النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة مريم}
(عليها السلام)
* * *
قوله تعالى: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] .
قد فسرنا قواتح السور فيما تقدم.
ومما يسأل عنه هاهنا أن يقال: بم ارتفع {ذِكْرُ رَحْمَتِ} ؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو ذكر.
والثاني: أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك.
ونصب {عَبْدَهُ} برحمة.
* * *
قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] .
قال أبو صالح: يرثني النبوة، وقال الحسن ومجاهد: يرثني العلم والنبوة، وقال السدي: يرث نبوته ونبوة آل يعقوب. ويجوز في {يَرِثُنِي} الرفع والجزم، فالرفع على النعت لولي، وهي قراءة السبعة إلا أبا عمرو والكسائي فإنهما قرآ بالجزم، والجزم على أنه جواب الدعاء.
* * *
قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25]

(1/309)


السري: الجدول في قول البراء بن عازب، وقال ابن عباس ومجاهد وابن جبير: هو النهر، وقال الضحاك وقتادة وإبراهيم: هو النهر الصغير، وقال الحسن وابن زيد، السري: النهر معروف في كلام العرب. قال لبيد:
قتوسطا عرض السري وتصدعا مسجورة متجاورا قلامها
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أمرت بهز الجذع، والله قادر أن يسقط عليها الرطب من غير هز منها؟
والجواب: أن الله تعالى جعل معائش الدنيا بتصرف أهلها وتطلبهم لها.
ويسأل: بم انتصب {رُطَبًا جَنِيًّا} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه مفعول لـ: {هُزِّي} ، أي: هزي جنياً يتسلقط عليك، هذا قول المبرد.
وقال غيره: هو نصب على التمييز، والعامل فيه {تُسَاقِطْ} .
وقرأ أبن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {تُسَاقِطْ} بالتاء، ورد الضمير إلى النخلة، والباء في قوله: {بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} زائدة.
وقرأ حمزة {تُسَاقِطُ} أراد: تتساقط، فحذف التاء الثانية لأنها كراهة لاجتماع التائين.

(1/310)


وقرأ حفص عن عاصم {تُسَاقِط} بضم التاء وكسر القاف مخففة السين، جعله مثل: يطارق النعل، ويعاقب اللص. قرئفي غير السبعة {تَسَاقِط} على أن الضمير للجذع. وقرأ نافع والكسائي وحمزة وعاصم فر راوية حفص {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} وقرأ {مِنْ تَحْتِهَا} الباقون بفتح الميم على معنى (الذي) .
واختلف فيمن ناداها:
فقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: ناداها جبريل - عليه السلام -. وقال مجاهد ووهب بن منبه وسعيد بن جبير وابن زيد: ناداها عيسى.
فعلى التأويل الأول يكون (تحت) بمعنى المحاذاة، والمعنى: فناداها جبريل من البستان الذي تحتها؛ لأنه يقال: داري تحت دارك، بمعنى: محاذية لها.
وعلى التأويل الثاني يكون المعنى: فناداها من تحت ثيابها.
وكل الوجهين محتمل.
* * *
قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] .
الفري: العمل العجيب، قال الراجز:
قد أطعمنني ذقلاً حوليا
مسوسا مدوداً حجريا
قد كنت تفرين به الفريا
وقال قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: هارون رجل صالح في بني إسرائيل ينسب إليه من عرف بالصلاح.

(1/311)


وقيل: هو هارون أخو موسى، نسبت إليه، لأنها من ولده، كما يقال: يا أخا بني فلان، وهو قول السدي.
وقيل: كان رجلاً فاسقا معلنا بالفسق فنسبت إليه.
قال الكلبي: هارون أخوها من أبيها.
ومعنى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم: 26] قالت كلموه.
فصل:
ومما يسأل عنته أن يقال: لم قال: {بَغْيًا} وهو صفة مؤنث؟
والجواب: أن ما كان على (فعول) فوصف به النمؤنث كان بعير (هاء) ، نحو/ امرأة شكور وصبور، إذا كان بمعنى (فاعل) ، فإن كان بمعنى (مفعول) ثبتت فيه (الهاء) نحو: حلوبة وقتوبة.
والأصل في (بَغْيًا) : بغوي، فاجتمعت الواو والياء وسبقت الأولى بالسكون فوجب القلب والإدغام، وكسرت الغين لتصبح الياء ساكنة.
فصل:
ويسأل عن قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29] ، بم نصب {صَبِيًّا} ؟
والجواب: أ، هـ منصوب على الحال، و {كَانَ} بمعنى الحدوث، وهي العاملة في الحال، ومثل كان هاهنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] أي: حضر ووقع.
ومثله قول الربيع:
إذا كان الشتاء فأدفئوني فإن الشيخ يهدمه الشتاء

