الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام محققا الفصل الثانى دراسة
مفصلة لكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز
ويشمل:
1 - اسم الكتاب.
2 - نسبته إلى المؤلف.
3 - منهج المؤلف في تصنيفه للكتاب.
4 - المميزات التي انفرد بها الكتاب.
5 - المآخذ التي لاحظتها عليه.
6 - مفهوم أبي عبيد لمصطلح الناسخ والمنسوخ.
(المقدمة/43)
1 - اسم الكتاب
رمز أبو عبيد لكتابه الذي بين أيدينا باسم الناسخ والمنسوخ في
القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن.
وبعد التتبع للموضوعات التي ضمنها أبو عبيد كتابه هذا تبين لي
مدى ما كان عليه من الوفاء في أداء حق هذا العنوان الذي صدّر
به الكتاب.
إذ تحدث في مقدمته عن معنى النسخ وأنواعه موثقا ما يذكره
بالأدلة المتصلة بأسانيدها عن الصحابة والتابعين.
وأطال النفس في معالجة الآيات الناسخة والمنسوخة، أو المدعى
عليها النسخ، وفى ثنايا ذلك تجده يناقش النصوص القرآنية التي
يوردها مستنبطا منها ما تضمنته من الفرائض والسنن. معرجا
أحيانا على النسخ في السنة بعد ذكره للنسخ في القرآن.
وإليك أمثلة يستوحى منها مجاوزة أبي عبيد لمجال الناسخ
والمنسوخ في القرآن:
يقول في باب الصلاة: فهذا ما في الصلاة من القرآن فأما نسخها
في السنة ....
ويقول في باب الحدود: فهذا ما نسخ من حدود القرآن، وأما ما نسخ
من حدود السنة ....
ويصدر باب أهل الذمة بقوله: باب الحكم بين أهل الذمة وما فيه
من النسخ في الكتاب والسنة.
كما تجده أحيانا أخر يتناول بعض القضايا البعيدة تمام البعد عن
موضوع النسخ:
ففي باب الصيام ناقش حكم الإفطار للمسافر فاستعرض التخيير
والاستحباب والكراهة وبسط الأدلة لذلك. وإن كانت هذه القضية
بمعزل عن النسخ إلا أن الذي جرأ أبا عبيد على خوض غمارها
ارتباطها بآيات الصيام في البقرة تلك الآيات المشتملة على ناسخ
الصيام ومنسوخة.
(المقدمة/44)
وفي باب الطلاق ناقش مسألة الخلع لمن يكون؟
للأزواج! أم للسلطان؟.
وإن كانت هذه القضية لا صلة لها بالنسخ إلا أن الداعي لإيرادها
عند أبي عبيد تعلقها بقضية أخرى وهي أخذ العوض في الخلع المخصص
للنهي الوارد في آية النساء: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ
زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ... (1).
وبعد فإن المتأمل لموضوعات هذا الكتاب يتراءى له مجاوزة مؤلفه
لقضية النسخ في القرآن إلى قضية أخرى معها وهى عبارة عن مجموعة
من الفرائض والسنن كامنة في آيات القرآن الكريم.
2 - نسبة الكتاب إلى المؤلف
يعتبر كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من
الفرائض والسنن ضمن مصنفات أبي عبيد القاسم بن سلّام الهروي
وذلك باتفاق علماء السلف والخلف، إذ لم يرد لأحد منهم قول خلاف
ذلك.
وبين يديّ شهادات كثيرة متنوعة تدل كلها على صحة هذه الدعوى
يمكن إدراجها تحت التقسيم التالي:
أولا: أن المخطوط الذي عليه اعتمدت في إخراج هذا الكتاب قد
اشتمل على سماعات تضمنت التصريح باسم الكتاب منسوبا لأبي عبيد
(2).
ثانيا: أن كثيرا من أهل التراجم أورد هذا الكتاب من بين
المصنفات التي خلّفها أبو عبيد (3).
__________
(1) سورة النساء آية 20.
(2) انظر: السماعات في أول التحقيق.
(3) انظر: معجم الأدباء 169/ 260، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 418،
هدية العارفين 1/ 825، ابن خليفة الإشبيلي في فهرست ما رواه عن
شيوخه 47، إيضاح المكنون 2/ 199، الفهرست لابن النديم 52.
