النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة الحج}
* * *
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] .
الزلزلة: شدة حركة الأرض، وزعم بعضهم: أن الأصل في (زلزل) : زل، فضوعف للمبالغة، وأهل البصرة يمنعون من ذلك يقولون (زل) ثلاثي، و (زلزل) رباعي، وإن اتفق بعض الحروف في الكلمتين؛ لأنه لا يمتنع مثل هذا، ألا ترى أنهم يقولونه: دمث ودمثر، وسبط وسٍ بطرٌ، وليس أحدهما مأخوذاً من الآخر، وإن كان معناها واحداً؛ لأن الزاي ليست من حروف الزيادة.
والساعة: كناية عن القيامة. والعظيم: نقيض الحقير.

(1/334)


والذهول: الذهاب عن الشيء دهشاً وحيرة، قال الشاعر:
صحا قلبه يا عز أو كاد يذهل
والحمل: بفتح الحاء، ما كان في البطن، والحملك بالكسر ما كان على ظهر أو رأس، أما ما كان على الشجرة فقد جاء فيه الفتح والكسر: فمن فتح فلظهوره عن الشجرة بالماء الذي يصيبها كظهور ما يكون على الظهر أو الرأس.
قال الشعبي وعلقمة: الزلزلة من أشراط الساعة في الدنيا، وروى الحسن في حديث يرفعه: أن زلزلة الساعة يوم القيامة.
قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، وتضع ما في بطنها لغير تمام، وتراهم سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر.
والفرق بين المرضع والمرضعة: أن المرضع التي أرضعت وانقطع رضاعها، والمرضعة هي التي ترضع ولم ينقطع رضاعها.
قال امرؤ القيس في المرضع:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
وإنما خصت التي في حال رضاعها بظهور التأنيث فيها؛ لأنه جار على الفعل، نحو: أرضعت فهي مرضعة، والثاني إنما هو على طريق النسب، أي: ذات رضاع، ويقال: رَضَاعٌ ورِضَاع ورَضاعةٌ ورِضَاعىٌ، ويقال: رضع بكسر الضاد وهي

(1/335)


الفصحى، ويقال: رضع بالفتح، وينشد هذا البيت على اللغتين:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
ويقال: سُكارى وسَكارى وهو الباب.
وقرأ بعضهم {سَكْارَى} شبهه بصريع وصرعى؛ ذلك أن السكران مشرف على الهلكة، وباب (فعلى) موضوع لهذا نحو: قتلى وصرعى وزمنى وهلكى.
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} :
يا: حرف نداء، وهو نائب عن الفعل الذي هو (أدعو) و (أنادي) ، واختلف قول أبي علي فيه: فمرة جعل فيه الضمير الذي كان في (أدعو وأنادي) ، ومرة قال لا ضمير فيه، وهو الوجه؛ لأن الحروف لا يضمر فيها.
وأي: منادى مفرد مبني على الضم، وكذا حكم كل منادى مفرد معرفة.
وإنما بني لأنه أشبه المضمر من ثلاث جهات:
أحدها: أنه مخاطب، والمخاطب لا يكون إلا مضكراً (كافاً) أو (تاء) .
والثانية: أنه معرفة كما أن المضمر لا يكون إلا معرفة.
والثالثة: أنه مفرد أي مضاف، كما أن المضمر لا يضاف.
فمتى سقطت واحدة من هذه الخصال أعرب المنادى.
و (ها) : عوض من قطع الإضافة عن (أي) ؛ لأنها لا تكون أبداً في غير هذا الموضع إلا

(1/336)


مضافة لفظاً أو معنى؛ لأنها تدل على بعض الشيء، وبعض الشيء مضاف إلى جميعه.
واشتقاقها من (أويت) ، ففعلوا بها ما فعلوا بـ: (طيَّ) و (لي) ، وأصلها (طوي) و (لوي) ، وكذا الأصل في (أي) (أوي) ، والاشتقاق في الأسماء المبهمة عزيز لا يكاد يوجد منه إلا حروف يسيرة لإيغالها في شبه الحرف، والحرف غير مشتق نحو: من وإلى وهل وما أشبه ذلك و {النَّاسُ} نعت لـ (أي) لا يستغنى عنه؛ لأنه المنادى في المعنى، وإنما جاءوا بـ: (أي) ليتوصلوا بها إلى نداء ما فيه الألف واللام، وكان أبو الحسن الأخفش يقول في (الناس) وما يجري مجراه: هو صلة لـ (أي) .
وأجمع النحويون على الرفع في {النَّاسُ} إلا المازني، فإنه أجاز النصب وشبهه بقولك: يا زيد الظريف، حمله على (أي) ، وهذا غير مرض منه؛ لأن (الظريف) نعت يستغنى عنه، وليس كذلك (الناس) .
و (الألف واللام) في (الناس) للعهد، وقيل للجنس، وتأول على قول سيبويه: أنهما بدل من الهمزة؛ لأن الأصل (أناس) فحذفت الهمزة، وجعلت (الألف واللام) عوضاً منها، وقال الفراء: الأصل (الأناس) فألقيت حركة الهمزة على (اللام) وحذفت، فصار (الناس) فاجتمع المتقاربان فأسكن الأول وأدغم في الثاني، وقال الكسائي: يقال يا ناس وأناس، فالألف واللام دخلتا على (ناس) . فمن قال: (أناس) أخذه من الأنس أو الإنس، وهو (فعال) ، ومن قال: (ناس) أخذه من ناس ينوس غذا ذهب وجاء، ومنه قيل: ذو نواس لذؤابة كانت عليه، ويجوز أن يكون من ناس في المكان إذا قام فيه، وإن كان (الناووس) عربياً كان مشتقاً من هذا، وقال ابن الأنباري هو من (نسيت)

(1/337)


والأصل فيه (نسي) ثم قلب فصار (نيساً) فقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فقيل: (ناس) ، ويبطل هذا بقول العرب في تصغيره (نويس) ولو يقولوا (نييس) ولا (نسي) .
والعامل في {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} [الحج: 2] {تَذْهَلُ} [الحج: 2] أي: تذهل كل مرضعة عما أرضعت وفي يوم ترونها.
* * *
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] .
الهاء في {عَلَيْهِ} تعود إلى الشيطان.
ويسأل عن قوله: {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] ، لم فتحت (أنَّ) ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه عطف على الأولى للتوكيد، والمعنى: كتب عليه أنه من تولاه يضله، وهذا قول الزجاج، وفيه نظر؛ لأن الأكثر في التوكيد إسقاط حرف العطف، إلا أنه لا يجوز كما يجوز (زيد) فأفهم في الدار.
والثاني: أن يكون المعنى: فلأنه يضله.
* * *
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]
الحرف: الطرف، والطمئنان: التمكن، والفتنة: هاهنا: المحنة، والانقلاب: الرجوع، والخسران: ضد الربح.
والمولى في الكلام على تسعة أوجه:

(1/338)


المولى: السيد، والمولى: العبد، والمولى: المنعم، المولى: المنعم عليه، والمولى: ابن العم، والمولى: واحد الموالي وهم العصبة، والمولى: الوليُّ، والمولى: الصهر، والمولى: الأولى، من قوله تعالى: {اللَّهِ مَوْلَاهُمُ} [الأنعام: 62] أي: أولى بهم، والمولى: الحليف.
وقيل المولى هاهنا: الولب والناصر، والعشير: الصاحب المعاشر.
قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] ، أي: شاكاً، وأصل الحرف: الطرف، ومن كان متطرفاً لم يطمئن ولم يثبت وكذلك هذا إنما عند الله على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف؛ لأنه لم يتمكن في الدين.
فصل:
ويسأل عن قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13] ، لم دخلت هذه (اللام) هاهنا، وأنتم لا تجيزون: ضربت لزيداً؟
وفي هذا للعلماء ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن في الكلام حذفاً، تقديره: يدعو والله لمن ضره أقرب من نفعه، فاللام على هذا جواب القسم المحذوف.
وجواب ثان: وهو أن اللام في موضعها، وفي الكلام تقديم وتأخير، والأصل: يدعو من لضره أقرب من نفعه، وهذا أن {يَدْعُواْ} معلقة؛ لأنها الذي ضره أقرب من نفعه يدعو، ثم حذفت (يدعو) الأخيرة للاجتزاء بالأولى منهما، ولو قلت: يضرب لمن خيره أكثر من شره يضرب، فحذفت الأخير لجاز، والعرب تقول: عندي لما غيره خير منه، كأنه قال: للذي غيره خير منه عندي، ثم حذف الخبر في الثاني والابتداء من الأول، كأنه قال عندي شيء غيره خير منه، وعلى هذا قالوا: أعطيتك لما غيره خير منه، على حذف الخبر. وقيل: المعنى لمن ضره أقرب من نفعه لا يجب لأن يدعى، قـ (منْ) على هذا القول والقول الذي قبله مبتدأ، والخبر محذوف، وعلى قول المبرد يكون موضعها نصباً بـ: (يدعو) .

(1/339)


وقد قيل: اللام زائدة.
* * *
قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]
يسأل عن قوله: {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، كيف ثنى ثم جمع؟
والجواب: أنه يراد بالخصمين هاهنا الفريقان من المؤمنين والكافرين اختصموا في يوم بدر، وهذا قول أبي ذر، وقال ابن عباس: الخضمان أهل الكتاب وأهل القرآن، وقال الحسن ومجاهد وعطاء: المؤمنون والكافرون، وهذا كقول أبي ذر إلا أن هؤلاء لم يذكروا يوم بدر.
ويجوز في الكلام: هذان خصم اختصموا، وهؤلاء خصم اختصموا، قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ، وذلك أن الخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة من المذكر والمؤنث، وهكذا حكم المصادر إذا وصف بها أو أخبر بها، نحو: عدل ورضا وصوم وفطر وزور ودنف وحري وقمن وما أشبه ذلك.
وقيل: كان أحد الخصمين (حمزة) مع قوم من المؤمنين خاصموا قوماً من أهل بدر من المشركين.
* * *
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] .
الأذان: الإعلام، وأصل الحج: القصد، والضامر: المهزول، والفج: الثنية، والعميق: البعيد.
والأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، فأما المعدودات: فأيام التشريق، هذا قول الحسن وقتادة، وسميت هذه معدودات لقلتها، وسميت تلك معلومات للحرص على علمها