(1/312)


ويجوز أن تكون زائدة، نحو قول الشاعر:
جياد بني أبي بكر تسامى على كان المسومة العراب
والعامل في الحال على هذا الوجه {نُكَلِّمُ} .
* * *
قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] .
يسأل: كيف جاز {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} ، وليس في الجنة ليل ولا شمس ولا قمر؟
والجواب: أن العرب خوطبت على قدر ما تعرف، فذكر البكرة والعشي ليدل على المقدار، وكانت العرب تكره (الوجبة) وهي أكلة واحدة، وتستحب الغداء والعشاء، فأعلمهم الله تعالى: أن لهم في الجنة مثل ما كانوا يحبون في الدنيا.
* * *
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]
هذه الآية نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أن خباب بن الأرت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قيناً بمكة يعمل السيوف فباع من العاص سيوفاً، فأعملها له حتى إذا صار له عليه مال جاء يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه، أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟ قال خباب: بلى، قال: فأنظرني إلى يوم القيامة حتى أرجع إلى تلك الدار، فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكون أنت ولا اصحابك يا خباب آثر عند الله مني وأعظم حظاً، فأنزل الله تعالى فيه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية.
قرأ حمزة والكسائي {وَلَدًا} بضم الواو وإسكان اللام، وقرأ الباقون بفتح الواو، فأما الفتح فهي اللغة المشهورة، وأما الضم وإسكان اللام، فيجوز فيه وجهان:

(1/313)


أحدهما: أن يكون (وُلْد) و (وَلَد) بمعنى، كما يقال: رُشْدٌ ورَشَدٌ، وعُدْمٌ وعَدَمٌ، قال الشاعر:
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار
وقال الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشراً قد أثمروا مالاً وولداً
وقال رؤبة:
الحمد لله العزيز فرداً لم يتخذ من ولد شيء ولدا
والثاني: أن يكون الولد جمع الولد، كقولهم: أُسْدٌ وأًسَدٌ، ووُثْنٌ ووَثَنٌ، وهي لغة قريش.
{ومن سورة طه}
* * *
قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] .
اختلف في معنى: {طه} .
فقيل: هو اسم للسورة، وقيل: هو اختصار من كلان يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: هو بالسريانية ومعناه: يا رجلاً وهو قول ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير.
ويجوز في (طه) أربعة أوجه:
أحدها: (طَهَ) بفتح الطاء والهاء والتفخيم.
والثاني: (طِهِ) بإمالتها جميعاً.
والثالث: (طاهي) بتفخيم الأول وإمالة الثاني.
والرابع: (طهْ) بتسكين الهاء، وفيه وجهان:

(1/314)


أحدهما: أن يكون المعنى (طأ) ثم أبدل من الهمزة هاء، كما يقال: هرقت الماء، وهنرت الثوب وهرحت الدابة، في معنى: أرقت وأثرت وأرحت.
والثاني: أن يكون على تخفيف الهمز كأنه (طَ يا رجل) كما تقول: رَ يا رجل، ثم أدخلت الهاء للوقف.
وقد قرئ بهذه الوجوه كلها:
فالوجه الأول: قراءة ابن كثير وابن عامر ونافع في إحدى الروايتين.
والثاني: قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وعباس عن أبي عمرو.
والثالث: عن أبي عمرو، وروي عن نافع بين الإمالة والتفخيم في إحدى الروايتين.
ويروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع رجله في الصلاة، فأنزل الله تعالى عليه (طَهَ) أي: طء الأرض برجلك، فهذا يقوي إسكان الهاء.
* * *
قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 29-34] .
الأرز: الظهر، يقال: آزرني فلان على كذا، أي: كان لي ظهراً، ومنه المئزر لأنه يشد على الظهر.
قرأ ابن عامر {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بقطع الألف {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} بضم الألف، وقرأ الباقون بوصل الألف الأولى وفتح الثانية، فمن قرأ {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} بقطع الألف {وَأَشْرِكْهُ} بضم الألف، فالألف ألف المتكلم، وجزم؛ لأنه جواب الدعاء الذي هو {وَاجْعَلْ لِي} ، ومن وصل الألف وفتح الثانية جعله بدلاً من قوله: {وَاجْعَل لِي} ويسأل

