النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
القصص}
* * *
قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص: 8] .
(1/376)
اللام في {لِيَكُونَ} لام كي، أي: لكي يكون
لهم، إلا أنه أخبر بعاقبة الأمر، ولهذا يسميها بعض النحويين
(لام العافية) ، ويسميها قوم (لام الصيرورة) ، أي: فصار لهم
عدواً، ومثل هذه اللام قولهم: تلد للموت، ويبني للخراب، أي:
هذا عاقبة ما تلم وما يبني، وهذه اللام (لام الجر) دخلت على
الفعل فأضمر بعدها (أن) ليكون (أن مع الفعل) بتأويل المصدر،
والمصدر اسم، وتكون اللام داخله على اسم؛ لأنها من عوامل
الأسماء، ويجوز إظهار (أن) مع هذه اللام، تقول: جئتك لأن
تكرمني وما أشبه ذلك.
قال ابن إسحاق: التقطوه ليكون لهم ولداً فكان عاقبة أمره أن
كان لهم عدواً وحزناً.
قال قتادة في قوله: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] أن
المعنى فيه: أنهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه.
* * *
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33]
جاء في التفسير أن موسى - عليه السلام - أخذ بلحية فرعون وهو
صغير، فقال فرعون لامرأته: هذا الذي نخافه أن يذهب بملكنا، ألا
تري ما فعل؟ فقالت: إنه صغير لا يعقل ما يفعل، ولكن ألق بين
يديه ذهباً وجمرةً من النار، فإن أخذ الذهب كان كما قلت، وإن
أخذ الجمرة علمت أنه يفعل ما يفعله بغير عقل، ففعل فرعون ذلك،
فأراد موسى أن يأخذ الذهب فصرفه عنه جبريل - عليه السلام -،
فأخذ الجمرة فأحرقت يده فجعلها في فيه فلذلك صار لا يفصح، وهو
معنى قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه: 27]
؛ لأن تلك العقدة حدثت من الجمرة.
(1/377)
وقرأ حمزة وعاصم {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي}
[القصص: 34] بضم القاف على النعت، وقرأ الباقون بالجزم على أنه
جواب الدعاء، ومثله قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:
5-6] ، قرئ رفعاً وجزماً.
وأهل المدينة يخففون الهمزة فيقولون: "رِدَاً يُصَدِّقُنِي"
* * *
قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا
كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ} [القصص: 68] .
جاء في التفسير أن المعنى: ويختار للنبوة من شاء.
{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أن يتخيروا غير ما اختار
اللهتعالى؛ لأنهم لا يعلمون وجه المصلحة.
قال الحسن: ما كان لهم أن يختاورا الأنبياء فيبعثوهم.
قال الفراء: يقال (الخِيْرَة والخِيَرَة) و (الطَيْرة
والطِيَرَة) .
و {مَا} في قوله: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} نفي، والوقف
المختار: قوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}
ويبتدأ: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، فلا يجوز أن تكون
{مَا} غير نافية، فقد ذهب ليه بعض القدرية؛ لأن من أصل مذهبهم
أن الخير من الله دون الشر، والأول هم الذهب.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ
مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي
الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] .
(1/378)
قال ابن جريح: كان قارون ابن عم موسى لأبيه
وأمه، وقال ابن إسحاق: كان ابن خالته، وقال قتادة: إنما بغى
عليه بكثرة ماله.
قال علي بن عيسى: (الكنز) جمع المال بعضه إلى بعض، إلا أنه قد
كثر لما يخبأ تحت الأرض، ولا يطلق اسم (كنز) في أٍماء الشريعة
إلا على مالا تخرج زكاته، والوعيد الذي جاء فيه.
والمفاتح: جمع مفتح جاء على حذف الزيادة، وقيل: يقال (مفْتَحٌ
ومفْتَاحٌ) غمن قال (مفْتَحٌ) قال في الجمع (مَفَاتِحٌ) ، ومن
قال (مفْتَاحٌ) قال في الجمع (مَفَاتِيحٌ) .