(1/340)


بحسابها من أجل الحج في آخرها.
والبهيمة: أصلها من الإبهام؛ وذلك أنها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق.
والأنعام: الإبل خاصة، واشتقاقها من النعمة، وهي (اللين) سميت بذلك للين أخفافها؛ لأنها ليست كذوات الحافر، وقد يجتمع معها البقر والغنم، ويسمى الجميع أنعاماً اتساعاً، فإن انفردا لم يسميا أنعاماً.
والبائس: الذي به ضر الجوع، والفقير: الذي لا شيء له، كأن الحاجة فقرت ظهره، أي: كسرت فقاره، وفقار الظهر: الخرز التي تكون فيه، يقال: فقارة وفقار وفقرة وفقر.
والتفث: مناسك الحج كلها، وهذا قول ابن عباس وابن عمر، وقيل: التفث: كشف الإحرام وقضاؤه كحلق الرأس والاغتسال.
وقيل للبيت (عتيق) ؛ لأنه أعتق من أن يملكه الجبابرة، وهو قول مجاهد. وقيل: لأنه قديم، وهو أول بيت وضع للناس بناه آدم - عليه السلام -، وجدده إبراهيم - عليه السلام -، وهو قول ابن زيد وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هو أول بيت وضعت فيه البركة.
والطواف هاهنا طواف الإفاضة بعد التعريف إما يوم النحر وإما بعده وهو طواف الزيارة.
ويسأل عن قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} ، علام يعود الضمير؟ وفيه جوابان:
أحدهما: أنه يعود على (إبراهيم) قال ابن عباس: قام في المقام فقال: يا أيها الناس إن الله دعاكم إلى الحج، فأجابوا بلبيك اللهم لبيك.

(1/341)


وقال الحسن: الضمير يعود على النبي - عليه السلام -، أي: وأذن يا محمد في الناس بالحج، فأذن في حجة الوداع.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} ، أي: مشاة على أرجلهم، وهو جمع (راجل) ، كصاحب وصحاب، يدل على ذلك قراءة من قرأ {يَأْتُوكَ رِجَالًا} .
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : أي على جمع ضامر، أي مهزول من السفر، وقال {يَأْتُين} ؛ لأن كل ضامر في معنى الجمع، والجمع مؤنث، ويجوز أن يعنى بالضامر هاهنا الناقة، لأنه يقال: ناقة ضامر وضامرة وقد قرأ بعضهم {يَأْتِونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} ، حمل على المعنى: أي: يأتي ركاب كل ضامر من كل فج عميق.
قرأ الكسائي {ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الحج: 29] بإسكان اللام، وهذه القراءة فيها بعد عند البصريين من جهة إسكان (اللام) ؛ لأن هذه (اللام) أصلها الكسر، وإنما تسكن إذا وقع قبلها حرف يتصل بها كالواو والفاء كما يفعل بـ: (هو) إذا اتصلتا به، نحو: فهو وهو وما أشبه ذلك، فهذا مشبه بعضد في عضد، و (اللام) معها في نحو: فليقم وليخرج مشبهة بفخذ في فخذ وليست (ثم) مالفاء والواو؛ لأنه حرف قائم بنفسه يحوز الوقوف عليه، ولا يجوز الوقوف على الواو والفاء، إلا أن أبا علي اعتذر له بأن قال: (ثم) على ثلاثة أحرف ساكنة الأوسط فكأنه وقف على الميم الساكنة المدغمة ثم ابتدأ (ليقضوا) .
فأما في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا} {ولْيُوفُوا} وما أشبه ذلك فإسكان اللام حسن جميل، وكسرها جائز على الأصل، وكسر اللام في قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا) أقيس، والإسكان يجوز على الوجه الذي ذكره أبو علي.

(1/342)


قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] .
خاوية: خالية، وعروشها: سقوفها، هذا قول الضحاك، والمشيد: المجصص وهو المبني بالشيد وهو الحجارة والجيار، قال قتادة: مشيد رفيع، قال عدي بن زيد:
شاده مرمراً وجلله كِلـ ... ساً فللطيرِ في ذَراهُ وكُورُ
وقال آخر:
كحية الماء الطي والشيد
وقد عاب قوم من الملحدة قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} وقالوا: ما الفائدة في ذكر: بئر معطلة وقصر مشيد، وأبدوا فيه وأعادوا، وهذا لجهلهم بجوهر الكلام وغامض المعاني وإشارة البلاغة؛ لأن الله تعالى ذكر هذا وما أشبهه على طريق العظة ليعتبر بذلك، ألا تراه تعالى قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] ، يريد: لو ساروا لرأوا آثار قوم أهلكهم وأبادهم، ومازالت العرب تصف ذلك في خطبها ومقامتها، يروى عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان يقول في خطبته: (أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط، أين مشيدو القصور وعامروها، أين جاعلو العجيب فيها لمن بعدهم، تلك منازلهم خاوية، وهذه منازلهم في القبور خالية {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ) وكان سلمان إذا مر بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأولون؟.

