النكت في القرآن الكريم {ومن سورة هود
- عليه السلام -}
* * *
قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]
معنى آوي: أنضم، والعصمة: المنع.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم دعاه إلى الركوب معه وقد نهى أن
يركب معه كافر؟
والجواب: أن الحسن قال: كان منافقاً يظاهر بالإيمان، وقال
غيره: دعاه على شريطة الإيمان.
ويسأل عن قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} ؟ وفيه ثلاثة
أجوبة:
أحدها: أن يكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: لكن من رحم معصوم.
والثاني: أن يكون المعنى: لا عاصم إلا من رحمنا، كأنه في
التقدير: لا عاصم إلا الله.
والثال: أن يكون المعنى: لا عاصم إلا رحمة الله فنجاه، وهو نوح
- عليه السلام -.
وقيل (عاصم) هاهنا بمعنى معصوم، والتقدير على هذا: لا معصوم من
أمر الله إلا من رحمه الله، و (فاعل) قد يأتي في معنى (مفعول)
، وعلى هذا قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، وقال
الحطيئة:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
و (عاصم) مع (لا) بمنزلة اسم واحد مبني على الفتح لتضمنه معنى
(من) ؛ لأن هذا جواب (هل من عاصم) وحق الجواب أن يكون وفق
السؤال، فكان يجب أن يكون (لا
(1/247)
من عاصم) إلا أن (من) حذفت، وضمن الكلام
معناها، فبني الأسم، وخبر (لا) (اليوم) ، والعامل في (اليوم)
الخبر المحذوف، كأنه في التقدسر: لا عاصم كائن اليوم، ولا يجوز
أن يعمل (عاصم) في (اليوم) لأنه يصير في صلته، ويبقى بلا خبر.
* * *
قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]
يسأل عن قوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، وكان ابنه
لصلبه، عن ابن عباس وسعيد بن جبيروالضحاك، واحتجوا بقوله:
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] .
وقدره بعضهم: ليس من أهل دينك.
والثاني: أنه لم يكن ابنه لصلبه، ولكن كان ابن امراته، وروى عن
الحسن ومجاهد أنهما قالا: كان لغير رشدةٍ.
وقال أصحاب المعارف اسمه (يام) .
وقرأ الكسائي {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، جعله فعلاً
ماضياً، وقرأ الباقون {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِحٍ} ، وفي
هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى: أنه ذو عمل غير صالح: ثم حذف المضاف
وأقام المضاف إليه مقامه.
(1/248)
والثاني: أنه لما كثر منه ذلك أقام المصدر
مقام اسم الفاعل، كما قالت الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار
ومن كلام العرب: إنما أنت أكلٌ وشرب.
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم أن المعنى: إن سؤالك هذا
عمل غير صالح، فعلى هذا الوجه لا يكون في الكلام حذف.
* * *
قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا
سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ
وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ} [هود: 44] .
يقال: أقلع السحاب إذا ارتفع، وغاض الماء إذا غاب الأرض،
والجودي: جبل بناجية آمد.
قال أمية:
سبحانه ثم سبحاناً يعود له وقبلنا سبح الجودي والجمد
ومعنى {قُضِيَ الْأَمْرُ} وقع إهلاك قوم نوح.
ونصب {بُعْدًا} على المصدر وفيه معنى الدعاء، ويجوز أن يكون من
قول الله تعالى، ويجوز أن يكون من وقل المؤمنين.
وقد جمعت هذه الآية من عجيب البلاغة أشياءً:
(1/249)
منها: أن الكلام خرج مخرج الأمر على حهة
التعظيم لفاعله من نحو: كن فيكون، من غير معاناة ولا لغوب.
ومنها: حسن تقابل المعاني.
ومنها: حسن ائتلاف الألفاظ.
ومنها: حسن البيان في تقدير الحال.
ومنها: الإيجاز من غير إخلال.
ومنها: تقبل الفهم على أتم الكمال.
