النكت في القرآن الكريم {من سورة يوسف
- عليه السلام}
* * *
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] .
يسأل عن قوله: {قُرْآنًا} بم انتصب؟
وفيه وجهان: أحدهما أنه بدل من الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} ،
كأنه قال: إنا أنزلنا قرآنا عربياً.
والثاني: أنه توطئة للحال؛ لأن {عَرَبِيًّا} حال، وهذا كما
تقول: مررت بزيدٍ رجلاً صالحاً، تنصب (صالحاً) على الحال،
وتجعل (رجلاً) توطئةً للحال.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، يعني: كي تعقلوا
معاني القرآن؛ لأنه أنزل على
(1/262)
معاني كلام العرب.
* * *
قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
القصص والخبر سواء.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ} قيل معناه: من الغافلين عن الحكم الذي في
القرآن.
وأجمع القراء على النصب في {الْقُرْآنَ} ؛ لأنه وصف لمعمول
{أَوْحَيْنَا} وهو {هَذَا} ، أو بدل، أو عطف بيان.
ويجوز الجر على البدل من (ما) .
ويجوز الرفع على تقديره (هو) كأنه قال: بما أوحينا إليك هذا:
قيل: ما هو؟ قال: القرآن، أي: هو القرآن.
ولا يجوز أ، يقرأ بهذين الوجهين إلا أن يصح يهما رواية؛ لأن
القرآن سنة.
* * *
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي
رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] .
قال الحسن الأحد عشر إخوته، والشمس والقمر أبواه.
ويقال: لم أعيد ذكر {رَأَيْتُهُمْ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه أعيد للتوكيد لما طال الكلام.
(1/263)
والثاني: ليدل أنه رآهم ورأى سجودهم له.
وقيل في معنى السجود هاهنا: أنه سجود التكرمة، وقيل سجود
الخضوع.
ويسأل عن العامل في {إِذَ} ؟
والجواب: أنه غعل مضمر، كأنه قال: اذكر إذ قال يوسف، وقال
الزجاج: العامل فيه {نَقُصُّ} أي: نقصُّ عليك إذ قال يوسف،
وهذا وهمٌ، لأن الله تعالى لم يقص على نبيه - عليه السلام -
هذا القصص وقت قول يوسف.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {سَاجِدِينَ} بالياء والنون،
وهذا الجمع لمن يعقل، ولا يكون لما لا يعقل؟
والجواب: أنه لما أخبر عنهم بالسجود الذي لا يكون إلا لمن يعقل
أجراهم مجرى من يعقل، كما قال: {أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] ، أمروا كما أمر من يعقل.
وقرأ ابن عامر {يَا أَبَتَ} بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر، ووقف
ابن كثير {يَا أَبَه} بالهاء، ووقف الباقون على التاء.
فوجه قراءة ابن عامر لأنه أراد (الألف) فحذفها واكتفى منها
بالفتحة، وهذه الألف بدل من ياء. وأما الكسر فعلى أنه أراد
الإضافة إلى النفس، فحذف الياء واكتفى منها بالكسر.
وأجاز الفراء (يا أَبَتْ) والتاء عوض من ياء المتكلم المحذوفة.
(1/264)
قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:
24] .
الهَمُّ: مقاربة الشيء من غير دخول فيه.
واختلف في معناه هاهنا.
فقال بعضهم: هممت المرآة بالعزيمة على ذلك، وهمَّ يوسف لشدة
المحبة من جهة الشهوة، وهو قول الحسن.
وقال غيره: همَّا بالشهوة.
وقال بعض المفسرين: هَّمت به أي عزمت، وهم بها أي: بضربها.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما البرهان الذي رآه؟
والجواب: أن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهداً قالوا:
رأى صورة يعقوب - عليه السلام - عاضاً على أنامله.
وقال قتادة: نودي يا يوسف، أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل
السفهاء، وروي عن ابن عباس أنه قال: رأى ملكاً.
* * *
قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] .
المراودة والإرادة من أصل واحد. واختلف في الشاهد:
فقيل: كان صبياً في المهد، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة وسعيد
بن جبير، وهو أحد من تكلم في المهد.
(1/265)
وقال ابن عباس مرة أخرى: كان رجلاً حكيماً،
وكذلك قال عكرمة ومجاهد، وروي مثل ذلك عن سعيد بن جبير والحسن
وقتادة، وروي عن مجاهد أيضاً أن الشاهد قد القميص.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ قُبُلٍ} لابتداء الغاية، أي: كان القد
من هنالك.
و {مِنْ} في قوله: {مِنَ الْكَاذِبِينَ} للتبغيض.
* * *
قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا
الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] .
بدا: ظهر وفاعله مضمر، تقديره: ثم بداءٌ ليسجننه.
ودل {لَيَسْجُنُنَّهُ} عليه.
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف: 75]
.
الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومن كرمهم: (من أشبه أباه فما
ظلم) ، أي:
ما وضع الشبه في غير مكانه، ومن هذا يقال: سقاء مظلوم، إذا لم
يرب، ومنه سمي النقص. ظلماً، قال الله تعالى: {وَلَمْ تَظْلِمْ
مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] .
ويسأل عن معنى قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] ؟
والجواب: أن معناه: جزاء من وجد في رحله أخذه رقاً فهو جزاؤه
عندنا.
كجزائه عندكم، وذلك أنه كان من عادتهم أن يسترقوا السارق، وهو
قول الحسن ومعمر وابن إسحاق والسدي، فهذا تقدير المعنى.
فأما الإعراب فيحتمل وجهين:
(1/266)
أحدهما: أن يكون المعنى: جزاؤه استرقاق من
وجد في رحله، فهذا الجزاء جزاؤه، كما تقول: جزاء السارق القطع.
والثاني: أن يكون المعنى: جزاؤه من وجد في رحله فالسارق جزاؤه،
فيكون مبتدأ ثانياً والفاء جواب الجزاء والجملة خبر {مَنْ} .
ويجوز في {مَنْ} وجهان:
أحدهما: أن يكون خبراً بمعنى (الذي) ، كأنه قال: جزاؤه الذي
وجد في رحله مسترقاً، وينصب (مسترقاً) على الحال.
والثاني: أن يكون شرطاً، كأنه قال: جزاء السرق إن وجد في رحل
رجلٍ منا فالموجود في رحله جزاؤه استرقاقاً.
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ
مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ
يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] .
يسأل عن قوله تعالى: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}
كيف نسبوا السرق إلى يوسف - عليه السلام -؟
والجواب: أن سعيد بن جبير وقتادة وابن جريح قالوا: سرق يوسف
صنما كان لجده أبي أمه، فكسره وألقاه على الطريق.
وقيل: أنه كان يسرق من طعام المائدة ويعطيه للمساكين.
وقال ابن إسحاق: إن جدته خبأت في ثيابه (مِنْطٌَقَة) إسحاق
لتملكه بالسرقة؛ محبة لمقامه عندها.
ويسأل عن (الهاء) في قوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} ؟
والجواب: أنه أسر قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} ، أي: ممن
قلتم له هذا، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة. وأنَّث، لأنه
أراد الكلمة.
(1/267)
وقال الحسن: لم يكونوا أنبياء في ذلك
الوقت، وإنما أعطوا النبوة بعد ذلك.
* * *
قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا}
[يوسف: 82] .
العير: جماعة القافلة إذا كان فيها حمير، وقيل: إن قافلة الإبل
سميت عيراً على التشبيه بذلك، والعير - بفتح العين - الحمار.
والقريه هاهنا مِصْرٌ، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة.
وكان الأصل: واسأل أهل القرية وأهل العير، ثم حذف المضاف وأقام
المضاف إليه مقامه للإيجاز؛ لأن المعنى مفهوم.
وقيل: ليس في الكلام حذف؛ لأن يعقوب - عليه السلام - نبي يجوز
أن تخرق له العادة وتكلمه القرية والعير.
* * *
قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:
98] .
الاستغفار: طلب المغفرة.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أخر يعقوب - عليه السلام - الدعاء
لولده مع محبته إصلاح حالهم؟
وعن هذا أجوبة:
أحدها: أنه أخرهم إلى السحر؛ لأنه أقرب إلى الإجابة، وهو قول
ابن مسعود وإبراهيم التميمي وابن جريح وعمرو بن قيس.
وقيل: أخرهم إلى يوم الجمعة، وهو قول ابن عباس رواه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: سألوه أن يستغفر لهم دائماً، فلذلك قال: {سَوْفَ} .
وقيل: أخر ذلك لحنكته واجتماع رأية؛ لينبههم على عظيم ما
فعلوه، ويردعهم، ألا ترى أن يوسف لحداثة سنه كيف لم يؤخر بل
قال اليوم يغفر الله لكم.
(1/268)
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ
نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] .
الاستيئاس: استفعال من اليأس وهو انقطاع الطمع. والظن: قوة أحد
النقيضين.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {كُذِبُواْ} بالتخفيف، وقرأ الباقون
{كُذِبُوا} ، وقرئ في الشواذ {كُذِبُواْ} .
فمعنى قراءة من خفف: أن الأمم طنت أن الرسل كذبوهم فيما
أخبروهم به من نصر الله لهم وإهلاك أعدائهم، وهو قول ابن عباس
وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك.
وأما من شدد فالمعنى: أن الرسل أيقنوا أن الأمم قد كذبوهم
تكذيباً عمَّهم حتى لا يفلح فيهم أحد، وهو قول الحسن وقتادة
وعائشة. والظن على القول الأول بمعنى الشك، وعلى القول الثاني
بمعنى اليقين.
وأما من قرأ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فالضمير في
{ظَنُّوا} عائد على الكفار وفي {كُذِبُوا} عائد على الرسل -
عليهم السلام، وهو قول عائشة وهذه القراءة تروى عنها. |