النكت في القرآن الكريم {من سورة
التوبة}
يقال: لمَ لمْ تستفتح (براءة) بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} ؟
وفي هذا جوابان:
أحدهمت: أنها ضمت إلى (الأنفال) بالمقاربة، فصارتا كسورة
واحدة، إذ الأولى في ذكر العهود والثانية في رفع العهود، وهذا
يروى عن أبي بن كعب، ويروى عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن
عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى (براءة) وهي من المئين وإلى
(الأنفال) وهي من المثاني فجعلتموها في السبع الطوال، ولم
تكتبوا بينهما {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فقال
عثمان: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزل عليه الآيات،
فيدعو بعض من يكتب له، فيقول: (ضع هذه الآيات في السورة التي
يذكر فيها كذا وكذا) وتنزل الآيات فيقول مثل ذلك، وكانت
(الأنفال) من أول ما نزل من القرآن بالمدينة، وكانت (براءة) من
آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننا أنها
منها، فمن هنا وضعناها في السبع الطوال، ولم نكتب بينهمت سطر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
والجواب الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
أمان، (وبراءة) نزلت برفع الأمان، وهذا قول أبي العباس، فلم
تكتب في أولها، وروى ابن عباس ذلك عن علي رضي الله عنهما.
(1/235)
ويسأل عن الرفع لـ (براءة) ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: إضمار المبتدأ أي: هذه براءة.
والثاني: أن ترتفع بالابتداء، وإن كانت نكرة؛ لأنها موصوف،
والخبر في قوله: (إلى الناس) .
* * *
قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3]
الأذان: الإعلام، هذا قول ابن زيد.
والحج الأكبر: الوقوف بعرفة، هذا قول عطاء ومجاهد. والحج
الأصغر: العمرة.
وأركان الحج: الإحرام بعد الإغتسال، ثم التلبية، ثم طواف
القدوم ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم المبيت بمنى، ثم الصلاة
بمسجد إبراهيم - عليه السلام -، ثم الوقوف بعرفة، ثم المصير
إلى مزدلفة والمبيت بها، ثم الوقوف بالمشعر الحرام، ثم المصير
إلى جمرة العقبة ورميها، ثم حلق الرأس، ثم النحر، ثم طواف
الزيارة، ثم الإحلال، ثم الرجوع إلى منىً والمقام بها ثلاثة
أيام، ثم العمرة لمن شاءها.
وقد قيل: يوم الحج الأكبر يوم النحر، يروى هذا عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وعن علي - رضي الله عنه - وعن ابن عباس - رضي
الله عنه - وسعيد بن جبير وعبد الله بن أبي أوفى وإبراهيم.
(1/236)
واختلف عن مجاهد: فقال مرة بالقولين
جميعاً، وقال مرة: أيامها كلها، ويروى مثل ذلك عن سفيان،
وبالقول الأول أخذ أبو حنيفة، ويروى مثله عن ابن الزبير.
فصل:
ويسأل عن قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ،
بم ارتفع؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه معطوف على (براءة) ، وهو قول الفراء والزجاج.
والجواب الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي: عليكم أذان من
الله، وفيه معنى الأمر، وهذا قول علي بن عيسى.
والثالث: أنه مبتدأ والخبر في قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، على حذف الباء، كأنه قال: بأن الله.
وعلى الوجهين الأولين يكون موضع (أن) نصباً على أنه مفعول له.
وقرأت القراء {وَرَسُولُهُ} بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر
{وَرَسُولَهُ} . بالنصب، وقرأ بعض أهل البدو {وَرَسُولِهِ}
بالجر.
فأما الرفع فمن وجهين:
(1/237)
أحدهما: أن يكون معطوفاً على المضمر في
(برئ) وحسن العطف عليه وإن كان غير مؤكد؛ لأن قوله تعالى:
{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} قام مقام التوكيد.
والثاني: أن يكون ميتدأ، والخبر محذوف تقديره: ورسوله برئ
أيضاً، ثم حذف الخبر لدلالة خبر (أنَّ) عليه.
وذكر سيبويه وجهاً ثالثاً: وهو أن يكون معطوفاً على موضع
(أنَّ) ، وهذا وهم منه؛ لأن (أًنَّ) المفتوحة مع ما بعدها في
تأويل المصدر، فقد تغيرت عن حكم المبتدأ وصارت في حكم (ليت) و
(لعل) فكأن في إحداثها معنى يفارق المبتدأ، فكما لا يجوز العطف
على مواضعهن فكذلك موضع (أنَّ) لا يجوز العطف عليه، وإنما يجوز
العطف على موضع (إنَّ) المكسورة، كما قال الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
ولعل سيبويه توهم أنها مكسورة فحمل على موضعها، وقد قرئ في
الشواذ {إنَّ اللَّهِ} بالكسر، ولعله تأول على هذه القراءة.
فأما النصب: فعلى العطف على اللفظ، ومثله قول الراجز:
إن الربيع الجون والخريفا يدا أبي العباس والصيوفا
وأما الجر: فحمله قوم على القسم، وهي قراءة بعيدة شاذة.
* * *
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
يسأل عن موضع {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} من الإعراب؟ وفيه
جوابان:
(1/238)
أحدهما: أن موضعه نصب؛ لأنه معطوف على اسم
(إن) ، ويكون المعنى: وإن الذين يكنزون الذهب والفضة يأكلونها.
والثاني: أن يكون رفعاً على الاستئناف.
ويسأل: لم قال: {يُنْفِقُونَهَا} . ولم يقل: (يُنفقُونَهما) ؟
في هذا أجوبة:
أحدها: أنه يرجع إلى ما دل عليه الكلام، كأنه قال: ولا ينفقون
الكنوز.
والثاني: أنه لما ذكر الذهب والفضة دل على (الأموال) ، فكأنه
قال: ولا ينفقون الأموال.
والثالث: أن الذهب مؤنث، وهو جمع واحده (ذَهْبة) ، وهذا الجمع
الذي ليس بينه وبين واحده إلا (الهاء) يذكر ويؤنث، قال الله
تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]
وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]
فذكر. ثم لما اجتمعا في التأنيث، وكان كل واحد منهما يؤخذ عن
صاحبه في الزكاه على قول جمهور أهل العلم جعلهما كالشيء
الواحد، ورد الضمير إليهما بلفظ التأنيث. والرابع: أنه اكتفى
بأحدهما عن الآخر للإيجاز، ورد الضمير إلى الفضة؛ لأنها أقرب
إليه، وإن شئت إلى الذهب، على مذهب من يؤنثه، والعرب تكتفي
بأحد الشيئين عن الآخر للإيجاز والاختصار.
قال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني
ولم يقل: (بريئين) ، وكذا قول الآخر:
نحن بما عندنا وأنت بما عنـ دك راضٍ والرأي مختلف
(1/239)
ومثله قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وتقدير هذا عند
سيبويه: أن الخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه، كأنه قال:
والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه، ثم حذف، وقال أبو
العباس: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: والله أحق أن
يرضوه ورسوله، وقد قيل: أنه اقتصر على أحدهما لأن رضا الرسول -
عليه السلام - رضا الله تعالى، فترك ذكره؛ لآنه دل عليه مع
الإيجاز، وقيل: أنه لم يذكر تعظيماً له بإفراد الذكر.
* * *
قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]
هذه الآية نزلت في قوم أيأس الله تعالى نبيه من إسلامهم، وروى
الحسن وقتادة أن النبي - عليه السلام - قال: لأزيدن على
السبعين، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
[المنافقون: 6] ، وكان النبي - عليه السلام - يدعو لهم
بالمغفرة رجاءً أن يكون لله تعالى بهم لطف فيستجيب له، فلما
أيأيه كف عن ذلك.
ويسأل عن صيغة الأمر في قوله: {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} ؟
والجواب: أنه للمبالغة عن اليأس من المغفرة، وخص عدد السبعين
للمبالغة، وذلك أن الغرب تبالغ بالسبعة والسبعين، ولهذا قيل
للأسد سبعٌ؛ لأنهم تأولوا فيه لقوته أنه ضوعفت له سبع مرات.
* * *
قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى
إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:
118] .
هذا معطوف على وقله تعالى: {لقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى
النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117] .
ويسأل عن هؤلاء الثلاثة؟
(1/240)
والجواب: أنهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرار بن ربيعة، وقال
ابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر: هؤلاء الثلاثة من الأنصار.
ويسأل عن قوله: {خُلِّفُوا} عن ماذا خلفوا؟ والجواب: أن
مجاهداً قال: خلفوا عن التوبة، وقال قتادة: خلفوا عن غزوة
تبوك. والظن هاهنا بمعنى اليقين، ومثله قول دريد بن الصمة:
قلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد |