النكت في القرآن الكريم

{من سورة آل عمران}
* * *
قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3]
قي في قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني من كتاب ورسول، وهو قول مجاهدة وقتادة والربيع وسائر أهل العلم.
فإن قيل: لمَ قال: {بَيْنَ يَدَيْهِ} ؟

(1/170)


قيل: لأنه ظاهر له طظهور ما بين يديه. وقيل في معنى {مُصَدِّقًا} قولان.
أحدهما: أنه مصدق لما بين يديه لموافقته إياه في الخبر.
والثاني: أنه مصدق، أي: يُبخبِرُ بصدق الأنبياء.
وفي قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قولان.
أحدهما: بالصدق في إخباره.
والثاني: بالحق، أي: بما توجبه الحكمة من الإنزال كما توجبه الحكمة من الإرسال وهو حق من الوجهين.
فصل:
والجواب أن فيها ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها تَفْعلةٌ، وأصلها: تَورَيةٌ، وتحركت الياء زانفتح ما قبلها، فانقلبت ألفا. وتَفْعَلةٌ في الكلام قليل جداً. قالوا: تَنفَلةٌ في تَنْفُلَةٍ.
والقول الثاني أنها تَفْعِلَةٌ، والأصل: تَورِيَةٌ، مثل: توقيَة، وتوفيٍة، فنقلت إلى تَفْعلَةٍ، وقلبت ياؤها، وهذان قولان رديئان، وهما للكوفيين.
وأما البصريون: فتورية عندهم: فوعَلَةٌ، وأصلها: ووريةٌ، مثل: حوقلةٍ، ودوخلةٍ فأبدلوا من الواو الأولى تاء كما فعلوا في تولج، والأصل: وولَج؛ لأنه من الولوج، وقلبوا الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهذا القول المختار؛ لأن توقيةً لا يجوز فيها توقاة، وتفعلةٌ قليل في الكلام.
واشتقاق تورية من قولهم: زريت بك زنادي، كأنها ضياء في الدين، كما أن ما يخرج

(1/171)


من الزناد ضياء.
وأما الإنجيل، فهو: إفْعيلٌ، من النجلِ. واختلف في معناه، فقال علي بن عيسى النجلُ: الأصل؛ لأن الإنجيل أصل من أصول العلم.
قال غيره: النجلُ الفرع ومنه قيل للولد نجل، فكأن الإنجيل فرع على التوارة يستخرج منها.
وعندى أنه من النجل، وهو السعة. يقال: عين نجلاء، أي: واسعة، وطعنة نجلاء.
ومنه قول الشعر:
قد أطعن الطعنة النجلاء عن عرض وأكتم السر فيه ضربة العنق.
فكأنه قد وسع عليهم في الإنجيل ما ضيق فيه على أهل التوارة. وكل محتمل.
* * *
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] .
المحكم: مأخوذ من قولك: أحكمت الشيء إذا ثقفته وأتقنته، وأم الكتاب: أصل للكتاب، والمتشابه: الذي يشبه بعضه بعضاً فيغمض، والزيغ: الميل، والابتغاء: التطلب، والفتنة: أصلها الاختبار، ومنه قولهم: فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته، وقيل: معنها خلصته، والتأويل: المرجع. يقال: آل الأمر إلى كذا،

(1/172)


أي: رجع. وأكثر العلماء يعبر عنه بالتفسير.
والأول الأصل قال الأعشى.
على أنها كانت تؤول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
أي: كان حبها صغيراً فآل إلى العظم كما آل السقب - وهو الصغير من أولاد النوق - إلى الكبر. والراسخون: الثابتون، والإيمان: التصديق.
فصل:
ومما يسأل عنه: أن يقال: ما المحكم، وما المتشابه هاهنا،
والجواب فيه خلاف، قيل: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ. وهذا قوا ابن عباس وقتادة.
وقال مجاهد: المحكم: ما لم تشتبه معانيه، والمتشابه: ما اشتبهت: ما اشتبهت معانيه، نحو: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] ، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًىْ} [محمد: 17] .
وقال محمد بن جعفر ن\بن الزبير: المحكم ما لايحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه: ما يحتمل أوجهاً.
وقال ابن زيد: المحكم الذي لم يتكرر لفظه، والمتشابه: ما تكرر لفظه. قال جابر ابن هبد الله: المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه: ما لا يعلم نعيين تأويله،

