النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
النحل}
* * *
قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]
قال الحسن وابن جريح؛ عقابه لمن أقام على الكفر.
وقال الضحاك: فرائضه وأحكامه.
(1/282)
وقيل أمره: القيامة، فعلى هذا الوجه يكون
(أتى) بمعنى (يأتي) . وجاز وقوع الماضي هاهنا لصدق المخبر بما
أخبر، فصار بمنزلة ما قد مضى. وقد شرحناه فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}
[النحل: 26] .
يقال: لم قال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} ، وقد علم أن السقف يخر من
فوقهم؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنه للتوكيد، كما تقول لمن تخاطبه: قلت أنت كذا وكذا.
والثاني: أنه جاء كذلك ليدل أنهم كانوا تحته؛ لأنه يجوز أن
يقول الرجل:
خر عليَّ السقف وتهدم على المنزل: ولم يكن تحتها.
وقال ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد: نزل هذا في نمرود. وقيل: في
بختنصر.
* * *
قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] .
يقال: سقيته إذا ناولته ليشرب، وأسقيه إذا جعلت له ماء ليشربه
دائماً، من نهر أو غيره، يقال: سقى وأسقى بمعنى، قال لبيد.
سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال
ووما يسأل عنه أن يقال: على ما يعود الضمير في {بُطُونِهِ} ؟.
والجواب: أ، العلماء اختلفوا في ذلك.
فذهب بعضهم: إلن أن {الْأَنْعَامِ} جمع، والجمع يذكر ويؤنث،
فجاء هاهنا على لغة من يذكر، وجاء في سورة (المؤمنين) على لغة
من يؤنث.
(1/283)
وذهب آخرون: إلى أنه رد على واحد الأنعام،
وأنشد:
.................... وطاب ألبان اللقاح فبرد
رده إلى اللبن.
وقيل: الأنعام، والنعم سواء، فحمل على المعنى، وأنشدوا للأعشى.
فإن تعهديني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
حمله على الحدثان
وقيل: المعنى نسقيكم مما في بطون الذكور.
وقيل: (من) تدل على التبغيض، فكأنه قال: نسقيكم من بطون بعض
الأنعام؛ لأنه ليس لجميعها لبن.
وقال إسماعيل القاضي: رد إلى الفحل، واستدل بذلك على أن اللبن
للرجل في الأصل.
* * *
قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] .
السكَرُ: ما يسكرُ، والرزق الحسن: الخل، وقال ابن عباس وسعيد
بن جبير والشعبي وإبراهيم وعبد الرحمن بن زيد والحسن ومجاهد
وقتادة: السكَرُ: ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه،
وقيل: هو ما حلا طعمه من شراب أو غيره، وهو من قول الشعبي.
(1/284)
ويسأل عن (الهاء) في {مِنْهُ} علام يعود؟
وفيها جوابان:
أحدهما: أنها تعود على المذكور.
والثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأن الثمرات والثمر
سواء، وكذا (الهاء) في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
[النحل: 69] ، قيل: يعود على الشراب؛ وهو العسل، هذا قول الحسن
وقتادة.
وقال مجاهد: يعود على القرآن.
* * *
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل: 73] .
يسأل: بما نصب {شَيْئًا} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه بدل من {رِزْقًا} ، وهو وقل البصريين.
والثاني: أنه مفعول به بـ: {رِزْقًا} ، وهو قول الكوفيين وبعض
البصريين.
وفيه بعد؛ لأنه (الرزق) اسم، والأسماء لا تعمل، والمصدر
(الرزق) هذا قول المبرد.
* * *
قوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]
.
يقال: ألحد ولحد بمعنى واحد، وذلك إذا مال، ومنه أخذ اللحد؛
لأنه في جانب القبر.
(1/285)
ويسأل: من الذي ألحدوا إليه؟
والجواب: أن ابن عباس قال: كان من المشركين يقولون إنما محمداً
- صلى الله عليه وسلم - (بلعام) .
وقال الضحاك: كانوا يقولون يعلمه (سلمان) .
وقوله: {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} يعني به القرآن، كما تقول
العرب للقصيدة: هذه لسان فلان، قال الشاعر:
لسان السوء تهديها إلينا أجيت وما حسبتك أن تجيبا
وقرأ حمزة والكسائي {يُلْحِدُونَ} بالفتح، وقرأ الباقون بالضم
وهما لغتان.
قزله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} [النحل:
112] .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: القرية: مكة.
وقيل: كل قرية كانت على هذه الصفة، فهي التي ضرب بها المثل.
