثمانين (5).
__________
(1) انظر: معرفة القراء الكبار 1/ 115، 116.
(2) انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 363، 364.
من أجل معرفة من أخذ عنهم أبو عبيد القراءة. انظر: غاية
النهاية في طبقات القراء 2/ 18. معرفة القراء الكبار 1/ 141،
طبقات المفسرين للداودي 2/ 33.
(3) انظر: التهذيب 1/ 321 - 326. التقريب 1/ 73.
(4) انظر ص (26).
(5) التقريب 2/ 320.
(المقدمة/28)
4 - شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي
بواسط ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق، يخطئ كثيرا، تغير حفظه
منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا عابدا، شديدا على
أهل البدع من الثامنة، مات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة (1).
5 - عبد الله بن المبارك: المروزي مولى بني حنظلة ثقة ثبت فقيه
عالم جواد مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، مات سنة
إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون (2).
6 - أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقرئ الحناط
مشهور بكنيته والأصح أنها اسمه، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء
حفظه وكتابه صحيح، من السابعة، مات سنة أربع وتسعين ومائة وقد
قارب المائة (3).
7 - جرير بن عبد الحميد بن قرط- بضم القاف وسكون الراء بعدها
طاء مهملة- الضبي الكوفي، نزيل الري وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب،
قيل كان في آخر عمره يهم من حفظه، مات سنة ثمان وثمانين ومائة
وله إحدى وسبعون سنة (4).
8 - سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، أبو محمد
الكوفى ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه
بآخره وكان ربما دلّس لكن عن الثقات من رءوس الطبقة الثامنة،
مات في رجب سنة ثمان وتسعين وله إحدى وتسعون سنة (5).
__________
(1) التقريب 1/ 351.
(2) التقريب 1/ 445.
(3) التقريب 2/ 399.
(4) التقريب 1/ 127.
(5) التقريب 1/ 312.
(المقدمة/29)
9 - هشام بن عمار: وقد سبق له ترجمة (1).
10 - إسماعيل بن عليّة: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي
مولاهم، أبو بشر البصري المعروف بابن علية، ثقة حافظ من
الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة
(2).
11 - يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي
ثقة متقن عابد، من التاسعة، مات سنة ست ومائتين وقد قارب
التسعين (3).
12 - يحيى بن سعيد بن فروخ- بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة
وسكون الواو ثم معجمة- التميمي، أبو سعيد القطان البصري، ثقة
متقن حافظ إمام قدوة من كبار التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين
ومائة وله ثمان وسبعون سنة (4).
13 - حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبو محمد قد سبق له ترجمة
(5).
14 - أبو معاوية الضرير: هو محمد بن خازم- بمعجمتين- الكوفى
عمي وهو صغير، ثقة، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين ومائة
وله اثنتان وثمانون وقد رمي بالإرجاء (6).
15 - عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم، أبو سعيد
البصري، ثقة، ثبت، حافظ، عارف بالرجال والحديث، قال ابن
المديني:
ما رأيت أعلم منه، من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وهو
ابن ثلاث وسبعين سنة (7).
__________
(1) انظر ص (27).
(2) التقريب 1/ 66.
(3) التقريب 2/ 372.
(4) التقريب 2/ 348.
(5) انظر ص (26).
(6) التقريب 2/ 157.
(7) التقريب 1/ 499.
من أجل معرفة من أخذ عنهم أبو عبيد الحديث. انظر: تاريخ بغداد
12/ 403، طبقات الشافعية الكبرى 1/ 270.
(المقدمة/30)
شيوخه في اللغة
والأدب:
1 - أبو زيد الأنصاري: هو سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن قيس
ابن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج
الأنصاري الخزرجي البصري النحوي اللغوي الإمام الأديب، يروى عن
أبي عبيدة والأصمعى أنهما سئلا عن أبي زيد الأنصاري فقالا: ما
شئت عن عفاف وتقوى وإسلام. توفي بالبصرة سنة خمس عشرة ومائتين
في خلافة المأمون وقد جاوز التسعين (1).
2 - أبو عبيدة معمر بن المثنى: هو أبو عبيدة البصري مولى بني
تيم قريش، كانت ولادته في رجب سنة عشر ومائة، من أعلم الناس
باللغة وأنساب العرب وأخبارها وأول من صنف غريب الحديث، توفي
سنة ثمان ومائتين وقيل بعد ذلك (2).
3 - الأصمعي: عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، أبو سعيد
الأصمعي، صاحب اللغة والنحو والغريب والأخبار والملح، مات سنة
سبع عشرة ومائتين وقيل قبل ذلك بالبصرة وعمره ثمان وثمانون سنة
(3).
شيوخه في الفقه:
أخذ أبو عبيد الفقه عن الإمام الشافعي والتقى بالإمام أحمد بن
حنبل فأخذ عنه وتأثر به.
1 - الشافعي: محمد بن إدريس بن العباس أبو عبد الله الشافعي
الإمام زين الفقهاء، وتاج العلماء، ولد بغزة من بلاد الشام
وقيل باليمن، ونشأ بمكة
__________
(1) انظر: معجم الأدباء. المجلد السادس جزء 11/ 212 - 216.
(2) انظر: معجم الأدباء 19/ 154 - 162.
(3) انظر: تاريخ بغداد 10/ 410 - 420.
من أجل معرفة شيوخه في الأدب. انظر: نزهة الألباء لابن
الأنباري 137.
(المقدمة/31)
وكتب العلم بها وبمدينة الرسول صلّى الله
عليه وسلم وقدم بغداد وحدث بها وخرج إلى مصر فنزلها إلى حين
وفاته، أثنى عليه الإمام أحمد فقال: (إن الله تعالى يقيض للناس
في كل رأس مائة سنة من يعلمهم السنن وينفي عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد
العزيز وفي رأس المائتين الشافعي رضى الله عنه). توفي أبو عبد
الله ليوم بقي من رجب سنة أربع ومائتين (1). ولقد تفقه أبو
عبيد علي الشافعي وتناظر معه في القرء هل هو حيض أو طهر إلى أن
رجع كل منهما إلى ما قاله الآخر. قال السبكى فى طبقاته: كان
الشافعي يقول إنه الحيض وأبو عبيد يقول إنه الطهر فلم يزل كل
منهما يقرر قوله حتى تفرقا. وقد انتحل كل واحد منهما مذهب
صاحبه وتأثر بما أورده من الحجج والشواهد. قال السبكي: قلت:
وإن صحت هذه الحكاية ففيها دلالة على عظمة أبي عبيد فلم يبلغنا
عن أحد أنه ناظر الشافعي ثم رجع الشافعي إليه .... (2).
2 - أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد أبو عبد الله إمام
المحدثين، الناصر للدين، والمناضل عن السنة، والصابر في المحنة
مروزي الأصل، قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته ونشأ بها وطلب
العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة
والمدينة واليمن والشام والجزيرة وسمع وكتب عن الكثير من علماء
عصره، توفي يوم الجمعة في الضحى سنة إحدى وأربعين ومائتين (3).
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد 2/ 56 - 73.
(2) انظر: طبقات الشافعية للسبكي 1/ 270 - 273.
(3) انظر تاريخ بغداد 4/ 412 - 423.
من أجل معرفة عمن أخذ أبو عبيد الفقه. انظر: طبقات الشافعية
الكبرى للسبكي 1/ 270، تهذيب الأسماء واللغات. الجزء الثاني من
القسم الأول 257.