(1/315)


عن قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي} ، أين مفعول {وَاجْعَل} ؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، حتى كأنه قال: واجعل لي من أهلي هارون أخي وزيراً، فـ {هَارُونَ} مفعول أول، و {وَزِيرًا} مفعول ثان.
وإن شئت جعلت {وَزِيرًا} مفولاً أولاً، و {لِي} مفعولاُ ثانياً، وهذا الوجه الثاني.
ويجوز في هارون وجهان:
أحدهما: أن يكون نصباً بإضمار فعل، كأنه قال: أعني هارون أخي، أو: استوزر لي هارون أخي؛ لأن {وَزِيرًا} يدل عليه.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال: واجعل لي وزيراً من أهلي، قيل له، من هذا الوزير؟ قال: هارون أخي، فهذا وجه في الرفع، إلا أن القراءة بالنصب، فإن رفع رافع من القراء فهذه وجه.
ويجوز في النصب أن تضمر (أريد) كأنه قيل له: من تريد؟ قال: أريد هارون أخي.
ويسأل عن قوله: {نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 34] ؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، كأنه في التقدير: نسبحك تسبيحاً كثيراً ونذكرك ذكراً كثيراً.
والوجه الثاني: أن يكون نعتاً لظرف محذوف تقديره، نسبحك وقتاً كثيراً، ونذكرك وقتاً كثيراً.
* * *
قوله تعالى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 58-59] .
قوله: {مَكَانًا سُوًى}
قال السُّدي وقتادة: عدل، وقال ابن زيد: مستوٍ.

(1/316)


وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم {سُوًى} بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها، والضم أكثر وأفصح؛ لأن (فُعَل) في الصفات أكثر من (فِعَل) وذلك نحو: حطم ولبد، فهذا أكثر من باب عدى، وقد قرئ {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} و {طُوًى} ، والضم أفصح لما ذكرناه، ومثل ذلك: ثِنى وثُنى وعِدى وعُدى.
قال أبو عبيدة: السوى النصف والوسط، قال الشاعر:
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس عيلان والغزر
و {يَوْمُ الزِّينَةِ} : يوم عيد لهم، كذا قال السُّدي وابن إسحاق وقتادة وابن جريح وابن زيد.
وقيل يوم الزينة: يوم سوق لهم يتزينون فيه، وهو قول الفراء.
ويسأل عن قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} كيف رفع {يَوْمُ الزِّينَةِ} ، وجعله الموعد، وإنما الموعد مصدر؟
وفي هذا وجهان:
أحدهما: أن يكون على الحذف، كأنه في التقدير: يوم موعدكم يوم الزينة ثم حذف على حد قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وإن شئت قدرته، قال موعدكم يوم الزينة، ذم حذفت على ما قدمناه، ومثله قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، تقديره: مواقيت الحج أشهر معلومات، وكذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، أي: مدة حمله وفصاله ثلاثون شهراً.
والثاني: أن تجعل (موعد) ظرف زمان، فتخبر بالظرف عن الظرف، وهذا كقولهم:

(1/317)


أتت الناقة على مضربها، أي: على زمان ضرابها، ومثله قولك: كان ذلك مغار ابن همام، وإمارة الحجاج، وخلافة عبد الملك، ومقتل الحسين وما أشبه ذلك. ويقال: جئته خفوق النجم وطلوع الشمس، فجعلوه هذه المصادر ظروفاً.
وقد قرأ الحسن {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} بالنصب، وهو أيضاً على حذف، كأنه في التقدير:
محل موعدكم كائن يوم الزينة، أو واقع؛ لأنه لم يعدهم في يوم الزينة، ولكنه وعدهم الاجتماع معه في يوم الزينة.
وقوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه: 59] في موضع رفع على تقدير:
موعدكم يوم الزينة. ويوم حشر الناس ضحى، وتكون (أن مع الفعل) مصدراً، ثم حذفت (يوماً) لدلالة ما تقدم عليه.
ويجوز أن يكون في موضع جر، تعطفه على (الزينة) حتى كأنه في التقدير: موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس ضحى.
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] .
قال مجاهد: {بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} بأولى العقل والضرف والأنساب، وقال أبو صالح: بسراة الناس، وقال قتادة: ببنبي إسرائيل، وكانوا أولي عدد ويسار، وقال ابن زيد: طريقتكم التي أنتم عليها في السيرة.
وقرأ ابن كثير {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بتشديد النون من {هَذَانِ} وتخفيف {إِنْ} وقرأ عاصم من طريقة حفص {إِنْ هَذَانِ} بتخفيف النون وتخفيف {إِنْ} ، وقرأ أبو عمرو بتشديد {إِنَّ} ونصب {هَذَينِ} ، وقرأ الباقون {إِنْ هَذَانِ} بتشديد {إِنَّ}