والأنعم: جمع نعمة، كشدة وأشد، وقيل واحدها (نُعْمٌ) كغصن
وأغصن، وقيل: واحدها (نعماء) كبأساء وأبؤسٍ.
ومما يسأل عنه أن يقال لم قال: {لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}
، والجوع لا يلبس؟
والجواب: لما يظهر عليهم من الهزال وشحوب اللون، فصار كاللباس.
وقيل: إن القحط بلغ بهم إلى أن أكلوا القد والوبر مخلوطين
بالدم والقراد.
(1/286)
ويسأل عن وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ} ؟
والجواب: أنه استعارة، والعرب يقول: اركب هذا الفرس وذقه، أي:
أختبره، وكذا يقولن: ذق هذا الأمر، قال الشماخ:
فذاق فأعطته من اللين جانباً كفى ولها أن يغرق السهم حاجز
يصف قوساً. وقال آخر:
وإن الله ذاق حلوم قيس فلما رآى خفتها قلاها
* * *
قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
نصب {الْكَذِبَ} بـ: {تَصِفُ} ، و {مَا} مصدرية.
وقرئ في الشاذ {لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُِبُ} ، جمع
كذوب، وهو وصف للألسنة. وقرئ أيضاً {الْكَذِبِ} بالجر على أنه
بدل من {مَا} .
والألسنة: جمع لسان على مذهب من يذكر، ومن أنث قال في جمعه
(ألسن) . قال العجاج:
وتلحج الألسن فينا ملحجاً
وهذه الآية نزلت في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة
والحامي.
(1/287)
{ومن سورة بني
إسرائيل}
* * *
قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] .
المسجد الحرام بمكة، والمسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو مسجد
سليمان - عليه السلام -، عن الحسن وقيل: الأقصى لبعد المسافة
بينهما.
قال الحسن: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - النغرب في المسجد
الحرام، ثم أسرى به إلى بيت المقدس في ليلته، ثم رجع فصلى
الصبح في المسجد الحرام، فلما أخبر المشركين بذلك كذبوه
وقالوا: يسير مسيرة شهر في ليلة واحدة! ، وسألوه عن بيت
المقدس، فطوى الله تعالى له الأرض حتى أبصرها، فكان ينظر إليها
ويصف لهم.
وقيل: كان تلك الليلة في المسجد الحرام، كما قال الحسن وقتادة.
وقيل: كان في بيت أم هانئ، وقال: من المسجد الحرام؛ لأن الحرم
كله مسجد.
ومعنى قوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} يعني بالثمار والأنهار،
وقيل: باركنا حوله لما حوله من الأنبياء عليهم السلام؛ ولهذا
جعل مقدساً.
ومعنى {سُبْحَانَ} : براءة وتنزيه، قال الأعشى:
أقول لما جاءني فجره سبحان من علقمة الفاجر
ويسأل عن نصب {سُبْحَانَ} ؟
والجواب: أنه نصب على المصدر إلا أنه لا ينصرف؛ لأنه جعل اسما
للتسبيح فهو معرفة، وفي آخره زائدتان، فجرى مجرى (عثمان)
ونظيره من المصادر (برة) في أنه لا
(1/288)
ينصرف، قال النابغة:
إنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتمات فجار
وقال أبو عبيدة: هو منادى، كأنه قال: يا سبحان الذي، ولا يجيز
هذا حذاق أصجابنا؛ لأنه لا معنى له.
وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، تقديره عند البصريين:
باركنا ما حوله، فحذفت (ما) وهي موصوفة، وبقيت الصفة التي هي
{حَوْلَهُ} تدل على المحذوف.
وقال الكوفيون: هي موصولة. ولا يجيز البصريون حذف الموصول.
قزله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ
هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلًا} [الإسراء: 2] .
{وَآتَيْنَا} : أي أعطينا.
ويسأل عن نصب قوله: {ذُرِّيَّةَ} [الإسراء: 3] ؟
وفي نصبها وجهاً:
أحدهما: أن يكون بدلاً من {وَكِيلًا} ، كأنه في التقدير: ألا
تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح.
والثاني: أن يكون منادى، كأنه قال: يا ذرية من حملنا مع نوح.
هذا على قراءة من قرأ {أَلَّا تَتَّخِذُوا} بالتاء، وأما من
قرأ {أَلَّا يَتَّخِذُوا} بالياء، فـ: {ذُرِّيَّةَ} في قوله
بدل من {وَكِيلًا} كما كان في أحد الوجهين الأولين.
