النكت في القرآن الكريم

(ومن سورة البقرة)
فصل:
(إذا) في الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ظرفاً زمانياً، وفيها معنى الشرط، ولا يعمل فيها إلا جوابها، نحو ما في هذه الآية من قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) [البقرة: 14] فالعامل في إذا (قَالُوا) ، لأنه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيها (لَقُوا) ، لأنها في التقدير مضافة إلى (لَقُوا) ولا يعمل المضاف إليه في المضاف. وكذا: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) [البقرة: 14] .
والثاني: أن يكون ظرفاً مكانياً، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوف. ويجوز أن تنصب وقوفاً على الحال، لأن (إذا) ظرف مكان، وظرف المكان يكون إخباراً عن الجثث.
وهذه المسألة التي وقع الخلاف فيها بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيي ابن خالد بن برمك.

(1/110)


حدثنا أبو الحسن الحوفي بمصر عن أبي يكر بن الأذفوي عن أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس عن علي بن سليمان، ثنا أحمد بن يحيي ومحمد بن يزيد، قالا: لما ورد سيبوبه بغداد شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيي والفضل بن يحيي، فقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي، فقالا له: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، أو فإذا هو إياها؟ قال: أقول فإذا فإذا هو هي. فأقبل عليه الجميع، فقالوا: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل، أنتما إماما مصريكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب، فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم، فقالوا: نقول: (فإذا هو إياها) وانصرف المجلس على أن سيبويه قد أخطأ، وحكموا عليه بذلك، فأعطاه البرامكة وأخذوا له من الرشيد، وبعثوا به إلى بلده، فما لبث بعد هذا إلا يسيراً حتى مات. ويقال إنه مات كمداً.

(1/111)


قال علي بن سليمان: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون: إن الجواب على ما قال سيبوبه: فإذا هو هي: وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان، وذلك أن النصب إنما يكون هو الحال، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوفاً، وجاز النصب ها هنا، لأن (وقوفاً) نكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال، لأن المضمر معرفة، والمعرفة لا تكون حالاً فوجب العدول عن النصب إلى الرفع نحو ما أفتى به سيبويه من أنه يقول: فإذا هو هي، كما تقول: فإذا الناس وقوف.
والوجه الثالث: أن يكون جواباً للشرط، نحو قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم: 36] .
و (نَحْنُ) مبتدأ، و (مُسْتَهْزءُونَ) الخبر، وموضع الجملة نصب لـ (قَالُوا) ، كما تقول: قلت حقاُ أو باطلاً، و (نَحُنُ) مبنية لمشابهتها الحروف، وفي بنائها على الضمة، أوجه:
أحدها: أنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع.
والثاني: أنها ضمير الجمع، والضمة بعض الواو، والواو تكون علامة للجمع، نحو: قاموا ويقومون. وقال الكسائي: الأصل (نحن) بضم الحاء، فنقلت الضمة إلى النون. وهذا القول ليس عليه دلالة تعضده.
وقال الفراء. بنيت (نحن) على الضم، لأنها تقع على الاثنين والجماعة فقووها بالضمة لدلالتها على معنيين، و (يَعْمَهُونَ) [البقرة: 15] في موضع نصب على الحال والعامل فيه (يَمُدُّهُمْ) [البقرة: 15] .
* * *
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، والمثل والمثل والمثيل بمعنى واحد، كما يقال: شبه وشبه وشبيه،

(1/112)


والاستيقاد استفعال من الوقود، والوقود بالضم مصدر وقدت النار وقوداً، والوقود بالفتح الحطب، والنار معروفة، وألفها منقلبة عن واو، وأصل منافع النار خمسة:
الاستضاءة بها، والإنضاج والاصطلاء والتحليل والزجر. والإضاءة: أصله الوضوح.
يقال: ضاءت النار، وأضاءت لغتان، ويقال: جلسوا حوله وحوليه تثنية حول، وحواليه: تثنية حوال وأحواله، وهو جمع.
قال امرؤ القيس:
ألست ترى السمار والناس أحوالي
والذهاب بالشيء كالمرور به، والظلمة معروفة ونقيضها الضياء. والمعنى في الآية أن مثل المنافقين مثل قوم كانوا في ظلمة فأوقدوا ناراً، فلما أضاءت النار ما حولها أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فالظلمة الأولى التي كانوا فيها الكفر، واستيقادهم النار قولهم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فلما أضاءت لهم ما حولهم واهتدوا، خلو إلى شياطينهم، فنافقوا وقالوا إنما نحن مستهزؤون، فسلبهم الله نور الإيمان وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون.
ثم ضرب لهم مثلاً آخر شبيهاُ بهذا، فقال: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة: 19] ، والصيب: المطر، والظلمة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والرعد دليل على شدة ظلمة الصيب وهوله. أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر، فضرب الظلمات لكفرهم مثلاً، والبرق لتوحيدهم مثلاً. (أَوْ) ها هنا الإباحة، أي: إن شبهتهم بالمثل الأول كنت مصيباً، وإن شبهتهم بالمثلين فكذلك أيضاً.

(1/113)


فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف شبه المنافقين وهم جماعة بالذي استوقد ناراً وهو واحد؟
وفي هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن يكون (الذي) في معنى الجميع كما قال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33]
وكما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
والثاني: أن تجعل النون محذوفة من الذي، والأصل عنده (الذين) كما حذفها الأخطل في التثنية وذلك قوله:
أبني كليب إن عمى اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا
ومنهم من أنكر ذلك في الآية وحمله على أن (الذي) اسم مبهم كـ (من) يصلح أن يقع للجميع ويصلح أن يقع للواحد كما قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) [الأنعام: 25]
وقال في موضع آخر:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس: 42] فأخرج الأول على اللفظ، والثاني على المعنى وهذا وجه حسن، وقد ذكر أن (الذي) يأتي في معنى (الذين) الأخفش وغيره، فهذان وجهان: الأول منهما على حذف النون، والثاني على أنه اسم مبهم يقع للواحد والجمع.
والثالث: أن يكون الكلام على حذف كأنه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي أستوقد ناراً ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه قال الجعدي:
فكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب

(1/114)


يريد: كخلالة أبي مرحب.
فصل:
قوله: (مَثَلُهُمْ) مبتدأ، و (كَمَثَلِ الَّذِي) الخبر، والكاف زائدة، والتقدير: مثلهم مثل الذي أستوقد ناراً، ومثل زيادة الكاف هاهنا قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أن تكون الكاف غير زائدة، لأنه يصير شركاً، وذلك أنك كنت تثبت لله مثلاً، ثم تنفي الشبه عن ذلك المثل، ويصير التقدير: ليس مثل مثله شيء، وهذا كما تراه، فأما قول محمد بن جرير أن (مثلاً) بمعنى: ذات الشيء، كأنه قال: ليس كهو شيء، فبيس بشيء، لأنه يرجع إلى ما منعنا منه أولاً من إثبات المثل، ومثل زيادة الكاف ما أنشده سيبويه لخطام المجاشعي:
وصاليات ككما يؤثفين
وهذا قبيح لإدخال الكاف على الكاف، والآية إنما فيها إدخال الكاف على مثل، وهذا حسن، وقد أدخلوا (مثلاً) على الكاف، وقال الراجز:
فأصبحوا مثل كعصف مأكول
و (اسْتَوْقَدَ نَارًا) وما أتصل به من صلة (الذي) ، والعائد على (الذي) المضمر الذي في:
(اسْتَوْقَدَ) . وتقريبه على المبتدئ، أن يقال له: كأنك قلت: الذي أستوقد هو ناراً. و (لما) في الكلام على ثلاثة أوجه.
أحدها: أن تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، وهذه محتاجة إلى جواب نحو قولك:
لما قام زيد قمت معه، والتي في الآية من هذا الباب، فإن قيل: فأين الجواب؟ قيل: محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ومثله قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ)

(1/115)


لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) [الصافات: 103 - 105]
قال: فاز أو ظفر، والعرب تحذف للإيجاز قال أبو ذؤيب:
عصاني إليها القلب إني لأمره مطيع فما أدري أرشد طلابها
يريد: أرشد أم غي، ثم حذف.
والوجه الثاني: أن تكون بمعنى (إلا) حكى سيبويه. نشدتك الله لما فعلت، أي: إلا فعلت وعليه تأولوا قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) في قراءة من شدد الميم.
والثالث: أن تكون جازمة نحو قوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) [آل عمران: 142] ، وهي (لم) زيدت عليها (ما) وهي جواب من قال: قد فعل، فتقول أنت: لما يفعل، فإن قال: فعل، قلت: لم يفعل.
و (ما) في موضع نصب، لأنها مفعول (أَضَاءَتْ) ، و (ذَهَبَ) فعل ماض مستأنف، والياء من (بِنُورِهِمْ) يتعلق بذهب، وأما (في) فتعلق بـ: (تَرَكَهُمْ) ، وقوله: (لَا يُبْصِرُونَ) في موضع نصب على الحال والعامل فيه (تَرَكَهُمْ) أي: تركهم غير مبصرون.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26] .
الاستحياء: من الحياء ونقيضه القحة، وفي الحديث: (من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال المازني: الناس يغلطون في هذا، يظنونه أمراً بالقحة، وليس كذلك وإنما معناه: إذا فعلت فعلاً لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت.

