النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام سورة البلد
* * *
قوله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
حجة في الإفراط في وصف
الأشياء، لأن العقبة كناية عن العمل الذي يشق على النفوس.
فسماه - سبحانه - بالعقبة، ثم فسره بفك الرقبة، والإطعام في
المجاعة، فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
(16) .
وهو نظير قوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وما أشبه ذلك.
* * *
قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) .
دليل على أن التواصي بالخير من محمود الأخلاق، ومرضي الأفعال.
ومكتسب الفوز بالجنة، والنجاة من النار.
(4/519)
سورة الشمس
* * *
قوله تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
حجة على المعتزلة
والقدرية شديدة إذ قد أخبر - نصا - أنه ألهم النفس فجورها، كما
ألهمها تقواها.
روى عمران بن حصين أن رجلاً من جهينة، أتى النبي، صلى
الله عليه وسلم، فقال: أرأيت ما يعمل الناس فيه، ويكدحون.
أشيء قد قُضي عليهم، ومضى من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون
مما جاءهم واتخذت عليهم فيه الحجة، قال: " لا، بل شيء قد قضي
عليهم " قال: ففيم يعمل العاملون،. قال: " من خلق لواحد
المنزلين
أتاه بعمله، وتصديق ذلك في كتاب الله - تبارك وتعالى -
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (8) .
فأجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمثل ما في كتاب اللَّه
سواء. فأي شيء بقي لهم، لولا بلاؤهم، وشقاؤهم.
(4/520)
ولو لم يكن عليهم من الحجة إلا أنفسهم
لكفاهم.
حيث يسمعون هذه الأشياء الواضحة المسكتة، فلا يقررون قوله، ولا
يستطيون فهمه، لأن أفهامهم عنها مقيدة بما سبق من القضاء
عليهم بالشقاء، فلا يستطيعون أن يسعدوا.
ومن فسر (ألهمها) على ألزمها فليس بمخالف لهذا، لأن
الإلهام إذا كان منه، فالإلزام غل في أعناقهم، لا يستطيعون
حله، فكان الأمر في ذلك واحدًا.
(4/521)
سورة الليل
قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا
مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
حجة على المعتزلة والقدرية في تيسير اليسرى والعسرى، وكذا روى
علي بن أبي طالب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "
ما منكم من أحد إِلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار " فقيل
له: أفلا
نتكل،، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له "، ثم قرأ
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاتين الآيتين.
واختلفوا في تفسير (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ، (وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنَى (9) . فمنهم
من قال: بلا إله إلا الله ومنهم من قال: بالخلف في العطية
الأول، وبخل الثاني.
(4/522)
قوله: (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ،
حجة عليهم في نفي الاستطاعة.
* * *
وقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي
مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ
الْأَعْلَى (20)
دليل على أْن لا يجزئ دفع الزكاة إلى الأبوين الصحيحين كانا أو
زمنين، ولا إلى أحد يقدم منه إلى المعطي إحسان، لأنه يصير
مكافأة ومجازاة، وإنما هي لمن لا
يكافي ولا يجازي، ولا يدفع بها ذمًّا، بل تكون لله عز وجل
خالصًا
لوجهه فقط، فإنما المكافأة تكون في إخراج الأموال في التطوع،
لا
في الفرض.
(4/523)
سورة الضحى
* * *
قوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا
السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
دليل على توكيد حرمتهما، وإيجاب حقهما، وترك الاستهانة بهما،
وكذا قال -
في سورة الحاقة، في صفة من أوتي كتابه بشماله -: (إِنَّهُ
كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ
عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) .
فقرنه مع الكفر إذا لم يحض عليه، وذلك معه.
وأرى الناس قد أهملوا أمرهما، وضيعوه.
(4/524)
سورة الشرح
* * *
قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
يعدد عليه آلاءه ونعماءه.
بشرح صدره، ووضع وزره الذي كان قبل النبوة، ورفع ذكره.