(1/343)


قال الأسود بن يعفر:
ماذا أؤمل بعد آل محرق تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرضاً تخيرها لدار أبيهم كعب بن مامة وابن أم دؤاد
جرت الرياح على مكان ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به يوماً يصير إلى بلى ونفاد
ويروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه سمع رجلاُ ينشد هذه الأبيات فتلا: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 25-28] .
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: علام عطف {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45] ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على قرية، فيكون المعنى: إهلاك القرية والبئر المعطلة والقصر المشيد.
والثاني: أن يكون معطوفاً على عروشها، فيكون المعنى: وكم من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وعلى البئر [بئر] معطلة وقصر مشيد.
قال المفسرون: تهدمت الحيطان على السقوف وتعطلت بئرها وقصرها المشيد.
والبئر: مؤنثة، وجمعها: آبار وأبور في القلة، وفي الكثرة: بئار.

(1/344)


قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] .
التمني في الكلام على ثلاثة أضرب:
أحدها: التلاوة وشاهده الآية، وقال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادير
والثاني: ما يتمناه الإنسان من الأماني.
والثالث: الكذب ومنه قول عثمان: (والله ما تمنيت منذ أسلمت) ، ومر أعرابي بابن داب وهو يحدث، فقال له: أهذا شيء سمعته أم تمنيته.
والأمنية في الآية: التلاوة، قال ابن عباس والضحاك وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس: نزلت هذه الآية لما تلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترجى) ، وكان هذا من إلقاء الشيطان.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز عليه الغلط في تلاوته؟ وفيه جوابان:
أحدهما: أنه كان على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر، فنبهه الله تعالى على ذلك.
والثاني: أنه إنما قاله في تلاوة بعض المنافقين عن إغواء الشيطان، فأوهم أنه من القرآن.
وقوله: {مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] في موضع نصب، والمعنى: ما أرسلنا من

(1/345)


قبلك رسولاً ولا نبياً، و (من) زائدة، ومثله {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ، أي: خيلاً ولا ركاباً.
* * *
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج: 63] .
اللطيف: المحيط بتدبير دقائق الأمور، الذي لا يخفى عليه شيء يتعذر على غيره، فهو لطيف لاستخراج النبات من الأرض بالماء، وابتداع ما يشاء، وقيل: اللطيف الذي يلطف بعباده من حيث لا يحتسبون.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: بم ارتفع {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63] وقبله استفهام، وهلا انتصب على حد قولك: أفتأتني فأكرمك؟
والجواب: أنه خبر في المعنى، وإن خرج مخرج الاستفهام، كأنه قال: قد رأيت أن الله تعالى ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة، وهو تنبيه على ما قد كان رآه ليتأمل ما فيه.
قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القواء فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
ومعناه: سألته فنطق، وإن شئت قلت معناه: فهو ينطق، وكذا في الآية: فهي تصبح.
{ومن سورة المؤمنين}
* * *
قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنين: 20] .

(1/346)


طور سناء: جبل الشام، وهو الذي نودي موسى - عليه السلام -، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه جبل البركة، وقال الضحاك وقتادة: معناه الحسن، وقال ابن الرماني: يجوز أن يكون رفيعاً من (السناء) ، وفي هذا القول نظر؛ لأنه جعله (فيغالاً) ، نحو: ديماس، وهذا الوزن منصرف، وسيناء غير منصرف، إلا أن للمحتج له أن يقول: جعل اسما للبقعة وهو معرفة؛ فلم ينصرف لذلك، ولا يجوز أن تكون همزته للتأنيث؛ لأن همزة التأنيث لا تدخل فيما كان على هذه البنية: مما لأوله مكسور، وإنما يكون هذا البناء ملحقاً نحو: علباء وزيزاء وما أشبه ذلك، ولا يوجد في الكلام مثل: حمراء بكسر الحاء، وهذا على قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير؛ لأنهم قرؤوا بكسر السين، وقرأ الباقون بفتح السين، فعلى هذا يجوز أن تكون همزته للتأنيث فيكون (سيناء) مثل (بيضاء) ، وفيه لغة أخرى وهي: طور سنين، وجاء القرآن باللغتين.
والأطوار: جبال بالشام طور سيناء وطور زيتاء وهما بأرض بيت المقدس.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير {تَنْبُتُ} بضم التاء، وقرأ الباقون بفتحها.
واختلف في هذه (الباء) :
فقال قوم: يقال (نبت) و (أنبت) بمعنى، وأنشد الأصمعي لزهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل
فالباء على هذا لتعدي الفعل.
وقيل: الباء زائدة، والمعنى: تنبت الدهن كما قال الشاعر:

(1/347)