(المقدمة/45)
ثالثا: جاء ذكر هذا الكتاب منسوبا إلى أبي
عبيد في بعض أمهات كتب السلف في التفسير والحديث فمن ذلك:
1 - قال ابن كثير: قال أبو عبيد القاسم بن سلّام في كتاب
الناسخ والمنسوخ أخبرنا حجاج بن محمد .... (1).
2 - وقال أيضا عند تفسيره لآية: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا
زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً (2) وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء
أن هذه الآية منسوخة، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشح
حدثنا أبو خالد عن يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ذكر
عنده الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ قال:
كان يقال: نسختها التى بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ
(3) قال: كان يقال الأيامى من المسلمين، وهكذا رواه أبو عبيد
القاسم بن سلّام في كتاب الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن المسيب
(4).
3 - وقال البيهقي بعد أن ذكر أثرا عن عبد الله بن عمرو بن
عثمان: أن امرأة صامت حاملا فاستعطشت فسئل عنها ابن عمر فأمرها
أن تفطر ....
قال: ذكره أبو عبيد في كتاب الناسخ والمنسوخ .... (5).
3 - منهج المؤلف في تصنيفه للكتاب
سار أبو عبيد في معالجة قضايا هذا الكتاب على منهج محدد
المعالم مميز السمات يمكن الإشارة إليه من خلال النقاط
التالية:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 157.
(2) سورة النور آية 3.
(3) سورة النور آية 32.
(4) تفسير ابن كثير 3/ 264.
(5) السنن الكبرى 4/ 230.
(المقدمة/46)
أولا: اعتناؤه بالإسناد إذ ليس في الكتاب
حديث أو أثر إلا وجاء مسندا إلى قائله ما عدا القليل النادر
جدا.
ثانيا: تقسيم أبواب الكتاب تدرجا حسب أبواب الفقه فجاءت أبوابه
كالتالي: باب ذكر الصلاة ومعرفة ما فيها من الناسخ والمنسوخ،
الزكاة وما فيها من ذلك، ذكر الصيام وما نسخ منه، النكاح وما
جاء فيه من النسخ، الطلاق وما جاء فيه وهكذا .... إلى آخر
الكتاب إذ بلغت أبوابه تسعا وعشرين من غير المقدمة.
ثالثا: يعرض في الغالب مسائل الخلاف عرضا علميا يورد فيه قول
كل فريق وأدلته مناقشا أحيانا أدلة الخصوم مرجحا بالأدلة
الثابتة ما يرى أنه المختار، فهو أشبه بطريقة الطبرى في تفسيره
إذ يورد كل منهما الراجح من الأقوال بعد عرض الخلاف بأدلته،
يورد الأول ذلك بصيغة: قال أبو جعفر، ويورد الثاني ذلك بصيغة:
قال أبو عبيد.
رابعا: سار في مفهوم النسخ على منهج السلف الشامل واعتمد عليه
في الحكم على النصوص. وسأفرد لذلك عنوانا مستقلا: مفهوم أبي
عبيد لمصطلح الناسخ والمنسوخ.
خامسا: لم يقتصر المؤلف على النسخ في القرآن الكريم بل ناقش
النسخ في السنة، كما تحدث عن عدد من الفرائض والأحكام في
الآيات التى أوردها في الكتاب وقد مر بنا أمثلة لذلك في
الموضوع الذي قبل هذا.
4 - المميزات التى انفرد بها
الكتاب
إن المطلع على كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي
عبيد يظفر بكتاب امتاز بمزايا عدة من جودة التصنيف وحسن
التبويب والأمانة العلمية في الغالب عند الأخذ والترك والقبول
والرفض- لأي حكم من الأحكام المدعى عليها- بأنها مما تضمنه نص
في الكتاب العزيز، أو المدعى عليها بأنها من المنسوخ.
(المقدمة/47)
كما يظفر بقدرة أبي عبيد على الجمع بين
النصوص والآثار التي ظاهرها التعارض وقدرته على استنباط
الأحكام من مواطنها في نصوص الكتاب.