إلى غير ذلك من المعاني اللطيفة، وقد رأيت في معنى هذه الآية
في نصف سفر من سفار التوارة، وأنت تراها هاهنا في غاية الإيجاز
والاختصار والبيان؛ ويروى أن كفار قريش لما تعاطوا معارضة
القرآن عكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين
يوماً؛ ليصفوا أذهانهم، وكانوا من فصحاء العرب، وأخذوا فيمات
أرادوا، فلما سمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا كلام لا
يشبه كلام المخلوقين وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ
بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ
أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
السلام في الكلام على أربعة أوجه:
السلام التحية، والسلام اسم من أسماء الله - عز وجل -، ومنه
قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
[الأنعام: 127] ، والسلام جمع سلامة مثل حمام وحمامة، وقد قيل
في قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} ، أي: دار السلامة؛
لأن من صار إليها يسلم من آفات الدنيا وعذاب النار، والسلام
ضرب من الشجر وهو من العضاه، سمي بذلك؛ لأنه لعظمه يسلم من
العوارض الداخلة عليه.
والحنيذ: المشوي، وهو (فعيلٌ) بمعنى (مَفْعُولٌ) أي: محَنُودٌ،
كما يقال: طبيخ ومطبوخ.
(1/250)
قال العجاج:
وهربا من حنذه أن يهرجا
وقيل: حنيذ نضيج
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم إلى الملائكة الطعام وهو يعلم
أنهم لا يأكلون؟
والجواب: أنهم لما أتوه في غير صورهم توهم أنهم أضياف، قال
الحسن أتوه في صورة الآدميين فاستضافوه. ويسأل عن البشرى التي
أتوا بها؟
والجواب: انها كانت بإسحاق، هـ1اقول الحسن، وقال غيره: كانت
بهلاك قوم لوط.
وفرأ حمزة والكسائي {سلْمٌ} ، وقرأ الباقون {السَّلَامِ} .
وقيل في (سِلْم) أن معناه (الُسالَمةُ) .
وقيل (سِلْمٌ) و (سَلامٌ) بمعنى، كما يقال: حل وحلال، وحرم
وحرام، وإثم وآثام.
قال الشاعر:
وقغنا فقلنا: إيه سلم فسلمت كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
ويسأل: لم نصب {قَالُوا سَلَامًا} ، ورفع {قَالَ سَلَامٌ} ؟
والجواب: أن الأول على معنى: سلمنا سلاماً، كأنه دعاء له.
والثاني على معنى: عليكم سلامٌ. إلا أنه خولف بينهما لئلا
يتوهم الحكاية؛ ولأن المرفوع أبلغ؛ لأنه حاصل، والمنصوب مجتلب،
الأول على هذا مصدر لفعل مضمر، والثاني مبتدأ وخبره محذوف،
(1/251)
وأجاز بعضهم أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه
قال: أمرنا سلامٌ. قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ
فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] .
يسأل عن معنى {فَضَحِكَت} ؟
والجواب: أنها ضحكت سروراً بالسلامة.
وجاء في التفسير: أنها كانت قائمةً بحيث ترى الملائكة.
وقيل: كانت منوراء الستر تسمع كلامهم.
وقيل: كانت قائمة تخذم الأضياف، وإبراهيم - عليه السلام -
جالس.
وقيل: ضحكت تعجباً من حال الأضياف في امتناعهم من أكل الطعام.
وقيل: ضحكت تعجباً من حال قوم لوط إذ أتاهم العذاب وهم في
غفلة، وهذا قول قتادة.
وقيل ضحكت تعجباً من أن يكون له ولد، وهي عجوز قد هرمت، وهذا
قول وهب بن منبه.
وقال مجاهد: ضحكت بمعنى حاضت، قال الفراء لم أسمعه من ثقة،
ووجهه أنه على طريق الكناية.
قال الكميت.