(1/173)


نحو: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] . فهذه خمسة أقوال للعلماء.
ويقال: ما معنى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ؟
والجواب: أنهم يحتجون به على باطلهم.
فإن قيل: ففيمن نزلت؟
والجواب: نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيسى بن مريم - عليه السلام - فقالوا أليس هو كلمة الله وروحاً منه، فقال: بلى، وقالوا: حسبنا، فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] ثم أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] .
وقيل: بل كل من احتج بالمتشابه لباطله، فالآية فيه عامة - كالحرورية والسبئية، وهو قول قتادة.
ومما يسأل عنه الملحدون هذه الآية، وذلك أنهم يقولون: لم أنزل في القرآن المتشابه والغرض به هداية الخلق؟
والجواب: أنه أنزل للاستدعاء إلى النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر، وذلك أنه لو لم يعلم بالنظر أن جميع ما أتى به النبي - عليه السلام - حق لجوز أن يكون الخبر كذباً وبطل دلالة السمع.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ففي أي شيء يقع المتشابه؟
قيل: في أمور الدين، كالتوحيد ونفي التشبيه، الآ ترى أن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره، ويحتمل أن يكون بمعنى القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر:

(1/174)


قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
واستواء الجالس لا يجوز على الله - عز وجل - ونحو قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] ، يحتمل في اللغة أن يكون ساق الإنسان وساق الشجرة، والشَّدة من قولهم: قامت الحرب على ساق. والوجهان الأولان لا يجوزان على الله في أشباه لذلك.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أفرد {أُمُّ الْكِتَابِ} ؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنه أراد هن أم الكتاب، كما يقال: من نظير زيد؟ ، فيقول مجيب: نحن نظيره.
والثاني: أنه استغنى فيه بالإفراد عن الجمع، كما قال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل آيتين.
ويسأل: هل يعرف الراسخون في العلم تأويل المتشابه؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن تأويل المتشابة لا يعلمه إلا الله. والوقف على هذا عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ويبتدئ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، فعلى هذا ليس للراسخين من المزية إلا قولهم: {آمَنَّا بِهِ} وذلك نحو: قيام الساعة وما بيننا وبينها من المدة، وهذا قول عائشة والحسن ومالك - رضي الله عنه - ومن حجتهم: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُْْْ} [الأعراف: 53] .
والجواب الثاني: أن الله تعالى يعلمه، والراسخون يعلمونه قائلين: آمنا به. وهذا قول

(1/175)


ابن عباس ومجاهد والربيع.
وقرأ ابن عباس فيما حدثني أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ (وهو ما يعلم تأويلة إلا الله ويقول الراسخون في العلم يقولون آمنا به) .
وهذه القراءة بعيدة من وجهين:
أحدهما مخالفة المصحف، والثاني: تكرار اللفظ؛ لأن اللفظ الثاني يغني عن الأول. وموضع: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} على هذا القول نصب على الحال.
ومثله قول الشاعر:
الريح تبكي شجوة والـ برق يلمع في غمامه.
وعلى الوجه الأول يكون موضع: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} رفعاً؛ لأنه خبر المبتدأ، وقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} في موضع نصب على الحال من الكتاب، أي: أنزله وهذه حاله.
* * *
قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] .
الإيلاج: الإدخال، والولوج: الدخول.
ومما يسأل عنه هاهنا: أن يقال: ما معنى {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ؟
فالجواب: أن المعنى يجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخرة، وهذا قول ابن عباس

(1/176)


والحسن ومجاهد والسُّدي والضحاك وابن زيد.
وقيل، معناه: يدخل أحدهما في الآخر؛ لمجيئه بدلاً منه في مكانه. وإلى هذا ذهب الجبائي من المعتزلة.
فصل:
ويسأل عن قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ؟.
وفيه جوابان:
أحدهما: يخرج الحي من النطفة وهي ميتة، والنطفة من الحي، كذلك الدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة. وهذا قول عبد الله ومجاهد والضحاك والسُّدي وقتادة.
والجواب الثاني: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وهذا قول الحسن. واختلف في الَمْيت والَميّت، فقيل: الَمْيت - بالتخفيف - الذي قد مات والميَّت - بالتشديد - الذي لم يمت، وقال أبو عباس: لا فرق بينهما عند البصريين. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء.
إنما الميت من يعيش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء.
فجمع بين اللغتين.
* * *
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 34] .

(1/177)


يسأل عن معنى قوله تعالى {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنهم في التناصر للدين بعضهم من بعض، أي: في الاجتماع، كما قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، أي: في الاجتماع على الضلالة، والمؤمنون بعضهم من بعض، أي: بعضهم أولياء بعض في الاجتماع على الهدى. وهذا قول الحسن وقتادة.
والجواب الثاني: أن بعضها من بعض في التسلسل، أي: جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام.
فصل:
ويسأل: ما وزن {ذُرِّيَّةٌْ} ، وفيه ثلاثة أوجخ.
أحدها: أن وزنها (فُعلِيّةٌ) من الذرًّ، مثل: قمرية.
والثاني: أن وزنها (فعولةٌ) والأصل فيها (ذُرُّورةٌ) ، إلا أنه كره التضعيف فقلبت الراء الأخيرة ياء فصارت (ذُرُّويَةّ) ، ثم قلبت الواو ياء، لاجتماع الواو والياء وسبق الأولى منهما بالسكون، وكسر ما قبل الياء الساكنة؛ لتصح، فقيل: (ذُرَّيَّةٌ) .
والثالث: أن أصلها (ذُرُؤةٌ) من: ذرأ الله الخلق، فاستثقلت الهمزة فأبدلت ياء، وفعل بها ما فعل بالوجه الذي ذكرناه آنفاً. واجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف (بَرِيَّة) .
ويسأل عن نصب {ذُرِّيَّةٌ} ؟
وفي النصب جوابان:
أحدهما: أن يكون بدلاً من آدم وما بعده، وإن كان آدم غير ذرية لأحد، وذلك إذا أخذتها من (ذر الله الخلق) .
والثاني: أن يكون نصباً على الحال، ويجوز رفعها على إضمار مبتدأ محذوف كأنه قال تلك ذُرِّيَّةٌ.

(1/178)


قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] .
المكر: أصله الالتفاف، ومنه قولهم لضرب من الشجر: مكر؛ لالتفافه، وامرأة ممكورة: ملتفة.
ومما يسأل عنه، أن يقال: ما معنى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ؟ وفي هذا جوابان:
أحدهما: مكروا بالمسيح بالحيلة عليه لقتله، ومكر الله بردتهم بالخيبة؛ لإلقائه شبه المسيح على غيره. هذا قول السُّدى.
والجواب الثاني: أن المعنى، ومكروا بإضمار الكفر، ومكر الله لمجازاتهم بالعقوبة على المكر.
فإن قيل المكر لا يحسن من الحكيم، قيل: إنما جاز هذا على مزاوجة الكلام، نحو قوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . فهذا أحد وجوه البلاغة، وهي على أربعة أضرب:
أحدها: المزاوجة، نحو: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، والمجانسة، نحو قوله: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] ، والمطابقة، نحو {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] بالنصب على مطابقة السؤال، والمقابلة، نحو قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22-25] .
* * *
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]
التوفي: القبض، يقال: توفيت حقي واستوفيت بمعنى واحد.

