النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
النساء}
* * *
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] .
يسأل عن معنى قوله: {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ؟
وفيه جوابان.
أحدهما: أن المعنى يسأل بعضكم بعضاً بالهه والرحم، وهذا قول
الحسن ومجاهد.
والثاني: أن المعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذا قول ابن
عباس وقتادة والسُّدي والضحاك والربيع وابن زيد.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما وجه النصب في: {الْأَرْحَامَ} ، قيل
على الوجه الأول:
يكون معطوفاً على موضع {بِه} ، كأنه قال: وتذكرون الأرحام في
التساؤل.
الوجه الثاني: يكون معطوفاً على اسم الله تعالى. وقرأ حمزة
"الأرحامِ" بالجر،
(1/185)
والنحويون لا يجيزون هذا؛ لأنه لا يجوز عطف
الظاهر على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار.
قال سيبويه: لأنه لا ينفصل فصار كبعض الحرف، ومثله بعضهم
بالتنوين، وذلك أنه يعاقبه، ويحذف في الموضع الذي فيه التنوين،
وذلك قولك: ياغلام، تحذف الياء تخفيفاً كما تحذف التنوين من
قولك: يا زيد.
وقال المازني: المعطوف والمعطوف عليه شريكان، لا يجوز في
أحدهما ما لا يجوز في الآخرة، فكما لا تقول: مررت بزيدوك، كذلك
لا تقول: مررت بك وزيٍذ، فإن احتج محتج بقول الشاعر:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
وبقول الآخر:
تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
قيل: هذا من ضرورات الشعر ولا يحمل القرآن عليه.
وقد احتج له بعضهم بأنه على إضمار الباء؛ لتقدم ذكرها في قوله:
{بِهِ} ،
واستشهد بقول الشاعر:
أكل امرئٍ تحسبين امرءاً ونارٍ توقد في الليل نارا
أراد: وكل نارٍ، فحذف (كلَّ) لدلالة ما في صدر البيت.
(1/186)
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] .
خفتم: من الخوف، والخوف والخشية بمعنى. والإقساط: العدل.
ويسأل عن اتصال هذا الكلام بعضه ببعض، كيف يصح؟
وفي هذا جوابان.
أحدهما: أن المعنى: فإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى، فكذا
خافوا في النساء، وذلك أنهم كانوا يتحرجون في يتامى النساء ولا
يتحرجون في النساء، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والسُّدي
والضحاك والربيع.
والجواب الثاني: أن المعنى: وإن خفتم إلا تقسطوا في نكاح
اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء غيرهن. وهذا قول عائشة
والحسن، وبه قال أبو العباس.
فصل:
ومما يسأل عن قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} ، كيف جاءت {مَا}
هاهنا، والموضع موضع (مَنْ) ؛ لأن (ما) لما لا يَعْقْل، و
(مَنْ) لمن يَعقِل؟
والجواب: أن {مَا} هاهنا مصدرية، كأنه قال: فانكحوا من النساء
الطيب، أي: الحلال. وهذا مجاهد وبه أخذ الفراء.
ويروى عن مجاهد أيضاً: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً. قال أبو
العباس: {مَا} هاهنا للجنس، كقولك: ما عندك؟ فالجواب: رجل أو
امرأة.
وقيل: لما كان المكان مكان إبهام جاءت {مَا} لما فيها من
الإبهام، كما تقول العرب: خذ من عبيدي ما شئت.
وأما {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} فمعناه: اثنين اثنين،
وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، فعدل عن
(1/187)
هذا ليدل على هذا المعنى، وهو نكرة، وأمتنع
من الصرف للعدل زالوصف.
وقال قوم: هو معرفة، لأنه لا يدخله الألف اللام.
والوجه ما قدمناه؛ لأن النكرة توصف به، قال صخر الغي:
منيت بأهن تلاقيني المنايا أحاد في شهر الحلال
وقال تميم بن أبي [بن] مقبل.
ترى النعرات الزرق تحت لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهلة
وقيل: لم ينصرف للعدل والتأنيث؛ لأن العدد كله مؤنث.
وقيل: لم ينصرف؛ لأنه عدل على غير ما يجب في العدل، لأن أصل
العدل أن يكون في المعارف.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاءت (الواو) هاهنا، ولم تأت (أو) ؛
لأنه لا يجوز أن يجمع بين تسع؟
والجواب: أنه على طريق البدل، كأنه قال: وثلاث بدلاً من مثنى،
ورباع بدلاً من ثلاث، ولوجاء بـ: (أو) لجاز أن لا يكون لصاحب
المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث، رباع.
ويوضح هذا: أن مثنى بمعنى اثنتين، وثلاث بمعنى ثلاث. فأما من
أجاز تزويج
(1/188)
تسع بهذه الآية فمخطئ؛ لأنه لو كان كذلك
لما جاز أن يتزوج دون تسع، وأيضاً فلو أراد الله تعالى ذلك
لقال: فانكحوا تسعاً، لأن هذا التكرار عِيُّ، وتسع أخصر منه؛
وهذا على طريق التخيير لا للإيجاب.
* * *
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26]
يسأل عن دخول (اللاًّم) في قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن معناها (أنْ) ، و (أنْ) تأتي مع (أردت وأمرت) ؛
لأنها تطلب الاستقبال لذا استوثقوا لها باللام، وربما جمعوا
بين (اللام) و (كي) لتأكيد الاستقبال، قال الشاعر:
أردت لكيما لا ترى لي عثرة ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل
ولايجوز أن تقع (اللام) بمعنى (أنْ) مع الظن؛ لأن الظن يصلح
معه الماضي والمستقبل، نحو: ظننت أن قمت، وظننت أن تقوم، وهذا
قول الكسائي والفراء، وأنكره الزجاج، وأنشد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود
قال: ولو كانت (اللام) بمعنى (أنْ) لم تدخل على (كي) كما لا
تدخل (أنْ) عل (كي) ، قال: مذهب سيبويه وأصحابه أن (اللام)
دخلت هاهنا على تقدير المصدر، أي: الإرادة للبيان، نحو قوله
تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] .
(1/189)
و {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] ، وقال
كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلي بكل سبيل
أي: إرادتي لهذا، وهذا الجواب الثاني.
والجواب الثالث: أن بعض النحويين ضعف هذين الوجهين بأن جعل
اللام بمعنى (أنْ) لم يقم به حجة قاطعة، وحمله على المصدر
يقتضي جواز: ضربت لزيد، بمعنى: ضربت زيداً، وهذا لا يجوز، ولكن
يجوز في التقديم والتأخير، نحو: لزيد ضربت، وللرؤيا تعبرون؛
لأن عمل الفعل في التقديم يضعف كعمل المصدر في التأخير، ولذلك
لم يجز إلا في المتصرف، فأما {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] فعلى
تأويل: ردف ما ردف لكم، وعلى ذلك: يريد ما يريد لكم.
وهذه الأقوال كلها مضطربة، وقد قيل إن مفعول {يُرِيدُ} محذوف
تقديره: يريد الله تبصيركم ليبين لك.
* * *
قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93]
القتل: معرفو، وقتل العمْدِ: ما قصد به إتلاف النفس كائناً ما
كان بحجر أو عصىً أو حديدٍ أو غير ذلك، وهذا قول عبيد بن عمير
وإبراهيم وروى أنس أن يهودياً قتل جارية بين حجرين، فأتى به
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتله بين حجرين، (كل شيء خطأ
إلا السيف، ولكل خطأ أرش) .
والجزاء والمجازاة واحد، واللعنة: الإبعاد والطرد.