نحن بنو جعدة أرباب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي: نرجو الفرج.
وقيل: (الباء) ليست بزائدة، والمفعول محذوف و (الباء) في موضع نصب على الحال تقديره: تنبت ثمرها بالدهن، أي: وفيه الدهن، كما قال الشاعر:
ومستنة كاستنان الخرو ف قد قطع الحبل بالمرود
أي: وفيه المرود.
فهذا على مذهب من ضم (التاء) ، فأما من فتحها فيجوز وجهان:
أحدهما: أن تكون للتعدي على حد قولك: ذهبت بزيد، وأنت تريد: أذهبت زيداً فكأنه في التقدير: تنبت الدهن، ومثله: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] ، أي: تنيء العصبة، وليس قول أبي عبيدة إنه مقلوب، وإن المعنى فيه: ما إن مفاتحه لتنوء العصبة بها بشيء لأن هذا القلب إنما يقع من الضرورة نحو قول الشاعر:
كانت فريضة ما أتيت كما كان الزناء فريضة الرجم
وكذا قوا امرئ القيس:
يضيء الفراش وجهها لضجيعها كمصباح زيت في قناديل ذبال
أي: في ذبال قناديل:
والثاني: ان تكون (الباء) في موضع نصب على الحال، والتقدير:

(1/348)


تنبت وفيها الدهن، أي: تنبت دهنه، ومثله، خرج بثيابه، والمعنى: خرج لابساً ثيابه، وهو في الكلام كثير.
* * *
قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36] .
معنى هيهات: بعد، والتقدير: بعداً لما توعدون، وهو صوت مثل: صه ومه، وهذه الأصوات إنما تأتي في الأغلب في الأمر والنهي، إلا أن هذا جاء في الخبر، ونظيره (شتان ماهما) أي: بعد بعضهما من بعض جداً.
وهذه الأصوات كلها مبنية لإيغالها في شبه الأفعال، وإنما جعلت هكذا للإفهام بها كما تفهم البهيمة بالزجر.
قال ابن عباس: المعنى في (هيهات) بعد بعيد، والعرب تقول: هيهات لما تبغي وهيهات منزلك، قال جرير:
فأيهات أيهات العقيق ومن به وأيهات خل بالعقيق نواصله ويقال هيهات وأيهات، وفي (هيهات) لغات: منهم من يقول: هيهات على أنه واحد، واختلف في الوقف عليها، فاختار الكسائي الوقف بالهاء؛ لأن التاء زائدة، واختار الفراء الزقف بالتاء، لأن قبلها ساكناً فصارت كتاء (بنت) و (أخت) .
والثاني: أن من العرب من يقول: هيهاتُ هيهاتُ بالضم.
والثالث: أن منهم من يقول: هيهاتِ بالكسر.
والوقف على هذين الوجهين بالتاء؛ لأنها بمنزلة التاء في مسلمات، وهي (تاء) جمع، وليس (هيهات) على هذه اللغة واحداً.
ومن العرب من ينون فيقول: هيهاتاً، وهيهاتٌ، كذلك قال الزجاج وغيره.
والفرق بين التنزين وحذفه: أن من نون جعل هذه الأسماء نكرة، ومن لم ينون جعلها

(1/349)


معرفة؛ والتنوين يدخل في الأصوات للفرق بين المعرفة والنكرة، نحو: إيِه وإيٍه، وغاقِ وغاقٍ في حكاية صوت الغراب، وكذلك: ماءِ ماءٍ في حكاية صوت الشاء.
ومن العرب من يقول: هيهاهِ هيهاهِ بالهاء. وموضع {لِمَا تُوعَدُونَ} رفع؛ أن المعنى: بعد ما توعدون.
* * *
قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44]
معنى تترى: يتبع بعضهم بعضاً، كذا قال ابن عباس ومجاهد وابن زيد.
وأصلها من (المواترة) ، وكان قبل العلب (وترى) فأبدل من الواو تاء؛ لأن التاء أجلد من الواو وأقوى، كما فعلوا في: تخمة وتمة لأنهما من الوخامة والوهم، وكذلك تجاه وتراث وتولج وما أشبه ذلك.
والعرب تختلف في (تترى) :
فمنهم من ينونها فيقول {تَتْراً} وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير، والألف على هذا الإلحاق بمنزله (علقى) الملحق بجعفر، و (أرطا) في أحد القولين. والأصل (تَتْرَيٌ) فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومن كانت هذه لغته لم يمل.
ومنهم من يقول: (تترى) بغير تنوين، يجعل الألف للتأنيث، وبذلك قرأ الباقون، ومنهم من يميل؛ لأنها ألف تأنيث بمنزلة الألف التي في غضبى وسكرى، ومنهم لا يميل على الأصل.

(1/350)


قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]
الطيبات هاهنا: الحلال، وقيل: الطيبات ما يستلذ، فعلى الوجه الأول يكون أمراً واجباً، وعلى الثاني يكون أمراً على طريق الإباحة.
والأصل في (كلوا) (أؤكلوا) ، فكره اجتماع همزتين، فحذفت الثانية استثقالا لها؛ لأن الثقل بها وقع، فوليت همزة الوصل متحركا فحذفت للاستغناء عنها.
واختلف في قوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ} [المؤمنون: 51] :
فقيل: هو خطاب لعيسى - عليه السلام -، وهو خطاب لواحد، كما تخاطب الواحد مخاطبة الجمع: نحو قولك للواحد: يا أيها القوم كفوا عنا أذاكم.
وقيل هو للحكاية لما قيل لجميع الرسل.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (إِنَّ) من قوله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] ؟ وفيها جوابان:
أحدهما: أ، موضعها نصب، والتقدير: ولأن هذه أمتكم، فهي مفعول له.
والثاني: أن موضعها جر على العطف على قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} [المؤمنون: 51] .
وفي قوله: {وَأَنَا رَبُّكُمْ} [المؤمنون: 52] تقوية لقول سيبويه في قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] ، وعطفه على موضع {أَنَّ} ، وموضع