(1/289)
قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ
أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13]
الإنسان يقع على المذكر والمؤنث، فإن أردت الفصل قلت: للمذكر
(رجل) وللمؤنث (امرأة) ، ومثل ذلك: فرس، هذا مشترك، فإن أردت
الفصل قلت: (حصان) و (مهر) وفي الهماليج (برذون) و (زمكة) ،
وكذلك: بعير، يقع على المذكر والمؤنث، فإن فصلت قلت: (جمل) و
(ناقة) .
واشتقاق الإنسان: من الإنس أو الأنس. وهو (فعلان) من ذلك، هذا
مذهب البصريين.
وقال الكوفيون: هو من النسيان، وأصله (إنسيان) حذفت الياء منه
استخفافاً، وأحتجوا على ذلك بقول العرب (أنيسيان) ، وهذه الياء
عند البصريين زائدة، وهذا التصغير شاذ، مثله عندهم عشيشة
ومغيربان الشمس ولييلية في أشباه ذلك.
والطائر هاهنا: عمل الإنسان، شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به،
والطائر الذي يبرح فيتشاءم به، والسانح: الذي يجعل ميامنه إلى
مياسرك، والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، وألصل في هذا
أنه كان سانحاً أمكن الرائي، وإذا كان براحاً لم يمكنه، وإنما
خاطب الله تعالى العرب على عادتهم وما يعرفونه.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: طائرة عمله.
ويقال: لم قال: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، ولم
يقل في يده؟
(1/290)
والجواب: لأنه في العنق ألزم، لأنه يصير
بمنزلة الطوق، لأن محل ما يزين من طوق أو غيره وكذا موضع الغل.
ونصب {حَسِيبًا} [الإسراء: 14] على الحال، والعامل فيها
{كَفَى} [الإسراء: 14] ، وقيل: هو نصب على التمييز، والأول
أقيس.
وموضع {بِنَفْسِكَ} رفع؛ لأنه فاعل {كَفَى} والباء زائدة، وقال
أبو بكر بن السراج المعنى: كفى الاكتفاء بنفسك، فالاعل على هذا
محذوف.
وقرأ ابن عامر {يَلْقَهُ} بضم الياء وتشديد القاف، وقرأ
الباقون {يَلْقَاهُ} بالتخفيف وفتح الياء.
وقرئ {وَيخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} وقرئ {وَنُخْرِجُ لَهُ
كِتَابًا} .
فمن قرأ {وَنُخْرِجُ لَهُ كِتَابًا} فمعناه: يظهر له كتاباً،
فتنصب (كتاباً) على هذا الوجه؛ لأنه مفعول. ومن قرأ (وَيخْرِجُ
لَهُ كِتَابًا} نصب (كتاباً) على الحال، أي: ويخرج له طائرة
كتاباً.
ولو قرئ: ويخرج له كتاب، لجاز على ا، هـ الفاعل، وكذا لو قرئ:
ويخرج له كتاب له، على ما لم يسم فاعله لجاز، إلا أن القراءة
سنة.
ونصب {مَنْشُورًا} على الحال من {يَلْقَاهُ} في القراءتين
جميعاً.
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .
الأمر: ضد النهي، والإتراف: التنعيم، والفسق: الخروج عن
الطاعة.
(1/291)
والمعنى: أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وهو قول
ابن عباس وسعيد بن جبير.
وهذه قراءة السبعة، ومثله أمرتك فعصيتني.
وقرئ {أَمَرْنَا} ومعناه: طثرنا، وقيل جعلناهم أمراء، وألأول
أجود؛ لأن القرية الواحدة لا يكون فيها عدة أمراء في وقت واحد.
وقرئ {ءامَرْنَا} بالمد أي: كثرنا.
وذكر ابن خالويه: أن بعضهم قرأ {أَمِرْنَا} بكسر الميمبغير مد،
وذكر أن معناها: كثرنا، وأن (أمر) يأتي لازماً ومتعدياً.
ويسأل: لم خص المترفون؟
والجواب: لأنهم الرؤساء، ومن سواهم تبع لهم، كما أمر فرعون
وكان من عداه من القبط تبعاً له.
* * *
قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ
كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31] .
الإملاق: الفقر، هذا قول ابن عباس ومجاهد، وذلك أنهم كانوا
يؤدون البنات خوفاً من الفقر، غنهاهم الله عن ذلك.
والزنا يمد ويقصر، قال الشاعر:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا
(1/292)
والخرطوم: الخمر، إلا أن القرآن جاء
بالقصر، والإسراف: مجاوزة الحد، والسلطان هاهنا: القود والدية،
وهو وقل ابن عباس والضحاك، وقال قتادة: هو القود.