ومعنى (تنوء) تثقل، يقال: ناء بحمله ينوء إذا نهض نهوضاً يثقل،
ومنه أخذت (الأنواء) لأن الطالع إذا غاب الغارب ينوء، وقيل:
لأن الغارب إذا غاب ناء الطالع، أي: نهض متثاقلاً، وقيل: لأن
النجوم تنهذمن المشرق نهوضاً بثقل.
قال قتادة: (العصبة) ما بين العشرة إلى الأربعين، قال ابن
عباس: يجوز أن يكون ثلاثة، وقيل: مفاتحه خزائنه، وقيل: المفاتح
على بابها، وكان يحملها سبعون بغلاً، وكانت من جلود قدر كل
مفتاح منها إصبع، وقيل: كان يحملها أربعون بغلاً، وقيل: مفاتحه
أمواله، وقيل: كان أربع مائة ألف، وقيل: إنه قال إذا كان لموسى
النبوة، وكان الذبح والقربان الذي يقرب في يد هارون، فما هي
يدي، أو مالي؟ فهذا كان بغيه.
(1/379)
فصل:
ويسأل عن قوله: {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} ، وإنما العصبة هي
التي تنوء بها؟
والجواب: أنه يقال: نؤت بالحمل، وأنأت غيري، ونؤت بغيري، كما
تقول ذهبت وأذهبت غيري وذهبت به فالباء والهمزة تتعاقبان في
تعدي الفعل، ولهذا لا يجوز أن يجمع بينهما لاتقول: أدخل بزيد
الدار، ولكن: أدخل زيداً الدار، ودخل بزيد الدار {دُخِلَت}
[الأحزاب: 14] إن شئت، ومثل ذلك قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ} [مريم: 23] ، وإنما معناه: فجاء بها، وقيل: إنما
جاز ذلك لأنه (دخل) فيها معنى (تميل) ، أي: تميل بالعصبة، فأما
قول أبي عبيدة: إنه مقلوب وإن المعنى لتنوء العصبة بها، كما
قال:
إن سراجاً لكريم مفخرة تحلا به العين إذا ما تجهره
أي: يحلا بالعين، فقلب. وقال آخر:
كانت عقوبة ما جنيت كما كان الزناء عقوبة الرجم
وقال امرؤ القيس:
يضيء الظلام وجهها لضجيعها كمصباح زيت في قناديل ذبال
أي: في ذبال قناديل، والذبال في القناديل.
وهذا ليس بشيء ولا يجب أن يحمل القرآن عليه؛ لأن هذه تجري مجرى
الغلط من العرب، ومثل هذا في شعرهم كثير، قال الآخر:
مثل القنافذ هدجون قد بلغت نجران أو بلغت سواءتهم هجر
وكان حقه أن يقول (هجر سوءاتهم) لأن السوءات هي التي تبلغ هجر،
وقال:
(1/380)
غداة أحلت لابن أصرم طعنة حصين عبيطات
السدائف والخمر
والعبيطات: مفعولة، والطعنة: فاعلة فقلب، ومن أغلاطهم. قول
الراجز:
برية لم تعرف المرققا
ولم تذق من البقول الفستقا
ظن (الفستق) من البقول، فأما قول خداش بن زهير.
وتركب خيلاًلا لا هوادة بينها وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
فذهب جمهور العلماء إلى أن المعنى: وتشقى الضياطرة الحمر
بالرماح، فقلب، وليس الأمر عندي كذلك، وإنما أن رماحهم تشرف عن
هؤلاء الضياطرة، فإذا طعنوا بها فقد شقيت الرماح؛ لأن منزلتها
أرفع من أن يطعنوا بها، وكذا قول زهير:
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم كأحمر عاد ترضع فتفطم
قالوا: إنما هو أحمر ثمود فغلط فنسبه إلى عاد، وليس هذا عندي
غلطاً، لأن ثموداُ تسمى عاد الآخرة، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النجم: 50] .