(1/116)


قال الخليل: الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلاً، تقول: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض، وضرب في سبيل الله، وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمراً أخذ فيه وأراده. وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضربت القول مثلاً، وأرسلته مثلاً وما أشبه ذلك.
والبعوض: القرقس، وهو هذا الذي يسميه العامة (البق) واحدة بعوضة، قال العجاج.
وصرت عبداً للبعوض أخصفا
وفوق: ظرف: وهو نقيض تحت.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) [البقرة: 26] أنه جواب ما إذا؟
الجواب للعلماء فيه قولان:
أحدهما: ما ذكر عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن الله تعالى لما ضرب المثلين قيل هذه للمنافقين يعني قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [البقرة: 17] ، وقوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) [البقرة: 19] قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) [البقرة: 26] إلى قوله (أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 27] ، والمعنى على هذا: أن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بالصغير والكبير إذا كان في ضربه بالصغير من الحكمة ما في ضربه بالكبير. ويروى عن الربيع بن أنس أن

(1/117)


البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت وسمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلأوا من الدنيا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 44]
والقول الثاني: يروى عن الحسن وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنه لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين في ذلك وعابوا ذكره، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاختيار التأويل الأول من قبل أنه متصل بذكر المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين في سورة البقرة، فكان لذلك أولى من أن يكون جواباً لما ذكر في سورة غيرها، إذ كان ذكر الذباب في سورة الحج وذكر العنكبوت في سورة العنكبوت، والأظهر في هذا أن يكون جواباً لما قيل في الذباب والعنكبوت لما فيهما من الاحتقار والضالة، فأخبر الله تعالى أنه لا عيب في ذلك.
فصل:
للعرب في يستحي لغتان: منهم من يقول: (يستحي) بياء واحدة، وبذلك قرأ ابن كثير في رواية شبل، ومنهم من يقول: (يستحي) بياءين، وبه قرأ الباقون، فوجه هذه القراءة: أنه الأصل. وجه القراءة الأخرى: أنه حذف استثقالاً لاجتماع الياءين، كما قالوا: لم أك، ولم أدر وما أشبه ذلك، والاختيار في القراءة إثبات الياءين، لأنه إذا اعتل لام

(1/118)


الفعل فلا ينبغي أن يعل العين لئلا يجتمع في الكلمة اعتلالان، لأن ذلك إخلال، ولأن أكثر القراء عليها، ولأنها لغة أهل الحجاز، والأخرى لغة بني تميم، وقال أبو النجم.
أليس يستحي من الفرار
وقال رؤية في الياء الواحدة:
لا أستحي الفراء أن أميسا
وفي (ما) ثلاثة أوجه:
أحدها أن تكون صلة، كأنه قال: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة.
والثاني: أن تكون نكرة مفسرة بالبعوضة كما تكون نكرة موصوفة في قولك: مررت بما معجب لك، أي: بشيء معجب لك.
والثالث: أن تكون نكرة، وتكون (بَعُوضَةً) بدلاً منها.
فأما (بَعُوضَةً) ففي نصبها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون مفعولاً ثانياً ليضرب.
والثاني: أن تكون معربة بتعريب (ما) كما قال حسان:
فكفى بنا فضلاً على من غيرنا حب النبي محمد إيانا
وحقيقة البدل.
والثالث: يحكى عن الكوفيين زعموا أن النصب على إسقاط حرف الخفض، كأنه

(1/119)


قيل: ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا أن العرب تقول: (مطرنا ما زبالة فالثعلبية) ، (وله عشرون ما ناقة فجملاً) وأنكر المبرد هذين الوجهين.
وأجود هذه الأوجه: الوجه الأول، وذلك أن (يضرب) لما صارت لضرب الأمثال صارت في معنى (جعل) ، فجاز أن تتعدى إلى مفعولين، وإذا كانت كذلك من جملة ما يدخل على المبتدأ والخبر، هذا أقيس ما يحمل عليه، وإنما اخترته لأنني وجدت في الكتاب العزيز ما يدل عليه، وذلك بأنني وجدت فيه قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [يونس: 24] ، فمثل الحياة الدنيا: مبتدأ، وكماء: الخبر، كما تقول: إنما زيد كعمرو، ووجدت فيه (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) [الكهف: 45] فأنت ترى كيف دخلت (اضْرِبْ) على المبتدأ والخبر فصار هذا بمنزلة قولك: ظننت زيداً كعمرو.
ويجوز الرفع في (بَعُوضَةً) من وجهين.
أحدهما: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف يكون في صلة (ما) على أن تكون (ما) بمنزلة (الذي) ، فيكون التقدير: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما هو بعوضة، أي: الذي هو بعوضة.
والوجه الثاني: أن يكون على إضمار مبتدأ، لا يكون في صلة (ما) ولا تكون (ما) بمعنى (الذي) كأنه قال: إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما، قيل: ما هو؟
قيل: بعوضة، أي: هو بعوضة، كما تقول: مررت برجل زيد.
وقد قيل: أن (ما) هاهنا يجوز أن تكون كافة للفعل، فيستأنف الكلام بعدها، وهو على معنى المفعول، قال الشاعر.

(1/120)


أعلاقة أم الوليد بعدما أفنان رأسك كالثغام المخلس
واختلف في معنى (فوق) هاهنا فقيل: فما فوقها في الكبر، وقيل: فما فوقها في الصغر، وروي عن قتادة وابن جريح أن البعوضة أضعف خلق - يعني من الحيوان - ولذلك اختار بعض أهل العلم (فَمَا فَوْقَهَا) فما هو أكبر منها، واختار قوم فما فوقها في الصغر، لأن الغرض المطلوب هاهنا الصغر.
* * *
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29] .
أصل الخلق: التقدير.
والأرض في الكلام على ثلاثة أوجه.
الأرض المعروفة، والأرض قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر.
وأحمر كالديباج أما سماؤه فزيا وأما الأرض فمحول
والأرض الرعدة، وفي كلام ابن عباس: أزلزلت الأرض أم بي أرض؟
وأصل الجمع: الضم ونقيضه الفرق.
والسماء: كل ما علاك فأظلك، وهي في الكلام على خمسة أوجه.

(1/121)


السماء التي تظل الأرض، السماء السقف، والسماء السحاب، سمى بذلك لعلوه، والسماء المطر، لأنه نزل من السماء، والسماء المرعي، لأنه بالمطر يكون، قال الشاعر.
إذا سقط السماء بأرض قوم وهبناه وإن كانوا غضابا
والسبع: عدد المؤنث، والسبعة عدد المذكر، والسبع مشتق من ذلك، لأنه مضاعف القوى، كأنه قد ضوعف سبع مرات، ومن شأن العرب أن تبالغ بالسبعة والسبعين من العدد، نحو قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة: 80] ، والسبعة: تصرف في حلائل الأمور: فالأيام سبعة والسموات والأرض سبع وأعلام النجوم سبعة: زحل والمشترى وعطارد والمريخ والزهرة والشمس والقمر، والبحار سبعة، وأبواب جهنم سبعة في أشباه لذلك.
ولفظه (كل) تستعمل للعموم مرة نحو قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26] وقد يكون غير عموم نحو: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف: 25] و (شيء) عبارة عن كل موجود، هذا مذهب الجماعة، وذهب قوم إلى أنه يقع على الموجود والمعدوم.
والعليم: في معنى العالم، قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى (فعيل) نحو: عليم ورحيم.
وجاء في التفسير عن ابن عباس أن معنى استوى إلى السماء صعد أمره، وقيل معناه: تحول فعله، كما تقول: كان الأمير يدبر أمر أهل الشام ثم أستوى إلى أهل الحجاز، أي: تحول فعله وتدبيره.

(1/122)


وروي عن الربيع بن أنس: أن استوى بمعنى ارتفع على جهة علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، وفي هذا بعد؛ لأن الله تعالى لم يزل عالياً على كل شيء بمعنى الاقتدار عليه، وأكثر أهل العلم على أن المعنى عمد وقصد.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاء: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ) على لفظ الجمع؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن معنى السماء معنى الجمع وإن كان مخرجها مخرج الواحد؛ لأنها على طريقة الجنس كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم.
والجواب الثاني: أن السماء جمع، واحدها (سماوة) و (سماءة) وذكر قطرب ما لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجمع فقال منه: (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم: 4] وقوله:
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء: 77] وقوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء: 16] ، قال الشاعر:
ألا إن جيراني العشية رائح دعتهم دواع من هوى ومنادح
وإذا كانت سماء جمع سماوة، وسماءة كانت بمزلة حمام وحمامة دجاج ودجاجة.
فصل:
ومما يسأل عنه: كيف اتصل قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) ؟

(1/123)


والجواب: أنه يتصل كما يتصل تفصيل الجملة بعضه ببعض؛ لأنه لما وصف نفسه تعالى بما يدل به على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بوصفه بالعلم؛ إذ بهما يصح الفعل على جهة الإحكام والاتقان. ووجه آخر: وهو أنه دل على أنه عالم بجميع ما فعله وبما يؤول إليه حاله.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: هل يوجب (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) أن يكون خلق السماء بعد الأرض؟ قيل: لا يوجب من قبل أن قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) إنما يدل على أنه جعلها سبعا بعد ما خلق الأرض، وقد كانت السماء مخلوقة كما قال أهل التفسير أنها كانت قبل دخانا، وقال الأخفش: هو كما تقول للصانع: اعمل هذا الثوب، وإنما معك غزل، وقد اعترض قوم من الجهال في هذا فقالوا: إذا كان قوله: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [فصلت: 9] (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) [فصلت: 10] إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت: 11] إلى قوله: (طَائِعِينَ) [فصلت: 11] موافقا لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) [البقرة: 29] في أنه يوجب أن خلق السماء بعد الأرض، ثم قال في موضع آخر: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) [النازعات: 27] ثم قال:، فأوجب هذا أن يكون خلق الأرض بعد السماء، فظنوا لجهلهم أن هذا متناقض، وهذا معناه بين؛ لأنه قال: دحاها أي بسطها، ولم يقل خلقها، وكانت قبل دحوها ربوة مجتمعة، ثم بسطها وأرساها بالجبال وأنبت فيها النبات، وأما علام يدل عليه قول ابن عباس ومجاهد في (بَعْدِ ذَلِكَ) فإنها تكون بمعنى (مع) . كأنه قال، والأرض مع ذلك دحاها.