(1/351)


الدليل من هذه الآية: أن {أَنَاْ} من ضمائر الرفع، وقد عطفه على {أَنَّ} على مذهب من جعلها في موضع نصب.
ونصب {أُمَّةً وَاحِدَةً} على الحال، والكوفيون يسمون الحال (قطعاً) ، وربما قالوا: نصب على الاستثناء.
واختلف في الأمة هاهنا:
فقيل: الأمة الملة، وهوقول الحسن وابن جريج، أي: دينكم دين واحد، والأمة قد تقع على الدين، نحو قوله: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] أي: على دين.
قال النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
وقيل: الأمة هاهنا الجماعة، والمعنى: جماعتكم جماعة واحدة في الشريعة، والجماعة تسمى أمة. نحو قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] .
والأمة في غير هذا المكان: الحين، ومنه: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] .
والأمة: الرجل العالم المنفرد، نحو قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] .
والأمة: القرن من الناس وغيرهم، نحو قوله تعالى: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] .
والأمة: القامة، نحو قول الشاعر:
وإن معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمم
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] .

(1/352)


اختلف في {اسْتَكَانُوا} :
فقيل: هو (استفعل) من الكون، والمعنى: ما طلبوا الكون على صفة الخضوع.
وقيل: هو من (السكون) ، إلا أن الفتحة أشبعت فنشأت منها ألف، فصار (استكانوا) ، وهو على هذا القول (افتعلوا) ، أي: استكنوا، قال الشاعر في إشباع الفتحة:
فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
أي: بمنتزح، وقال عنترة:
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكرم
يريد: ينبع، فأشبع الفتحة على ما قدمنا.
* * *
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] .
يسأل: لم جاز {ارْجِعُونِ} بلفظ الجمع؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه استغاث أولا بالله تعالى واستعان به، ثم رجع إلى مسألة الملائكة في الرجوع إلى الدنيا هذا القول رواه ابن جريج.
والثاني: أن العظماء يخبرون عن أنفسهم كما تخبر الجماعة، فخوطبوا كما تخاطب الجماعة.
والثالث: أنه جمع الضمير ليدل على التكرار، فكأنه قال: رب ارجعن ارجعن ارجعن، وهذا قول المازني.

(1/353)


{ومن سورة النور}
* * *
قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1] .
في (السورة) للعلماء أقوال:
أحدها: أنها مأخوذة من سور البناء، وهي ارتفاعه، وقيل: هو ساف من أسوافه، فعلى القول الأول تكون تسميتها بذلك لارتفاعها في النفوس، وعلى القول الثاني تكون تسميتها بذلك لأنها قطعة من القرآن.
وقيل: السورة الشرف والجلالة، قال النابغة.
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهم كوكب
وقيل: أصلها الهمزة واشتقاقها من (أسأرت) إذا أبقيت في الإناء بقية، ومنه الحديث: (إذا شربتم فأسئروا) ، إلا أنه اجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف (برية) و (روية) وهما من: برأ الله الخلق وروأت في الأمر.
وأصل الفرض: الحز، ثم اتسع فيه فجعل في موضع الإيجاب.
والرأفة: التحنن والتعطف، يقال: رأفة ورآفة.
والطائفة هاهنا: رجلان فصاعداً، وهو قول عكرمة، وقيل: ثلاثة فصاعداً، وهو قول قتادة والزهري، وقيل: أقله أربعة، وهو قول ابن زيد.
واختلف في قوله: {فَرَضْنَاهَا} :

(1/354)


فقيل: معناه فصلنا فيها فرائض مختلفة، كما تقول: فرضت له كذا، أي جعلت له نصيبا منه.
وقيل: أوحيناها عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة.
فصل:
ومما يسأل عنه قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] ؟ وفي هذا أجوبة:
أحدها: أنها نزلت على سبب. وهو أن رجلا من المسلمين استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يتزوج (أم مهزول) ، وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية، وهذا قول عبد الله بن عباس وابن عمر، قال مجاهد والزهري وشعبة وقتادة والشعبي: حرم الله تزويج أصحاب الرايات.
والثاني: أن النكاح هاهنا الجماع، والمعنى: أنهما اشتركا في الزنا فهي مثله، وهذا قول الضحاك واين زيد وسعيد بن جبير، وروي مثل ذلك عن ابن عباس في أحد قوليه.
والثالث: أن هذا الحكم كان في كل زان وزانية ثم نسخ بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ، وهو قول سعيد بن جبير، ووجه هذا: أن يكون قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} [النور: 3] خبرا وفيه معنى التحذير، فكأنه نهي في المعنى، ثم نسخ؛ وإنما احتيج إلى هذا التأويل من قبل أن النسخ لا يصح في الأخبار، وإنما يصح في الأوامر والنواهي.
ويسأل عن قوله تعالى: {سُورَةٌ} بم ارتفع؟
والجواب: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه سورة، ولا يجوز أن يكون مبتدأ: لأنها نكرة ولا يبتدأ بالنكرة حتى توصف، وإن جعلت {أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} صفة لها بقي