وإنما سموا ثمود لأن الله تعالى لما أهلك عاداً بقيت منهم بقية
تناسلوا فهم ثمود، فاشتق لهم من الثمد وهو الماء القليل؛ لأنهم
قلوا عن عدد عاد الأولى، وهذا كثير في الشعر يجري مجرى الغلط
ولا يجب أن يحمل القرآن عليه.
* * *
قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ
بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:
82]
اختلف العلماء في {وَيْكَأَنَّ} :
فذهب الفراء إلى أصلها (ويلك) فحذفت اللام وجعلت (أنَّ) مفتوحة
في موضع نصب بفعل مضمر، كأنه قال: ويلك أعلم أنه، وأنشد
لعنتره:
(1/381)
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويد
عنتر اقدم
قال: وحدثني شيخ من أهل البصرة قال سمعت أعرابية تقول لزوجها:
أين ابنك ويلك؟ ، فقال لها: ويكأنه وراء البيت، قال معناه: أما
ترينه وراء البيت، قال الشاعر:
سألتاني الطلاق أن رأتا ما لي قليلاً قد جئتماني بنكر
ويكأن من يكن له نشب يحـ بب ومن يفتقر يعش ضر
وقال البصريون: (وي) كلمة ينبه بها على أمر من الأمور، وهي حرف
مفصول من كأن، وذلك أنهم لما رأوا الخسف نبهوا من تكلم على قدر
علمه.
وقيل: هي كلمة يستعملها الرجل إذا فاجأه أمر مفظع
وقيل: معناها: ألا كأنه، وأما كأنه.
وقيل: المعنى: وي بأن الله تعالى، كأنه قال: تنبيهك بهذا، إلا
أنه حذف.
وقيل: المعنى: ألى تر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لا
لكرامة (قارون) بسط الرزق له.
فعلى مذهب البصريين تكتب (وي كأنه) منفصلة.
وعلى مذهب الفراء تكتب (ويكأنه) متصلة، وقد حكى الفراء الوجه
الأول، ولم ينكره إلا أنه قال: لم تكتبها العرب متصلة، ثم قال:
ويجوز أن يكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليس منها، كما اجتمعت
العرب على كتابة (يابنم) فوصلوها لكثرتها، فأجاز ما ذهب إليه
البصريون، ولم يجز البصريون قوله، فصار قول البصريين إجماعاً.
(1/382)
وقرأ الفراء {لَخُسف بِنَا} بضم الخاء على
ما لم يسم فاعله.
وقرأ الحسين {لَخَسَفَ بِنَا} أضمر في خسف اسم الله تعالى
ويسوغ هذه القراءة قراءة عبد الله {لا تخَسَفُ بِنَا} .
{ومن سورة العنكبوت}
* * *
قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ
وَلَا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22] .
يسأل عن قوله: {وَلَا فِي السَّمَاءِ} كيف وصفهم بذلك، وليسوا
من أهل السماء؟
وعن هذا جوابان:
الأول: أن المعنى: لستم بمعجزين هرباً في الأرض ولا في السماء.
والثاني: أن المعنى: ولا من في السماء معجز، فحذف (مَن) لدلالة
(مَنْ) الأولى، قال حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
كأنه قال: ومن يمدحه وينصره.
قال الفراء ومثله: اضرب من أتاك وأتى أباك، وأكرم من أتاك ولم
يأت زيداً، أي: ومن أتى أباك، ومن لم يأت زيداً.
* * *
قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] .
قرئ {مَوَدَةَ بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة. وقرئ {مَوَدَّةَ
بَيْنِكُمْ} منوناً رفعاً
(1/383)
و (بينكم) نصباً.