(1/124)


قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30] القول: موضوع في كلام العرب للحكاية، نحو قولك: قال زيد كذا وكذا، وقلت: خرج عمرو وما أشبه ذلك.
والرب: السيد، يقال رب الدار ورب الفرس، ولا يقال الرب بالألف واللم إلا الله تعالى، وأصله من ربيته إذا قمت بأمره، ومنه قيل للعالم رباني؛ لأنه يقوم بأمر الأمة.
والملائكة: جمع ملك: واختلف في اشتقاقه: فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه من الألوكة وهي الرسالة، قال صاحب المعنى: الألوك الرسالة، وهي المالكة على (مفعلة) والمالكة على (مفعلةٌ) : قال غيره: إنما سميت الرسالة ألوكا: لأنها تولك في الفم، مشتقاً من قول العرب: الفرس يالك اللجام، أي: يمضغ الحديدة، قال عدي بن زيد:
ئأبلغا النعمان عني مالكا أنه قد طال حبسي وانتظار
ويروى مالكا. قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ماسأل
وقال عبد بني الحسحاس:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى بأية ما جاءت إلينا تهاديا
وقال الهذلي:

(1/125)


ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
فالملائكة على هذا (معافلةٌ) ؛ لأنه مقلوب جمع ملاك في معنى مألك، قال الشاعر:
فلست لانسي ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب
ووزن ملاك (معفلٌ) محول من مألك على وزن (مفعلٍ) ، فمن العرب من يستعمله مهموزاً والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها، فيقال ملكٌ، وبهذه اللغة جاء القرآن. وقال أبو عبيدة: أصله من لاك إذا أرسل، فملاك على هذا القول (مفعلٌ) ، ملائكة (مفاعلةٌ) ، ولا قلب في الكلام، و (الميم) في هذين الوجهين زائدة، وذهب ابن كيسان إلى أنه من الملك وأن وزن ملاك (فعالٌ) مثل: شمال، وملائكة (فعائلةٌ) ، فـ (الميم) على هذا القول أصلية، والهمزة زائدة.
والجعل في الكلام على أربعة أوجه.
أحدها: أن يكون بمعنى الخلق، وذلك نحو قوله تعالى: {وجعل الظلمت.....} [الأنعام: 1] .
والثاني: أن يكون بمعنى التسمية نحو قوله تعالى: {وجعلوا لله......} [إبراهيم: 30] أي سموا له.
والثالث: أن يكون بمعنى عملت، نحو قولك: جعلت المتاع بعضه فوق بعضٍ.
والرابع: أن يكون بمعنى طفق، نحو قولك: جعل يقوا كذا وكذا.
والخليفة: الإمام، والخليفة من استخلف في أمر، وجمعه (خلائفُ) فأما الخلفاء فجمع (خليفٍ) ، مثل: كريم وكرماء. والإفساد: ضد الإصلاح.

(1/126)


وأصل السفك: صب الدم/ كذا قال صاحب العين، وقد يقال: سفك الكلام أي: نثره، ورجل سفاك الدماء سفالك الكلام، قال الشاعر.
إذا ذكرت يوماً من الدهر على فرع ساقٍ أذرت الدمع سافكا
واختلف في وزن (دمٍ) ؛ فقال بعضهم: دميٌ على وزن (فعل) واحتج بقول الشاعر.
فلو أنا على حجرٍ ذبحنا جرى الدميان بالخبر اليقين
وقيل: وزنه (فعلٌ) ، والأصل (دميٌ) وإنما الشاعر لما رد الياء في التثنية؛ لقلة الاسم حركةُ؛ يعلم أنه كان متحركاً قبل ذلك، ويقا للقطعة من الدم (دمةٌ) ، ذكره صاحب العين.
والتسبيح: التنزية لله تعالى، يقال: سبح يسبح تسبيحاً. والسبوح: المستحق للتنزية والتعظيم. والقدوس: المستحق للتطهير، والتقديس: التطهير، وقد حكى سيبويه أن منهم من يقول: سبوح قدوس بالفتح، والضم أكثر في الكلام، والفتح أقيس؛ لأنه ليس في الكلام (فعولٌ) إلا سبوحاً وقدوسا (وذروحا) لواحد الذرايح، يقال ذرحرح حكاه سيبويه.
و (سُبحان) اسم للمصدر، ومعناه التنزيه، قال الأعشى.

(1/127)


أقول لما جاءني فجره سبحان من علقمة الفاجر
قال أبو العباس: أي براءة منه، قال وهو معرفة علم خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة، وقد اضطر الشاعر فنونه، قال أمية.
سبحانه ثم سبحانا يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال ما (إذا) ؟
والجواب: أنها ظرف يدل على الزمان الماضي، فإن قيل: ما العامل فيها؟
قيل: فعل مضمر تقديره: أذكر إذ قال ربك للملائكة، فأما قول أبي عبيدة. إنها زائدة واحتجاجه على ذلك بقول الأسود بن يعفر:
فإذا وذلك لا مهاة لذكره والدهر يعقب صالحاً بفساد
فغلط من قبل أن معنى الأصل منه مفهوم، فلا يحكم بالزيادة وعنها مندوحة، وتأويل وإذا وذلك: فإذا ما نحن فيه وذلك افكأنه قال: فإذا هذا وذلك، فأشار إلى الحاضر والغائب.
ولا يجب أن يقدم على القول بالزيادة في القرآن ما وجد عنها مندوحة.

(1/128)


فإن قيل: فما الذي يدل على العامل في (إذا) اذكر، وأنه محذوف؟ والجواب: أن فيه قولين:
أحدهما: أن الأية التي قبلها تذكر بالنعمة والعبرة في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . [البقرة: 28] فكأنّه قيل اذكر النعمة في ذلك، واذكر إذ قال ربك للملائكة.
والقول الثاني: أنه لما جرى خلق السموات والأرض، دل على ابتداء الخلق كأنَّه قال: وابتداءُ خلقكم إذ قال ربك للملائكة.
وعلى الأول جمهور العلماء، والعرب تحذف إذا كان فيما بقى دليل على ما ألقي، قال النمر بن تولب:
فإن المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما
يريد: أينما كان وأينما ذهب.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما المراد بالخليفة؟
وفي هذا جوابان: أحدهما: أن المراد به آدم وذريته: جعلوا خلائف من الجن الذين كانوا يسكنزن الأرض.
والقول الثاني: أن المراد بالخليفة أمم يخلف بعضهم بعضاً، كلما هلكت أمة خلفتها أخرى.

(1/129)


ويروى عن ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهما - أن آدم - عليه السلام -، يكون خليفة لله تعالي؛ يحكم بالحق في أرضه، إلا أن الله تعالى أعلم الملائكة أن يكون من ذريته من يسفك الدماء ويفسد الأرض.
ويسأل عن الألف من قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ؟
وقد اختلف فيها؛ فقال أبو عبيدة والزجاج: هي ألف إيجاب كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
هذا إيجاب وليس بلستفهام، وهذا القول غير مرضي، وإنما غلط من قال هذا من قبل أن الله تعالى قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فلا يجوز أن يشكوا فيما أخبرهم الله تعالى فيستفهموا منه، فلهذا منعوا أن يكون استفهاماً. وليس يوجب الاستفهام الشك في أنه سيجعل، وإنكا يوجب الشك في أن حالهم يكون مع الجعل، وترك الجعل في الاستقامة والصلاح سواء.
وأصل الألف للاستفهام، قال علي بن عيسى قال بعض أهل العلم: هو استفهام، كأنهم قالوا أتجعل فيها من يفسد. وهذا حالنا في التسبيح والتقديس، أم الأمر بخلاف ذلك، فجاء الجواب على طريق التعريض من غير تصريحٍ في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ، قال: وهذا الاختيار؛ لأن أصل الألف للاستفهام، فلا يعدل بها عنه إلا أن لا يصح التأويل عليه. سمعت أبا محمد مكي بن أبي طالب - بعض شيوخنا - يقول: الاستفهام فيه معنى الإنكار، ولا يجب أن تحمل الألف عليه، وكان

(1/130)


يسميها ألف التعجب؛ كأن الملائكة تعجبت من ذلك.
وأمَّا أنا فأرى أنها ألف استرشاد، كأن الملائكة استرشدتِ الله وسألته: ما وجه المصلحة في ذلك؟.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: من أين علمت الملائكة أنهم يفسدون في الأرض؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما: أن الله تعالى أعلمهم أنه يكون من ذرية هذا الخليفة من يفسد في الأرض ويسفك الماء، فاقتضى ذلك أن سألوا هذا السؤال، وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما.
والجواب الثاني: أن الجن كانوا في الأرض، فكفروا وأفسدوا وسفكوا الدماء فلما أخبرهم الله تعالى أنه جاعل في الأرض خليفة، أحبوا أن يعلموا هل سبيله في ذلك سبيل من كان فيها من الجن.
وإلى القول الأول يذهب أهل النظر، فإن قيل: فليس في القرآن إخبار بذلك قيل: هو محذوف، اكتفى منه بدلالة الكلام؛ إذ كانت الملائكة لا تعلم الغيب.
وقيل في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] أنه ناب عن الجواب الذي هو (نعم) . وقيل معناه: إني أعلم من المصلحة والتدبير مالا تعلمون. وقيل معناه: إني أعلم مالا تعلمون من أن ذلك الخليفة يكون من ذريته أهل طاعةٍ وولايةٍ، وفيهم الأنبياء.
وقيل: إني أعلم مالا تعلمون من إضمار إبليس المعصية وانطوائه عليها.