فأضحكت السباع سيوف سعد لقتلى ما دفن ولا رؤينا
و {يَعْقُوبَ} مرتفع بالاستئناف، وفيه معنى البشارة، وهو ولد
إسحاق، بشرت
(1/252)
بنبي بين نبيين، وهو (إسحاق) أبوه نبي،
وابنه نبي.
فأما من قرأ "مِنْ وَرَاءَ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ"، فإنه نصب
بإضمار فعل يدل عليه (بَشَّرنَا) كأنه قال: ومن وراء إسحاق
وهبنا لها يعقوب. وأجاز بعضهم أن يكون معطوفاً على {إِسْحَاقَ}
، كأنه قال: فبشرناها بإسحاق ويعقوب من وراء إسحاق. قالوا:
والوراء بمعنى الولد، والظاهر في الكلام أن بمعنى خلف.
ومنع أكثر النحويين العطف هاهنا؛ لأنه لا يجوز العطف على
عاملين مع تأخره عن حرف العطف، فلا يجوز: مررت بزيدٍ في الدار
والبيت عمروٍ، وكذا إن قلت: مررت بزيدٍ في الداروفي الدار
عمروٍ.
وإنما لمْ يجز العطف عل عاملين؛ لأنه أضعف من العامل الذي قام
مقامه، وهو لا يجرُّ ولا ينصب، أعنى حرف العطف.
وأجازه الأخفش، وأنشد:
سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي يحل من التقبيل في رمضان
فقال لي المكي أما لزوجة فسبع وأما خلةٍ فثمانِ
قرأ حمزة وابن عامر وحفص عن عاصم {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ} ، نصباً على ما ذكرناه من إضمار فعل، أو على أنه في
موضع جر، وهو مذهب الأخفش.
وقرأ الباقون رفعاً على الابتداء {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ}
الخبر، ويجوز أن ترفعه
(1/253)
بالظرف الذي هو {وَرَاءِ} وهو قياس أبي
بالحسن الأخفش.
* * *
قوله تعالى: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] .
البعل: الزوج، وأصله القائم بالأمر، ومن هذا قيل للنخل بعلٌ،
وهو الذي استغنى عن سقي الأنهار العيون بماء السماء؛ لأنه قائم
بأمره في استغنائه عن تكلف السقي.
وبعل اسم صنمٍ، ومنها قوله تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] .
والعجيب والعجاب بمعنى واحد، قال ابن إسحاق: كان لإبراهيم -
عليه السلام - حين بُشَّر بإسحاق ويعقوب مئة وعشرون سنة ولسارة
تسعون سنة.
ويسأل عن النصب في وله: {شَيْخًا} ؟
والجواب: أنه منصوب على الحال، والعامل فيه معنى التنبيه الذي
في (ها) ، كأنه قال: انتبه وانظر. وإن شئت جعلت العامل فيه
معنى الإشارة، أي: أشرتُ إليه شيخاً. وإن شئت أعملت فيه
مجموعهما. وكذا ما جرى مجراه، تقول: هذا زيدٌ مقبلاً، ولا
يجوز: مقبلاً هذا زيدٌ؛ لأن العامل غير متصرف، فإن قلت: ها
مقبلاً ذا زيدٌ، وجعلت العامل معنى الإشارة لم يجُز، وإن جعلت
العامل معنى التنبيه جاز.
ويجوز الرفع في {شَيْخًا} من خمسة أوجه:
أحدها: أن تجعل {شَيْخًا} بدلاً من {بَعْلًا} ، كأنك قلت: هذا
شيخ.
والثاني: أن يكون {بَعْلًا} بدلاً من {هَذَا} و (شيخٌ) خبر
المبتدأ.
والثالث: أن يكون (بعلي) و (شيخ) جميعاً خبراً عن (هذا) ، كما
تقول: هذا حلوٌ
(1/254)
حامضٌ، أي: جمع الطعمين.
والرابع: أن يكون (بعلي) عطفَ بيانٍ على هذا و (شيخ) خبر
المبتدأ.
والخامس: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنك قلت: هو شيخٌ.
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ
يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا
امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:
81] .
يقال: سرى وأسرى: سير الليل، قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ
إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] فهذا من سرى، وقال: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وقال امرؤ القيس.
سريت بهم حتى تكل مطيهم وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقال النابغة:
أرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
فقال أسرت، وقال سارية أخذه من (سرى) فجمع بين اللغتين.
و (القطْعُ) القطعة العظيمة تمضي من الليل.
قال ابن عباس: طائفة من الليل.
وقيل: نصف الليل، كأنه قطع نصفين.
وقرأ ابن كثير ونافع {فَاسْرِ} من سريتُ، وقرأ الباقون
{فَأَسْرِ} .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالرفع على
البدل من {أًحَدَُ} ، كأنه قال:
(1/255)
ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، وقرأ
الباقون {إِلَّا امْرَأَتَكَ} بالنصب على الأصل في الاستثناء
من أحد.
شيئين من أحدٍ.
شيئين: إما من الأهل، وإما من أحد، فالتقدير الأول: فاسر بأهلك
إلا امرأتك فهذا استثناء من موجب، والتقدير الثاني: ولا يلتفت
منكم أحد إلا امرأتك، وهذا استثناء من منفي به.
* * *
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] .
الشقاء والشقاوة والشقوة بمعنى، والياء في شقي منقلبة عن واو.
والزفير: ترديد الصوت من الحزن، وأصله: الشدة، من قولهم مزفور
للشديد الخلق، وزفرت النار إذا سمع لها صوت من شدة توقدها.
والشهيق: صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، ويقال: الزفير أول
نهاق الحمار والشهيق آخره.
والخلود: البقاء في أمد ما، والفرق بين الخلود والدوام: أن
الدائم الباقي أبداً، والخالد الباقي في أمد ما، ولذلك يوصف
القديم تعالى بأنه دائم ولا يوصف بأنه خالد.
السعادة ضد الشقاوة. والجذُّ: القطع، قال النابغة:
تجذ السلوقي المضاعف نسجه ويوقده بالصفاح نار الحباحب
واختلف في تأويل هاتين الآيتين، وهما من أشد ما في القرآن
إشكالاً، والكلام فيهما يأتي على ضربين:
أحدهما: على معنى الاستثناء.
والثاني: على معنى تحديد الخلود بدوام السموات والأرض.
(1/256)
قال ابن زيد بن أسلم: {إِلَّا مَا شَاءَ
رَبُّكَ} [هود: 107] استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار،
والزيادة من النعيم لأهل الجنة، وقد بينه بقوله: {عَطَاءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] ، و {إِلَّا} على هذا بمعنى
(سوى) .
قال قتاجة: الله أعلم بثنياه، ذكر لنا ناساً يصيبهم سفع من
النار بذنوبهم، ثم يدخلهم الجنة برحمته، يسمون (الجهنميين) ،
والاستثناء على هذا متصل من الموحدين الذين هم من أمة محمد -
صلى الله عليه وسلم -.
العاصين، قال: وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثم أخرجوا بالشفاعة
و {مَا} على هذا القول بمعنى (منْ) كما قال تعالى: {يُسَبِّحُ
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [الجمعة: 1] ، وكما تقول العرب
إذا سمعت الرعد: سبحان ما سبحت له.
قال الفراء والزجاج وغيرهما: هو استثناء من الزيادة في الخلود
لأهل النار ولأهل الجنة، و {إِلَّا} بمعنى (سوى) ، حكى سيبويه:
لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا؛ أي: سوى.
وقيل: المعنى إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنه، وهو استثناء من
الجنس، وهذا كقول قتادة.
وقيل: إن {مَا} بمعنى (منْ) والاستثناء من الأعيان، والتقدير:
إلا من شاء ربك أن يخرجه بتوحيده من النار ويدخله الجنة، وإلا
من شاء ربك من أهل الجنة ممن يدخله النار بذنوبه وإصراره ثم
يخرجه منها، وهو أيضاً كقول قتادة.
وروي عن السُّدي أنه قال: الاستثناء لأهل الشقاء هو لأهل
التوحيد الذين يدخلون النار فلا يدومون فيها مع أهلها بل
يخرجون منها إلى الجنة، في أهل السعادة استثناء مما يقضي لأهل
التوحيد المخرجين من النار، فالاستثناء لأهل الشقاء على هذا من
الأعيان،
(1/257)
و (ما) بمعنى (منْ) ولأهل السعادة من
الزمان، و (ما) على بابها، وقد روي مثل هذا عن الضحاك، وهو
قريب من قول قتادة.
وقال يحيي بن سلام البصري: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:
107] . يعني ما سبقهم به الذين دخلوا قبلهم من الفريقين، واحتج
بقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
زُمَرًا} [الزمر: 71] ، قال: والزمرة تدخل بعد الزمرة، فلابد
أن يقع بينهما تفاوت في الدخول، والاستثناء على هذا من الزمان.
وقال الفراء والزجاج وغيرهما: هو استثناء تستثنيه العرب
وتفعله، كقولك: والله لأضربن زيداً إلا أن أرى غير ذلك، وأنت
عازم على ضربه، والضمير عائد على المؤمنين والكافرين الذين
تقدم ذكرهم.
وفال المازني: هو استثناء من الزمان الذي هم فيه، في قبورهم
إلى أن يبعثوا. وقال الزجاج أيضاً مثل هذا.
وقال جماعة من المفسرين: الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر
والحساب؛ لأنهم حيئنذ ليسوا في جنة وى نار.
زقال جماعة من أصحاب المعاني: هو استثناء واقع على الزيادة في
الخلود على مقدار دوام السموات والأرض في الدنيا، ثم قال:
{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من الزيادة في مدة الخلود على دوام
السموات والأرض في الدنيا.
قال أبو عبيدة: عزيمة المشيئة تقدمت بخلود الفريقين، فوقع
الاستثناء، والعزيمة قد تقدمت بالحتم في الخلود، وهو كقول
الفراء والزجاج في بعض ما روي عنهما.
(1/258)
وروى عن الزجاج أيضاً أنه استثناء يجوز أن
يكون وقع على قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} {إِلَّا
مَا شَاءَ رَبُّكَ} من أنواع العذاب التي لم تذكر. وفي أهل
الجنة استثناء مما دل عليه الكلام، كأنه قال: لهم نعيم ما ذكر
وما لم يذكر مما شاء الله.
قال بعض الكوفيين: {إِلَّا} بمعنى (الواو) أي: خالدين فيها
مادامت السموات والأرض وما شاء ربك من الزيادة على دوامهما في
الدنيا.
وقال بعضهم: هو استثناء في أهل الشقاء على تقدير: إلا ما شاء
ربك من الوقت الذي يسعدهم فيه بدخول الجنة، وفي ا÷ل السعادة
إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أشقاهم فيه بدخول النار للزمان
الذي يكونون فيه، وهو في الموضعين للموحدين العصاة.
وقال جماعة: الاستثناء لأهل التوحيد، والمعنى: إلا ما شاء ربك
أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، قال أبو مجلز: جزاؤه إن شاء
تجاوز عنهم والاستثناء عنهم والاستثناء من الأعيان وهم العصاة
من الموحدين، و (ما) بمعنى (منْ) ، وكان الحسن يقول: استثنى ثم
عزم إن ربك فعال لما يريد، وأنه أراد أن يخلدهم بقوله:
{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .
وقال بعضهم المعنى: خالدين فيها بعد إعاجة السموات والأرض؛
لأنه تعالى يفنيهما حتى تكونا كما آخراً كما كانتا أولاً، ثم
يعيدهما، فاستثنى {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، فوقع الاستثناء
على موقفهم في الحساب حتى يفرغ منه.
وقيل: الاستثاء واقع على الموقفين على النار من المؤمنين، فإذا
أخرجوا من النار بالشفاعة، وأدخلوا الجنة سقط الاستثناء عنهم
وعن أهل النار، وبقي كل فريق فيها بعد مخلداً أبد الآبدين، وهو
كقول قتادة والضحاك.
فهذه أقوال العلماء، وفيها تدخل إلا أني أوردتها على ما سمعتها
من شيوخنا - رضي الله عنهم - وأما تجديد الخلود بدوام السموات
والأرض فقال قتادة: مادامت السموات
(1/259)
والأرض مبدلتين.
وقال عبد الرحمن بن زيد: مادامت السماء والأرض أرضاً: مادامت
سموات أهل الآخرة وأرضهم، وقيل: العرب تستعمل دوام السموات
والأرض في معنى الأبد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن ذلك لا يتغير
فخاطبهم الله تعالى على قدر عقولهم وما يعرفون.
قال زهير:
ألا لاَ أرى على الحوادث باقيا ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وإلا السماء والنجوم وربنا وأيامنا معدودة واللياليا
لأنه توهم أن هذه الأشياء تخلد ولا تتغير.
وقال عمرو بن معدي كرب:
وكل أخٍ مفارقة أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
لأنه توهم أم الفرقدين لا يفترقان
قال يحيي بن سلام: الجنة في السماء والنار في الأرض، وذلك ما
لا انقطاع له.
قال عمرو بن عبيد قال بعض أهل العلم: إنما عنى بقوله:
{خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 107] بعدكا يعيدهما، وذلك أنه
يفنيهما، فكأنه قال: خالدين فيها بعد ما يعيد السموات والأرض.
(1/260)
وقال أحمد بن سالم: المعنى في أهل النار
خالدين فيها ما دامت سموات أهل النار وأرضهم، وكذلك في أهل
الجنة مادامت سمواتهم وأرضهم، قال: وسماء الجنة العرش والكرسي.
وقد أشبعتُ القول على هاتين الآيتين في كتاب (مُتخيًّر الفريد)
.
وقرأ الكسائي وحمزة وحفص عم عاصم {وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا} [هود: 108] بضم السين، وقرأ الباقون {سَعِدُوا}
بفتحها، وفي ضم السين بعد، ومجازة: أنه استعمل على حذف الزيادة
وعلى هذا قالوا: (مسعُود) وإنما هو من أسعده الله، وقالوا
(محبوب) وحقه أن يقال: (مُحَبُّ) .
قال عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم
وهذا وإن كان الأصل فمحبوب أكثر من الاستعمال، وزعم بعضهم: أن
(سعد) يتعدى ولذلك بناه لما يسم فاعله؛ لأن اللازم لا يجوز رده
إلى ما لم يسم فاعله.
* * *
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ
رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] .
قرأ ابن كثير ونافه {وَإِنْ كُلًّا} بالتخفيف على أنهما أعملا
(أنْ) مخففة كعملها مثقلة، وقرأ ابن عامر بتشديد {وَإِنَّ} على
الأصل، وكذلك إلا أنهما خففا الميم، وقرأ عاصم في رواية أبي
بكر بتخفيف (إنْ) وتشديد الميم.
وهذه اللام لام القسم دخلت على (ما) التي للتوكيد، زقيل: هي
لام الابتداء
(1/261)
دخلت على معنى (ما) ، وحكى عن العرب: إني لبحمد الله لصالحٌ.
فأما من شددها ففيها خمسة أوجه:
أحدها: أن المعنى: لممها، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت واحدة ووقع
الإدغام، قال الشاعر:
وإني لمما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
والثاني: أنها بمعنى (إلا) كقول العرب: سألتك لما فعلت.
والثالث: أنها مخففة شددت للتأكيد، وهو قول المازني.
والرابع: أنها من (لممت الشيئ) إذا جمعته، إلا أنها بنيت على
(فعْلى) قلم تصرف مثل تتْرى.
والخامس: أن الزهري قرأ {لمَّا} بالتنوين بمعنى شديد، و (كلٌّ)
معرفة؛ لأنها في نية الإضافة. |