وإليك شواهد من صلب الكتاب من خلالها تتضح المزايا التى تحلى
بها أبو عبيد أثناء معالجته للقضايا والأحكام:
1 - اعتماده في صناعة أبواب الكتاب طريقة لم يتقدمه إليها أحد
فيما أعلم ولم يحذ مسلكه ممن جاء بعده ممن صنف في الناسخ
والمنسوخ. إذ قسّمه إلى ثلاثين بابا حسب الموضوعات أولها فضل
علم الناسخ والمنسوخ وتأويل النسخ ثم أعقبه بذكر أبواب في:
الصلاة، الزكاة، الصيام، النكاح، الطلاق، الحدود، الشهادات،
شهادة أهل الكتاب، المناسك، الجهاد، الأسارى، المغانم،
الاستئذان، المواريث، الوصية، اليتامى، الحكم بين أهل الذمة،
الطعام، الشراب، السكر، قيام الليل، النجوى، التقوى، التوبة
عند الموت، توبة القتل، مؤاخذة العباد بما تخفي النفوس،
الإكراه في الدين، الاستغفار للمشركين، الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
وفي كل باب من هذه أورد الآيات المدعى عليها النسخ مما له تعلق
بالباب وناقشها.
وإنما اعتبرت تبويبه على درجة من الحسن والجودة لأن علم الناسخ
والمنسوخ مجاله الأحكام واعتماد المسلك الفقهي في معالجة قضايا
النسخ أدعى إلى حصر النصوص محكمها ومنسوخها في الباب الواحد
فيحصل بذلك تيسير الانتفاع وتسهيل الطلب.
2 - ما يتصل بتأويله للآيات ومناقشته للخلاف والوصول إلى
الراجح فإنك تجده مثلا في المقدمة استعرض معنى قوله تعالى:
أَوْ نُنْسِها والقراءات فيها ثم ذكر المعنى الراجح لديه في
تأويلها (1).
__________
(1) انظر مقدمة أبى عبيد من ص: 7 إلى ص 12.
(المقدمة/48)
كما تجده في باب الصيام في معرض ذكره
للقضاء والإطعام لكل من الحامل والمرضع والخلاف فيه، ذكر
الراجح لديه في كل منهما (1).
3 - وما يتعلق بالجمع بين الآثار التي ظاهرها التعارض فإنك
تجده بعد ذكره لأقوال الذين ذهبوا إلى تحريم نكاح المرأة
الفاجرة وذكره لأقوال الذين ذهبوا إلى إباحة نكاحها يوفق بين
التعارض بحمل قول من قال بالإباحة أنه مخصوص بالتوبة، فإن بدر
منها توبة بعد فجورها حل نكاحها (2).
4 - وفي مجال الرد على المخالفين في مسائل النزاع تلمس فيه قوة
الرد وشدة المقارعة للخصوم بالحجة والبيان وكمثال على ذلك:
قوله في باب شهادة أهل الكتاب بعد ذكره للخلاف في تأويل آية
الوصية في السفر ومن المعنى بقوله: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ
مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. يقول: وأما تأول
الحسن: من قبيلتكم أو من قبيلة غيركم، فكيف يصير أهل المخاطبة
بالآية من غيرهم وإنما خاطب الله بها أهل التوحيد كافة. فقال
عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ
فلم يبق أحد منهم إلا قد خوطب بها، فكيف يجوز أن يقال: من
غيركم؟ إلا من كان خارجا منها، وأما قول ابن شهاب: إنها في أهل
الميراث يتهم بعضهم بعضا فأنى يكون هذا؟ وإنما سماها الله لنا
شهادة ثم أعاد ذكرها في الآية وأبداه مرارا فقال: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ وقال:
لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وقال: ذلِكَ أَدْنى
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها (3).
وهذا يتأولها في الادعاء من بعض الورثة على بعض فإنما هم
مدّعون ومدّعى عليهم، فأين الشهادة من الدعوى؟ وكيف يقال
للمدعي شاهد، فهذان نوعان من التأويل لا أعرف لهما وجها، وليس
أحد من الناس إلا وقد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلّى الله
عليه وسلم (4).
__________
(1) انظر: باب الصيام ص 63 - 70.
(2) انظر: باب النكاح ص 107.
(3) سورة المائدة آية 106، 107، 108.
(4) انظر: باب شهادة أهل الكتاب ص 163، 165.