(1/131)


فصل:
قد تقدم أن موضع (إذ) نصب على إضمار فعل و (الواو) عاطفة جملة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] جملة في موضع نصب بـ: {قَالَ} ، قوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] إلي قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} في موضع نصب بـ: {قَالُواْ} ، و (الواو) في قوله: {وَنَحْنُ} واو الحال، وتسمى: واو القطع وواو الاستئناف وواو الابتداء وواو (إذ) كذا كان يمثلها سيبويه، ومثلها الواو في قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] أي إذ طائفة. كذا هاهنا؛ إذ نحن نسبح، والعامل في الحال هاهنا {أَتَجْعَلُ} كأنَّه قال: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وهذه حالنا من التسبيح.
و (الباء) من {بِحَمْدِكَ} يتعلق بـ: {نُسَبِّحُ} ، و (اللام) من {لَكَ} يتعلق بـ: {نُقَدِّسُ} ، قوله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} في موضع نصب بـ: {قَالَ} الذي قبله.
و (إن) تكسر في أربعة مواضع:
بعد القول نحو ما في الآية، وبعد القسم وبعض العرب يفتحها بعد القسم والكسر أكثر، وفي الابتداء، وإذا كان في خبرها اللام.
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] .
أصل السجود: الخضوع، يقال سجد وأسجد إذا ذل وخضع قال الأعشى:

(1/132)


من يلق هوذَةَ يَسجُد غير مُتَّئبٍ
إذا تعصَّبَ فوق التاجِ أوْ وَضَعَا
وقال آخر:
فكلتاهما خرت واسجد رأسها
كما سجدت نصرانة لم تحنف
ويقال في الجمع (سجد) ، قال الشاعر:
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجَّداً للحوافرِ
أي مذللة، ويقال نساءٌ سجد، إذا كن فاترات الأعين، قال:
والهوى إلى حور المدامع سجد.
والإسجاد: الاطراق وإدامة النظر في فتور وسكونٍ، قال الشاعر:
أغرك مني أن ذلك عندنا وإسجاد عينيك الصيودين رابح
و (آدم) : أفعل من الأدمة وهي السمرة، وقيل: أخذ من أدمة الأرض.
ومعنى أبى وامتنع واحد، والاستكبار والتكبر والتعظم والتجبر واحد، ونقيضه التواضع.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: أكان إبليس من الملائكة حتى استُثنى منهم أم لا؟

(1/133)


والجواب أن العلماء اختلفوا في ذلك:
فذهب قوم إلى أنه لم يكن من الملائكة، وجعل الاستثناء هاهنا منقطعاً، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] .
وأنشد سيبوية:
والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في النجـ دات والفرس الوقاح
واحتج على صحة هذا القول بقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فنفى المعصية عنهم نفياً عاماً، واحتج أيضاً بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ، ومتى أطلق لفظ (الجنّ) لم يجز أن يعنى به إلا الجنس المعروف، واحتج أيضاً بأن إبليس له نسل وذرية، قال الحسن: إبليس أبُ الجن، كما أن آدم أبُ الأنس.
واحتج أيضاً بأن إبليس مخلوق من النَّار، والملائكو روحانيون خُلقوا من الريح، وقال الحسن: خُلقوا من النور لا يتناسلون ولا يأكلون ولا يشربون، وقال الله تعالى في إبليس وولده: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] واحتج أيضا بقوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، فعمها بالوصف بالرسالة، ولا يجوز على رسل الله أن تكفر، ولا أن تفسق، كما لا يجوز على رسله من البشر من قبل أنهم حجة الله على خلقه فالملائكة [11/ط] بهذه المنزلة، ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب، فكأن يكون لا سبيل إلى الفرق بين الصدق والكذب فيما أخبروا به عن الله.

(1/134)


وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه من الملائكة، وأحتجوا بأنَّه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوماً في ترك السجود، ن الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم، قال: وأمَّا ما احتج به من أنهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 60] وأنه أنفى نفياً عاماً، فإن العموم قد يختصُّ من الشيئ، نحو قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ، وقد علم أن المعنى: وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك، ولم يرد جميع الأشياء قال: وأمَّا احتجاجه بقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فإن الجن جنس من الملائكة، وقيل يقع الجن على جميع الملائكة؛ لاجتنانها عن العيون، قال أعشى بن ثعلبة:
ولو كان شيء خالداً أو معمراً لكان سليمان البري من الدهرِ
براهُ إلهي واصطفاهُ عبادُه وملكه ما بين ثريا إلى مصرِ
وسخر من جنًّ الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجرِ
وقال تعالى" {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ، وقال: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] ، فالجنَّ هاهنا الملائكة بلا خلاف؛ لأنَّ قريشاً قالت: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم. وأما قوله: إن لإبليس نسلاً وذرية، والملائكة ليست كذلك، فلا دليل فيه؛ لأنَّ الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض ولعنه تغيرت حاله عن حال الملائكة، فإذا كان كذلك لم تصح الدلالة بذلك، وأما قوله: أنه مخلوق من النار والملائكة خلقوا من الريح، فقال الحسن: الملائكة خلقوا من النور، والنار والنور سواء، وقوله: الملائكة لا يطعمون ولا يشربون، والجن يطعمون ويشربون، فقد جاء عن العرب ما يدل على أنهم لا يطعمون ولا يشربون.
أنشد أبو القاسم الزجاجي.

(1/135)


قال أنشدنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم:
ونارٍ قدْ حضأتُ بعيدَ وهنٍ بدارٍ ما أريدُ بها مقاما
سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ أكالئها مخافةَ أنْ تناما
أتوا ناري فقلتُ: منونَ أنتم؟ فقالوا: الجنُّ، قلت: عموا ظلامًا
فقلت إلى الطعامِ، فقال منهم زعيم: نحْسُدُ الأنسَ الطعاما
لقدْ فضلتمُ بالأكلِ فينا ولكنْ ذاك يعقبكم سقاما
فهذا يدل علة أنهم لا يأكلون ولايشربون؛ لأنهم روحانيون. وجاء في بعض الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث، قال: لأنَّ ذلك طعام الجن، وطعام دوابهم، فإن صحَّ ذلك، فلأنهم لما سكنوا الأرض خالفوا حكم الملائكة؛ لأنهم خرجوا من جملتهم بعصبية إبليس. زقيل في تأويل الحديث، أنهم يتشممون ذلك ولا يأكلون، والقول الأول: قول الحسن، والثاني: قول الجمهور من العلماء، وروي عن ابن عباس القولان جميعاً.
وروي عن ابن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيراً مع الملائكة، فتعبد معها بالأمر بالسجود، فلذلك قال الله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] .
ويُسأل عن سجود الملائكة لآدم على أي وجه كان؟
وفيه جوابان:

(1/136)


أحدهما: أنه كان على وجه التحية لآدم، والتكرمة والعبادة لله تعالى لا لآدم، وهو قول قتادة. والثاني: أنه كان على معنى القبلة، كما أُمروا بالسجود إلى القبلة. والوجه الأول أبين.
فصل:
ويُسأل عن قوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] .
ما معنى (كان) ؟
الجواب: أنَّ بعضهم قال المعنى: وصار من الكافرين، وقيل: كان في علم الله من الكافرين، وقال بعضهم: كان كافراً في الأصل.
فصل:
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} في موضع نصب؛ لأنَّها معطوفة على {وَإِذْ} الأولى كأنَّه قال: واذكر إذ قال ربُّك للملائكة. وقال أبو عبيدة: لا موضع لها، وقد نبهنا على فساد هذا فيما تقدم.
وإبليس: اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة. قال الزجاج

(1/137)


وغيره من النحويين: هو اسم أعجمي معرب استدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب قوم إلى أنه عربي مشتق من (الإبلاس) .
وأنشدوا للعجاج.
يا صاح هلْ تعرفُ رسماً مكرسًا
قال: نعم أعرفهُ وأبلسا
وقال رؤبة:
وحضرتْ يومَ الخميسِ الأخماس
وفي الوجوهِ صفرةٌ وإبلاس
أي: اكتئابٍ وكسوفٍ، وزعموا أنَّه لم ينصرف استثقالاً له، لأنَّه اسم لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العرب بأسماء العجم التي لا تنصرف.
وزعموا أنَّ (إسحاق) الذي لا ينصرف من أسحقه الله إسحاقاً، وأنَّ (أيوب) من آب يؤوب، وأن (إدريس) من الدرس في أشباه لذلك، وغلطوا في ذلك؛ لأنَّ هذه ألفاظ معبرة وافقت ألفاظ العربية (7) ، وكان أبو بكر بن السراج (8) يمثل ذلك على جهة التبعيد لمن يقول: إن الطير ولد الحوت، وغلطوا أيضاً في أنه لا نظير له في أسماء العرب،

(1/138)


والعرب تقول: إزميل اسم للشفرة: قال الشاعر:
همُ منعوا الشيخَ المنافى بعدما رأى حمةَ الإزميل فَوقَ البراجمِ
وقالوا: إحريض للطلع، وإخريط لصبغ أحمر، ويقال: هو العصفر. قال الراجز: ملتهبٌ تلهبَ الإحريضِ
وقالوا: سيف إصليت: ماضِ، كثيرُ الماء. قال الراجز.
كأنني سيفٌ إصليتُ
وقالوا: ثوب إضريحٌ، أي: مشبع الصبغ.
وقالوا: من الصفرة خاصة.
قال النابغة:
تحييهُمُ بيضُ الولائدِ بينهمْ وأكسيةُ الإضريجِ فوقَ المشاجبِ
وهذا كثير، وإنما أوردنا هذه الأشياء لزعمهم أنه لا نظير له.
وإبليس: نُصب على الاستثناء المتصل في مذهب من جعله من الملائكة، وعلى الاستثناء المنقطع في مذهب من جعله من غير الملائكة.
* * *
قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41]
يُسأل: ما معنى قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ؟

(1/139)


والجواب: أن المعنى ولا تكونوا أوَّل كافرٍ بالقرآن من أهل الكتاب، وقد كانت قريش كفرت به بمكة.
وقيل: المعنى ولا تكونوا السابقين إلى الكفر فيتبعكم الناس، أي: لا تكونوا أئمةٌ في الكفر به.
وقيل: المعنى ولا تكونوا أوَّل جاحدٍ أن صفة النَّبي في كتابكم، والهاء في {بِهِ} على هذا القول تعود على النبي - عليه السلام - وفي القول الأول تعود على القرآن.
وقيل: المعنى ولا تكونوا أوَّل كافر بما معكم من كتابكم؛ لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كفرتم به.
والأول: قول أبي العالية، والقول الثاني: قول ابن جريح، والقول الثالث: حكاه الزجاج.
فصل:
ومما يُسأل عنه: أن يقال لم وحد {كَافِرٍ} في قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} وقبله جمع؟ وفي هذا أجوبة:
قال الفراء: لأنه في مذهب الفعل، معناه: أول من كفر بع، ولو أريد الاسم لم يجز إلا بالجمع، مثل قولك للجماعة: لا تكونوا أوَّل رجال يفعلون ذلك. لا يجوز أن تقول: لا تكونوا أول رجل يفعل ذلك.
وقال أبو العباس: هذا الذي قاله الفراء خارجٌ من المعنى المفهوم؛ لأنَّ الفعل هاهنا الاسم سواء، إذا قال القائل: زيد أول رجل جاء لمعناه: أول الرجال الذين جاؤوا رجلاً رجلاً.

(1/140)


وكذلك إذا قال: أوَّل كافر به، وأوَّلَ مؤمن، فمعناه: أوَّلُ الكافرين وأوَّلُ المؤمنين لا فصل بينهما في لغة ولا قياس ولا فيما يتقبله النًّاس.
قال: ومجازه لا تكونوا أوَّلَ قبيل كافر به، وأوَّلَ حزب كافر به، وهو مما يسوغ به النًّعت؛ لأنَّا نقول: جاءني قبيل صالحٌ وحيٌ كريمٌ.
ونظير ما ذكره أبو العباس، قول الشاعر:
وإذا هم طعمُوا فألأمُ طاعمٍ وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياعِ.
وقال الزجاج: في هذه المسألة إذا قلت: الجيشُ رجلٌ، فإنما يكره من هذا أن يُتوهم أنك تقلله. فأما إذا عُرف معناه فهو سائغٌ جيدٌ، تقول: جيشهم إنما هو رجلٌ وفرسٌ، أي: ليسوا بكثير الأتباع، فيدلُّ المعنى على أنك تريد: الجيش خيلٌ ورجالٌ، وهو في فاعلٍ ومفعولٍ أبين، كقولك: الجند مقبلٌ، والجيش مهزومٌ.
قال غيره: لا يجوز، نحن أوَّلُ رجلٍ قامَ، ويجوز نحنُ أوَّلُ قائمٍ.
قال علي عيسى: إن جعل الواحد بإزاء الجماعة إذا لم يكن فيه معنى الفعل كان قبيحاً، ألا ترى أنه يقبح: أخوتك أوَّلُ رجل، وإنما يحسنُ: أخوك أوَّلُ رجل؛ لأنك ذكرت واحداً فقابلت به واحداً علة معنى الجميع، ولا يجيء على ذلك القياس إذا ذكرت جميعاً إلا أن تقابل به الجميع. وقد علمنا أنَّهم جعلوا لفظ الواحد في موضع الجمع الإيجاز.
وأبين هذه الأقوال قول أبي العباس.
فصل:
ويُقال: إذا كانوا أوًّلَ كافر به، ما في ذلك من تعظيم الأمر عليهم في أن لا يكونوا ثاني كافر؟
فالجواب: لأنهم إذا كانوا أئمة في الضلالة، كانت ضلالتهم أعظم على نحو ما جاء

(1/141)


من قولهم: من سنًّ سُنَّةَ خيرٍ كان له أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من يعمل بها إلي يوم القيامة. ونصب {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} ؛ لأنه خبر كان، وأما نصب قوله: {مُصَدِّقًا} فلأنه حال من الهاء المحذوفة؛ كأنه قال: وآمنوا بما أنزلته مصدقاً لما معكم، ويصلح أن ينتصب بـ: {آمَنُوا} ، كأنه قال: آمنوا بالقرآن مصدقاً، ومعكم ظرف، والعامل فيه الاستقرار، كأنه قال: وآمنوا بما أنزلت مصدقاً للذي استقر معكم، وهذا الاستقرار مع الظرف الذي يتعلق به من صلة الذي.
* * *
قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] .
استعينوا: اسْتَفْعِلُوا، من العون، وأصله: استعونوا، فاستُثقلت الكسرة على الواو، فنقُلت إلى العين فانقلبت ياء لانكسار ما قبلها؛ لأنه ليس في كلام العرب واو ساكنة قبلها كسرة.
والصبر: نقيض الجزع. وأصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة الدعاء.
من [ذلك] قول الأعشى.
عليكِ مثْلُ الذي صلَّليتِ فاغتمضي يوماً فإنَّ لجنْبِ المرءِ مُضطجعا
أي: دعوت. ومثله:
وقابلها الرَّيحُ في دنّها وصلى على دنهت وارتسمْ
أي: دَعَا.

(1/142)


وقيل: أصلها اللزوم من قول الشاعر:
لمْ أكنُ من جنتها - عَلِمَ الله - وإني لحرها اليوم صالِ
أي: ملازمٌ لحرها، فكأنَّ معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.
وقيل: أصلها من الصلا، وهو عظم العجز لرفعه في الركوع والسجود. ومن هذا قول النابغة:
فآبَ مصلوهُ بعينٍ جليةٍ وغودرَ بالجولانِ حزمٌ زنائلٌ
أي: جاؤوا في صُلا السابق، وعلى القول الأول أكثر العلماء.
ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] ، أي: دعاؤهم، والأصل على ما قلنا الدعاء، وهو: اسم لُغَويٌ، فأضيف إلى ذلك الدعاء عمل بالجوارح، فقيل: صلاة، وصار اسماً شرعياً.
ومثل هذا (الصوم) أصله الإمساك في اللغة. وجاء في الشرع: الإمساك عن الطعام، فصار اسماً شرعياً بهذه الزيادة.
والكبيرة: نقيض الصغيرة، ويقال: كبرُ الشيء فهو كبير، وكبرُ الأمر، أي: عظم، وأصل الخشوع التذلل. قال جرير.
لما أتى خبرُ الزبير تَضَعْضَعَت سور المدينةِ والجبال الخشعُ
ومنه: خشعتْ الأصوات، أي: سكنت وذلت.
فصل:
ومما يسأل عنه: أن يقال: ما وجه الاستعانة بالصلاة؟
والجواب: أنه لما كان في الصلاة تروة القرآن، وفيها الدعاء والخضوع لله.... كان

(1/143)


ذلك معونة على ما ينازع إليه النفس من حب الرئاسة والأنفة من الانقياد إلى الطاعة.
وهذا الخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو أدب لجميع العباد.
ويقال: ما معنى الاستعانة بالصبر؟ قيل: المعنى استعينوا بالاستشعار للصبر.
وقيل: استعينوا بالصبر، أي: بالصوم.
ويُسأل عن معنى: (كبيرة) هاهنا، والجواب: أن الحسن والضحاك قالا:
ثقيلة، والأصل في ذلك أن ما يكبر يثقل على الإنسان حمله كالأجسام الجافية.
ويسأل عن الهاء في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} على ما تعود؟
والجواب: إنها تعود على اإجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا قول، وإن لم يجر للإجابة ذكر، لأنَّ الحال تدل عليها.
وقال قوم: تعود على الاستعانة؛ لأن استعينوا تدل على الاستعانة.
ومثله قول الشاعر:
إذا نهي السفيهُ جرىَ إليهِ وخالفَ والسفيهُ إلى خلاف.
أي: جرى إلى السفه، ودل السفيه على السفه، ومثل الأول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني: القرآن، ولم يجر له ذكر، وقيل: تعود على الصلاة، وهو القول المختار، وجاز أن يرد عليها لقربها منه، وقيل: يعود إليهما جميعاً، وإن كان الضمير

(1/144)


واحداً وهما لااثنان، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] فرد الضمير إلى واحد.
وقال الشاعر:
أمَّا الوسامة أو حسنُ النساءِ فقدْ أوتيتِ منهُ أو أن العقل محتنكُ
وهذا كثير في كلامهم.
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: لم خصَّ الخاشعَ بأنها لا تكبرُ عليه دون غيره؟
والجواب: أنَّ الخاشعَ قد توطأ له ذلك بالاعتياد له، والمعرفة بما له فيه، فقد صار لذلك بمنزلة من لا يشق فعله عليه، ولا يثقل تناوله.
ويقال: لمن هذا الخطاب؟
والجواب: أنه لأهل الكتاب على هذا أكثر أهل العلم. وقال بعضهم: هو لجميع المسلمين.
فصل:
* * *
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]
فيُسأل عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} ، ما معنى {هَؤُلَاءِ} هنا؟ وكيف يتصل به {تَقْتُلُونَ} ؟ وما موضعه من الإعراب؟
فالجواب: إن فيه ثلاثة أقوال:

(1/145)


أحدها: أنَّ معناه النداء، كأنه قال: ثم أنتم با هؤلاء تقتلون أنفسكم.
والثاني: أنَّ معناه التوكيد لأنتم، والخبر تقتلون - أعني - خبر أنتم؛ لأنه مبتدأ.
والثالث: أنه بمعنى الذي، وصلته (تقتلون) ، وموضع (تقتلون) رفع إذا كان خبراً، وإذا كان (هؤلاء) بمعنى الذين فلا موضع لتقتلون؛ لأنه صلة.
قال الزجاج: ومثلة في الصلة: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] .
أي: وما التي بيمينك. وأنشد النحويون:
عدسْ ما لعبادٍ عليكِ إمارةٌ أمنتِ وهذا تحملين طليقُ
وهذا القول الأخير على مذهب الكوفيين، ولا يجييزه أكثر البصريين، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يرى رأي البصريين.
* * *
قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] .
الزحزحة: التنحية، والعذاب: اسم للتعذيب، وهو بمنزلة الكلام من التَّكليم، والتَّعمير: طول العمر، وعمر الشيء ومدته سواء.
وقوله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} فيه ثلاثة أقوال:
أدها: أنه كناية عن {أَحَدُهُمْ} الذي جرى ذكره في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ}

(1/146)