(1/190)
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: هل القاتل يخلد في النار، أو له توبة؟
والجواب: أن العلماء أختلفوا في ذلك:
فقال الضحاك وجماعة من التابعين: نزلت هذه الآية في رجل قتل
رجلاً من المسلمين، فارتد عن الإسلام، وسار إلى المشركسن،
ونزلت هذه الآية فيه، والتغليظ فيها لارتداده عن الإسلام. وقال
جماعة من التابعين: الآية الهينة وهي: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] نزلت بعد الشدية وهي: {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] ، وذهبوا إلى
أن للقاتل توبة.
وقال عمر وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم -: كنا نبت الشهادة
فيمن عمل الموجبات حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
وقال أبو مجلز: هي جزاؤه إن جازاه أدخله جهنم خالداً فيها،
ويروى هذا أيضاً عن أبي صالح.
وروي عن مجاهد أنه قال: المعني إلا من تاب وندم على ما فعل.
وروي عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وجماعة من التابعين - رضي الله
عنهم - أنهم قالوا: الآية ثابتة في الوعيد؛ لأن الله تعالى غلظ
فيه.
وكرر الوصف بقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] . 25/و.
وقال عكرمة وابن جريح وبعض المتكلمين: المعنى ومن يقتل مؤمناً
متعمداً، أي:
(1/191)
مستحلاً لذلك؛ لأن المستحل لما حرم الله
تعالى كافر؛ لأنه أحل ما حرم الله، فالخلود إذا إنما هو من هذه
الطريقة.
والعرب تتمدح بإنجاز الوعد وخلف الوعيد، ويروى عن أبي عمرو أنه
سمع عمرو بن عبيد ينكر هذا فعابه عليه، وأنشد:
وإني وإن أوعدته ووعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وجاء في الحديث "من وعدَه اللهُ على عمل ثواباً فهو منجز له
ومن أوعده على عملٍ عقاباً فهو بالخيار إن شاء عذب وإن شاء غفر
له".
* * *
قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ} [النساء: 95] .
قرأ نافه وابن عامر والكسائي {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، وقرئ في غير السبعة {غَيْرُ}
بالجر فوجه النصب: أنه حال، وإن شئت كان استثناء.
وأما الرفع: فعلى أنه نعت لقوله: {الْقَاعِدُونَ} .
وأما الجر: فعلى أنه نعت للمؤمنين.
(1/192)
وأجود هذه القراءات: الرفع؛ لأن الوصف على
{غَيْرُ} أغلب من الاستثناء.
وقد زعم بعضهم أن النصب على معنى الاستثناء أجود؛ لتظاهر
الأخبار بأنه نزل لما سأل ابن أم مكتوم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن حاله في الجهاد وهو ضرير فنزل: {غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ} . وهذا ليس بشيئ؛ لأن {غَيْرُ} وإن كانت صفة فهي
تدل معنى الاستثناء لأنها في كلتا الحالتين قد خصصت القاعدين
عن الجهاد بانتقال الضرر.
* * *
قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] .
اختلف في الحنيف: هو المستقيم، وإنما قيل لأعوج الرجل حنيف
تفاؤلاً، يقال: حنف في الطريق إذا استقام عليه، فكل من سلك
طريق الاستقامة فهو حنيف.
ويسأل: ما في اتباع إبراهيم من الحسن، دون اتباع ملة موسى
وعيسى وغيرهما من النبيين؟
والجواب: أن إبراهيم - عليه السلام - قد رضى به جميع الأمم،
وكلن يدعو إلى الحنيفية لا اليهيودية ولا النصرانية ولا
الوثنية، فهو محق في دعائه إليها، وكل من استجاب له بإذن الله
فيها فقدمع من المعاني المرغبة ما ليس لغيره.
واختلف في معنى الخليل:
فقيل: هو المصطفى بالمودة المختص بها.
وقيل: هو من الخلة وهي الحاجة، فخليل الله على هذا المحتاج قال
زهير:
(1/193)
وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي
ولا حرم
ويسأل عن نصب {حَنِيفًا} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن يكون حالاً من {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، وكان حقه أن
تكون فيه الهاء؛ لأن (فَعِيلاً) إذا كان بمعنى (فَاعل) للمؤنث
تثبت فيه الهاء نحو: رحيمة وكريمة وما أشبه ذلك، إلا أنه جاء
مجئ (ناقة سديس وريح خريق) .