(المقدمة/49)
5 - وفى مجال استنباط الأحكام من النصوص
وتوسيع مدلولها وإدخال ما ليس فيه نص تحت حكم ما دل عليه النص
للتشابه بين القضيتين. تجد أبا عبيد أبدع في هذا المجال وأجاد
إذ يقول في باب اليتامى: ومخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال
ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله
فيأخذ من مال اليتيم قدر ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع
نفقة أهله، وهذا قد يقع فيه الزيادة والنقصان فجاءت هذه الآية
الناسخة بالرخصة فيه وذلك قوله عز وجل: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ
فَإِخْوانُكُمْ (1).
ثم قال أبو عبيد: وهذا عندي أصل للشاهد الذي تفعل الرفاق في
الأسفار ألا ترى أنهم يتخارجون النفقات بالسوية، وقد يتباينون
في قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل طعامه تطيب نفسه بالتفضل
على رفيقه، فلما جاء هذا في أموال اليتامى واسعا، كان في غيرهم
بحمد الله ونعمته أوسع لولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على
الناس (2).
5 - المآخذ التي لاحظتها على
الكتاب
أيا كانت جهود البشر فهي عرضة للقصور والنقص والخطأ، وما من
إنتاج علمي بلغ الذروة فوصل به صاحبه من جودة التصنيف وجمال
التأليف مبلغا لم يسبق إليه إلا وسيأتى بعده من يستدرك عليه
ويرصد هفواته ويكشف عن مواضع النقص فيه. وليس القيام بهذا
العمل دليلا على تفوق من قام به على من استدرك عليه إذ قد
يستدرك العاجز عن التصنيف على من بلغت مصنفاته الآفاق وتداولها
الناس، وانتفعوا بها على مر الأعصار.
ومن هنا سمحت لنفسي أن أتطاول على أبي عبيد في مصنفه «الناسخ
والمنسوخ» فأسجل أمورا اعتبرتها من المآخذ عليه، فإن أكن وفقت
للسداد، فذلك ما كنت أرجوه، وإن كانت الأخرى فحسبي ما بذلت من
جهد.
__________
(1) سورة البقرة آية 220.
(2) انظر: باب اليتامى ص 240.
(المقدمة/50)
1 - اقتصر عند ذكره للصلاة علي النبي صلّى
الله عليه وسلم على لفظة: صلى الله عليه، وهذا أسلوب مستغرب لم
أجد أن أحدا من علماء السلف اصطلح عليه، مما يوهم القارئ
للكتاب أن مؤلفه يسقط مشروعية السلام على النبي صلّى الله عليه
وسلم مع الصلاة عليه وذلك ثابت بنص الكتاب في قوله جل ذكره:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً (1).
ولقد التزم أبو عبيد هذا الأسلوب في الصلاة على النبي في
كتابه:
«الناسخ والمنسوخ» في معظم المواطن التى ورد فيها ذكر النبي
صلّى الله عليه وسلم، كما التزمه كذلك في كتابه الإيمان، بينما
في كتبه الأخرى فضائل القرآن، الأموال، غريب الحديث، ذكر
الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم بكمالها.
2 - تركه للترجيح في قضايا ادعى عليها أقوام النسخ وخالفهم
فيها آخرون إذ عرض أقوال الطرفين وسكت فلم يتتبع الخلاف ولم
يورد المذهب الذي يميل إليه.
وكمثال على ذلك: في باب الزكاة عند ذكره لآية النساء وَإِذا
حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلًا مَعْرُوفاً (2).
أورد الخلاف في إحكام الآية أو نسخها فبسط أقوال القائلين
بالإحكام وأقوال المدعين للنسخ ثم ترك الأمر من غير ترجيح أو
تعقيب (3).
وفي باب الحدود عند ذكره لآية المائدة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ (4) ودعوى نسخها بآية: وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (5) تجده أورد
__________
(1) سورة الأحزاب آية 56.
(2) سورة النساء آية 8.
(3) انظر: باب الزكاة ص 25 - 31.
(4) سورة المائدة آية 42.
(5) سورة المائدة آية 49.
(المقدمة/51)
الآثار الدالة على النسخ والآثار الدالة
على الإحكام ثم ترك الأمر بلا ترجيح أو تعقيب (1).
3 - أبو عبيد عند تناوله لبعض أبواب الكتاب يكتفي بإيراد
الآثار والأحاديث ذات الصلة الوثيقة بالموضوع دون أدنى مناقشة
لتلك النصوص والأقوال أو تتبعها بالتعقيب لاستنباط ما تضمنته
من دلائل وأحكام.