حتى لا يذكر - سبحانه - في الإيمان، والأذان، والطاعة إلا ذكر
معه.
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) ، غنيمة للمؤمن ليطمئن
إليه، ولا يضيق
صدره من عسر يلحقه، فإن مع كل عسر يسرين.
(4/525)
سورة والتين
* * *
قوله: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) .
فضيلة لمن أسن في الإسلام، لأن الله - جل جلاله - يكتب أجر ما
كان يعمله في شبيبته، ولا يقطعه عنه.
(4/526)
سورة اقرأ
قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
يحتج بها جهلة الجهمية.
يزعمون: أنه أخبر عن خلق الاسم، وحذف " هاء " المفعول من
(خَلَقَ) كأنه " خلقه " وهذا جهل كبير من جهتين:
إحداهما: أن مجازه باسم ربك الخالق، الذي خلق الأشياء، فهو من
نعت الرب، لا نعت الاسم.
والأخرى: أنه لو كان كما يقولون: لكان دالاًّ على أن له أسامي
غير
مخلوقة، ومنها - بزعمهم - اسم مخلوق، فأمره أن يقرأ بذلك الاسم
المخلوق، دون التي هي غير مخلوقة، فهم يحتجون على أنفسهم، ولا
يعلمون، أو يعلمون ويكابرون، وأتباعهم يقبلونه منهم بجهلهم.
وهم لا يشعرون.
والذي يزيل كل الالتباس - عما قلناه، وإن كان بحمد الله زائلاً
-
(4/527)
قوله في سورة البقرة -: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) .
أفيرتابون بأن ليس رب سواه خلقهم فلا يعبدون إلا الذي خلقهم.
هانما هو رب واحد خلقهم لا خالق سواه، وكذلك (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) ، وهو بين، ولكن من يضلل الله فلا
هادي له.
* * *
قوله: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنَى (7) .
ذم للغنى، لأنه يعين على الطغيان، ويدعو إلى العصيان، لقدرته
على الشهوات المذمومات المبتغاة بالمال.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: " اللَّهم إني أعوذ
بك من غنى يطغي.
واختار الفقر على الغنى، ودعا أن يجعل رزقه ورزق أهله
(4/528)
قوتًا، وكفافًا.
ولهذه المسألة موضع آخر شرحناه في مسائلنا المنثورة في أبواب
شتى.
(4/529)
سورة القدر
* * *
قوله: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
مستعملة للعبادة والإحياء.
خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته حين جعل أعمارهم
قصيرة، فأعطاهم فضل هذه الليلة ليبلغوا بها وحدها فوق ما بلغ
الأمم
السالفة في طول أعمارهم، جودا، وكرمًا، وتفضيلاً لهذا النبي
على
من تقدمه من الأنبياء، وتفضيلاً منه على أمتهم، لأنه خاتم
الأنبياء إلى أن
تقوم الساعة، يعمل بما جاء به من عند الله من شريعته، وإن أخل
بعضهم ببعضها فلا يدعونه كافة، ولا يرتدون جملة، كما كان يفعله
سائر الأمم بعد موت نبيهم، فكانوا يدعون شيئًا شيئًا حتى
يتركوا
جميعه، ويرجعوا في الجاهلية الجهلاء، إلى أن يبعث الله - جل
جلاله
- نبيًّا آخر فيجدد دينهم.
وليست هذه الأمة كذلك، بل يكونون عليه قائمين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة
(4/530)
من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين حتى يأتي
أمر الله، وهم على
ذلك ".
وقد قيل: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
ليس فيها ليلة القدر.
وقد قيل غير هذين، وما أحسبه يثبت،
(4/531)
والأول أشبه والله أعلم.
(4/532)
سورة البينة
* * *
قوله: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ)
أي منفكين من كفرهم، والله أعلم.
(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
أي البيان - والله أعلم - والبينة
والبيان بمعنى واحد، قال الله عز وجل، لرسوله - صلى الله عليه
وسلم -: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) .