(1/318)


ورفع {هَذَين} .
فوجه قراءة ابن كثير: أنه جعل {إِنَّ} مخففة من الثقيلة، وأضمر فيها أسمها، ورفع ما بعدها على الابتداء والخبر، وجعل الجملة خبر (إن) ، هذا قول البصريين، وفيه نظر؛ لأن (اللام) لا تدخل على خبر المبتدأ إلا في ضرورة شعر، نحو قوله:
أم الجليس لعجوز شهربه ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقال الكوفيون: (إنْ) بمعنى (ما) و (اللام) بمعنى (إلاَّ) ، والتقدير: ما هذان إلا ساحران، وهذا قول جيد، إلا أن البصريين ينكرون مجئ (اللام) بمعنى (إلاَّ) .
والقول على قراءة عاصم من طريق حفص كالقول على قراءة ابن كثير.
فأما تشديد النون في قراءة ابن كثير ففيها وجهان:
أحدهما: أن يكون تشديدها عوضاً من ألف (هذا) التي سقطت من أجل حرف التثنية.
والثاني: أن يكون للفرق بين النون التي تدخل على المبهم والتي تدخل على التمكين، وذلك أن هذه النون إنما هي وجدت مشددة مع المبهم.
وقد قيل: إنما شددت للفرق بين النون التي لا تسقط في الإضافة، والنون التي تسقط في الإضافة. وأما قراءة أبي عمرو: فوجهها بين: لأن (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخبر، إلا

(1/319)


أنها مخالفة للمصحف، وقد قرأ بذلك عيسى بن عمر، واحتجا بأنه غلط من الكاتب، وقد روي مثل ذلك عن عائشة رضي الله عنها، رواه أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائسة، وكان عاصم الجحدري يقرأ كذلك، فإذا كتب كتب {إِنْ هَذَانِ} ، واحتجوا له بقول عثمان - رضي الله عنه -: (أرى في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها) ، وهذان الخبران لا يصححهما أهل النظر، ولعل أبا عمرو وعيسى بن عمر وعاصماً والجحدري ما قرؤوا إلا ما أخذوه عن الثقات من السلف. وأما قراءة الجماعة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فذهب قوم إلى أن (إنَّ) بمنزلة (نعم) ، وأنشدوا:
ولا أقيم بدار الهون إن ولا آتى إلى الغدر أخشى دونه الخمجا
وأنشدوا أيضاً:
بكر العواذل في الصبو ح يلمنني وألومهنه
ويغلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنه
وهذا القول لا يصح عندنا لأمرين:
أحدهما: أنها إذا كانت بمعنى (نعم) ارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وقد تقدم أن (اللام) لا تدخل على خبر مبتدأ جاء على أصله.
والثاني: أن أبا علي الفارسي قال: ما قبل (إنَّ) لا يقتضي أن يكون جوابه (نعم) ؛ لأن إن جعلته جواباً لقوله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62] قالوا: نعم هذان لساحران كان محالاً أيضاً.

(1/320)


وقيل: الهاء مضمرة بعد (إنَّ) ، وفيه أيضاً نظر من أجل دخول اللام في الخبر ولأن إضمار الهاء بعد (إنَّ) المشددة إنما يأتي في ضرورة الشعر، نحو قوله:
إن من يدخل الكنيسة يوماً يلق فيها جاذراً وظباء
وقيل: لما كانت (إنَّ) مشبهة بالفغل، وليست بأصل في العمل ألغيت هاهنا، كما تلغي إذا خففت، وهذ قول علي بن عيسى الرماني، وهو غير صحيح؛ لأنها لم تلغ مشددة في غير هذا الموضع، وأيضاً فإنها قد أ'ملت مخففة نحو قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] .
في قراءة من قرأ كذلك؛ لأنها إنما عملت لشبهها بالفعل كما ذكره والفعل قد يعمل وهو محذوف، نحو: لم يك زيد قائما، ولم يخش عبد الله أحداً وما أشبه بذلك، وقد أعمل اسم الفاعل والمصدر لشبهها بالفعل، ولا يجوز إلغاؤهما، وأيضاً فإن (اللام) تمنع من هذا التأويل؛ لأن (إنْ) إذا ألغيت ارتفع ما بعدها بالابتداء و (اللام) لا تدخل على خبر المبتدأ كما قدمناه.
وقيل: {هَذَانِ} في موضع نصب إلا أنه ملني لأنه حمل على الواحد والجمع وهما مبنيان، نحو: هذا وهؤلاء، وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأنه لا يعرف في غير هذا المكان؛ لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي إلا على طريقة واحدة، والواحد والجمع يختلفان، فجاز فيهما البناء ولم يجز في التثنية؛ لأن فيها دليل الإعراب وهو (الألف) ومحال أن تكون الكلمة مبنيه معربه في حال.
وقيل: هذه الألف ليست بالأف تثنيه، وإنما هي ألف (هذا) زيدت عليها النون، وهذا قول الفراء، وهو أيضاً غير صحيح؛ لأنه لا تكون تثنية لا علم للتثنية فيها، فإن قيل: النون علم التثنية، قيل: النون لا يصح على التثنية لأنها لم تأت في غير هذا