تبرز هذه الظاهرة في كل من باب قيام الليل، باب النجوى، باب
التقوى، باب مؤاخذة العباد بما تخفي النفوس، باب الاستغفار
للمشركين.
إذ يواجه القارئ- لمحتوى أي باب من تلك الأبواب- بمجموعة من
الآثار المروية بأسانيدها مجردة من التعليق والإبانة والتحليل
(2).
4 - يلاحظ على أبي عبيد أيضا تكرير بعض الأبواب حيث نصب بابا
للجهاد ناسخه ومنسوخه ... صدّره بقوله:
وجدنا نسخ الجهاد في أربع خلال منها اثنتان في القتال وثالثة
في الأسارى ورابعة في المغانم ... (3).
ثم تجده يفرد بابا مستقلا للأسارى وآخر للمغانم (4) وقد عدهما
من قبل ضمن باب الجهاد، كما تكررت الظاهرة نفسها في باب الشراب
وما نسخ من حله بالتحريم (5) إذ أعقبه بباب في السكر وما فيه
(6).
قلت: ولعل إفراد باب للأسارى والمغانم مع اعتبارها عند أبي
عبيد داخلة
__________
(1) انظر: باب الحدود ص 134 - 136.
(2) انظر ص 256، 258، 260، 274، 283.
(3) انظر: باب الجهاد ص 190.
(4) انظر: باب الأسارى والمغانم ص 209 - 217.
(5) انظر: باب الشراب ص 248.
(6) انظر: باب السكر وما فيه ص 252.
(المقدمة/52)
تحت الجهاد وإفراد باب للسكر مع اعتباره
داخل تحت الشراب، لعل ذلك تصرف من الراوي الذي أخذ عن أبي عبيد
الناسخ والمنسوخ أو من أحد النساخ.
6 - مفهوم أبي عبيد لمصطلح الناسخ
والمنسوخ
قبل الدخول في بيان هذا المصطلح عند أبي عبيد لا بدّ من
الإشارة إلى مفهوم النسخ عند السلف من الصحابة والتابعين وأهل
العصر الأول للتدوين وعند من جاء بعد ذلك من الأصوليين زمن
تحديد المصطلحات والفصل بين العلوم والفنون.
فالسلف كان مصطلح النسخ عندهم واسعا يدخل تحته أمور عدة منها
تخصيص اللفظ العام والاستثناء وتقييد المطلق وتبيين المجمل
ونحو ذلك.
والمتأخرون كان مصطلح النسخ عندهم مقصورا على إزالة وإبطال
الحكم المتقدم الثابت بالدليل بحكم متراخ عنه ثابت بدليل آخر.
ومن هنا فلا غرابة أن يجد المطلع على مرويات الصحابة والتابعين
المبثوثة في كتب التفسير بالمأثور، أقوالا كثيرة صرحوا فيها
بالنسخ بين أجزاء الآية الواحدة، أو حكموا بنسخ نصوص الأخبار
التي لا مجال للنسخ فيها، وإليك أمثلة من هذه المرويات:
1 - قال ابن عباس في قوله جل ذكره: وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ
وادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
(1) هو منسوخ بقوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا
اللَّهَ كَثِيراً (2).
__________
(1) سورة الشعراء آية 224، 225، 226.
(2) سورة الشعراء آية 227.
قلت: سمى ابن عباس الاستثناء نسخا.
(المقدمة/53)
2 - وقال وهب بن منبّه في قوله: جل ذكره:
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ (1) نسختها الآية التي
في غافر: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا (2) 3 - وقال
أبو عبيد القاسم بن سلّام: إنّ قوله جل ذكره: وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (3)
منسوخ بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الآية
(4).
ولقد أشار إلى منهج السلف هذا في الناسخ والمنسوخ عدد من
العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى حيث يقول: وفصل
الخطاب أن لفظ النسخ مجمل، فالسلف كانوا يستعملونه فيما يظن
دلالة الآية عليه من عموم أو إطلاق أو غير ذلك (5).
ومنهم الإمام الشاطبي في موافقاته حيث يقول: يظهر من كلام
المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام
الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا،
وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا وعلى بيان المبهم
والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي
متأخر نسخا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد (6).