* * *
قوله: (يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
أي ما في الصحف، مكتوب على سعة اللسان.
(فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) أي عادلة.
(4/533)
سورة الزلزلة
* * *
قوله: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
أي تحركت من أسفلها.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) ، دليل على التأكيد
في الكلام، لرده ذكر الأرض.
* * *
قوله: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
أي ما عمل إليها من خير،
(4/534)
سورة العاديات
* * *
قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
فيه خصوص - والله أعلم
-، لأن الأنبياء داخلون في الإنسان، خارجون من الكنود.
والكنود هم الكفور، وفي الصالحين -أيضاً - من ليس بكفور، وإن
كانوا لا يقومون بكنه الشكر.
* * *
قوله: (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
يقال: إن " الهاء " راجعة على
اللَّه - عز وجل - هكذا قال مجاهد، وغيره.
ولم يجر له ذكر فهو أعلم.
(4/535)
سورة القارعة
* * *
قوله: (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
هي القيامة يعظم أمرها
وهي وعيد إلى آخرها، والناس في غفلة عنها.
(4/536)
سورة التكاثر
* * *
قوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
يقال: إنها نزلت في قبيلتين من
الأنصار تفاخروا فقال كل واحد منهما: فلان خير من فلان، يريد
كل
واحد منهما رجال قومه، فما زالوا كذلك حتى جاءوا إلى المقابر.
وأشاروا إلى قبر رجل ممن كان مات معهم، فذلك قوله:
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) .
وقد قيل: إنها نزلت في أهل الكتاب. والتكاثر في المال، والولد.
وروى عياض بن غنم عن رسول الله صلى الله عله وسلم أنه قال
- في حديث طويل -: " فأما وعيد وعيده فقوله: (أَلْهَاكُمُ
التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) .
يقول: لو قد دخلتم
(4/537)
القبور، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ
(4)
يقول: لو قد خرجتم من قبوركم.
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) ، محشركم إلى
ربكم، (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) أي في الآخرة، حق اليقين،
كرأي العين (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ، يوم
القيامة، (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
، بين يدي ربكم عن بارد الشراب، وظلال المساكن، وشبع البطون
واعتدال الخلق، ولذاذة النوم.
وحتى خطبة أحدكم المرأة - أجمل منه - مع خطاب سواه.
فزوجه ومنعها غيره ".
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِن الله -
تبارك
وتعالى - ليذكر عبده آلاءه، ويعدد عليه نعماءه، حتى يقول له:
عبدي
سألتني أن أزوجك فلانة - يسميها باسمها - فزوجتكها.
(4/538)
سورة العصر
* * *
قوله: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
فهذه بشارة للمؤمن جليلة وغنيمة عظيمة، أن يكون
الإنسان في خسر، ويكون هو في زيادة، لأن الخسر النقصان.
وذلك أنه ما دام شبابًا، أو كهلاً مطيقًا فهو يزيد بعمل الخير.
والمسارعة إلى الطاعة، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له ما كان
يعمله في وقت الطاعة، وإن كان له ولد صالح يدعو له فهو يلحقه
في قبره، أو كان ممن وقف وقفًا في سبيل الخير، أو علم علمًا
فهو
يجري له أجوه إلى يوم القيامة.
فأي زيادة أزيد من هذا،، للَّه الحمد والشكر على هذا.
* * *
قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
، تواصوا بكل ما يدعو
إلى طاعة الله، وبكل ما يقرب من جنته، وزجروا عن كل ما يقرب
من سخطه، والدخول إلى ناره، وبالصبر على المصائب، والرزايا.
والفقر، والأمراض، والأوجاع.
(4/540)
سورة الهمزة
* * *
قوله: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) .
فالهمزة الطعان على الناس، وباغي عثراتهم، واللمزة المغتاب
العياب.
وقد قيل: إذا رأيت الرجل يعتاب أخاه فإنما يمدح نفسه. ومن
نظر إلى نفسه بعين المدح، ورضي عملها دخل في جملة المعجبين،
وحبط
عمله، ولعب به عدوه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الذنب خير
للمؤمن من العجب، ما خلى الله بين مؤمن، وبين ذنب أبدًا "
وذلك أن المذنب خائف، والخوف طاعة، والمعجب آمن، والأمن
معصية.
وروي أنه قيل لابن عمر: أنزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر: ما عنينا بها، ولا عنينا
بعشر
(4/541)
القرآن.
فقد حصل تسعة أعشاره فينا، ونحن في غفلة عنه، أيقظنا الله
من رقدة الغفلة، وعرفنا ما له خلقنا، وما نحن إليه صائرون
بجوده.
* * *
وقوله: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
زاجر للمؤمن من الاشتغال
لجمع المال عن الأخذ بطاعة الله، واجتناب معاصيه، لا سيما من
لم
يرض باليسير والبلغة، وأراد التفاخر والتكاثر، ونسي أنه تاركه.
والراحل عنه بثقل الأوزار التي حملها باكتسابه، وفات من عمره
الذي
لا سبيل له إلى رده.
فإن كان يطلب من حل ويعنى مع ذلك بأمر آخرته، ولم ينهمك
انهماك الحريص الذي يريد الكثرة، ولا يفكر في العاقبة كان
خارجًا من هذه الآية، وداخلاً فيما قال في سورة النور:
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ) ، إلى آخر الآية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من طلب الدنيا حلالاً
(4/542)
استعفافًا عن المسألة، وسعيًا على عياله،
وتعطفًا على جاره لقي الله
ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا مرائيًا، مفاخرًا،
مكاثرًا
لقي الله وهو عليه غضبان ".
وقال: "التاجر الصدوق، الأمين، المسلم، مع الشهداء يوم القيامة
".
(4/543)
سورة الفيل
* * *
قوله: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
والأبابيل الذي يتبع بعضها
بعضًا، كأنها جماعات متفرقة، فهي تنظم بعضها إلى بعض.
واختلفت الأخبار في صفتها. فقال عكرمة: هي طير بيض وجوهها
وجوه السباع لا تصيب شيئا، إلا جدرته أو جذذته.
وقال عبد الرحمن بن سابط: خرجت من البحر كأنها رجال
(4/544)
الهند، في أرجلها حجارة، وفي مناقيرها
حجارة، كالإبل البزل.
لا تصيب شيئا إلا قتلته.
وفي رواية أخرى عن ابن سابط -أيضاً - قال: هىِ طير تشتت من
قبل البحر، كأنها رجال الهند، ترميهم بحجارة من سجيل، واسمها
سنككل، أعظمها مثل مبارك الإبل، وأصغرها مثل رؤوس الرجال.
لا تريد شيئا فتخطئه، ولا تصيب شيئًا إلا أحرقته.
وروي عن سعيد بن جبير قال: أقبل أبو اليكسوم -
صاحب الحبشة - ومعه الفيل، فلما انتهى إلى الحرم برك الفيل،
فأبى
أن يدخل الحرم، فإذا وجه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على
الحرم
(4/545)
أبى، فأرسل عليهم طير بيض صغار، في أفواهها
حجارة أمثال
الحمص، لا يقع على أحد إلا أهلكه.
وروى أبو مكين عن عكرمة قال: فأظلتهم من السماء، فلما
جعلهم الله كعصف مأكول، أرسل عليهم عينًا، فسال بهم حتى
ذهب بهم إلى البحر.
وعن سعيد بن المسيب قال: سبق إلى الكعبة فيلان، فأما أحدهما
فهو الذي هلك، وأما الآخر فلما كان بالمُغَمَّس برك، فأتاه
أصحابه
فعاقدوه، وحلفوا له، ولحيث توجهت توجهنا معك، قال: فرفع
إحدى أذنيه على الأخرى، ثم توجه راجعًا، فلم يصب من أولئك
(4/546)
أحد.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لقد رأيت قائد الفيل.
وسائقه، أعميين مقعدين، يستكفان الناس بمكة.
واختلفوا في " العصف " ما هو، فروي عن عطية أنه قال: العصف
المأكول أصول الزرع حين تقطع
وتبقى أصوله فيه كهيئة الحجر.
وعن حبيب بن أبي ثابت قال: هو طعام مطعوم.
وقال غيرهما: هو ورق الزرع.
(4/547)
سورة قريش
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
قال بعضهم - أراه عكرمة - يريد نعمتي على قريش.
وقال غيره: فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لتأتلف قريش برحلة
الشتاء والصيف، فتقيم بمكة.
وتجعل السورتين سورة واحدة.
(4/548)
سورة الماعون
وأرى الله - تبارك - قد أكد أمر المساكين، والناس بهم
متهاونون.
وقد رددناه في غير موضع من هذا الكتاب.
وقال - في هذه السورة -: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ
بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
أي يدفعه عن حقه - والله أعلم - ويزجره، ولا يرحمه.
قوله: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) ، فما
يكون حال من لا يطعمه، ولا يحض غيره عليه.
* * *
قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
هم الذين يؤخرونها، عن وقتها، وهم مضمرون على إقامتها، لولا
(4/550)
ذلك لكفروا، وقد توعدوا بالتأخير هذا
التواعد.
* * *
قوله: (الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
فإن راءوا بإقامتها لم تقبل لهم "
لقوله: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل لي عملًا أشرك
فيه
غيري فأنا بريء منه ".
وإن راءى بها وبغيرها من أعمال الطاعة فهو شر، قال الله
(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ) ، هم الذين يعملون بالرياء.
وقال - تبارك وتعالى -: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
أي لا يرائي، لأن أدنى الرياء شرك.
(4/551)
(وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) .
قالوا: هي الزكاة المفروضة.
وقالو ا: هي العارية، إعارة القدر، والدلو، والفأس، ونحوه
(4/552)
سورة الكوثر
* * *
قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
قالوا: هو الخير الكثير.
وقالوا: نهر في الجنة أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، حافتاه
الذهب، يجري على الدر والياقوت، تربته أطيب من ريح
المسك، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل.
(4/553)
قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قال مجاهد وعكرمة: الصلاة والنسك.
وقال محمد بن علي بن الحنفية: النحر أول ما يكبر الرجل، كأنه
(4/554)
رفع اليدين إلى النحر.
وقال الضحاك: ذبيحة الناس يوم النحر.
وكان عطاء يقول: إذا رفعت رأسك من الركوع فاستو قائمًا.
وقال غيرهم: هو وضع اليمين على الشمال عند النحر.
(4/555)
قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ
(3)
قال عطاء: هو أبو لهب.
وقد قيل: إنه غير أبي لهب.
(4/556)
سورة الكافرون
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
هي براءة من الشرك، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن
يقرأها عند المنام، وقال: " هي براءة من الشرك ".
ومن قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن.
(4/557)
سورة النصر
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ)
هي - أيضاً - ربع القرآن.
ونعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه في نزولها.
فكان لا يصلي صلاة إلا قال: " سبحانك ربنا وبحمدك، اللَّهم
اغفر
لي.
(4/559)
سورة المسد
* * *
قوله: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
يقال كانت تحتطب الكلام تمشي بالنميمة.
* * *
قوله: (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قال عروة: سلسلة في النار.
ويقال: هي مثل حديدة البكرة.
ويقال: حبل من ليف، لا تحرقه النار بقدرة الله، وهي تجد الألم.
(4/561)
(مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
هو ولده، هكذا قال ابن عباس، وعائشة، وابن سيرين.
(4/562)
سورة الإخلاص
هذه السورة نسبة الرب تبارك وتعالى.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انسب لنا
ربك، فأنزل الله - تبارك وتعالى -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
(1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
إلى آخر السورة، فهو أحد لا ثاني، وصمد لا يأكل، ولا حاجة له
به إليه.
(4/563)
(لَمْ يَلِدْ) ، فيكون كالمخلوق، (وَلَمْ
يُولَدْ) ، فيكون له أول، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
(4) ، فيرام، فهو أول كل شيء، وآخر كل شيء، لم يكن شيء قبله
ولا معه، وكون الأشياء بقدرته، وأخرجها من العدم إلى
الوجود، ثم يردها إلى العدم، إلا الجنة والنار وأهلها
المخلوقين
في الجنة من الحور والولدان وأنواع نعيمها، وفي النار من
الزبانية
مالك وأصحابه، وأنواع عذابها، وما أعد لأعداء الله، ثم يحيي
من أماته أجمعين، حتى البق والبعوض والنمل، ويبقى الجن
(4/564)
والإنس، فريق في الجنة، وفريق في السعير،
فلا يفنيهم أبدًا، ويجعل
سائرهم ترابًا.
وهي سورة تعدل ثلث القرآن، من قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ
القرآن كله.
(4/565)
المعوذتان
اختلفوا في تفسير " الفلق " فمنهم من قال: هم الخلق.
ومنهم من قال: هو الصبح، ومنهم من قال: هو سجن في جهنم.
واختلفوا في " الغاسق إذا وقب "
فمنهم من قال: هو الليل إذا
ذهب، ومنهم من قال: هو القمر، نظر إليه النبي - صلى الله عليه
وسلم -
(4/566)
قد طلع فقال لعائشة: " استعيذي بالله من شر
هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ".
فمن فسره على الليل، اختلفوا في وقوبه:
فمنهم من جعله دخوله، ومنهم من جعله ذهابه.
و (النَّفَّاثَاتِ) السواحر، و (الْعُقَدِ) السحر،
(4/567)
و (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
الشيطان، يوسوس في صدور الناس، فإذا ذكروا الله انخنس أي انقمع
حتى يصير مثل الذباب.
ومنهم من قال في " الغاسق إذا وقب ": إنه القمر إذا انكسف.
فدخل في الكسوف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يتعوذ من كل هذا.
وهما من القرآن، ومن قال: ليستا من القرآن فقد أعظم القول.
وما ذكر عن ابن مسعود، فهو عنه غير صحيح، ولو صح عنه
أنها غير مكتوبة في مصحفه، ما دل على أنهما لم تكونا عنده من
القرآن، لأنه كان يحفظهما، ومن حفظ شيئا فليس بحتم عليه أن
يكتبه،
(4/568)
ولو أن حافطا للقرآن كله لم يكتبه، واقتصر
على تلاوته آناء الليل
(4/569)
والنهار قي الصلاة، وغير الصلاة ما ضره،
وإنما كتب إشفاقا على من لا يقدر أن يحفظه فكتب، ليستوي فيه
الحافظ، وغير الحافظ، وليرجع إليه الناسي إذا نسي منه الشيء،
أو اشتبه عليه الحرف، ولينظر فيه الناظر فيصير نظره فيه عبادة،
وليقرأ فيه الحافظ - أيضًا - فيجمع الثوابين ثواب التلاوة،
وثواب النظر.
وقد سأل عقبة بن عامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
المعوذتين، فأمه بهما في صلاة الفجر.
وهذا حين اختتام الكتاب، والله - عز وجل - المحمود بجميل بلائه
وجزيل عطائة، والمسؤول من جسيم فضله وكريم طوله أن يوالي ديم
صلواته، وتحيته، ووفود كراماته، ورحمته على المصطفئ محمد، سيد
المرسلين، وقدوة المصطفين، وعلى آله السادة الغر، وأصحابه
الأنجم
الزهر، وسلم تسليماً كثيراً.
(4/570)
|