(1/321)


الموضع كذلك، ألا ترى أنها تسقط في نحو قولك؛ غلاماُ زيد، فلو كانت علم التثنية لم يجز حذفها، وإنما النون في قولك (هذان) عوض من الألف المحذوفة هذا قول السيرافي، وقال أبو الفتح: هذه النون دخلت في المبهم لشبهه بالتمكن وذلك لأنه يوصف ويوصف به ويصغر، فأشبه المتمكن من هذه الطريقة، ألا ترى أن المضمر لما بعد من المتمكن لم يوصف ولو يوصف به ولم يصغر.
وقال الزجاج: في الكلام حذف، والتقدير: أنه هذان لهما ساحران، فحذف (الهاء) فصار: إن هذان لهما ساحران، ثم حذف المبتدأ الذي هو (هما) فاتصلت اللام بقوله: {لَسَاحِرَانِ} فصار: إن هذان لساحران، فـ {لَسَاحِرَانِ} على هذا القول خبر مبتدأ محذوف وذلك المبتدأ مع هبره عن {هَذَانِ} و {هَذَانِ} مع خبره خبر (إنًّ) ، وقد ذكرنا ما في حذف (الهاء) من القبح، وأنه من ضرورة الشعر، وأما ما ذكره من إضمار المبتدأ تخيلاً للم فتعسف لا يعرف له نظير.
وأجود ما قيل في هذا أنها لغة بالحارث بن كعب؛ لأنهم يجرون التثنية في الرفع والنصب والجر مجرى واحداً، فيقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، قال بعض شعرائهم:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وقال آخر:
تزود منا بين أذناه طعنة دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال آخر:

(1/322)


واها لريا ثم واها واها
ياليت عيناها لنا وفاها
هي المنى لو أننا نلناها
بثمن نرضي به أباها
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال آخر:
أي قلوص راكب نراها طاروا علاهن فطر علاها
يريد: طاروا عليهن فطر عليها فأبدل الياء ألفاً.
وزعم بعض المتأخرين أن هذه الألف مشبهة بألف (يفعلان) فلما لم تنقلب هذه لم تنقلب تلك، وهذا فاسد؛ ذلن هذه ضمير في حيز الأسماء وتلك علامة التثنية وهي حرف، والألف في (يفعلان) لا يصح أن تنقلب؛ لأنه لا يتعاقب عليها ما يغير معناها، لأنها لا تكون إلا فاعله أو ما يقوم مقام الفاعل وهو ما يسم فاعله، والألف في (هذان) حرف إعراب وفيه دليل الإعراب والعوامل تغير أواخر الكلم؛ لتعاورها وتعاقبها عليها.
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77] .
اليبس: المكان اليابس وجمعه أيباس.
قال المفسرون المعنى اجعل لهم طريقا يابساً في البحر يعبرون فيه لاتخاف لحوقاً من عدوك ولا تخسى من هول البحر الذي انفرج لك.
ومعنى قوله: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ، أي: ما سمعتم به، وجاءتكم به الأخبار، ومثله قول أبي النجم.