(1/179)


ومما يسأل عنه هاهنا أن يقول: ما معنى {مُتَوَفِّيكَ} هاهنا؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أن المعنى قابضك برفعك من الأرض إلى السماء غير وفاة الموت، وهذا قول الحسن وابن جريح وابن زيد.
والجواب الثاني: أني متوفيك وفاة النوم؛ لأرفك إلى السماء، وهو قول الربيع، قال: رفعه نائماً.
والجواب الثالث: إني متوفيك وفاة الموت، وهو قول ابن عباس، ووهب ابن منبه، قالا: أماته ثلاث ساعات.
فأما النحويون، فيقولون: هو على التقديم والتأخير، أي: إني رافعك ومتوفيك؛ لأن الواو لا يقتضي الترتيب بدلالة قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] والنذر: قبل العذاب، بدلالة قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .
وموضع {إِذَ} نصب على أحد وجهين:
إما على قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] إذ قال الله.
وإما على إضمار: اذكر. ويجوز أن يكون موضعها رفعاً على تقدير ذلك إذ قال الله، وتمثيله: ذلك واقع إذ قال الله، ثم حذفت (واقعاً) وهو العامل في (إذ) وأقمت (إذ) مقامه. (وإذ) مبنية على السكون؛ لافتقارها إلى ما يوضحها، فأشبهت بعض الكلمة، وبعض

(1/180)


الكلمة لا يعرب، نحو: الزاي، من زيد، والجيم من جعفر.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْكُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .
في هذه الآية حجة على من أنكر القياس؛ لأن الله تعالى احتج بذلك على المشركين، ولا يجوز أن يحتج عليهم إلا بما فيه طريق القياس؛ لن قياس خلق عيسى من غير ذكر، كقياس آدم وهو في عيسى أوجب، لأن آدم - عليه السلام - من غير أنثى ولا ذكر. وهذه الآية نزلت في السيد والعاقب من وفد نجران، وذلك أنهما قالا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت لداً من غير ذكر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول ابن عباس والحسن وقتاده.
فصل:
ويسأل عن رفع قوله: {فَيَكُونُ} ولِمَ لَمْ يجر نصبه على جواب الأمر الذي هو {كُنْ} ؟
والجواب: أن جواب الأمر يجب أن يكون غيره في نفسه أو معناه، نحو: إإتني فأكرمك، وائتني فتحسنَ إلىَّ.
ولا يجوز (قم فتقوم) ؛ لأن المعنى يصير: قم فإن تقم فقم، وهذا لا معنى له، فلذلك لم يجز في الآية. فإن قيل فقد جاء: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، قيل: هذا معطوف على قوله: {أَنْ نَقُولَ} وقوله تعالى: {فَيَكُونُ} ، معناه: فكان، إلا أنه أوقع الفعل امستقبل في موضع الماضي، ومثله قول الشاعر:
وانضج جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح

(1/181)


قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] .
يسأل من المخاطب هاهنا من أهل الكتاب؟ وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن المخاطب نصارى نجران، وهذا قول الحسن ومحمد بن جعفر ابن الزبير والسُّدى وابن زيد.
والثاني: أن المخاطب يهود المدينة، وهو قول قتادة والربيع وابن جريح، ومعنى هذا أنهم أطاعوا أحبارهم طاعة الأرباب.
والثالث: أن المخاطب الفريقان، وهذا ظاهر التلاوة.
ويسأل عن {سَوَاءٌ} ما معناه هاهنا؟
قيل معناه: مستوٍ، فموضع اسم المصدر موضع اسم الفاعل، كأنه قال: تعالوا إلى كلمة مستوية. وقرأ الحسن {سَوَاءٍ} بالنصب على المصدر.
ويسأل عن موضع {أَنْ} من قوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} ؟
والجواب أنها تحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون في موضع جر على البدل من {كَلِمَةٍ} ، كأنه قال: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله.
والوجه الثاني: أن تكون في موضع رفع، كأنه قال: هي أن لا نعبد إلا الله. ومن رفع فقرأ "أنْ لاَ نَعْبُدُ"، فأنْ مخففة من الثقيلة، كأنه قال: أنه لا نعبد إلا الله، ومثله: {أَفَلَا يَرَوْنَ} [طه: 89] ، وإذا كانت مخففة من الثقيلة كانت من عوامل الأسماء، وثبتت النون في الخط، وعلى الوجه الأول تكون من عوامل الأفعال ولا تثبت النون في الخط.