ومنهم الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: مراد عامة السلف
بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين
ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر تارة أخرى. إما بتخصيص عام
أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره
__________
(1) سورة الشورى آية 5.
(2) سورة غافر آية 7.
قلت: آية غافر مخصصة لآية الشورى فسمى ابن منبّه التخصيص نسخا.
(3) سورة النور آية 4.
قلت: اعتبر أبو عبيد الاستثناء نسخا.
من أجل الاستزادة من الأمثلة انظر الموافقات في أصول الشريعة
للشاطبي 3/ 109 - 116.
(4) سورة النور آية 5.
(5) انظر: الفتاوى 14/ 101.
(6) الموافقات 3/ 108.
(المقدمة/54)
وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط
والصفة ناسخا لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر ... إلى أن قال ومن
تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى وزال عنه إشكالات
أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر اهـ (1).
وعند ما يقال منهج السلف فإنما يراد به ما قبل الإمام الشافعي
رضي الله عنه إذ أنه أول من فرق بين النسخ وغيره من التخصيص
والاستثناء وتقييد العام وتبيين المجمل فجعل مصطلح النسخ خاصا
بما أبطل الحكم المتقدم الثابت بالدليل الشرعى.
يقول في الرسالة: ومعنى نسخ: ترك فرضه (2)، ويقول أيضا: وليس
ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس
فأثبت مكانها الكعبة وكل منسوخ في كتاب وسنة هكذا (3).
فمراده بقوله: (ترك فرضه) إبطال العمل بالمنسوخ.
ومراده بقوله: (وليس ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض) أن
النسخ إبطال لحكم المنسوخ وترك العمل به وإثبات لحكم آخر يحل
محله.
ومن قوله هذا يتبين أن الإمام الشافعي حصر مصطلح النسخ بأنه
رفع وإبطال للحكم المنسوخ.
فليس للتخصيص أو الاستثناء أو تقييد العام وما أشبه ذلك ليس
لها مكان في هذا المصطلح. قال مصطفى زيد بعد نقله لهاتين
العبارتين عن الإمام الشافعي: ذلك أنه فسر النسخ بالترك ثم قرر
لازمه وهو: أنه لم ينسخ فرض أبدا إلا أثبت مكانه فرض، فأفاد
بمجموع الكلمتين أن النسخ رفع يلزمه إثبات، وهو المعنى العام
الذي يفهم بوضوح من استعمال الشافعي للكلمة في رسالته
__________
(1) انظر: أعلام الموقعين 1/ 35.
(2) الرسالة فقرة 361 ص 122 تحقيق أحمد شاكر.
(3) انظر: الرسالة فقرة 328/ 109، 110 تحقيق أحمد شاكر.
(المقدمة/55)
مع تعدد المواضع الذي استعملها فيها
وكثرتها، فإذا نحن ضممنا إليه حديثه عن التخصيص بعد ذلك
واختياره المثال الذي ضربه له من المخصص المنفصل وهو آيات
اللعان بعد آية حد القذف، أدركنا عن يقين أن النسخ عنده إنما
يراد به رفع الحكم الأول كله، وهذا عنده يقتضي إثبات غيره
مكانه، أما رفع بعض الحكم الأول فهو عنده تخصيص للعام ولو
انفصل عنه (1).
وأبو عبيد الذي عاصر الإمام الشافعي وأخذ عنه قد التزم في
كتابه مفهوم السلف لمصطلح الناسخ والمنسوخ فاعتبر رفع الحكم
الشرعي الثابت بدليل متقدم بحكم متراخ عنه ثابت بدليل متأخر،
والاستثناء، وتخصيص العام، وتقييد المطلق وتبيين المجمل وإبطال
مفهوم علق بالأذهان وهو غير مراد من النص. اعتبر ذلك كله داخلا
في مصطلح النسخ.
وهذه أمثلة من الكتاب نفسه من خلالها يتضح مفهوم أبي عبيد
لمصطلح الناسخ والمنسوخ:
1 - ذكر أبو عبيد في باب الصيام حديث عدي بن حاتم الذي قال
فيه: لما نزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
الْأَسْوَدِ (2) عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض ...
الحديث (3).
وبعد أن ذكر أحاديث غيره تتعلق بالصوم قال أبو عبيد: فهذا ما
كان من نسخ الطعام والشراب والنكاح في الصوم.
فاعتبر إزالة المفهوم الباطل للآية الكريمة الذي علق بذهن عدي
بن حاتم اعتبره نسخا.
2 - في باب النكاح قال أبو عبيد: وأما الحرام الذي نسخه الحلال
__________
(1) النسخ في القرآن الكريم مصطفى زيد 1/ 75.
(2) سورة البقرة آية 187.
(3) انظر: باب الصيام ص 39.
(المقدمة/56)
فنكاح نساء أهل الكتاب. ثم أورد أثرا عن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ (1) قال: ثم استثنى أهل الكتاب
فقال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (2). وذكر
بعده أثرا عن الأوزاعي شبيها بالأول ثم عقب أبو عبيد على ذلك
بقوله: فرأي ابن عباس والأوزاعي أن الناسخ من الآيتين هي هذه
التي في المائدة (3).
قلت: عدّ أبو عبيد الاستثناء المصرح به في قول ابن عباس نسخا
وفي ذلك دلالة على اعتماده مفهوم السلف للنسخ.
3 - وفى باب الطلاق وما جاء فيه قال أبو عبيد: أما الطلاق فإنا
لا نعلم فيه ناسخا ولا منسوخا إلا فى موضعين: فدية الخلع، وعدة
الوفاة.
فأما الفدية فإن حجاجا حدثنا عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن
عطاء الخراساني عن ابن عباس فى قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً (4) قال: ثم استثنى
فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ....
(5).
قلت: وقول ابن عباس صريح فى الدلالة على الاستثناء إذ أن «إلا»
أخرجت المستثنى الذي بعدها عن دخوله في التحريم المنصوص عليه
بأول الآية.
وقد سمى أبو عبيد هذا الأسلوب نسخا جريا على طريقة السلف.
4 - وفي باب الشهادات قال أبو عبيد: قوله عز وجل: إِنَّما
جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ
يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
__________
(1) سورة البقرة آية 221.
(2) سورة المائدة آية 5.
(3) انظر: باب النكاح ص 83، 84.
(4) سورة البقرة آية 229.
(5) انظر: باب الطلاق ص 113.
(المقدمة/57)
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ
أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ثم قال بعد ذلك: إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا (1) فليس يختلف المسلمون أن هذا الاستثناء
ناسخ للآية من أولها وأن التوبة لهؤلاء جميعا بمنزلة واحدة
(2).
قلت: قد سمى أبو عبيد الاستثناء نسخا جريا على مصطلح السلف.
5 - ومن باب اليتامى أذكر هذا المقال الذي به أختم عرض
الأمثلة.
قال أبو عبيد: والذي دار عليه المعنى من هذا أن الله عز وجل
لما أوجب النار لآكل أموال اليتامى (3) أحجم المسلمون عن كل
شيء من أمرهم حتى مخالطتهم كراهية الحرج فيها. فنسخ الله عز
وجل ذلك بالإذن في المخالطة والإذن في الإصابة من أموالهم
بالمعروف (4) إذا كانت لوالى تلك الأموال الحاجة إليها (5).
قلت: اعتبر أبو عبيد إزالة الحرج الواقع في نفوس الصحابة من
مخالطة اليتامى، نسخا.
وبعد هذا الاستطراد في ذكر مفهوم السلف لمصطلح الناسخ والمنسوخ
الذي التزم به أبو عبيد في كتابه هذا. أصبح من اليسير أن نجد
آيات عديدة حكم عليها أبو عبيد بالنسخ وأن نجد آثارا عدة تضمنت
التصريح بالنسخ مما لا مجال للتعارض فيه بل الجمع بين النصوص
ممكن بيسر وسهولة.
إنه لمن الخطأ البين والتطاول الواضح أن نحكم على واحد من
علماء السلف الأجلاء بأنه كان مسرفا فى القول بالنسخ، قبل
الكشف عن مراده بقوله: هذا النص أو الحكم منسوخ.
__________
(1) سورة المائدة آية 33، 34.
(2) انظر: آخر باب الشهادات. ص 154.
(3) وذلك فى آية النساء إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً آية 10.
(4) وذلك فى البقرة وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ
إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ.
سورة البقرة آية 6.
(5) انظر: باب اليتامى ص 240.
(المقدمة/58)
|