قرئ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُم} بالنصب والتنوين. وقرئ {مَوَدَّةً
بَيْنِكُم} بالنصب والإضافة.
فأما من قرأ (مَوَدَةُ بَيْنِكُم} بالرفع، فيجوز فيه وجهان:
أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودة بينكم، وكذا من
رفع ونون.
والوجه الثاني: أن يكون خبر (إنَّ) وتكون (ما) بمعنى الذي،
والمعنى: إن الذي اتخذتم بينكم أوثانا مودة. وقال الفراء:
{مَوَدَّةٌ بَيْنِكُم} رفع بالصفة، وينقطع الكلام عند قوله:
{إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} ، ثم
قال: ليس مودتكم تلك الأوثان، ولا عبادتكم إياها بشيء إنما
مودة ما بينكم في الحياة الدنيا، ثم ينقطع الكلام.
فـ: (ما) على هذا الوجه صلة في (إنما) كافة، وتفسير هذا أنه
يجعل {مَوَدَّة بَيْنِكُمْ} مبتدأ، و {فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} الخبر.
وأما من نصب فيجوز في قراءته وجهان:
أحدها: أن يكون مفعولاً له، أي: للمودة بينكم.
والثاني: أن يكون بدلاً من الأوثان.
ويجوز في {أَوْثَانًا} الرفع على أن تكون (ما) بمعنى (الذي)
كأنه قال: إن الذي اتخذتم بينكم أوثان، أي: ليست آلهة.
(1/384)
{ومن سورة
الروم}
* * *
قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ
بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] .
البضع: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ما بين الثلاثة إلى
نصف العقد، وقيل: ما بين الثلاثة إلى السبعة، وقيل: ما بين
الثلاثة إلى التسعة، والقول الأول جاء في خبر مرفوع، وما سوى
ذلك أقوال أهل اللغة.
أجمع القراء على ضم (الغين) من {غُلِبَتِ الرُّومُ} ، وروي عن
أبي عمرو أنه قرأ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} جعلهم فاعلين،
فقيل له: علام غلبوا؟ فقال: على أدنى ريف الشام. وجاء في
التفسير: أن فارس ظفرت بالروم، فحزن لذلك المسلون، وفرح به
مشركو أهل مكة؛ لأن أهل فارس ليسوا أهل كتاب، وكانوا يعبدون
الأوثان (ففرح المشركون بغلبتهم) ومال المسلمون إلى الروم؛
لأنهم أهل كتاب، وكان لهم نبي، قالوا: ويدل على ذلك قوله:
{وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} .
ثم قال: {وَيَوْمَئِذٍ} ، أي: يوم يغلبون، يعني: الروم
{يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} إذا غلبوا، وقد كان ذلك كله، ويروى
أن فارس غلبت على أطراف الشام من بلاد الروم، ثم بعد سنتين
وأشهر غلبت الروم فارس، واستنفذت ما أخذت فارس من بلاد الشام،
ففرح المسلمون بذلك لأمرين:
أحدهما: ميلهم إلى الروم.
والثاني: ظهور ما أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقع
في ذلك الوقت.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم بنيت {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ؟
(1/385)
والجواب: أنهما قطعتا من الإضافة، وتضمنتا
معناها، فصارتا كبعض الاسم وبعض الاسم لا يعرب فوجب البناء
لأنه ليس بعد الإعراب إلا البناء، وحركتا لالتقاء الساكنين.
فأما الضم ففيه أربعة أقوال:
أحدها: أنهما لما قطعتا من الإضافة جعلتا غايتين فأعطيتا غاية
الحركات وهي الضمة.
والثاني: أنه لما كان لهما في الأصل تمكن بنيا على الضم
إشعاراً بذلك، كما فعلوا بالمنادى. ألا ترى أنهما يعربان إذا
أضيفتا أو نكرتا كما يفعل بالمنادى.