(1/355)


المبتدأ بلا خبر، هذا قول أكثر العلماء.
ويجوز عندي أن تكون مبتدأة على إضمار الخبر، والتقدير: فيما يتلى عليكم سورة أنزلناها، ولا يجوز أن نقدر هذا الخبر متأخراً؛ لأن خبر النكرة يتقدم عليها، نحو قولك: في الدار رجل، وله مال، ولا يحسن: رجل في الدار، ومال له؛ وإنما قبح ذلك لقلة الفائدة.
وقرأ عيسى بن عمر {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا} على إضمار فعل يفسره {أَنْزَلْنَاهَا} ، والتقدير: أنزلنا سورة أنزلناها، إلا أن هذا الفعل لا يظهر؛ لأن الظاهر يكفي منه.
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور: 2] مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما، هذا قول سيبويه، وتلخيصه: أن المعنى: فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني فاجلدوا؛ وإنما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأن المتلو إنما هو حكمهما لا أنفسهما.
والفاء دخلت في قوله: {فَاجْلِدُوا} جوابا لما في الكلام من الإبهام؛ إذ لا يقصد بها زانية بعينها ولا زان بعينه ولذلك رفعا.
ويجوز النصب على وجهين:
أحدهما: إضمار فعل يدل عليه {فَاجْلِدُوا} .
والثاني: أن يكون منصوبا بـ: (اجلدوا) على تقدير زيادة الفاء، كما تقول: زيدا فاضرب.

(1/356)


قرأ ابن كثير {فَرَضْنَاهَا} بالتشديد و {رَأْفَةٌ} بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بالتخفيف وإسكان الهمزة، التشديد للمبالغة، وأما فتح الهمزة وإسكانها فلغتان.
* * *
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] .
الخبيث: نقيض الطيب.
واختلف في معنى قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] : فقال ابن عباس والضحاك ومجاهد والحسن: الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، والطيبات من الكلم للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من الكلم.
وقال ابن زيد: الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من السيئات، والطيبات من الحسنات للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال، للطيبات من الحسنات.
وقيل: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
ثم جمع ذلك في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] فرد الضمير على الطيبات والطيبين.
وقال الفراء {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني به عائشة - رضي الله عنها - وصفوان بن المعطل، وهوبمنزلة قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] والأم تحجب بالأخوين، فجاء على تقليب لفظ الجمع.

(1/357)


قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] .
النور: الضياء، ونقيضه الظلمة، والمشكاة الكوة في الحائط يوضع عليها زجاجة ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة، ويكون للكوة باب آخر يوضع المصباح فيه.
ويقال/ زُجاجة وزِجاجة وزَجاجة.
والمصباح: (مفعال) من الصبح، ويقال: مِصْبَحُ كمِفْتَاحٌ ومِفْتَحٌ.
واختلف في معنى قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : فقيل: منورهما بالشمس والقمر والنجوم، وهذا قول ابن عباس وأبي العالية والحسن.
وقيل: هادي أهل السموات والأرض، وهذا أيضا يروى عن ابن عباس.
وفي تقدير قوله: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من جهة الإعراب وجهان:
أحدهما: أن يكون على حد المضاف، تقديره: ذو نور السموات والأرض، ثم حذف على حد قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة: 177] ، وقوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
والثاني: أن يكون مصدراً وضع موضع اسم الفاعل، كما قال تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] ، أي: غائرا، وكما قالت الخنساء:
ترتع ما غفلت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
ويسأل عن الضمير في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} علان يعود؟ وفيه أجوبة:
أحدها: أنه يعود على اسم الله - عز وجل -، وهو قول ابن عباس، وفي هذا تقديران:
أحدهما: أن يكون على معنى: مثل نوره الذي جعله في قلب المؤمن كمشكاة صفتها

(1/358)


كذا وكذا، فأضاف النور إلى نفسه، كما يقال بيت الله، وناقة الله، للتعظيم لهما.
والثاني: أن يكون نور المصباح أعظم نور يعرفه الناس، فضرب الله تعالى المثل به، وشبه نوره بأعظم نور يعرفه الناس؛ لأنه تعالى خاطب العرب على قدر ما يفهمون.
وقال الحسن المعنى: مثل نور القرآن في القلب كمشكاة.
ويروى عن ابن عباس أيضاً: أن النور هاهنا (الطاعة) أي: مثل طاعة الله في قلب المؤمن.
وقيل: يعود الضمير على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: مثل نور النبي في المؤمنين.
واختلف في قوله: {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] :
فقال ابن عباس: لا شرقية تشرق عليها الشمس فقط، ولا غربية تغرب عنها الشمس فقط، بل هي شرقية غربية؛ لأنها أخذت بحظها من الأمرين. وروي عنه أيضا أنه قال: هي وسط الشجر.
وروي عن قتادة: أنها ضاحية للشمس.
وقال الحسن: ليس من شجر الدنيا، فتكون شرقية أو غربية.
وقوله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] ، أي: نور هدى التوحيد على نور الهدى بالقرآن، وقيل: نور على نور يضيء بعضه بعضا، وهو قول زيد بن أسلم.
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وعاصم من طريق حفص {دُرِى} بضم الدال، نسبوه إلى (الدر) في صفائه وبياضه، وقرأ أبو عمرو والكسائي {دِرِّيءِ} بكسر الدال والهمز، أخذه من (الدرء) وهو الدفع، كأنه يدفع الظاهر بنوره، وقرأ حمزة وعاصم من طريق أبي بكر {دُرِّيءُ} بضم الدال والهمزة، وفي هذه القراءة نظر؛ لأن (فعيل) في الكلام لم يأت منه سوى (مريق) وهو بناء شاذ.

(1/359)


وقرأ عاصم وحمزة من طريق أبي بكر {تُوقِدُ} بضم التاء والقاف مخففة، أعاد الضمير على الزجاجة، وقرأ أبو عمرو وابن كثير {تَوقَدَ} فتح التاء والقاف والدال، أعاد الضمير على المصباح، وجعلا الفعل ماضيا، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {يُوقِدُ} بالياء مخففا، أعادوا الضمير على المصباح أيضا، وجعلوا الفعل مستقبلا لما لم يسم فاعله.
واختلف في المشكاة: فقيل: هي رومية معربة.
قال الزجاج: يجوز أن تكون عربية؛ لأن في الكلام مثل لفظها (شكوة) وهي قرية صغيرة، فعلى هذا تكون (مشكاة) (مفعلة) منها، وأصلها، مشكوة، فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
* * *
قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] .
اللجنة: معظم البحر الذي لا يرى له ساحل.
ومعنى الآية: أن أعمال الذين كفروا كسراب بقيعة في أنه يظن شيئا وليس بشيء، وهذا من التشبيه المعجز؛ لأنه تشبيه ماله حقيقة بما ليس له حقيقة، لما كان عاقبة ماله حقيقة إلى لا شيء.
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ} في أن أعمالهم مظلمة، وبالغ الله تعالى في صفة هذه الظلمات لكثرة حيرة الذين كفروا في أعمالهم وجهلهم.
واختلف العلماء في قوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} :
فقال الجمهور من العلماء المعنى: لا يراها ولا يقارب رؤيتها؛ لأن دون هذه الظلمة لا يرى فيها.

(1/360)


وقال بعضهم: يراها بعد جهد ومشقة رؤية تخيل لصورتها؛ لأن حكم (كاد) إذا لم يدخل عليها حرف نفي أن تكون نافية، وإن دخلها حرف نفي دلت على أن الأمر وقع بعد بطء. فالأول كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] ، فهذا نفي إلا أنه قارب ذلك، وقال: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] ، والمعنى فعلوا بعد بطء.
وقيل: (كاد) هاهنا دخلت للنفي كما يدخل الظن بمعنى اليقين، قال الحسن: لم يرها ولم يقارب الرؤية، قال الشاعر:
ما كدت أعرف إلا بعد إنكار
وقال ذو الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد على كل حال حب مية يبرح
ويروى: رسيس الهوى من حب مية يبرح.
والظلمات: ظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة الليل، وكذا حال الكافرين ظلمة واعتقادهم ظلمة ومصيرهم إلى ظلمة؛ وهي نار يوم القيامة.
* * *
قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43] .
البرد: حجارة تنعقد من الثلج، والسنا: النور.
قيل: في السماء جبال برد مخلوقة، وقيل: بل المعنى قدر جبال يجعل منها بردا.

(1/361)


واختلف النحويون في {مِن} الثانية والثالثة:
فجعل بعضهم الثانية زائدة، فعلى هذا المعنى يكون التقدير: ينزل من السماء جبالا فيها من برد، و {مِن} في قوله: {مِنْ بَرَدٍ} لبيان الجنس، كما قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] . وقال بعضهم: الثالثة زائدة، والمعنى على هذا: وينزل من السماء من جبال فيها بردا، أي: وينزل من السماء بردا من جبال فيها، فهذا يدل على أن في السماء جبال برد، و {مِنَ} الثانية على هذا القول لابتداء الغاية، وهي مع {جِبَالٍ} بدل منقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} بإعادة الجار، كما قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَا} [الأعراف: 75] ، وهو بدل الاشتمال؛ لأن السماء تشتمل على الجبال، كما تقول: يعجبني شعبان الصوم فيه، أي: يعجبني الصوم في شعبان.
* * *
قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 57] .
الحسبان والظن سواء، يقال: حسب يحسب بكسر السين وفتحها، يروى أن الفتح لغة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقرأ حمزة وابن عامر: {ولَا يَحْسَبَنَّ} بالياس وفتح السين، فـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} على هذا فاعلون، والمفعول الأول ليحسبن محذوف، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين أو إياهم معجزين، وحسن حذف المفعول الأول لأنه هو الذي كان مبتدأ، وحذف المبتدأ جائز لدلالة الخبر عليه، نحو قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] أي: أمرنا حطة أو طلبتنا حطة، وكذلك: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] أي: طلبتنا طاعة.
وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين، فلا حذف على هذه القراءة؛ لأن الفاعل مضمر،

(1/362)


وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كفروا مفعول أول، ومعجزين مفعول ثاني.