(1/182)


ومن قرأ "أنْ لاَ نَعْبُدْ إِلاَّ اللهَ" بالإسكان فـ {أَنْ} مفسرة كالتي في قوله تعالى: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا} [ص: 6] ، فالمعنى: أي لا نعبد إلا الله، ولا {لَا} على هذا جازمة؛ لأنه نهي.
* * *
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] .
يقال: كأًيًّن وكَاين وكاءٍ بمعنى، قال الشاعر:
كأين في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام
فشدد، وقال جرير:
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا
فخفف.
وفذ هذا لغات أخر، وتعليله من طريق التصريف يطول شرحه، وجملتها أنها (أي) دخلت عليها (كاف) التشبيه، كما دخلت عل (ذا) في قولك: كذا، وغيرت في اللفظ كما غيرت في المعنى؛ لأنها نقلت إلى معنى (كم) في التكثير، والأصل التشديد، وإنما وقع التخفيف لكراهة التضعيف، كما قالوا: لا سيْما، والأصل: لا سيًّما.
وقرأ ابن كثير {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} كذلك نافع وأبو عمرو. وقرأ الباقون "قَاتَلَ".

(1/183)


فصل:
ويسأل بم ارتفع {رِبِّيُّونَ} ؟. وفيه جوابان؟
أحدهما: أنه مفعول لم يسم فاعله لـ (قُتِلَ) ، وهذا يجئ على مذهب الحسن؛ لأنه قال: لم يقتل نبي قط في معركة.
والثاني: أنه مبتدأ و {مَعَهُ} الخبر، كأنه قال: قُتل ومعه ربيُّون. وموضع قوله: {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} ، نصب على الحال من المضمر في (قُتل) أي: قُتِلَ ذلك النبي وعه الربيون، وهذا يجئ على معنى قول أبي إسحاق وقتادة والربيع والسُّدي. ويجوز أن يرتفع {رِبِّيُّونَ} بالظرف الذي هو {مَعَهُ} وهو مذهب أبي الحسن.
ويجئ أيضا على مذهب سيبويه؛ لأن الظرف إذا اعتمد على ما قبله جاز أن يرفع. والربيون: العلماء، هذا قول ابن عباس والحسن، وقال مجاهد وقتادة الجموع الكثيرة.
* * *
قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180]
قرأ حمزة {وَلَا تَحْسَبَنَّ} بالتاء وفتح السين؛ وقرأ الباقون بالياء. فمن قرأ بالتاء فالفاعل المخاطب وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - و {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مفعول أول لـ {تَحْسَبَنَّ} و {خَيْرًا لَهُمْ} المفعول الثاني.
و {هُوَ} فصل، وأهل الكوفة يسمونه عمادا، وفي الكلام حذف تقديره: ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيرا لهم. وإنما احتجت إلى هذا المحذوف ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى؛ لأن هذه الأفعال تدخل على المبتدأ والخبر، والخبر هو المبتدأ في المعنى إذا كان الخبر مفرداً.

(1/184)


وأما من قرأ بالياء فـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فاعلون، والمفعول الأول ليحسبن محذوف لدلالة {يَبْخَلُونَ} عليه تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، وهذا كما تقول العرب: منكذب كان شراً له، أي: كان الكذب، فحذف (الكذب) لدلالة (كذب) عليه، ومثله:
إذا نهي السفية جرى إليه وخالف، والسفيه إلى خلاف
أي: خالف إلى السفه.
فأما فتح السين وكسرها فلغتان، ويروى أن الفتح لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -.