النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة يونس}
* * *
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] .
الكسب: اجتلاب النفع، والجزاء المكافأة، والسيئة: نقيض الحسنة.
ويسأل عن ارتفاع {جَزَاءُ} ؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مبتدأ والخبر {بِمِثْلِهَا} على زيادة الباء، وهذا قول أبي الحسن؛ لأنه وجد في مكان آخر {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ويجوز أن تكون الباء متعلقة بخبر محذوف تقديره: وجزاء سيئة كائن بمثلها، ثم حذفت كما تقول: إنما أنا وأمري بيدك وما أشبه ذلك.
والثاني: أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره: استقر لهم جزاء سيئة بمثلها ثم حذفت (استقر) فبقي (لهم جزاء سيئة بمثلها) ثم حذفت (لهم) لدلالة الكلام على أن

(1/241)


هذا مستقر لهم.
ويجوز أن يكون {وَجَزَاءُ سَيِّئَة} مبتدأ والخبر محذوف تقديره: لهم جزاء سيئة بمثلها، وإن شئت قدرته: جزاء سيئة بمثلها كائن، وهذه إجازة أبي الفتح.
* * *
قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] .
يسأل عن (البشرى في الحياة الدنيا) ما هي:
وفيه أجوبة:
أحدها: أنها بشرى الملائكة - عليهم السلام - للمؤمنين عند الموت.
والثاني: الرؤيا الصالحة يراها الرجل، أو ترى له، وهذا في خبرس مرفوع، والأول قول قتادة والزهري والضحاك.
والثالث: أن البشري القرآن.
والرابع: أن المؤمن يفتح له باب إلى الجنة في قبره فيشاهد ما أعد له في الجنه قبل دخولها.
* * *
قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] .
العزة: القدرة.
ويسأل عن صيغة النهي في قوله: {وَلَا يَحْزُنْكَ} ؟
والجواب: أن هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

(1/242)


ويسأل: لمَ كسرت {إِنَّ} هاهنا؟
والجواب: أنها كسرت للاستئناف بالتذكير لما ينفي الحزن، ولا يجوز أن تكون كسرت لأنها وقعت بعد القول؛ لأنه يصير حكاية عنهم، وأن النبي - عليه السلام - يحزن لذلك وهذا كفر.
ويجوز فتحها على تقدير (اللام) كأنه قال: ولا يحزنك قولهم؛ لأن العزة لله جميعاً.
وقد غلط القتبي في هذا وزعم أن فتحها يكون كفراً، وليس كما ظن، وسواء فتحت أو كسرت إذا كانت معمولة للقول إلا إذا تعلقت بغير القول، ولا خلل في القراءة، ومثل الفتح قول ذي الرمة:
فما هجرت النفس يامي أ، ها قلتك ولكن قل منك نصيبها
ولكنهم يا أملح الناس أولعوا بقول إذا ما جئت هذا حبيبها
وقال القتبي عند ذكر هذه المسألة: إذا قلت هذا قاتل أخي - بالتنوين - دل على أنه لم يقتل، وإذا قلت هذا قاتل أخي - بحذف التنوين - دل على أنه قتل، وهذا غلط بإجماع من النحويين؛ لأن التنويت قد يحذف وأنت تريد الحال والاستقبال، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، يريد: بالغاً الكعبة، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ، أي: ستذوق.
* * *
قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] .
يقال: أجمعت على الأمر، وأجمعت الأمر، أي: عزمت عليه.
واختلف في انتصاب قوله: {وَشُرَكَاءَكُمْ} .

(1/243)


فقال الفراء: هو نصب بإضمار فعل، كأنه قال: وادعوا شركاءكم، وقال: كذا هو في مصحف أبي.
وقال غيره: أضمر {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} ؛ لأن (أجمعوا) يدل عليه.
وروى الأصمعي: أنه سمع نافعاً يقرأ {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} ، فهذا يدل على هذا الإضمار.
ويقال: أجمعت الأمر وجمعت الأمر وأجمعت عليه.
وذهب المحققون من أصحابنا إلى أنه مفعول معه تقديره: مع شركائكم، كما أنشد سيبويه:
فكونوا أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال
ويدل على صحة هذا القول قراءة الحسن {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} فعطف على المضمر في (أجمعوا) ، وحسن العطف عليه؛ لأن الفصل قام مقام التوكيد. قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] .
اختلف في قوله: {نُنَجِّيكَ} .
فقال ـكثر المفسرين: معنى ننجيك نخلصك ببدنك أي: بجسمك؛ لأنه لو سلط عليه دواب البحر فأكلته لادعى قومه أنه لم يمت، فالمعنى على هذا: نخرجك ببدنك بعد موتك.
وقال أبو العباس المبرد: الناس يغلطون في هذا، إنما المعنى في {نُنَجِّيكَ}

(1/244)


نلقيك بنجوةٍ من الأرض. والنجوة ما أرتفع من الأرض، قال الشاعر:
فمن بنجوته كمن بعقوبه والمستكن كمن يمشي بقرواح
وقوله: {بِبَدَنِكَ} أي: بدرعك، والدرع يسمى بدناً.
قال غيره: المعنى ببدنك دون روحك.
* * *
قوله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] .
القرية مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته، والخزي: الهوان والوضع من القدر وأصله العيب.
ويسأل عن {فَلَوْلَا} ؟ وفيها جوابان:
أحدهما: أنها بمعنى (هلا) يكون تحضيضاً، نحو قول الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
ويكون تأنيباً، نحو قولك: لولا امتنعت من الفساد، كما تقول: هلاَّ، والمعنى على هذا: هلا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، والأصل: فلولا كان أهل قرية، فخذف.

(1/245)


والجواب الثاني: أن (اولا) بمعنى (ما) للنفي، وهذا قول ذكره ابن النحاس، ولم أسمع غيره، والتقدير على هذا: ما كانت قرية آمنت فنغعها إيمانها إلا قوم يونس.
ويسأل عن هذا الاستثناء ما هو؟
والجواب: أنه استثناء منقطع في اللفظ؛ لأنه بعد {قَرْيَةٌ} ، متصل في المعنى إذ المعنى: فلولا كان أهل قرية.
ويونس اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف، وليس من الأنس والاستئناس وإن وافق اللفظ اللفظ.
* * *
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 104] .
الشك: التوقف بين الحق والباطل، والدين هاهما: الملًّة.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} وهم يعتقدون بطلان هذا الدين؟ وعن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن يكون التقدير: من كان شاكاً في أمري وهو مصمم على أمره فهذا حكمه.
والثاني: أن يكون المعنى أنهم في حكم الشاك لاضطراب أنفسهم عند ورود الآيات.
والثالث: أن يكون فيهم الشاك وغير الشاك، فجرى على التغليب.
وهذه الأقوال كلها عن أصحاب المعاني.
زيقال: لمَ جعل جواب {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ} (لا أعبُدُ) ، وهو لا يعبد غير الله شكوا أو لم يشكوا؟
والجواب: أن المعنى لا تطمعوا أن تشككوني بشككم حتى أعبد غير الله كعبادتكم، كأنه قال: إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين يعبدون من دون الله بشككم.

(1/246)