ومما يسألعنه أن يقال: كيف قال: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} ، أفيجوز
قتلهم لغير إملاق؟
قيل: لا، وإنما نهي عن قتلهم البتة، ثم أشعرهم بمكان الخوف،
ومثله قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ}
[البقرة: 41] ، لم يأمرهم أن يكونوا ثانياً ولا ثالثاً.
ويقال: ما معنى: {كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] أتراه الآن
ليس بفاحشة؟
والجواب: أنه كان عندهم في الجاهلية فاحشة، وهو كذلك الآن،
ومثل هذا في القرآن كثير.
ويقال: ما موضع {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء: 33] ؟
والجواب: أنه يحتمل النصب والجزم، فأما النصب: فعلى قوله:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}
[الإسراء: 23] وأن لاتقتلوا. وأما الجزم: فعلى النهي.
ويسأل عن الضمير في قوله: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} علام
يعود؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه يعود على الولي، وهو قول قتادة.
والثاني: أنه يعود على المقتول، وهو وقل مجاهد. والقول الأول
أبين.
وقرأ ابن كثير {كَانَ خِطَاءً} مكسور الخاء ممدودة مهمورزة،
وقرأ ابن عامر {خِطئًا} بالفتح والهمز من غير مد، وقرأ الباقون
{خِطْئًا} مكسورة الخاء ساكنة الطاء مهموزة من غير مد، هذه
لغات.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: {فَلا تُسْرِف ِفي القَتْلِ}
بالتاء جزماً، وقرأ الباقون بالياء.
(1/293)
فالتاء على أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه
وسلم - وقيل: هو لولي المقتول.
والولي: الوارث من الرجال.
* * *
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ
إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]
قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم وابن جريح
وابن زيد والضحاك ومجاهد: الرؤيا ما رآه النبي - صلى الله عليه
وسلم - ليلة الإسراء، فلما أخبر المشركين بما رأى كذبوا به.
وقيل: هي رؤيا نوم، وهي رؤيته التي رأى أنه سيدخل مكة، وروي
هذا عن ابن عباس من جهة أخرى.
والشجرة الملعونة: الزقوم، وقد ذكرها الله تعالى في مكان آخر،
فقال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ}
[الدخان: 43-44] ، هذا قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وابن
مالك وقتادة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وابن زيد، وكانت فتنتهم
بها أن أبا جهل قال: النار تأكل الشجر، فكيف تنبت فيها، وارتد
قوم، وزاد الله في بصائر آخرين.
وقال أصحاب المعاني: يجوز أن تكون الزقزم نبتاً من النار أو من
جوهر لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وعقاربها
وحياتها، وكذلك الضريع وما أشبه ذلك.
والفتنة هاهنا: الاختبار.
* * *
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ
فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ
كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71] .
الفتيل: ما يكون في شق النواة.
(1/294)
واختلف في الإمام هاهنا:
فقيل: إمامهم نبيهم، وهو قول مجاهد وقتادة.
وقال ابن عباس والحسن والضحاك: إمامهم كتاب عملهم.
وقيل: كتابهم الذي أنزله الله تعالى فيه الحلال والحرام
والفرائض، وهو وقول ابن زيد.
وقيل: من كانوا يأتمون به في الدنيا، وهو وقل أبي عبيدة.
ويسأل عن قوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72] ؟
والجواب: أن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد قالوا: من كان في
هذه الدنيا وهي شاهدة له من تدبيرها وتصريفها أعمى عن اعتقاد
الصواب فهو في الآخرة التي هي غائبة عنه أعمى.
وقرأ أبو عمرو {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} بالإمالة،
وفخم {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} ، واستشهد بقوله:
{وَأَضَلُّ سَبِيلًا} ، أي: أشد عمى، وهو من عمى القلب، وقرأ
ابن كثير وابن عامر ونافع وحفص عن عاصم بالتفخيم فيه جميعاً،
وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم بالإمالة فيهما جميعاً.
وقيل: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة.
واحتج قوم لقراءة أبي عمرو بأن الأول رأس آية فجازت إمالته،
وليس الثاني كذلك ففخك.
وقد ذكرنا أنه من عمى القلب، ولا يجوز أن يكون من عمى البصر؛
لأنه لا يقال: هذا أعمى كم هذا، كما لا يقال: هذا أحمر من هذا،
وكذا جميع الألوان والعاهات والخلق.
(1/295)
ونصب {يَوْمِ} [الإسراء: 71] بفعل مضمر
تقديره: اذكر يوم ندعو.
وقيل: هو منصوب بـ (يعيدهم) يوم ندعو، وهو وقل الزجاج.
* * *
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .
اختلف في الروح هاهنا:
فقيل: هو جبريل - عليه السلام -، هذا قول ابن عباس.
وقال علي - رضي الله عنه - هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه
سبعون ألف فم لكل فم سبعون ألف لسان يسبح لله تعالى بجميع ذلك.
- وقيل: الروح ما تكون به الحياة.
- وقيل: الروح ملك يقوم يوم القيامة صفاً، وتقوم الملائكة
صفاً، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] ، قال قتادة: سأل عن ذلك
ذوم من اليهود، وقيل سأل عنه اليهود.
وقيل: في قوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:
85] أي: من الأمر الذي يعلمه ربي.
ومما يسأل عنه أن يقال: لمَ لمْ يجابوا عن الروح؟
والجواب: لما في ذلك من المصلحة، ليوكلوا إلى علم ما في عقولهم
من الدلالة، مع ما في ذلك من الرياضة.
وقيل: إنهم وجدوا في كتابهم: أنه إن أجابهم عن الروح فليس
بنبي.
* * *
قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا
تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]
(1/296)
{أَوِ} هاهنا للإباحة، أي: إن دعوت بأحدهما
كان جائزاً، وإن دعوت بهما جميعاً كان جائزاً. وهذان الاسمان
ممنوعان، أي: لم يتسم أحد بهما غير الله تعالى.
و (ما) في {أَيًّا مَا} صلة، كقوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] .
وقيل: هي بمعنى (أي شيء) كررت مع اختلاف اللفظين للتوكيد،
كقولك:
ما رأيت كالليلة ليلة. و {أَيًّا} نصب بتدعو.
وقرئ {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ} {أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} ،
بكسر اللام والواو على أصل التقاء الساكنين، وقرأ ابن كثير
وأبو عمرو ونافع والكسائي بضم الواو واللام، وهو أجود؛ والعلة
في ذلك أن بعدهما ضمة العين فكرهوا الخروج من كسر إلى ضم وليس
بينهما إلا حاجز ضعيف، وهو الساكن، ومن زعم من النحويين أن ضمة
الهمزة من (ادعو) ألقيت على اللام والواو، فقد أخطأ، لأن هذه
الهمزة لاحظ لها في الحركة، وإنما تحرك عند الابتداء، فإذا
اتصل الكلام سقطت الحركة، وقد كسر بعضهم اللام، وضم الواو جمع
بين اللغتين، ولو ضم اللام وكسر الواو لكان جائزاً في العربية،
إلا أنه لا يقرأ إلا بما صح عن السلف رضي الله عنهم.
{من سورة الكهف}
* * *
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى
عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]
القيم: المستقيم، والعوج: العدول عن الحق إلى الباطل، يقال:
ليس في الدين
(1/297)
عوج، وكذلك ليس في الأرض عوج، ويقال: في
العصا عوج بالفتح.
وأجمع العلماء على أنه على التقديم والتأخير، أي: أنزل على
عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً.
قال ابن عباس والضحاك: أنزله مستقيماً معتدلاً.
وقيل: ولم يجعل له عوجاً أي: لم يجعله مخلوقاً، ويروى هذا عن
ابن عباس أيضاً.
ووزن (قيم) فيعل، واصله (قيوم) فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء
فيها، وهذا حكم كل (واو) و (ياء) اجتمعتا وسبقت الأولى منهما
بالسكون، نحو: سيد وميت وطي ولي، والأصل: سيود وميوت وطوي
ولوي، ففعل بهذه الأشياء ما ذكرناه، وقرأ الأعمش {الم (1)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل
عمران: 1-2] ، وروى أن عمر قرأ {الْحَيُّ الْقَيُّامُ} ،
والأصل فيه القيوام، ففعل به ما قد ذكرناه، وكذلك: القيوم،
أصله: قيووم.
ونصب {قَيِّمًا} [الكهف: 2] على الحال من الكتاب، والعامل فيه
{أَنْزَلَ} .
* * *
قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5]
الكلمة هاهنا: قولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 4] ،
واختلف في نصبها:
فقال قوم: انتصب على تفسير المضمر، عل حد قولك: نعم رجلاً زيد،
والتقدير على هذا: كبرت الكلمة كلمة، ثم حذف الأول؛ لدلالة
الثاني علبه، ومثله كرم رجلاً زيد، ولؤم صاحباً عمرو.
(1/298)
وقال قوم: انتصب على التمييز المنقول على
الفاعل، عل حد قولك: تصببت عرقاً، وتفقأت شحماً، قال الشاعر:
ولقد علمت إذا الرياح تناوحت هدج الرئال تكبهن شمالاً
وهذا البيت إذا حذف منه (تكبهن شمالا) بقي موزوناً، وكان من
مرفل الكامل إذا حركت اللام، فإن أسكنتها كان من المذال، وهو
على الضرب الثاني من الكامل، ويحكى أن أول من نبه على هذا أبو
عمرو بن العلاء.
وقيل: نصب {كَلِمَةً} على الحال من المضمر في {كَبُرَتْ} .
وقرأ ابن كثير {كَبُرَتْ كَلِمَةٌ} بالرفع، فجعل كبرت بمعنى
عظمت.
وأما قوله تعالى: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} ، فهو نعت
لمحذوف تقديره: كبرت كلمة تخرج من أفواهم، ترفع (كلمة)
المضمرة، كما ترفع (زيد) من قولك: نعم رجلاً زيد، ورفعه من
وجهين:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، والتفسير في الآية على هذا:
هي كلمة تخرج، ولا يجوز أن يكون {تَخْرُجُ} وصفاً لـ
{كَلِمَةَ} الظاهرة؛ لأن الوصف يقرب النكرة من المعرفة،
والتمييز والتفسير والحال لا تكون البتة، ولا يجوز أن يكون
حالاً من {كَلِمَةً} المنصوبة لأمرين:
أحدهما: أن الحال يقوم مقام الوصف.
(1/299)
والثاني: أن الحال لا يكون من نكرة في غالب
الأمر.
ولكن يجوز أن يكون {تَخْرُج} وصفاً لـ {كَلِمَةً} على مذهب من
رفع كلمة.
* * *
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف: 9]
الكهف: الغار، والرقيم: قيل: هو لوح أو حجر أو صحيفة كتب فيه
اسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أووا إلى الكهف؛ لأنه من عجائب
الأمور، وجعل في خزائن الملوك، وقيل: جعل على باب كهفهم، ورقيم
على هذا بمعنى مرقوم، مثل: جريح ومجروح وصريع ومصروع، يقال:
رقمت الكتاب أرقمه، وفي القرآن: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}
[المطففين: 9] ، ومن هذا قيل: في الثوب رقمٌ، وقيل للحية:
أرقمٌ، لما فيه من الخطوط، وهذا الذي ذكرناه من أنه كتاب كتب
فيه حديثهم قول مجاهد وسعيد بن جبير، وفي بعض الروايات عن ابن
عباس: أنه الوادي الذي كانوا فيه، وروي مثل ذلك عن الضحاك،
وقيل: الرقيم الجبل الذي كانوا فيه، وهو قول الحسن، وقيل:
الرقيم اسم كلبهم، وجاء في التفسير عن الحسن: أنهم قوم هربوا
بدينهم من قومهم إلى كهف وكان من حديثهم ما قصه الله تعالى في
كتابه.
وقيل في قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} ، أن معناه:
أكانوا أعجب من خلق السموات والأرض وما فيهن؟.
و {أَمْ} هاهنا بمعنى: بل أحسبت، وفيها معنى التعجب.
(1/300)
وحدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب حدثنا
القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي
القزويني، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام حدثنا زياد بن عبد الله بن
البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال حدثني بعض أهل العلم عن
سعيد بن جبير وعكرمة عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - في
خبر طويل.
أن النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أنقذتهما قريش إلى أحبار
اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: إسألاهم عن (محمد) ، وصفا لهم
صفته، وأخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ليس
عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار
اليهود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالا لهم ما قالت
قريش وقالا: أخبرونا عن صاحبنا، فقالت لهما أحبار اليهود: سلوه
عن ثلاث، نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم
يفعل فهو رجل متقول فارؤوا فيكم رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في
الدهر الأول، ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجب، وسلوه عن
رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه، وسلوه عن
الروح، ما هو؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم
يفعل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبه حتى قدما
مكه على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم
وبين (محمد) ، وقصا عليهم القصة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه
وسلم - فسألوه عن ذلك فقال - عليه السلام -: أخبركم بما سألتم
عنه غذاً، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث - عليه السلام - خمس
عشرة ليلة لا يحدث الله إليه فذ لك وحياً، ولا يأتيه جبريل،
حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة
ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه، وأحزن النبي -
صلى الله عليه وسلم - مكث الوحي عنه، وشق ما يتكلم به أهل مكه
عليه، ثم جاءه جبريل - عليه السلام - عن الله تعالي بسورة
الكهف، فيه معاتبة على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر
الفتيه، والرجل الطواف، والروح.
(1/301)
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال لجبريل - عليه السلام - حين جاءه: لقد
احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظناً، فقال له جبريل: وما نتنزل
إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك، وما كان
ربك نسبا، فافتتح السورة تعالى: بحمده، وذكر نبوة رسول الله
لما أنكروه عليه من ذلك فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} يعني: محمداً، إنك رسول
مني، أي: تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك، {لَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجًا} ، أي معتدلاً لا اختلاف فيه، {لِيُنْذِرَ بَأْسًا
شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} ، أي: عاجل عقوبته في الدنيا، ثم مرَّ
في السورة.
* * *
قوله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا
لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 12]
اختلف العلماء في قوله: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} ، فقال الخليل:
{لِنَعْلَمَ} مُلغى، و {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} مبتدأ
وخبر، والتقدير: لنعلم الذي نقول فيه: أي الحزبين أحصى، قال
يونس: {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} حكاية.
وقال الفراء: الكلام فيه معنى الاستفهام، فلذلك لم يعمل فيه
{لِنَعْلَمَ} .
قال سيبويه: (أي) ها هنا مبنية، وذلك لحذف العائد عليها، كأن
الأصل: لنعلم أي الحزبين هو أحصى، فلما حذف (هو) رجعت (أي) إلى
أصلها وهو البناء؛ لأنها بمنزلة (الذي) و (من) و (ما) .
قال الكسائي: المعني لنعلم ما يقولون، ثم ابتدأ: أي الحزبين
أحصى، ومثل هذه الآية قوله:
{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى} [الكهف: 19] ، وقوله: {ثُمَّ
لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69] ، وأنشد سيبويه:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
استشهادا لقول الخليل، وتأوله على تقدير: لا حرج ولا محروم في
مكانٍ، على
(1/302)
الابتداء والخبر، وجعل الجملة خبراً (لبات)
، وقدره الخليل: فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا حرج ولا محروم.
وأما النصب في {أَمَدًا} :
فقال الزجاج: إنه تمييز، وهذا وهم؛ لأن {أَحْصَى} فعل وليس
باسم، قال الله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}
[المجادلة: 6] .
وقال مرة أخرى: هو منصوب بـ: {لْبَثُوا} على الظرف، وهذا القول
أصح من الأول. وأي الحزبين ها هنا يراد به: الفتية من حضرهم من
أهل زمانهم.
* * *
قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا
بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا
تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22] .
الرجم: القذف، على قتادة، وروي عن ابن عباس أنه قال: أنا والله
من ذلك القليل الذي استثنى الله تعالى، كانوا سبعة وثامنهم
كلبهم.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم دخلت (الواو) في قوله:
{وَثَامِنُهُمْ} ، وحذفت فيما سوى ذلك؟
والجواب: أنها دخلت لتدل على تمام القصة، وموضعها مع ما بعدها
نصب على الحال.
وقيل: دخلت تعطف جملة على جملة.
(1/303)
وقال بعضهم: خصت بعدد السبعة؛ لأن السبعة
أصل للمبالغة في العدة؛ لأن جلائل الأمور سبعة.
وأما من يقول هي واو الثمانية، ويستدل بذلك على أن للجنة
ثمانية أبواب، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ، فشيء لا يعرفه النحويون، وإنما هو
من قول بعض المفسرين.
ولو حذفت هذه الواو لكان جائزاً؛ لأن الضمير في قوله:
{وَثَامِنُهُمْ} يربط الجملتين، وذلك نحو قولك: رأيت زيدا
وأبوه قائم، ولو قلت: رأيت زيدا أبوه قائم لكان جائزا وتقول:
رأيت زيدا وعمرو قائم، فلا يجوز حذف الواو؛ لا ضمير هاهنا يربط
الجملتين.
ولو دخلت الواو في قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ
رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ}
[الكهف: 22] لكان جائزا عند النحويين.
* * *
قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ
سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] .
اختلف العلماء في هذا.
فقال قوم: هذا إخبار من الله تعالى بمقدار لبثهم، ثم قال لنبيه
- صلى الله عليه وسلم -: إن حاجك المشركون فيهم قل: الله أعلم
بما لبثوا، هذا قول مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير.
وقال قتادة: هو حكاية عن قول اليهود؛ لأجل قوله تعالى: {قُلِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26] ، فكأنه في
التقدير: سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون كذا وكذا،
ويقولون ولبثوا في كهفهم، وقد ذكرنا عن ابن عباس أنه قال: أنا
من ذلك القليل الذي استثناه الله تعالى.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاء قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} ، وإنما يقال: ثلاثمائة
سنة؟
(1/304)
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أن التقدير: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة، على
المستعمل، إلا أنه وضع الجميع موضع الواحد على الأصل؛ لأن
الأصل أن تكون الإضافة إلى الجميع.