والجواب الثاني: أنه حال من المضمر في {وَاتَّبَعَ} ، والمضمر
هو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثالث: أنه يجوز أن يكون حالاً من إبراهيم، والحال من المضاف
إليه عزيزة، وقد جاء ذلك في الشعر قال النابغة:
قالت بنو عامر: خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام
أي: يا بؤس الجهل ضراراً. واللام مقحمة لتوكيد الإضافة.
* * *
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] .
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه يعود على الكتابي، والمعنى: ليؤمنن الكتابي بالمسيح
قبل موت الكتابي، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك
وابن سيرين وجويبر.
والثاني: قبل موت المسيح أي: ليؤمنن الكتابي بالمسيح قبل موت
المسيح - عليه السلام - إذا خرج في آخر الزمان، وهذا يروى عن
أبي مالك وقتادة وابن زيد عن ابن عباس
(1/194)
والحسن بخلاف.
والثالث: أي يكون المعنى ليؤمنن لمحمد - صلى الله عليه وسلم -
قبل موت الكتابي وهذا يروى عن عكرمة بخلاف.
واختلف النحويون في المضمر المحذوف ما هو؟
فذهب البصريون إلى أن المعنى: وإن من أهل الكتاب أحد إلا
ليؤمنن به قبل موته.
وذه الكوفيون إلى أن المعنى: وأن من أهل الكتاب إلا ليومنن به.
وأهل البصرة لا يجيزون حذف الموصول وتبقية الصلة ومثله:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] . {وَمَا
مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، يجئ
على مذهب البصريين: (وإن منك أحدٌ) ، (وما منا أحد إلا له مقام
معلوم) ، قال الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم
تقديره: لو قلن في قومها أحد يفضلها في حسب وميسم لم تيثم.
و {وَإِنْ} في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ} نافيه، كالتي في قوله
تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] ،
وأكثر ما تأتي (إنْ) نافية مع (إلاًّ) وقد تأتي مع غير (إلاًّ)
نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] ، أي: في الذي مكناهم، وهو
قليل.
* * *
قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ
وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا
عَظِيمًا} [النساء: 162] .
(1/195)
اختلف في نصب {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} :
فذهب البصريون إلى أنه نصب على المدح، وهو قول سيبويه وأنشد
لخزنق بنت هفان:
لايبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
علة تقدير: أعني الناولين، وهذا: أعني المقيمين الصلاة.
واختلف في تأويل {الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ} :
فذهب قوم إلى أن المراد بهم الأنبياء.
وذهب آخرون إلى أن المراد بهم الملائكة. وهذا الوجه عندي أظهر؛
لقطع قوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} ؛ لأن الملائكة لا
توصف بإيتاء الزكاة والأنبياء يوصفون به.
وذهب قوم إلى أنه معطوف على {قَبْلِكَ} ، أي يؤمنون بما أنزل
إليك وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة، ثم حذف (قَبل)
لدلالة (قبل) عليه.
وقيل هو معطوف على الكاف من {إِلَيْكَ} أو الكاف من {قَبْلِكَ}
، وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنه لا يعطف على الضمير المجرور
بغير إعادة الجار وقد شرحناه عند قوله تعالى: {وَالْأَرْحَامَ}
[النساء: 1] . وكذا قول من قال هو معطوف والميم من قوله:
{مِنْهُمْ} . وأما من زعم أنه غلط من الكاتب فلا يجب أن يلتفت
إلى قوله، وإن كان
(1/196)
قد روي عن عائشة - رضي الله عنها - وإبان
بن عثمان؛ لأنه لو كان كذلك لم تكن الصحابة لتعلمه الناس على
الغلط وهم الأئمة. وأجود ما قيل في هذا القولان الأولان.
* * *
قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا
وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]
الاستفتاء: استدعاء الفُتيا. والفُتيل: الإخبار بالحكم ولا
يقال للإخبار بالحكم عن علة الحكم فُتيا إلا أن تذهب به مذهب
الحكم بالمعنى على البناء له على حكم غيره ليصحح به.
والكلالة: ما عدا الوالد والولد، هذا قول أبي بكر الصديق - رضي
الله عنه - يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ما عدا
الولد - على تشكك منه - وقال الحسن: الإخوة والأخوات.
وعلى القول الأول جمهور العلماء، وهو الوجه؛ لأنه من تكلل
النسب غير اللاصق به، وإنما اللاصق الوالد والولد.
وفي الكلام حذف، والتقدير فيه: إن امرؤ هلك ليس له ولد وقد ورث
كلالة وله أخت.
وقال العلماء: أصول الفرائض ثمانية عشر: اثنا عشر في أول
السورة، وأربعة في آخرها، واثنان سماهما رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - العصبة وفريضة الجد.
وقيل هي تسعة عشر، لقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، وفي قوله تعالى: {فَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}
[النساء: 176] دلالة على أن للبنتين الثلثين؛ لأن الله تعالى
سوى بين البنت والأخت في النصف، فقيست البنتان على الأختين.
(1/197)
فصل:
ويسأل عن أي الفعلين أعمل من قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء176]
والجواب: أن المعمل الثاني هو {يُفْتِيكُمْ} ، والتقدير:
يستفتونك في الكلالة قبل الله يفتيكم في الكلالة.
فحذف الأول لدلالة الثاني، ولو أعمل الأول لقال: يستفتونك قل
الله يفتيكم فيها في الكلالة.
وإعمال الفعل الثاني عند البصريين أجود وعليه جاء القرآن نحو
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ
لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] ، فأعمل
{يَسْتَغْفِرْ} ، ولو أعمل {تَعَالَوْا} لقال: تعالوا يستغفر
لكم إلى رسول الله.
فأما في الشعر فقد جاء إعمال الأول كما ىجاء إعمال الثاني، فمن
إعمال الأول قول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال
يريد: كفاني قليل من المال ولم أطل، ولو أعمل الثاني لا نفسد
المعنى.
ومن إعمال الثاني قول طفيل:
وكمتا مدماة كأن متونها جرى فوقها واستشعرت لون مذهب
فأعمل (استشعرت) ولو أعمل (جرى) لقال: جرى فوقها واستشعرت لون
مذهب، ومثل ذلك قول كثير:
فضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها
(1/198)
فأعمل (وفًّي) ولو أعمل (قَضى) لقال: قضى
كل ذي دين فوفاه غريمه، وهو كثير في الشعر والكلام وقوله:
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} . ارتفع {امْرُؤٌ} بإضمار فعل يفسره ما
بعده تقديره: إن هلك امرؤ هلك، ولا يجوز إظهاره؛ لأن الثاني
يغني عنه. وقال الأخفش هو مبتدأ و {هَلَكَ} خبره.
والأول أولى؛ لأن الشرط بالفعل أولى.
وقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:
176] ، في {أَنْ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى كراهة أن تضلوا، فهي على هذا في موضع نصب
مفعول له.
والثاني: أنه على إضمار حرف النفي، كأنه قال: أن لا تضلوا،
وتلخيصه: لئلا تضلوا.
والأول مذهب البصريين والثاني مذهب الكسائي.
ومثل الأول قزله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ،
أي: أهل القرية.
ومثل الثاني قول القطامي يصف ناقته.
رأيناه ما يرى البصراء فيها فالينا عليها أن تباعا
يريد: أن لا تباعا، ومثل الأول قول عمرو بن كلثوم.
فأعجلنا القرى أن تشتمونا
(1/199)
أي: كراهة أن تشتمونا.
والثالث: قاله الأخفش وهو أن (أنْ) مع الفعل بتأويل المصدر،
وموضع (أنْ) نصب بـ {يُبَيِّنُ} ، وتقديره: يبين الله لكم
الضلال لتجتنبوه. |