والثاني: أنه كناية عن التعمير، والثالث: أنه عماد.
ومنع الزجاج هذا القول الأهير، قال: إذا جاءت الباء في خبر (ما) لم يصلح العماد عند البصريين لا يجوز عندهم: ما هو بقائم زيدٌ، ولا ما هو قائماً زيدٌ.
قال غيره: إذا كانت (ما) غير عامله في الباء جاز، كقولك: ما بهذا بأسٌ.
فصل:
ومما يسأل عنه: أن يقال: ما موضع {أَنْ يُعَمَّرَ} ؟
والجواب: رفعٌ، فإن قيل: من أي وجهٍ" قيل: من وجهين:
أحدهما: الابتداء وخبره: بمزحزحه، أو يكون على تقدير الجواب لما كنى عنه، كأنه قيل: وما هو الذي بمزحزحه؟
فقيل: هو التعمير. والوجه الآخر: أن يرتفع بمزحزحه ارتفاع الفاعل بفعله، كما تقول:
مررت برجل معجب قيامُهُ، وقيل في معنى بمزحزحه: بِمُبِعِبِدهِ، وقال ابن عباس: بمُنجيه، وهو قول أبي العالية أيضاً.
* * *
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]
قال ابن دريد: النسخ نسخك كتاباً عن كتاب، قال صاحب العين: النسخ أن تُزيل أمراً كان من قَبلُ يعمل به تنسَخه بحادث غيره، كالآيه ينزل فيها أمر ثم يخفف عن

(1/147)


العباد فينسخ تلك الآية آية أخرى، فالأولى منسوخةٌ والأخرى ناسخةٌ. والنسأ: التأخير، والآية: القطعة من القرآن.
قال ابن عباس: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} يقول ما نبدلُ من آيةٍ.
فصل:
ومما يسأل عنه: أن يقال: ما معنى (ماننسأها) بالهمز؟
قيل: نؤخرها، قيل: فما معنى التأخير هاهنا؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما: أن يكون المعنى نؤخرها فلا ننزلها، وننزل بدلاً منها مما يقوم مقامها في المصلحة أو تكون أصلح للعباد منها.
والثاني: أن يكون المعنى نؤخرها إلى وقت ثانٍ، ويأتي بدلاً منها في الوقت المتقدم ما يقوم مقامها. فأما من تأول ذلك على معنى يرجع إلى النسخ، فلا يحسُن إذا كان محصوله في التقدير: ما ننسخ من آية أو ننسَخها، وهذا لا يصح. ويقال: عل يجوز نسخ القرآن بالسُّنة؟
فالجواب: أن بعض أهل العلم أجازه، ولعضهم منعه. واختلف في القراءة فقرأ ابن عامر: "مَا نُنْسِخْ مِنْءَايَةٍ" بضَمَّ النون وكسر السين، وقرأ الباقون: {مَا نَنْسَخْ} بفتحها.

(1/148)


فأما ننسخ: فَمنْ نَسَختُ فأنا ناسخٌ، والشيء منسوخ، وأما نُتْسِخ ففيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بمعنى ما نُنْسِخُكَ يا محمد، وهو قول أبي عبيدة.
يُقال: نسخت الكتاب وأنسختُهُ غيري.
والثلتي: أن يكون ننسخ جعلته ذا نسخ، كما يقال: أقبرته جعلته قبرٍ.
ويروى ان الحجاج صلب رجلاص، فقال له قومه: اقبرنا فلاناً، اي: اجعله ذا قبر.
واختلف في (نَنْسَاهَا) ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو {نَنْسَأَهَا} بالهمزة وهو جزم بالشرط، ولا يجوز حذفها عندهما، لأن سكونها علامة الجزم، وقرأ الباقون {نُنسِهَا} بضم النون وكسر السين على أم يكون من النسيان، أو يكون من الترك، والأول قول قتادة، والثاني قول ابن عباس.
فصل:
ومما يُسأل عنه: أن يقال: كيف يجوز على الجماعة الكبيرة أن تنسى شيئاً كانت حافظةٌ له حتى لا يذكره ذاكر منها؟
والجواب: أن فيه قولين:
أحدهما: أنه إذا أمر الناس بترك تلاوته نسي على مرور الأيام.
والثاني: أن يكون معجزة للنبي - عليه السلام -، وقد حاءت أحاديث متظاهرة في أنها نزلت

(1/149)


أشياء من القرآن ثم نسخت تلاوتها، فمنها ما ذكر أبو موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤون: (لو أنَّ لابن آدم واديين من ذهبٍ لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا التُراب ويتوب اللهُ على من تاب) . ثم رفع.
ومنها: عن قتادة عن أنس أن السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة كانوا يقرؤون فيهم كتاباً: (بلَّغوا عنَّا قومنا أنَّا لقينا ربَّنَا ورضي عنَّا وأرضانا*, ثم إن ذلك رفع.
ومنها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتَّة) .
ومنها: ماروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نقرأ: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) .
ومنها ما حكي أن سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة في الطول.
فصل:
ومما يسأل عنه: أن يقال: على كم وجه يصحُّ النسخ؟
والجواب: على ثلاثة أوجه: نسخ الحكم دون اللفظ، ونسخ اللفظ دون الحكم، ونسخهما جميعاً. فالأول: كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} إلى قوله: {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 65-66] .
والثاني: كآية الرجم، كانت منزلة فرفع لفظها وبقي حكمها.
والثالث: يجوز وإن لم يقطع بأنه كان كالذي قيل أنه كان على المؤمنين فرض قيام الليل ثم نسخ، ولا يجوز إلا في الأمر والنهي، ولا يجوز في الخبر والقصص، لأن

(1/150)


ذلك يؤدي إلى الكذب، والقرآن منزه عن ذلك.
ويقال: ما معنى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ؟ وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون المعنى: بخير منها لكم في التسهيل والتيسير، كالأمر بالقتال الذي سهل على المسلمين في قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] ، أو مثلها، كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعدما كان إلى بيت المقدس.
والثاني: أن يكون المعنى بخير منها في الوقت الثاني، أي: هي لكم في الوقت الثاني خير من الأولى لكم في الوقت الأول أم مثلها في ذلك، وهو: معنى قول الحسن، كأنَّ الآية في الوقت الثاني في الدعاء إلى الطاعة والزجر عن المعصية مثل الآية الأولى في وقتها، فيكون اللطف بالثانية كاللطف بالأولى، إلا أنه في الوقت الثاني يستقيم بها دون الأول، والجواب الأول معنى قول ابن العباس.
* * *
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]
يقال: رغبت في الشيء أحببته، ورغبت عنه كرهته، والملَّة: الدين.
وفي (إبراهيم) أربع لغات: إبراهيم، وإبراهام، وإبراهِم، وإبرلاهَم.
والاصطفاء: افتعال، من الصفوة، والطاء مبدلة من تاء الافتعال؛ لأن الطاء تشبه الصاد في الاستعلاء والإطباق، وهي من مخرج التاء، فاختاروها ليكون العمل من جهة واحدة. والسَّفة: الخفة. والمعنى: ومن يَمِلْ عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه.
واختلف في {سَفِهَ نَفْسَهُ} ، فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن

(1/151)


المعنى: سَفَّهَ نفسَهُ. وقال يونس: أراها لغة. قال الزجاج: ذهب يونس إلى أن فَعِلَ للمبالغة، كما أن فَعُلَ كذلك. قال: ويجوز على هذا سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفَهْتُ. وقال أبو عبيدة: معناه: أهلك نفسهُ، وأوبق نفسهُ.
قال ابن زيد: إلا من أخطا حظه، فهذا كله وجه واحد في التأويل.
وقال آخرون: هو على التفسير، كقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] وهو قول الفراء، قال: العرب توقع سفه على نفسه وهي معرفة، وكذا: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] . أنكر هذا الزجاج، وقال: معنى التمييز لا يحتمل التعريف؛ لأن التمييز إنما هو واحد يدل على جنسه، فإذا عرفته صار مقصوداً، وقيل: هو تمييز على تقدير الانفصال، كما تقول: مررت برجل مثله، أي: مثل له. وقيل: هو على حذف حرف الجر، كما قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] ، أي: على عقدة النكاح. قال الشاعر:
نغالي اللحم للأضياف نياً ونبذله إذا نضج القدور
كأنه قال: نغالي باللحم. قال الزجاج: وهذا مذهب صحيح، والاختيار عنده أن يكون سفه في معنى جهل، وهو موافق لما قال ابن السراج في: {ببَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] لأن البطر مستقل للنعمة، غير راض بها.
ويقال: لم قال: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] فحص الآخرة بالذكر وهو في الدنيا كذلك؟

(1/152)


والجواب: أن الحسن قال: المعنى أنه نمن الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب. فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك.
وفي هذا الآية دلالة على أن ملة نبينا - صلى الله عليه وسلم - هي ملة إبراهيم - عليه السلام - مع زيادات في ملة نبينا، فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن هذه الملة، وهي تلك الملة قد سفهوا أنفسهم، وهذا قول قتادة زالربيع.
* * *
قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]
وصَّى، وأوصى، وأمر، وعهد بمعنى.
ومما يسأل عنه: أن يقال: على ما يعود الهاء من {بِهَا} ؟
والجواب فيه قولان:
أحدهما: أنها تعود على الملة وقد تقدم ذكرها، وهو قول الزجاج.
والثاني: أنها تعود على (الكلمة) التي هي أسلمت لرب العالمين، قاله بعض أمر اللغة.
ويسأل: بما ارتفع {يَعْقُوبُ} ؟
والجواب. أن فيه قولين:
أحدهما: أنه معطوف على إبراهيم، والتقدير: ووصى بها يعقوب، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة.
والثاني: أنه على الاستئناف، أي: ووصى يعقوب أن يا بني، والفرق بين التقديرين أن الأول لا إضمار فيه، لأنه معطوف، والثاني فيه إضمار.