(المقدمة/32)
6 - ذكر الذين أخذوا
عنه العلم
أمر بدهي أن تجد عالما كبيرا كأبي عبيد ممن عرف بثقته وأمانته
وسعة علمه وإتقانه لمعارف عديدة كالقرآن وعلومه والحديث واللغة
والأدب .. أن تجد مثل هذا الرجل قد شدت إليه الرحال والتف حوله
طلاب العلم وعاشوا في صحبته فخلّف من التلاميذ والمستفيدين
بعلمه خلائق لا يحصون كانوا كما قال القفطي في إنباه الرواة:
وعادت بركة أبي عبيد رحمه الله على أصحابه فكلهم نبغ في العلم
واشتهر ذكره، وأخذ عنه وتصدر للإفادة (1).
وسأذكر جملة ممن رووا عنه أو تتلمذوا عليه وصحبوه مستغنيا بمن
أذكر عمن أدع منهم وأغفل:
1 - ابن أبي الدنيا: هو عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان
القرشي مولاهم، أبو بكر بن أبي الدنيا البغدادي، صدوق حافظ،
مات سنة إحدى وثمانين ومائتين، وله ثلاث وسبعون (2).
2 - نصر بن داود الصاغاني: أبو منصور، سكن بغداد وحدث بها عن
جماعة منهم أبو عبيد القاسم بن سلّام وكان صاحبا له، مات سنة
إحدى وسبعين ومائتين (3).
3 - علي بن عبد العزيز البغوي وسيأتي إفراده بترجمة مستقلة.
4 - محمد بن إسحاق الصاغاني: أبو بكر، نزيل بغداد، ثقة ثبت، من
الحادية عشرة، مات سنة سبعين ومائتين (4).
5 - أحمد بن يوسف أبو عبد الله التغلبي، قال عبد الله بن
الإمام أحمد: أحمد بن يوسف التغلبى ثقة، توفي يوم الجمعة أول
يوم من رجب سنة ثلاث وسبعين ومائتين (5).
__________
(1) انظر: إنباه الرواة 3/ 21.
(2) التهذيب 126 - 13، التقريب 1/ 447.
(3) تاريخ بغداد 13/ 292.
(4) التهذيب 9/ 35، 36، التقريب 2/ 144.
(5) انظر: تاريخ بغداد 5/ 218، 219.
(المقدمة/33)
6 - الحارث بن محمد بن أبي أسامة: اسمه
زاهر، ولد في شوال سنة ست وثمانين ومائة، قال الدارقطني: صدوق،
وقال إبراهيم الحربي لمن سأله عن سماع الحديث منه: اسمع منه
فإنه ثقة مات ليلة عرفة سنة اثنتين وثمانين ومائتين (1).
7 - محمد بن يحيى المروزي: هو محمد بن يحيى بن سليمان بن زيد
بن زياد، أبو بكر، مروزي الأصل حدث عن أبي عبيد القاسم بن
سلّام، ذكره الدارقطني فقال: صدوق، مات في شوال سنة ثمان
وتسعين ومائتين (2).
8 - أحمد بن القاسم صاحب أبي عبيد القاسم بن سلّام، كان من أهل
العلم والفضل (3).
7 - عقيدته
إن زيغ العقيدة وانحرافها لدى عالم ما أو صفاءها وسلامتها من
الشبه والأوهام، له أبلغ الأثر في مدى سلامة آرائه ومصنفاته من
الخلل والتحيز والجور.
فالنحوي المبتدع يلجأ في كثير من الأحيان إلى إعراب النصوص على
وجه يخرجها عن ظاهرها لتأييد مذهب باطل يعتنقه، واللّغوي
المبتدع تجده أيضا يبين غرائب النص من خلال الشاذ والمستنكر من
المعاني والمحدث المبتدع قد يضعف أحاديث ويصحح أخرى وفقا لما
يؤيد بدعته ويروج باطله ضاربا صفحا عن موازين أهل الحديث في
الصحة والضعف.
والمفسر المبتدع يصرف دلالات نصوص الكتاب عن ظاهرها ويدخل فيها
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد 8/ 218، 219.
(2) تاريخ بغداد 3/ 422، 423.
(3) تاريخ بغداد 4/ 349. من أجل الاستزادة في معرفة تلاميذ أبي
عبيد انظر: تاريخ بغداد 12/ 403، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 417،
طبقات المفسرين 2/ 33، طبقات الحفاظ للسيوطي 179، معرفة القراء
الكبار 1/ 141، إنباه الرواة للقفطي 3/ 21، 22.
(المقدمة/34)
دلالات وأحكاما لا تحتملها النصوص. وهكذا
... لذا كان لزاما عليّ أن أتتبع عقيدة أبي عبيد فأكشف عن مدى
صفائها وسلامتها من الابتداع مستندا في ذلك الكشف على نصوص
توثيقية- أقوال ومواقف- سجلت لأبي عبيد.
1 - الإيمان:
مذهب أبي عبيد في الإيمان مذهب أهل السنة والجماعة فى أن
الإيمان اعتقاد القلب مع قول اللسان وعمل الجوارح، تبين لنا
ذلك بما ثبت عنه في كتابه الإيمان إذ يقول: اعلم رحمك الله أن
أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر- أي الإيمان-
فرقتين:
فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب وشهادة الألسنة
وعمل الجوارح.
وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة فأما
الأعمال فإنما هي تقوى وبر وليست من الإيمان.
ثم بين أبو عبيد مذهبه في ذلك فقال: وإنا نظرنا في اختلاف
الطائفتين فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت
الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا وينفيان ما قالت الأخرى
(1).
وقد انتقد أبو عبيد الفئات الضالة في مفهوم الإيمان كالجهمية
القائلين بأن الإيمان هو معرفة القلب فكان مما قال: ثم حدثت
فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعا ليست من أهل العلم ولا
الدين فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده وإن لم يكن
هناك قول ولا عمل. وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية
لمعارضته لكلام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم بالرد
والتكذيب (2). وأبطل أيضا مفهوم الإيمان عند كل من المعتزلة
القائلين: إن الإيمان بالقلب واللسان مع اجتناب الكبائر فمن
قارف شيئا كبيرا زال عنه الإيمان ولم يلحق بالكفر، والخوارج
__________
(1) انظر: كتاب الإيمان لأبي عبيد 53، 54 ت محمد ناصر الدين
الألباني.
(2) انظر: المرجع السابق 79.
(المقدمة/35)
القائلين بكفر مرتكب الكبيرة وخروجه من
الإيمان والأباضية القائلين بأن من ترك شيئا من الطاعات كان
كافر نعمه وليس بكافر شرك، والصفرية القائلين بأن المعاصي
صغارها وكبارها كفر وشرك ما فيه إلا المغفور منها خاصة،
والفضلية القائلين بأن المعاصي كلها كفر وشرك ما غفر منها وما
لم يغفر (1).
2 - الصفات:
سلك أبو عبيد في نصوص الصفات مسلك أهل السنة والجماعة من إمرار
النصوص كما جاءت واعتقاد أن ظاهرها مراد مع عدم التعرض لها
بتكييف أو تمثيل أو تشبيه أو تعطيل.
روى الذهبي في كتابه العلو: عن أبي الحسن الدارقطني قال: حدثنا
محمد بن مخلد قال: حدثنا العباس الدوري قال: سمعت أبا عبيد
وذكر الباب الذي يروى فيه حديث الرؤية (2) والكرسي وموضع
القدمين، وضحك ربنا، وحديث: أين كان ربنا؟ فقال: (3) ولكن إذا
قيل لنا كيف وضع قدمه؟
وكيف يضحك؟ قلنا: لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره.
ثم علق الإمام الذهبي بعد ذكره لهذه الرواية فقال: وما تعرّض
(4) لأخبار الصفات بتفسير بل عنده أن لا تفسير لذلك غير موضع
الخطاب العربي (5).
ولقد كان أبو عبيد رحمه الله ورضي عنه يزن الرجال بميزان
العقيدة. فتهبط مكانة أقوام لديه بسبب خلل في معتقداتهم وشبه
ألقاها الشيطان في قلوبهم فأظهرها الله على فلتات ألسنتهم.
__________
(1) انظر: المرجع السابق/ 101، 102.
(2) قوله: وذكر الباب الذي يروى فيه حديث الرؤية ... الذي ذكر
ذلك أبو عبيد والذي سمع ذلك منه الدوري.
(3) أي أبو عبيد.
(4) أي أبو عبيد.
(5) انظر: مختصر العلو 185، 186. تحقيق وتعليق الألباني.
(المقدمة/36)
قال الدوري: سمعت أبا عبيد- وذاكروه عن رجل
من أهل السنة- يقول: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية،
والكرسي، وموضع القدمين، وضحك ربنا من قنوط عباده، وإن جهنم
لتمتلئ .... وأشباه هذه الأحاديث حق. فقالوا: إن فلانا يقول:
يقع في قلوبنا أن هذه الأحاديث حق.
قال أبو عبيد: ضعّفتم عندي أمره، هذه حق لا شك فيها، رواها
الثقات بعضهم عن بعض، إنا إذا سئلنا عن تفسير هذه الأحاديث لم
نفسرها، ولم يدرك أحد تفسيرها (1).
كما كان أبو عبيد شديدا على أهل الأهواء والبدع، خاصة منهم
أولئك الذين لا ينفع معهم المجادلة بالحجة والبرهان، وفي ذلك
يقول: عاشرت الناس وكلمت أهل الكلام، فما رأيت قوما أضعف ولا
أوسخ ولا أقذر ولا أضعف حجة ولا أحمق من الرافضة، ولقد ولّيت
قضاء الثغر فأخرجت منهم ثلاثة:
جهميين ورافضيا، أو رافضيين وجهميا وقلت: مثلكم لا يجاور
الثغور (2).
8 - أقوال أثرت عنه
1 - قال أبو عبيد: مثل الألفاظ والمعاني الظريفة مثل القلائد
اللائحة فى الترائب الواضحة (3).
2 - قال علي بن عبد العزيز: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلّام
يقول:
المتبع للسنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب
السيف في سبيل الله عز وجل (4).
__________
(1) انظر: طبقات النحويين واللغويين للزبيدي 218.
قلت: ومراد أبي عبيد في قوله «لم يدرك أحد تفسيرها» أي حقيقتها
وكيفيتها.
(2) انظر: غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 18، طبقات النحويين
واللغويين للزبيدي 218.
(3) انظر: نزهة الألباء 139، وتاريخ بغداد 12/ 410.
(4) انظر: تاريخ بغداد- المرجع السابق.
(المقدمة/37)
قال الألباني معقبا على ذلك: قلت هذا في
زمانه فماذا يقال في زماننا (1).
3 - قال أبو عبيد: إني لأتبين في عقل الرجل أن يدع الشمس ويمشي
في الظل (2).
4 - قال أبو عبيد: ربانيو العلم أربعة: فأعلمهم بالحلال
والحرام أحمد ابن حنبل، وأحسنهم سياقة للحديث وأداء له علي بن
المديني وأحسنهم وضعا لكتاب ابن أبي شيبة، وأعلمهم بصحيح
الحديث يحيى بن معين (3).
5 - قال أبو عبيد: من شكر العلم أن تقعد مع كل قوم فيذكرون
شيئا لا تحسنه فتتعلم ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر، فيذكرون
ذلك الشيء الذي تعلمته فتقول: والله ما كان عندي شيء حتى سمعت
فلانا يقول كذا وكذا فتعلمته فإذا فعلت ذلك فقد شكرت العلم
(4).
9 - مصنفاته
عرف أبو عبيد لدى معاصريه ومن جاء بعده من العلماء الأئمة بأنه
اللّغوي، المحدث، المفسر، المقرئ، الفقيه، المؤدب. صاحب
التصانيف فكان كما وصفوه وعرفوه بل أعظم شأنا وأكبر قدرا من
ذلك.
صنف في فنون وألوان من العلم مختلفة، فروى الناس من كتبه
المصنفة بضعة وعشرين كتابا في القرآن والفقه وغريب الحديث
والغريب المصنف والأمثال ومعاني الشعر (5).
__________
(1) انظر: كتاب الإيمان لأبي عبيد 50 تحقيق الألباني.
(2) تاريخ بغداد 12/ 410.
(3) انظر: نور القبس المختصر على المقتبس لليغموري 315.
(4) انظر: طبقات المفسرين للداودي 2/ 36.
(5) البغية للسيوطي 253، مرآة الجنان لليافعي 2/ 84.
(المقدمة/38)
فمنها على سبيل الإجمال:
1 - في الغريب: الغريب المصنف، غريب الحديث، غريب القرآن.
2 - في اللغة والأدب: كتاب الشعراء، الأمثال السائرة، كتاب
النسب كتاب المذكر والمؤنث، كتاب الأجناس، من كلام العرب، كتاب
فعل وأفعل.
3 - في القرآن وعلومه: كتاب القراءات، كتاب المقصور والممدود،
كتاب عدد آي القرآن، كتاب معاني القرآن، كتاب فضائل القرآن،
كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب شواهد القرآن.
4 - في الفقه: كتاب الإيمان والنذور، كتاب الحيض، كتاب الطهارة
كتاب الحجر والتفليس، كتاب الأموال، كتاب أدب القاضي على مذهب
الشافعي، كتاب الأحداث، كتاب الطهور.
5 - في الاعتقاد والمواعظ: كتاب الإيمان، كتاب مواعظ الأنبياء.
6 - ومن مؤلفاته أيضا كتاب الإيضاح.
وبعد هذا الإجمال سنورد بعضا من مصنفات أبي عبيد التي وصلت
إلينا حسب علمى وما كان منها مطبوعا محققا وما لم يكن كذلك:
1 - الأموال: قام بتحقيقه والتعليق عليه محمد خليل هراس أحد
علماء الأزهر، طبع عدة طبعات إحداها عام 1401 هـ، من منشورات
مكتبة الكليات الأزهرية، ودار الفكر وتقع صفحاته في خمسمائة
وتسع وخمسين صحيفة.
2 - كتاب الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته: حققه محمد
ناصر الدين الألباني من منشورات دار القلم. الكويت، وهو عبارة
عن رسالة صغيرة في موضوع الإيمان يقع فى نحو من خمسين صحيفة.
(المقدمة/39)
3 - كتاب الإيضاح منه مخطوط في مكتبة فاس
أول (القرويين) (1).
4 - كتاب الأمثال: توجد نسخة خطية برواية ابن خالويه فى
كوبريلي 1219، وفي باريس أول 3969، وفي الموصل 206، وفي المتحف
البريطاني ثاني 995، ويوجد أيضا برواية تلميذه أبي الحسن علي
بن عبد العزيز في مانشستر 773، ومنه مخطوط عن نسخة بخط المؤلف
مع زيادات أخرى فى اسكوريال ثاني 1757 (2) وقد ذكر الزركلي في
الأعلام أن كتاب الأمثال من ضمن مصنفات أبي عبيد المطبوعة (3).
5 - كتاب الخطب والمواعظ: يوجد في ليبزج أول 158 (4).
6 - كتاب غريب الحديث: يقع في أربع مجلدات من الحجم المتوسط
مقدار صفحات الواحد منها قرابة خمسمائة صفحة خرجت طبعته الأولى
سنة 1384 هـ/ طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد
الدكن الهند.
7 - الغريب المصنف: بقيت من الكتاب نسخ خطية في أيا صوفيا
4706، والقاهرة أول 4: 176، ولندبرج كتبت سنة 489، وأمبروزيانا
ثاني 1650، كتبت سنة 384، وفاتح 4008 (5).
وقد ذكر الزركلي بأنه مطبوع في مجلدين (6).
__________
(1) انظر: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/ 158.
(2) انظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/ 157.
(3) انظر: الأعلام 5/ 176.
(4) انظر: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/ 159.
(5) المرجع السابق 2/ 156، 157.
(6) الأعلام 5/ 176.
من أجل معرفة مصنفات أبي عبيد. انظر: تاريخ بغداد 12/ 405 هدية
العارفين للبغدادي 1/ 825، معرفة القراء الكبار 1/ 142 المزهر
للسيوطي 2/ 411، 412. كشف الظنون، 2/ 1317، 1401، إيضاح
المكنون 2/ 199، 273، 288، 306، الفهرست لابن النديم/ الفن
الثاني من المقالة الأولى 52، مرآة الجنان لليافعي 2/ 84، معجم
الأدباء المجلد الثامن جزء 16/ 260 الأعلام 5/ 176، تاريخ
الأدب العربي لبروكلمان 2/ 157.
(المقدمة/40)
8 - فضائل القرآن: يقع في أربعمائة صفحة
دراسة وتحقيق الطالب محمد تجاني جوهري نال به درجة الماجستير
جامعة الملك عبد العزيز سنة 1393 هـ بإشراف الدكتور محمد مصطفى
الأعظمي. والكتاب لم يطبع بعد.
9 - الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض
والسنن وهو موضوع هذه الرسالة وسأفرده بدراسة مستقلة مفصلة إن
شاء الله.
10 - وفاته
ذكرت أغلب المصادر المترجمة لأبي عبيد أن وفاته كانت في سنة
أربع وعشرين ومائتين في البلد الأمين مكة حرسها الله (1) وقيل
بالمدينة (2).
وحكيت أقوال أخرى في سنة وفاته فقيل:
توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين (3).
توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين (4).
توفي سنة خمس وعشرين ومائتين (5).
__________
(1) انظر: المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 2/ 34، طبقات
النحويين واللغويين 219، النجوم الزاهرة للأتابكى 2/ 241، دول
الإسلام للذهبي 1/ 136، تاريخ بغداد 12/ 415، غاية النهاية في
طبقات القراء 2/ 18، الكامل في التاريخ 5/ 259، شذرات الذهب 2/
54، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 417، التاريخ الكبير للبخاري الجزء
الرابع القسم الأول 172، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/ 343،
طبقات ابن سعد 7/ 355، طبقات الحفاظ للسيوطي/ 179، معجم
الأدباء/ المجلد الثامن/ الجزء 16/ 256.
(2) وفيات الأعيان 4/ 61، 62، البداية والنهاية 10/ 291،
الرسالة المستطرفة 35.
(3) انظر: تاريخ بغداد 12/ 415، نزهة الألباء 141، مرآة الجنان
2/ 85، طبقات الحنابلة 1/ 262، طبقات المفسرين للداودي 2/ 37.
(4) انظر: إنباه الرواة 3/ 23، البغية للسيوطي 254، نزهة
الألباء 141، مرآة الجنان لليافعي 2/ 85، تاريخ بغداد 12/ 415.
(5) انظر: تاريخ العلماء النحويين/ 200.
(المقدمة/41)
توفي سنة ثلاثين ومائتين (1).
والمعتبر من ذلك سنة أربع وعشرين ومائتين إذ عليه الأكثر وقد
أكده ابن حجر في تهذيبه واعتبره الأصح (2).
وتبع الاختلاف في سنة وفاته تحديد العمر الذي عاشه، فالذي عليه
الأكثر ممن ترجموا له أن عمره سبع وستون سنة (3)، وقيل كان
عمره ثلاثا وسبعين سنة (4).
__________
(1) انظر: إنباه الرواة 3/ 20، بغية الوعاة 2/ 254.
(2) التهذيب 8/ 316.
(3) انظر: المختصر في أخبار البشر 2/ 34، البغية للسيوطي 254،
إنباه الرواة للقفطي 3/ 20، الكامل لابن الأثير 5/ 259،
البداية والنهاية 10/ 291، نزهة الألباء 141 تاريخ بغداد 12/
416.
(4) انظر: طبقات النحويين واللغويين 219، 220، غاية النهاية في
طبقات القراء 2/ 18.
(المقدمة/42)
|