قال الشاعر:
ثلاث مئين قد مضين كواملا وها أناذا قد أبتغي من أربع
فجاء به على الأصل.
والثاني: أن العرب تستغني عن الواحد بالجمع، وعن الجمع
بالواحد، فمما استغنى فيه عن الواحد بالجمع قولهم: قدر أعشار،
وثوب أخلاق، ومما استغنوا فيه بالواحد عن الجمع قوله:
بها جيف الحسري فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وقال آخر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
وقال الله تعالى في الاستغناء بالجمع عن الواحد: {فَإِلَّمْ
يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هود: 14] ، الخطاب: للنبي - صلى الله
عليه وسلم - ثم قال للكفار: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ
بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] ، يدل على ذلك قوله: {فَهَلْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] ، ومما جاء من قوله تعالى على
الاستغناء بالواحد عن الجمع قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ
طِفْلًا} [الحج: 5] ، وهو كثير.
(1/305)
وهذا كله على قراءة حمزة والكسائي، فأما
الباقون فإنهم نونوا {ثَلَاثَ مِائَةٍ} .
وفي نصب {سِنِينَ} قولان:
أحدهما: أنه بدل من ثلاثمائة.
والثاني: أنه تمييز، كما تقول: عندي عشرة أرطال زيتا، قال
الربيع بن ضبع الفزاري:
إذا عاش الفتى مئتين عاما فقد ذهب المسرة والفتاء
وزعم بعضهم: أنه على التقديم والتأخير، تقديره: ولبثوا في
كهفهم ثلاثمائة وازدادوا تسع سنين.
* * *
قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38]
الأصل: لكن أنا هو الله ربي، فألقيت حركة الهمزة على النون
فصار: (لكننا) فأسكنت النون الأولى كراهة لاجتماع المثلين، ثم
أدغمت في الثانية فصار: لكنا هو الله ربي؛ ويجوز فيها خمسة
أوجه:
أحدها: لكن هو الله ربي؛ لأن ألف (أنا) محذوف في الوصل، قال
الشاعر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي
والثاني: لكنا هو الله ربي، وهذان الوجهان قرئ بهما.
(1/306)
والثالث: لكننا هو الله ربي، بطرح الهمزة
وإظهار التنوين.
والرابع: لكن هو الله ربي، بالتخفيف.
والخامس: لكن أنا هو الله ربي، على الأصل.
* * *
قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] .
قال المفسرون: شغل قلبي بوسوسته حتى نسيت الحوت.
ويسأل عن موضع (أن) ؟
والجواب: أن موضعها نصب على البدل من الهاء، كأنه في التقدير:
وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان.
* * *
قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ
وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:
79] .
يقال: سفينة وسفائن سفن وسفين.
واختلف في المساكين والفقراء:
فذهب بعضهم إلى أنهما بمعنى، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى فرق
بينهما في آية الصدقة فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] .
وفرق بينهما أكثر أهل العلم، واختلفوا في أيهما أشد حاجة:
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسكين الذين له بلغة، واحتجوا
بهذه الآية؛ لأن الله تعالى جعل لهم سفينة.
وذهب جمهور أهل اللغة إلى أن المسكين الذي لا شيء له، وأن
الفقير هو الذي له بلغة وأنشدوا:
أما الفقير الذي كانت حلو بته وفق العيال فلم يترك له سبد
(1/307)
واختلف في (وراء) :
فقال قوم: هو نقيض قدام.
وقال قتادة: هو بمعنى أمام، ومثله: {مِنْ وَرَائِهِمْ
جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] ، وهو محتمل؛ لأنه من المواراة، قال
الشاعر:
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
أي: أمامى.
* * *
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ
رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ
رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] .
قال أصحاب المعاني: المعنى: قل لو كان البحر مداداً لكتابة
معاني كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، فحذف لأن
المعنى مفهوم، والنفاد: الفراغ.
ومما يسأل عنه أن يقال: الكلمات لأقل العدد، وأقل العدد العشرة
فما دونها، فكيف جاء هاهنا أقل العدد؟
والجواب: أن العرب تستغني بالجمع القليل عن الكثير، وبالكثير
عن القليل، قال الله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ
آمِنُونَ} [سبأ: 37] ، وغرف الجنة أكثر من أن تحصى، وقال:
{هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] ، وقال حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وكان أبو علي الفارسي ينكر الحكاية التي تروى عن النابغة، وأنه
قال له: قللت جفناتكم وأسيافكم، فقال: لا يصح هذا عن النابغة.
(1/308)
|