النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة الفرقان}
* * *
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27]
هذه الآية نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، قال ابن عباس: صنع عقبة طعاما ودعا أشراف مكة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فامتنع أن يطعم أو يشهد عقبة بشهادة الحق، ففعل ذلك، فأتاه أبي بن خلف وكان خليله فقال، أصبوت؟ فقال: لا، ولكن دخل علي رجل من قريش فاستحييت أن يخرج من منزلي ولم يطعم، فقال: ما كنت لأرضى حتى تبصق في وجهه، وتفعل به كذا وتفعل، ففعل ذلك. فأنزل الله - عز وجل - هذه الآية فيهما.
والظالم هاهنا: عقبة، والمكنى عنه: أبي، ولم يسميا؛ لتكون الآية عامة في كل من فعل فعلهما، ثم أبي بن خلف قتل يوم أحد قتله النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده كذا روى قتادة، وقتل عقبة يوم بدر صبرا.
* * *
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] .
قال بعض النحويين (الباء) في قوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} بمعنى: عن، والمعنى: فاسأل عنه خبيرا، و (الباء) تبدل من (عن) مع (سل) و (سألت) ، قال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
والخبير هاهنا: الله تعالى، هذا قول ابن جريج.

(1/363)


وقال بعضهم: (الباء) على أصلها، والمعنى: فاسأل بسؤالك خبيرا أيها الإنسان يخبرك بالحق في صفته، ودل (فاسأل) على السؤال، كما قالت العرب: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب، ودل عليه كذب، وكما قال الشاعر:
إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] .
نصب {سَلَامًا} ؛ لأنه ليس بحكاية، ولو كان حكاية لرفع، كما قال في آية أخرى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] ، أي: سلام عليكم، وإنما المعنى أنهم قالوا قولا يسلمون به.
قال سيبويه المعنى: قالوا سدادا من القول، أي: سلمنا منكم، قال سيبويه: ولم يؤمر المسلمون ذلك الوقت بالقتال، فأنزل، وهي منسوخة بآية القتال، ولم يتكلم سيبويه في شيء من الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية.
قوله - عز وجل -: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان: 69]
قيل معناه: يلقى جزاء الآثام كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .
أي: جزاء السيئة سيئة مثلها، وكذلك {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 48] ، أي: عقاب ما كانوا به يستهزئون؛ لأن ما كانوا به يستهزئون لا يحيق بهم يوم القيامة.
قرأ عاصم من طريقة أبي بكر {يُضَاعِفُ} و {يَخْلُدْ} بالرفع على الاستئناف والقطع، و {يَلْقَ} جواب الشرط الذي هو {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} .
وقرأ الباقون بالجزم، إلا أن اين عامر يقرأ {يُضَعَّفُ} بالرفع على الاستئناف، وابن كثير {يُضَعَّفْ} بالتشديد والجزم.

(1/364)


ووجه أنه بدل من {يَلقَ} ، ومثله قول الشاعر:
متى تأتينا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
فأبدل (تلمم) من (تأتنا) ، وبدل الفعل من الفعل لا يكاد يوجد إلى في الشرط والجزاء.
* * *
قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] .
يسأل عن توحيد (إمام) هاهنا، وهو يرجع إلى جماعة؟
وفيه خلاف:
قال بعضهم: وحد لأنه مصدر من: أم فلان فلانا إماما، كما تقول: قام قياما وصام صياما، ومن جمعه فقال (أئمة) فلأنه قد كثر في معنى الصفة.
وقيل: جاء على الجواب، كقول القائل: من أميركم؟ فيقول المجيب: هؤلاء أميرنا، قال الشاعر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل ليس لي بأمير
وقيل المعنى: واجعل كل واحد منا إماما، فأجمل والمعنى معنى التفصيل.
{ومن سورة الشعراء}
* * *
قوله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] .
يسأل عن قوله تعالى: {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لم أفرد وهما اثنان؟

(1/365)


وفيه خلاف:
قال بعضهم: المعنى: كل واحد منا رسول رب العالمين.
وقيل: الرسول في معنى الرسالة، فالتقدير على هذا ذوو رسول رب العالمين، وهذا كقولهم: رجل عدل، ورضا، ورجلان عدل ورضا، ورجال عدل ورضا، قال كثير:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي: برسالة.
وقيل: الرسول يقع على الاثنين والجميع، كما يقع على الواحد، قال الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر
* * *
قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]
قيل: في قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: اتخاذك بني إسرائيل عبيدا أحبط ذلك.
والثاني: أن المعنى أنك لما ظلمت بني إسرائيل ولم تظلمني اعتدت بها نعمة علي.
والثالث: أن المعنى: لا يوثق بهذه النعمة منك مع ظلمك بني إسرائيل في تعبيدك إياهم.
وكل ذلك حجة على فرعون وتقريع له.
ويجوز في موضع {أَنْ} وجهان:
أحدهما: أن تكون في موضع نصب مفعولا له، أي: لأن عبدت.
والثاني: أن تكون في موضع رفع على البدل من نعمة.

(1/366)


قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] .
{أَنْ يَعْلَمَهُ} في موضع نصب؛ لأنه خبر {أَوَلَمْ يَكُنْ} ، ويجوز أن تنسب {آيَةً} وتجعلها الخبر، وتجعل {أَنْ يَعْلَمَهُ} الاسم، ويجوز أن يكون قوله: {أَنْ يَعْلَمَهُ} مبتدأ والخبر {آيَةً} والجملة خبر {أَوَلَمْ يَكُنْ} واسمها مضمر فيها، كأنه في التقدير: أو لم تكن القصة لهم أن يعلمه علماء بني إسرائيل آية.
هذا على قراءة من قرأ بالتاء وأما من قرأ بالياء فإنه يضمر الأمر أو الشأن، ونحو من ذلك قول الشاعر:
إذا مت كان الناس صنفان شامت وآخر مثن بالذي كنت أصنع
أي: كان الأمر، وأنشد سيبويه لهشام أخي ذي الرمة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها وليس منها شفاء الداء مبذول
أي: ليس الأمر.
وعلماء بني إسرائيل يعني بهم: عبد الله بن سلام، هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
* * *
قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] .
الشعراء هاهنا: الذين تعاطوا معارضة القرآن.
والغاوون: أتباعهم كانوا يتبعونهم ليسمعوا ما يقولون ليشيعوه.

(1/367)


وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [الشعراء: 227] يعني به: حسان بن ثابت، وقيل يعني به: شعراء النبي - عليه السلام - كلهم، وقيل يعني به: شعراء المسلمين.
وعلى القول الأول جمهور العلماء.
وارتفع قوله: {والشعراء} بالابتداء، و {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الخبر، ويجوز النصب على إضمار فعل، كأنه في التقدير: ويتبع الغاوون الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم يحذف الأول لدلاله الثاني عليه، ومثله قولك: زيد ضربته، وزيدا ضربته، إلا أن الرفع أجود، ومن هنالك أجمع عليه القراء المشهورون.
وانتصب قوله: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ} [الشعراء: 227] ؛ لأنه نعت مصدر محذوف تقديره: وسيعلم الذين ظلموا منقلبا أي منقلب ينقلبون.
والعامل في (أي) (ينقلبون) ، ولا يجوز أن يعمل فيها (سيعلم) ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده، والعلة في ذلك: أن الاستخبار قبل الخبر، ورتبة الاستخبار التقديم، فلم يجز أن يعمل فيه الخبر؛ لأن الخبر بعده، وذلك أنه موضوع على أنه جواب مستخبر.
{ومن سورة النمل}
* * *
قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 6-7] .
الإيناس: الأبصار، والقبس: قطعة من النار، قال الشاعر:

(1/368)


في كفة صعدة مثقفة فيها سنان كشعلة القبس
والاصطلاء: التسخين إلى النار.
وفي (لدن) أربع لغات: لدن، ولدن، ولدى، ولد، والعرب مجمعة على جر ما بعدها إلا مع (غدوة) فإنهم قد ينصبونها بعد (لدن) ؛ وإنما نصبت بها لأن هذه النون شبهت بالنون في (عشرين) فنصب ما بعدها على التشبيه بالتمييز، هذا قول سيبويه.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى قوله: {أن بورك من في النار} [النمل: 8] ؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنه يعني به (الملائكة) .
والثاني: أنه يعني به (القديم تعالى) ، وحسن ذلك لكلامه لموسى - عليه السلام - من النار، وإظهار الآيات، وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال لامرأته {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] وهي واحدة؟
وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنه أقامها مقام الجماعة في الأنس بها والسكون إليها في الأمكنة الموحشة. والثاني: أنه على طريق الكناية، والعرب قد تستعمل مثل ذلك.
والبركة: ثبوت الخير، قال الفراء يقال، بارك الله لك وباركك، وبارك فيك، وبورك في زيد وبورك عليه. .

(1/369)


قرأ الكسائي وعاصم وحمزة {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} على البدل من (شهاب) ، وقرأ الباقون {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} على الإضافة.
قال الفراء: هو بمنزلة قوله: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} [يوسف: 109] ، مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف اسماه لفظاه. وهذا عند البصريين غلط؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، وإنما يضاف إلى غيره ليخصصه أو ليعرفه، فأما قوله تعالى: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} فتقديره عندهم: ولدار الساعة الآخرة، ثم حذف الموصوف وأقيمت صفتع مقامه، ومثله قوله تعالى: {حَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] ، إنما معناه: حب النبت الحصيد، ومن كلام العرب: صلاة الأولى ومسجد الجامع، والتقدير فيهما: صلاة الفريضة الأولى، ومسجد اليوم الجامع، وكذا قراءة من قرأ {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} إنما معناه: بشهاب نار؛ لأن الشهاب قد يقع على غير النار، فصار هذا من باب: ثوب خز، وخاتم فضة، والمعنى: من خز، ومن فضة، ومن قبس.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع {إِذ} ؟
والجواب: أن موضعها نصب بإضمار فعل، كأنه قال: اذكر إذ قال، وهذا قول الزجاج، وقال غيره: هو منصوب بـ: {عَلِيمٍ} أي: عليك إذ قال.
ويسأل عن موضع قوله: {أَنْ بُورِكَ} [النمل: 8] ؟
قال الفراء: يجعل {أَنْ} في موضع نصب إذا أضمرت اسم (موسى) في (نودي) ،

(1/370)


وإن لم تضمر اسمه في (نودي) فهي في موضع رفع، أي: نودي ذلك، قال: وفي حرف أبي بن كعب "أن بوركت النار". وتلخيص الوجه الأول: أن يكون المعنى: ونودي موسى بأن بورك، ثم حذف (الباء) فوصل الفعل إلى (أن) .
وتلخيص الوجه الثاني: أن يكون المعنى: ونودي البركة و {مَنْ حَوْلَهَا} في موضع رفع؛ لأنه معطوف على موضع (من) الأولى.
* * *
قوله تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]
الخبأ: أصله من خبأت الشيء أي سترته وأخفيته، وخبء السموات: الأمطار والرياح، وخبء الأرض: الأشجار والنبات.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (أن) من {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل: 25] ؟
والجواب أن التقدير مختلف:
أما من خفف {ألا يسجدوا} فإن المعنى عنده ألا يا قوم اسجدوا، فاسجدوا على هذه القراءة مبنى؛ لأنه أمر، والعرب تحذف المنادى وتدع حرف النداء ليدل عليه، قال الشاعر:
يالعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان منجار
والمعنى: يا قوم لعنة الله، وقيل: (يا) هاهنا للتنبيه، وليس بحرف نداء، قال ذو الرمة:
ألا يا اسلمي يا دارمي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر

(1/371)


روى الفراء عن الكسائي عن عيسى الهمداني قال:
لم أسمع المشيخة يقرؤونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، قال: وهي حرف عبد الله بن مسعود "هلا تسجدون" بالتاء، فهذا تقوية لقوله: (ألا يا) ؛ لأن قولك: (ألا) تقوم بمنزلة قولك: قم، وفي حرف أبي "ألا تسجدون"، قال: وهو وجه الكلام؛ لأنها سجدة.
ومن قرأ "ألا يسجدوا" فشدد، فلا ينبغي لها أن تكون سجدة؛ لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، فعلى هذا القول يكون موضع (أن) نصبا على البدل من {أَعْمَالَهُمْ} .
وقال علي بن عيسى المعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا.
وقيل موضع (أن) جر على البدل من {السَّبِيلِ} ، كأنه قال: فصدهم عن أن يسجدوا، و (لا) على هذا الوجه زائدة.
* * *
قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]
يسأل عن معنى قوله: {كَرِيمٌ} ؟
وفيه أجوبة:
أحدها: أنه مختوم وذلك لكرمه.
والثاني: أنه جعلته كريما لكرم صاحبه، فإنه من عند ملك:
والثالث: أنه حقيق بأن يؤمل الخير العظيم من جهته.
والرابع: أن الطير حملته وذلك لكرمه.
والخامس: أنه جعلته كريما من قبل أن صاحبه يعطيه الجن والإنس.
وقيل: أنها قالت كريم قب أن تعلم أنه من سليمان، قال الفراء: ولا يعجبني ذلك؛ لأنهم زعموا أنها كانت قارئة قد قرأت الكتاب قبل أن تخرج إلى ملئها.

(1/372)