(1/323)


أنا أبو النجم وشعري شعري
أي: شعري الذي سمعت به وعلمته.
قرأ حمزة {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} ، وقرأ الباقون {دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} ، وأجمعوا على {وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] بالألف.
فتحتمل قراءة حمزة وجهين:
أحدهما: أن يكون جزاءً، والثاني: أن يكون نهياً.
وأما قراءة الجماعة فإنه يكون حالاً، كأنه في التقدير: وأسر بعبادي غير خائفٍ ولا خاشٍ، ومثله قراءة حمزة {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] .
أي: ثم هم لا ينصرون، كذلك في الآية الأخرى: لا تخف وأنت لا تخشى.
وقد ذهب بعضهم إلى أن {تَخْشَى} في موضع جزم بالعطف على {لَا تَخَافُ} ، وأن الألف تثبت في موضع الجزم على حد قول الراجز.
إذا العجوز غضبت فطلق
ولا ترضاها ولا تملق
وهذا وجه ضعيف لا يحمل القرآن عليه.
* * *
قوله تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117] .

(1/324)


يقال: زوج وزوجة، وعلى اللغة الأولى جاء القرآن، ومن اللغة الثانية قول الشاعر:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
والظمأ: العطش، ويضحى: ينكشف إلى الشمس، قال عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخصر
يقال: ضحى الرجل يضحي إذا برز للشمس، قال ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير: لا تعطش ولا يصيبك حر الشمس.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ، ولم يقل: فتشقيا؟
والجواب: أن المعنى على ذلك؛ لأنه خطاب له ولزوجته، إلا أنه اكتفى بذكره عن ذكرها، لأن أمرها في السبب واحد فاستوى حكمهما في استواء العلة.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جمع بين الجوع والعري، وبين الظمأ والضحو، والظمأ من جنس الجوع، والضحو من جنس العري؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أن الصحو الانكشاف إلى الشمس على ما تقدم، والحر عنه يكون، والظمأ أكثر ما يكون من شدة الحر، فجمع بينهما في اللفظ لاجتماعهما في المعنى، وكذلك الجوع والعري يتشابهان من قبل أن الجوع عري في الباطن من الغذاء، والعري ظاهر للجسم.

(1/325)


والجواب الثاني: أن العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالاً على علم المخاطب، وأنه يرد كل واحد منهما إلى ما يشاكله، قال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وكلن حقه أن يقول: كأني لم أركب جواداً للذة، ولم أقل لخيلي كري، ولم أسبأ الزق الروي، ولم أتبطن كاعباً، كما قال يغوث:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كري نفسي عن رجاليا
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لأيسار صدق أظهروا ضوء ناريا
وقد تأول قول امرئ القيس على الجواب الأول، وذلك أنه جمع في البيت الأول بين ركوبين: ركوب الجواد وركوب الكاعب، وجمع في الثاني بين سباء الخمر واإغارة لأنهما يتجانسان.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز أن تعمل (إنَّ) في (أنَّ) بفصل، ولم يجز من غير فصل؟
والجواب: أنهم امتنعوا عن ذلك كراهة للتعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة، فأما المتباعدة فلا يقع فيها تعقيد بالاتصال؛ لأنها مبانية مع الاتصال لألفاظها، فذلك جاز {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 118-119] ، ولم يجز: إن إنك لا تظمأ فيها؛ لأنه بغير فصل.
وقرأ نافع وعاصم من طريقة أبي بكر {لَا تَظْمَأُ فِيهَا} بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح.
فمن كسر عطف على {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ} [طه: 118] ، ومن فتح فيجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون في موضع نصب عطفاً على اسم (إنَّ) .

(1/326)


والثاني: أن يكون في موضع رفع على تقدير: ولك أنك لا تظمأ فيها.
{ومن سورة الأنبياء}
(عليهم السلام)
* * *
قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]
يسأل عن معنى {مُحْدَثٍ} ؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن المعنى محدث إنزاله، فحذف لدلالة الكلام عليه.
والثاني: أن الذكر هاهنا الموعظة، والمعنى: ما يأتيهم ذكر، أي: موعظة محدثة إلا استمعوها وهو يلعبون.
ويجوز في {مُحْدَثٍ} الرفع والجر والنصب:
فالجر: بالرد على ذكر، والرفع: على موضع ذكر، والنصب على الحال.
ويسأل عن موضع قوله: {الَّذِينَ} في قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] ظ
وفيه ستة أجوبة:
أحدها: أن موضعه رفع على البدل من الواو في {وَأَسَرُّوا} .
والثاني: أن موضعه رفع بإضمار فعل تقديره: يقول الذين ظلموا.
والثالث: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين طلموا.