(1/153)


فصل:
ويسأل عن قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] كيف نهاهم عن الموت وليس الموت إليهم، فيصح أن يُنهًو عنه؟
والجواب: أن أبا بكر بن السراج، قال: لم يُنهو عن الموت وإن كان اللفظ على ذلك، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموت عليه، فإنه لابد منه، وتقديره: اثبتوا على الإسلام لئلا يصادفكم الموت وا، ـم على غيره.
ومثله في الكلام: لا أرينك هاهنا، فالنهي في اللفظ للمتكلم وهو في المعنى للمخاطب، كأنه قال: لا تتعرض للكون هاهنا، فإن من كان هاهنا لا أراه.
* * *
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
القصاص: القود، والحياة: نقيض الموت، والألباب: العقول، أحدها لب. وهذا من الكلام الموجز.
ونظيره من كلام العرب: القتل أنفى للقتل، إلا أن ما في القرآن أوجه وأفصح وأكثر معاني. والفرق بينهما في البلاغة من أربعو أوجه.
وهو أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة. أما الكثرة في الفائدة ففيه كل ما في (القتل أنفى للقتل) ، وزيادة معاني حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص؛ لأنه ليس في قولهم القتل أنفى للقتل بيان أنه قصاص، ومنا إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به.
وأما الإيحاز في العبارة، فإن الذي هو نظير القتل أنفى للقتل، وقله تعالى: {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . وهذة عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفاً. وأما بعده من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن قولهم: القتل أنفى للقتل تكرير غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في باب البلاغة.

(1/154)


وأما الخسن بتأليف الحروف المتلائمة، فإنه يدرك بالحسَّ، ويوجد في اللفظ؛ لأن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبعد الهمزة من اللام، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام، فباجتماع هذه الأمور التي ذكرنا صار أبلغ منه وأحسن، وإن كان الأول حسناً بليغاً، وقد أخذه الشاعر، فقال:
أبلغْ أبا مالكٍ عني مُغلغَلةً وفي العِتَابِ حياةٌ بين أقوامِ
فصل: ويسأل عن معنى (لَعَلَّ) هاهنا:
والجواب: أن فيها ثلاث أقوال:
أحدها: أن يكون بمعنى اللام، كأنه قال: (لتتقوا) .
والثاني: أن يكون للرجاء والطمع، كأنه قال: على رجائكم وطمعكم في التقوى.
والثالث: على معنى التعرض، كأنه قال: على تعرضكم للتقوى.
وقيل في {تَتَّقُونَ} قولان:
أحدهما: لعكم تتقون القتل بالخوف من القصاص. وهو قول ابن زيد.
والثاني: لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه.
* * *
قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] .

(1/155)


الأصل في أيام: أيواء؛ لأن الواحد يوم، ولكن الواو والياء إذا اجتمعتا وسبقت الأولى منها بالسكون قلبت الواو ياءً، وأدغمت في الياء التي بعدها.
ويسأل عن قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} ما هي؟
والجواب: أن عطاء وابن عباس، قالا: ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك. وقال ابن أبي ليلى: المعنىُّ به شهر رمضان، وإنما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعاً.
فصل:
ويسأل عن {الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؟ ، وفيه جوابان:
أحدهما: أن المعنى به سائر الناس من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك، وهو قول ابن عباس والشعبي.
والثاني: أنه نزل فيمن كان يطيقه ثم صار إلى حال العجز عنه، وهو قول السدي.
ويسأل عن (الهاء) في {يُطِيقُونَهُ} على ما يعود؟
وفيه جوابان:
أحدها: أن يعود على الفداء؛ لأنه معلوم وإن لم يجرِ له ذكر، وعلى القول الأول أكثر العلماء.
فصل:
ويسأل عن الناصب، لقوله: {أَيَّامًا} .

(1/156)


والجواب: أنه يجوز أن يكون ظرفاً، والعامل فيه فعل مضمر يدل عليه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] كأنه قال: الصيام أياماً معدودات، ولا يجوز أن يعمل فيه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} ؛ لأن فيه التفرقة بين الصلة والموصول؛ لأن {كَمَا كُتِبَ} في موقع المصدر، وكذلك لا يجوز أن يعمل فيه {الصِّيَامُ} الذي في الآية لهذه العلة، ويجوز أن يكون مفعولاً على السعة، كقولك: اليوم صمته، وكأنه قال: صوموا أياماً معدودات.
وقال الفراء: هو "مفعول لما لمْ يسمَّ فاعله". وخالفه الزجاج في ذلك، ومثله الفراء بقولك أعطي زيد المال. قال الزجاج: لأنه لا يجوز عنده رفع الأيام كما يجوز رفع المال، وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام، فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على السعة.
* * *
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] .
الشهر: معروف، وجمعه في القلة أشهر، وفي الكثرة شهور، وأصله: من الاشتهار، وأصل رمضان الرمض، وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره. كذلك قال ابن دريد: واشتقاق رمضان من هذا؛ لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق أيام رمض الحر، وقالوا في جمعة: رمضانات. ,انشد صاحب العين:

(1/157)


إن شهراً مباركاً قد أتانا مِثلَ ما بعد قبله رمضانُ
وروي عن مجاهد أنه قال: لا تقل رمضان، ولكن قل كما قال الله تعالى: شهر رمضان، فإنك لا تدري ما رمضان.
حدثنا أبو الحسن عن أبي بكر الأذقوي، ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس قال:
قرئ علي أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيي بن سليمان، قال: حدثني عبيد الله ابن موسى، ثنا عثمان بن الأسود عن مجاهد، قال لا تقل رمضان، ولكن قل كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} فإنك لا تدري ما رمضان.
قال يحيي بن سليمان وثنا يعلى بن عبيد، ثنا طلحة بن عمرو عن مجاهد وعطاء أنهما كانا يكرهان أن يقولا رمضان، ويقولان: نقول كما قال الله تعالى: شهر رمضان، لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى. وليس العمل على ما لا قالا؛ لأن الأخبار جاءت بخلاف ذلك.
وقد روى مالك في الموطأ يرفعه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضانَ لإيماناً واحتساباً غُفَر له ما تقدم من ذنبه".

(1/158)


وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر، ثنا أبو جعفر، قال: قرئ علي أحمد بن شعيب عن إسحاق بن إبراهيم، ثنا يحيي بن سعيد، قال ثنا المهلب بن أبي حبيبة، قال أحمد وأخبرنا عبيد الله بن سعيد، يحيي عن المهلب بن أبي حبيبة، قال حدثني الحسن عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقولنَّ أحدُكم صمتُ رمضانَ، ولا قمتُه كلَّه، فلا أدري أكره التزكيه أم قال لابد من غفلةٍ ورقدةٍ) . واللفظ لعبيد الله.
وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر عن أبي جعفر ثنا عمران بن خالد، ثنا شعيب، ثنا ابن جريح، قال أخبرني عطاء، قال: سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمرأة من الأنصار: (إذا كان رمضانُ فاعتمري فيه، فإن عمرةّ فيه تعدلُ حجةٌ) .
فصل:
ومما يسأل عنه، أن يقال: ما معنى: {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ؟ والجواب أن فيه قولين:
أحدهما: أنه أنزل كله في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك نجوماً. وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن.

(1/159)


والثاني: أن معناه أنزل في فضله قرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن. وقد قيل إن المعنى: ابتدئ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟
فيه جوابان:
أحدهما: أن المعنى فمن شهد منكم تامصر وحضر ولم يغب؛ لأنه يقال: شاهدُ بمعنى حاضر.
والجواب الثاني: أن يكون التقدير: فمن شهد منكم الشهر مقيماً.
فصل:
ومما يسأل عنه، أن يقال: بم ارتفع: {شَهْرُ رَمَضَانَ} ؟
والجواب: أنه يرتفع من ثلاثة أوجه.
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف يدل عليه قوله: {أَيَّامًا} [البقرة: 184] ، كأنه قال: هي شهر رمضان.
والثاني: أن يكون بدلاً من الصيام، كأنه قال: كتب عليكم شهر رمضان.
والثالث: يرتفع بالابتداء، ويكون الخبر {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] .
وإن شئت جعلت: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وصفاً، وأضمرت الخبر، حنى كأنه قال: وفيما كتب عليكم شهر رمضان. أي: صيام شهر رمضان.

(1/160)


فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ لمْ يكن عن الشهر؛ لأنه قد جرى ذكره، كقولك: شهر رمضان المبارك من شهجه فليصمه؟ قيل: كقوله: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة 1-2] و {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة 1-2] وما أشبة ذلك مما أعيد بلفظ التعظيم والتفخيم.
وأما دخول الفاء في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فإن شئت جعلتها زائدة، كما قال الشاعر:
لاتجزعي إنْ منُفساً أهلكتُهُ وإذا هلكتُ فعند ذلك فاجزعي
لابد أن يكون إحدى الفائين هاهنا زائدة؛ لأن (إذا) إنما يقتضي جواباً واحداً، وإن شئت أن تقول: دخلت الفاء؛ لأن فيه معنى الجزاء، لأن شهر رمضان وإن كان معرفة فليس بمعرفة معينة؛ ألا ترى أنه شائع في جميع هذا القبيل لا يراد به واحد بعينه.
ويجوز فيه النصب من وجهين:
أحدهما: على الأمر، كأنه قال: صوموا شهر رمضان.
والثاني: أن يكون على البدل من {أَيَّامٍ} .
وقد قرأ بذلك مجاهد، و {هُدًى لِلنَّاسِ} في موضع نصب على الحال.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز أن يعطف الظرف على الاسم في قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ؟
فالجواب: أنه بمعنى الاسم، كأنه قال: أو مسافراً ومثله: {دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا

(1/161)


أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12] ، أي: دعانا مضطجعاً.
ويسأل عن اللام في قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} على ما عُطفت؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنها معطوفة على الجملة؛ لأن المعنى شرع لكم ذلك، فأريد منكم ولتكملوا العدة، ومثله: وكذلك {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.
والوجه الثاني: أن يكون على تأويل محذوف دل عليه ما تقدم، كأنه لما قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قال: فعل الله ذلك ليسهل عليكم، ولتكملوا العدة.
قال الشاعر:
بادتْ وغير آيهنَّ مع البلى إلا رواكد جمرهن هباءُ
ومشججٌ أما سواءُ قذالهِ فبدا وغير سارهُ المعزاءُ
فعطف على تأويل الكلام الأول، كأنه قال: بها رواكد ومشججُ. وهذا قول الزجاج، والأول قول الفراء.
ورفع قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بالابتداء، والخبر محذوف، كأنه قال:
فعليه عدةٌ من أيام أخر. ويجوز النصب في العربية على تقدير: فليعد عدةّ أيام أخر

(1/162)


لإتمام ما أفطر. ولم ينصرف {أُخَرَ} لأنها صفة معدولة عما يجب في نظائرها من الألف واللام ونظائرها، نحو: الصغر والكبر. فأما من قال لم ينصرف لأنها صفة فيلزمه أن لا يصرف {لِبَدًا} [البلد: 6] و (حُطَماً) . ومن قال لم ينصرف أن الواحد غير مصروف يلزمه ألا يصرف (غضاباً) و (عطاشاً) ؛ لأن الواحد غير مصروف.
* * *
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] .
يسألون: من السؤال، والصد: المنع.
وهذه الآية نزلت في سرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - التقت مع عمرو بن الحضرمي في آخر يوم من جمادى الآخرة فخافوا أن يخلوهم ذلك اليوم فيدخل الشهر الحرام، فلقوهم وقتل عمرو بن الحضرمي، فقال المشركون: محمد يحل القتال في الشهر الحرام، وجاؤوا فسألوه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية, هذا قول الحسن. وقال غيره: السائلون المسلمون.
وأختلف في أمر القتال في الشهر الحرام. فذهب الجمهور من العلماء إلى أنه منسوخ،

(1/163)


وذهب عطاء إلى أنه على التحريم. والوجه الأول أظهر لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] .
فصل:
ويسأل عن جرَّ {قِتَالٍ} ؟
والجواب: أنه بدل من الشهر، وهو بدل الاشتمال، ومثله قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج 4-5] وقال الأعشي:
لقدْ كان في حول ثواءٍ ثويته تقضى لبانات ويسأم سائم
وقال الكوفيون: هو جرٌّ على إضمار (عن) .
وقال بعضهم: هو على التكرير، وهذه ألفاظ متقاربة في المعنى وإن أختلفت العبارة.
فصل:
ويسأل عن جرَّ {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على {سَبِيلِ اللَّهِ} ، كأنه قال: وصدٌّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وهو قول أبي العباس.
والثاني: معطوف على الشهر الحرام، كأنه قال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام. وهذا قول الحسن والفراء.
وأنكر بعضهم هذا؛ لأنه فيما زعم لم يسألوا عن المسجد؛ لأنهم لا يشكون فيه، وليس

(1/164)


كما ذهب إليه من قبل أن القوم لما استعظموا القتال في الشهر الحرام، وكان القتال عند المسجد الحرام يجري مجراه في الاستعظام حمع بينهما في السؤال، وإن كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصة، كأنهم قالوا: هل استحللت الشهر الحرام والمسجد الحرام؟ ولا يجوز حمله على (الباء) في قوله: {كُفْرٌ بِهِ} ؛ لأنه لا يعطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار إلا في ضرورة شعرٍ. وسأشرحه في سورة النساء.
فصل:
ومما يسأل عنه قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} ؟
والجواب: أن الفتنة في الدين وهي الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام.
ويسأل: بما ارتفع {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ؟
والجواب: أنه مرفوع بالابتداء وما بعده معطوف عليه، وخبره {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} وهذا قول الزجاج.
وأجاز الفراء رفعه من وجهين، فقال: إن شئت جعلته مردوداً على {كَبِيرٌ} تعني: قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به. وإن شئت جعلت الصد كبيراً، يريد القتال فيه كبير، وكبير الصد عن سبيل الله وكفر به. وخطأه علماؤنا في ذلك، قالوا: لأنه يصير المهنى في التقدير الأول: قل القتال في الشهر الحرام كفر بالله، وهذا خطأ بإجماع. ويصير التقدير في الثاني: وإخراج أهله منه أكبر عند الله من الكفر، وهذا خطأ بإجماع.
وللفراء أن يقول في هذا المعنى: وإخراج أهله منه أكبر من القتل فيه لا من الكفر به، لأن المعنى في إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه. فأما الوجه الأول

(1/165)


فليس له منه تخلص.
* * *
قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257] .
الولي: النصير والمعين، وجمعه: أولياء، وأصله: من الولي، وهو القرب.
قال علقمة:
تكلفني ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب
واخنلف في الطاغوت، فقال قوم: هو كاهن، وقال آخرون: هو صنم، وقال آخرون: هو الشيطان، وقيل: هو كل ما عبد من دون الله.
وأصله: من الطغيان، يقال: طقى يطغى، وطغا يطغو، وهو (فلعوت) ؛ لأنه مقلوب، وأصله: طيغوت، أو طغووت على إحدى اللغتين، ثم قدمت اللام، وأخرت العين ف صار طيغوتا، أو طوغوتا فقلب لتحرك حرف العلة وانفتاح ما قبله، والطاغوت: يقع على الواحد والجمع بلفظه، ويذكر ويؤنث.
قال الله تعالى: {اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]
وقال في هذه الآية: {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ} ، وقد قيل: هو واحد وضع موضع الجمع في هذا الموضع.
كما قال العباس بن مرداس:
فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور

(1/166)


وجمع (طاغوت) : طواغيت، وطواغت، وطواغٍ على حذف الزيادة، وطواغي على العوض من الحذف.
فصل:
ويسأل عن معنى قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} والجواب: أن الظلمات هاهنا: الكفر، والنور: الإيمان.
وقال قتادة: من ظلمات الضلاله إلى نور الهدى.
ويسأل عن قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
فقال: كيف يخرجونهم من النور وهم لم يدخلوا فيه؟
وفي هذا أربعة أجوبة:
أحدها: أنه كقول القائل: أخرجني أبي من ميراثه، وهو لم يدخل فيه، وإنما ذلك لأنه لو لم يعمل ما عمل لدخل فيه، فصار لذلك بمنزلة الداخل فيه الذي أخرج عنه.
قال الشاعر:
فإن تكن الأيام أحسن مرة لي فقد عادت لهن ذنوب.
ولم يكن لها ذنوب من قبل ذلك.
والجواب الثاني: يروى عن مجاهد، قال: نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام، فكأنهم خرجوا من نور الإسلام بعدما دخلوا فيه.
والجواب الثالث: أنها نزلت في المنافقين، كأنهم كانوا في نور بما أظهروه من الإسلام وخرجوا منه بما أبطنوه من الكفر.
والجواب الرابع: أنهم كانوا في نور ولدوا فيه، فلما كبروا وكفروا خرجوا منه.

(1/167)


ويدل على صحة هذا القول، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) .
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] .
الاطمئنان: السكون والتوطؤ، والجزء: النصيب، والصور: الإمالة، والصور أيضا: القطع.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما سبب سؤاله أن يؤيه كيف الإحياء؟ وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنه رأي جيفة تمزقها السباع، فأراد أن يعرف كيف الإحياء وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك.
والجواب الثاني: أن نمرود لما نازعه في الإحياء أراد أن يعرف ذلك علم بيان بعد علم الاستدلال. وهذا قول ابن إسحاق. وزعم قوم أنه شك وهذا غلط ممن قاله؛ لأن الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى كفر لا يجوز على أحد من الأنبياء عليهم السلام.
فصل:
ويسأل عن قوله: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ؟
والجواب: أنه أراد ليزداد قلبي يقينا إلى يقينه. وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير، والربيع ومجاهد. ولا يجوز أن يريد: ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك لما قدمناه.
ويقال: ما كانت الطير؟

(1/168)


والجواب: أن مجاهد وابن جريح وابن زيد وابن إسحاق قالوا: الديك والطاووس والغراب والحمام. أمر أن يقطعها أو يخلط ريشها بدمها، ثم يفرقها على كل جبل جزءاً جزءاً.
وقرأ جمزة: {فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ} وقرأ الباقون: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] بالضم.
وقد قلنا أن معنى: صر اقطع، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد. وقال توبة بن الحمير.
أذنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها.
أي: يقطعها. وقال عطاء وابن زيد: المعنى اضممهن إليك، وذا من صاره يصوره إذا أماله. قال الشاعر:
وجاءت خلعة دهسن صفايا يصور عنوقها أحوى زنيم
يصف غنما وئيسا يعطف عنوقها.
فأما من قرأ بالكسر فيحتمل الوجهين المتقدمين. قال بعض بني سليم:
وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح
يريد: تميل الجيد.

(1/169)


فصل:
* * *
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ} ؛ موضع {إِذْ} نصب من وجهين:
أحدهما: أن يكون على إضمار (اذكر) كأنه قال: اذكر إذ قال إبراهيم. وهذا قول الزجاج.
والثاني: أن يكون معطوفاً على قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] . كأنه قا: ألم تر إذ قال إبراهيم. وإذا كان معنى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قطعهن؛ فـ {إِلَيْكَ} من صلة خذ كأنه قال: خذ إليك أربعة من الطير فصرهن، وإذا كان معناها أملهن واعطفهن، فـ: {إِلَيْكَ} متعلقة به؛ وهذه الألف التي في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ألف تحقيق وإيجاب. كما قال جرير.
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
والطير: جمع طائر، مثل راكبٍ وركْبٍ، وصاحبٍ وصَحْبٍ. والطير" مؤنثة. ونصب {سَعْيًا} عل الحال، والعامل فيها {يَأْتًِينَّكَ} ، وقوله: {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في موضع نصب بـ: {أَعْلَمْ} .