والملأ: الأشراف لأنهم ملاء بما يراد منهم.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف قال: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] ولم تكن تلك اللغة عربية، وقال علي بن عيسى: هو حكاية للمعنى، وقيل: بل كان بالعربية؛ لأن المكتوب إليها كانت من العرب، وهي بلقيس بنت شراحيل، وقيل: هي بنت الهدهاد الحميري.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قدم {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} [النمل: 30] على قوله {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن قوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} كان عنوانا.
والثاني: أن (الواو) لا ترتب، فالكلام على التقديم والتأخير، قال حسان:
بهاليل منهم جعفر وابن أمة علي ومنهم أحمد المتخير
والثالث: أن الكتاب إلى كافرة فخشي سليمان أن يكون منها مكروه في اسم الله تعالى فقدم اسمه قبله.
والقراءة {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} بالكسر، قال الفراء: ولو فتحت (إن) والتي قبلها لكان حائزا على قولك: ألقي إلى أنه من سليمان وأنه اسم الله، وقع التكرير على الكتاب، فعلى هذا يكون موضعها رفعا على البدل من الكتاب، قال: ويجوز نصبها على سقوط الجار منهما، قال: وهي في قراءة أبي: "وأن بسم الله الرحمن الرحيم"، وفي ذلك حجة لمن فتحهما؛ لأن (أن) إذا كانت مخففة مفتوحة مع الفعل، أو ما يحكى لم تكن إلا مخففة النون.
* * *
قوله تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ} [النمل: 31-32] .

(1/373)


يسأل عن موضع (أن) من قوله: {أَلَّا تَعْلُوا} ؟
والجواب: أنها تحتمل أن تكون في موضع رفع على البدل من كتاب، كأنه قال: ألقي إلي أن لا تعلوا علي.
ويجوز أن تكون في موضع نصب على تقدير: بأن لا تعلو علي.
قال الزجاج: كان الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله سليمان إلى بلقيس بنت شراحيل: لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) .
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] .
قال الزجاج: يروى أنه كان معها ألف (قيل) ، مع كل (قيل) مائة ألف رجل، ولذلك قالوا:
قال: وقيل كان من كل (قيل) ألف رجل، وهذا أشبه.
وجاء أنهم عرضوا عليها القتال بقولهم: نحن أولو قوة، عن ابن زيد.
ومعنى قوله: {أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] خربوها.
وقوله: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] استبعدوهم، قال ابن عباس: وذلك إذا دخلوا عنوة. وقيل في قوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] أنه من قول الله تعالى، وأن كلامها ينقضي عند قوله: {أَذِلَّةٌ} ، فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
وقيل: هو من كلامها.

(1/374)


قال الزجاج: أنفذت إليه لبنة من الذهب مع امرأة في حريرة، فأمر سليمان أن يطرح لبن من ذهب ولبن من فضة تحت أرجل الدواب، ليريها هوان ما بعثت به.
قال الفراء: ذكروا أن رسولها مع الهدية كانت امرأة واحدة.
قال علي بن عيسى: قيل أرسلت إليه بوصائف وغلمان على زي واحد، وقالت: إن ميز بينهما ورد الهدية، وأبي إلا المتابعة على دينه فهو نبي، وإن قبل الهدية فإنما هو من الملوك، وعندنا ما نرضيه به، وهو قول ابن عباس.
قال الفراء: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 36] إنما يريد: فلما جاء الرسول سليمان، قال: وهي في قراءة عبد الله "فلما جاءوا سليمن" على الجمع، ولم يقل جاؤوا، وصلح (جاء) لأن المرسل كان واحداً يدل على ذلك قول سليمان: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} [النمل: 37] ، فعلى هذا القول يكون الضمير في (جاء) عائداً إلى الرسول.
قال غير الفراء: الضمير يعود على المال، أي: فلما جاء المال سليمان؛ لأن قوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] يدل على ذلك.
وقيل: يعود على المرسل؛ لأن قولها: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ} [النمل: 35] يدل عليه.
وقيل: يعود على المهدى؛ لأن المهدى والهدية سواء.
وقيل في قوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، إنه جمع في موضع الواحد، وقد تقدم شرح هذا فيما مضى من الكتاب.
* * *
قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] .
قال ابن عمر: إذا لم يأمر الناس بمعروف ولم ينهوا عن منكر خرجت الدابة.
وجاء في خبر مرفوع أنها تخرج من شعب بني مخزوم.

(1/375)


واختلف في معنى قوله: {تُكَلِّمُهُمْ} :
فيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن المعنى تكلمهم بما سوؤهم من أنهم صائرون إلى النار، وأنها تكلمهم كلاماً صحيحاً يفهمونه.
وقيل: إنها تكتب على جبين الكافر (كافر) وعلى جبين المؤمن (مؤمن) .
والثاني: أن معنى (تكلمهم) يجرحهم من الكلم، [70/ب] وشدد لتوكيد الفعل والمبالغة فيه.
والثالث: أن كلامها: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] .
وقيل: إنما تخرج من بين الصفا والمروة.
وموضع {أَنَّ} في مذهب من فتحها نصب، والمعنى: بأن الناس.
قال الفراء: وفي قراءة عبد الله {بأَنَّ النَّاسَ} ، وهذا يؤكد النصب، وفي قراءة أبي {تُبينُ لُهم أَنَّ النَّاسَ} ، وهذا حجة لمن فتح {أَنَّ} إلا أن أهل المدينة يكسرونها على الاستئناف.