(1/327)


والرابع: أن يكون رفعاً بـ: {وَأَسَرُّوا} على لغة من قال: أكلوني البراغيث.
فهذه أربعة أوجه في الرفع.
والخامس: أن يكون في موضع نصب بإضمار (أعني) .
والسادس: أن يكون في موضع جر بدلاً من (الناس) في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ} [الأنبياء: 1] .
وقد ذهب بعضهم إلى أنه نعت للناس.
فهذه سلعة أوجه.
* * *
قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء: 44]
النقص: نقيض الزيادة، واختلف العلماء في معنى {نَنْقُصُهَا} :
فقال بعضهم: ننقصها بخرابها: وقيل: بموت اهلها، وقيل ننقصها من أطرافها بما يفتح الله - عز وجل - على نبيه منها، وما ينقص من الشرك بإهلاك أهلها، وقيل: ننقصها بموت العلماء؛ لأنه من أشراط الساعة، وقد جاء في الحديث: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً ولكن ينتزعه بموت العلماء فيتخذ الناس رؤوسا جهالاً فيضلون ويضلون) ، وكان يقال: الأطراف مكان الأشراف.
فصل: ومما يسأل عنه أن يقال: ما الأصل في قوله: {أَنَّا} ؟
والجواب: أن الأصل فيها أننا، فحذفت إحدى النونات كراهة لاجتماع ثلاث نونات، والوجه أن تكون المحذوفة الوسطى؛ لأن الثالثة اسم مع الألف ولا يجوز حذفها، والأولى

(1/328)


ساكنه ولو حذفتها لا لتقى مثلان فيجب إسكان الأولى وإدغامها في الثاني، فيجتمع إعلالان، والعرب تفر من مثل هذا.
وقيل في قوله: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أن معناه: أفهم الغالبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبيخاً لهم، وهو قول قتادة، وقيل: من يحفظهم مما يريد الله إنزاله بهم من عقوبات الدنيا والآخرة.
* * *
قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] .
النفش: الرعي ليللاً، هذا قول شريح، وقال الزهري: النفش: العمل بالنهار أيضاً.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف أضاف الحكم إليهما، وإنما المتسبب في الحكم أحدهما؟
والجواب أن المعنى: إذا اسرعا في الحكم من غير قطع به، ويجوز أن يكون المعنى: إذطلبا الحكم في الحرث، ولم يبتدئا به بعد، ويجوز أن يكون داود - عليه السلام - حكم حكماً معلقاً بشرط يفعله معه. كل ذلك قد قيل.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما الحرث الذي حكما فيه؟
والجواب أن قتادة قال: كان زرعاً وقعت فيه الغنم ليلاً ورعته، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرماُ قد نبتت عناقيده، قال ابن مسعود: كان داود - عليه السلام - حكم لصاحب الكرم بالغنم، فقال له سليمان - عليه السلام -: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد منهما إلى صاحبه، وفي هذه الآية دلالة على النظر والاجتهاد.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} وهما اثنان؟

(1/329)


وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنه وضع الجمع موضع التثنية، والعرب تفعل ذلك وعليه قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] . قال ابن عباس: اخوان فصاعداً. وقال تعالى: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ} [الأعراف: 150] ، جاء في التفسير أنهما لوحان.
والثاني: أن يكون أدخل معهما المحكوم لهم.
والأول أولى؛ لأن المحكوم لهم، لم يحكموا وإنما حكم لهم.
وداود وسليمان عطف على قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] ، وكذلك قوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ} [الأنبياء: 74] ، {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 76] .
* * *
قوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] .
النون: الحوت، وجمعه نبنان قياساً لا سماعاً.
وذو النون: يونس بن متي - عليه السلام -. قال ابن عباس والضحاك: غضب على قومه. وقيل: خرج قبل الأمر بالخروج على عادة الأنبياء عليهم السلام.
ومعنى {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: لن نضيق عليه، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] .
أي: ضيق، وهو وقل ابن عباس ومجاهد والضحاك، وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] ، والمعنى على هذا: فطن أن لن يضيق عليه فنادي في

(1/330)


الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك. والظلمات هاهنا: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وهذا قول ابن عباس وقتادة، وقال سالم بن أبي الجعد: كان حوت في بطن حوت.
وقدر بعض السلف حذف حرف الاستفهام، كأنه قال: أفظن أن لن نقدر عليه، وأنكره علي بن عيسى، وقال لا يجوز حذف حرف الاستفهام من غير دليل عليه، وقال الأصمعي: ما حذفت ألف الاستفهام إلا وعليها دليل، وقد جاء حذفها على خلاف ما قال، أنذد النحويون لعمر بن أبي ربيعة.
ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد القطر والحصى والتراب
أي: أتحبها؟
وروي عن الشعبي وسعيد بن جبير أنهما قالا: خرج مغاضباً لربه، وهذا لقول مرغوب عنه، ولا يجوز مثل هذا على نبي من أنبياء الله تعالى، وقال بعضهم: غضب لما عفا الله عنهم إذا آمنوا، وهذا القول أيضاً لا يصح؛ لأنه يؤدي إلى الأعتراض على الله تعالى فيما فعله، وأنشد من هذا ما رواه بعضهم من أن المعنى في قوله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} ظن أننا تعجز عنه، وهذا كفر، فمن ظن أن الله تعالى لا يقدر عليه، لا يجوز هذا كله على أنبياء الله تعالى.
وفي هذه الآية دلالة على أن الصغائر تجوز على الأنبياء - علبهم السلام، وهم معصومون عن الكبائر، ومعصومون عن الكبائر والصغائر في حال الرسالة.
وكان بقاء يونس - عليه السلام - في بطن الحوت حياً معجزة له.

(1/331)


وقيل في قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} معناه: من الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي قبل الإذن.
ومغاضب: اسم الفاعل من غاضب، و (فاعل) في غالب الأمر إنما يكون من اثنين، نحو: قاتلته وضاربته، إلا أن (مغاضباً) هاهنا من باب: عاقبت اللص وعافاه الله وطارقت النعل. وما أشبه ذلك في أنه من واحد.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98] .
قال ابن عباس: حصب جهنم وقودها، وقال مجاهد: حطبها، وقال الضحاك: يرمون فيها كما يرمى بالحصباء، وقيل: الحصب كل ما ألقي في النار.
حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد عن أبي النجم عصام بن منصور عن أبي بكر عبد الله بن عبد الرحيم حدثنا أبو محمد عبد الملك ابن هشام حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معه، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر بن الحارث، فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عبد الله ابن الزبعري حتى جلس، فقال له الوليد ابن المغيرة: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن الزبعرى: والله لو وجدته لخصمته، فاسألوا محمداً، أكلُّ ما نعبد من دون الله في جهنم مع من عبده، فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيزاً والنصارى تعبد عيسى

(1/332)


ابن مريم - عليه السلام -، فعجي الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - عليه السلام - (من أحب أن يعبد من جون الله فهو مع من عبده في النار، إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته) . فأنزل الله تعالى عليه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102] . أي: عيسى وعزيز ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذتهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله، فنزل فيما ذكروا لأنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] إلى قوله: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، ونزل فيما ذكر من أمر عيسى - عليه السلام - وأنه يعبد من دون الله، وعجب الوليد ومن حضر من حجة عبد الله الزبعرى وخصومته {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] ، أي: يصجون عن أمرك، ثم ذكر عيسى، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] ، إلى آخر القصة، قال أبو ذؤيب في الحصب:
فأطفئ ولا توقد ولا تك محصبا لنار العداة أن تطير شكاتها
* * *
قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] .
الطي: نقيض النشر. واختلف في السجل:
فقيل: الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتابة، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
وقال ابن عمرو والسدي: السجل ملك يكتب أعمال العباد.
وروي عن ابن عباس من جهة أخرى أن السجل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

(1/333)


قرأ عاصم وحمزة من طريقة حفص والكسائي {لِلْكُتُبِ} وقرأ الباقون {لِلْكتَبِ} .
ويختلف حكم (اللام) في قوله: (للكتاب) و (للكتب) بقدر اختلاف العلماء في معنى (السجل) :
فعلى مذهب من جعل (السجل) ملكاً وكاتباً فـ (اللام) يتعلق لنفس (طي) ؛ لأن الكتب مفعولة في المعنى، وذلك أن التقدير: كما يطوي السجل الكتاب أو الكتب، وهذا القول: كضرب زيد لعمرو وأما على مذهب من جعل (السجل) الصحيفة فتحتمل (اللام) وجهين:
أحدهما: أن يكون الكتاب بمعنى الكتابة، والنقدير: يوم نطوي السماء كطي السجل للكتابة التي فبه، أي: من أجلها؛ ليصونها الطي، وهذا كما تقول: فعلت ذلك لعيون الناس، أي: من أجل عيون الناس.
والثاني: أن تعلقها بـ: {نَطْوِي} فيكون التقدير: يوم نطوي السماء للكتاب السابق بأنها تطوى كطي السجل، أي: كطي الصحيفة على ما فيها.