والثالث: أن الضم لا يدخلها في حال الإعراب، وإنما يدخلهما
الفتح والكسر في النصب والجر فلما بنوهما أعطوهما حركة لا تكون
لهما في حال تمكنهما.
والراع: أنهما لما قطعتا من الإضافة ضعفتا فقويتا بالضمة.
فهذه أربعة للبصريين؟ فأما الكوفيون فلهم قولان:
أحدهما: أنهما لما تضمنتا معناهما في أنفسهما ومعنى المضاف
إليه قويتا بالضمة، وهذا قول الفراء وقد طرده في أشياء: من ذلك
أنه قال ضم أول فعل ما لم يسم فاعله؛ لأنه يدل على نفسه وعلى
الفاعل وضم (منذُ) لأنه يدل على معنى (منْ وإلى) لأنك إذا قلت:
ما رأيته منذ يومين، فمعناه: ما رأيت من أول اليومين إلى
آخرهما، وكذلك (نحن) ضم لأنه يقع على التثنبة والجمع.
والقول الثاني: أنهما لو فتحتا لأشبهتا حالهما متمكنتين، ولو
كسرتا لأشبهت المضاف إلى المتكلم فأما السكون فلا سبيل إليه؛
لأن ما قبلهما ساكن، فلم يبق إلا الضم فأعطيتاه، وهذا قول
هشام.
(1/386)
وأجاز الفراء تنوينهما والمراد بهما مع ذلك
الإضافة، وأنشد:
كأن محطا في يدي حارثية صناع علت مني به الجلد من عل
وأنسد:
ونحن قتلنا الأزد شنوءه فما شربوا بعد على لذة خمرا
قال ولو نصب ونون كان وجهاً، وكان كما قال:
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكاد أغص بالماء المعين
وأجاز أيضاً: جئت من قبل ومن بعد بالجر والتنوين.
وهذا يجوز إذا كانت نكرتين، فأما ما أنشد من الضم والتنوين
والنصب فهو من ضرورات الشعر. وللبصريين فيه مذهبان:
أحدهما: أن يترك على ضمه وينون ويقدر أ، التنوين لحقه بعد
البناء وهذا مذهب الخليل.
والثاني: أنه إذا لحقه التنوين ضرورة رد إلى النصب؛ لأنه
الأصل، كما يرد ما لا ينصرف إلى أصله إذا نون، ومثل ذلك
(المنادى المفرد) إذا نون يبقى على ضمه عند الخليل، ويرد إلى
النصب عند أبي عمرو، قال الشاعر:
سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام
هذا قول الخليل وأصحابه، وأبو عمرو ينشد:
ضربت صدرها إلى وقالت يا عديا لقد وقتك الأواقي
بالنصب.
(1/387)
وأجاز الفراء (من قبل ومن بعد) بلا تنوين
على نية الإضافة، وأنشد:
إلا علالة أو بداهة سانح نهد الجزاره
ومثله:
يا من يرى عارضاً أسر به بين ذراعي وجبهة الأسد
قال: وسمعت أبا ثروان العكلي يقول: قطع الله الغداة يد ورجل من
قاله.
قال المبرد: إنما يحذف هذا وما أشبهه اكتفاء بالثاني من الأول؛
لأن المعنى مفهوم وليس في (قبل وبعد) ما يدل على المضاف إليه،
وفي هذين البيتين ما يدل على الإضافة.
وقيل: المعنى إلا علالة سائح وبداهته، ثم حذف، ومثله قوله
تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}
[الأحزاب: 35] ، يريد والحافظاتها فحذف، وأجاز هشام: جئت قبل
وبعد، بالنصب على نية الإضافة، وكل هذا ينكره البصريون.
* * *
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا
وَطَمَعًا} [الروم: 24] .
قيل: خوفاً من المطر في السفر، وطمعاً فيه في الحضر.
وفي قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا
وَطَمَعًا} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه حذف (أن) والتقدير: ومن آياته أن يريكم، فلما حذف
(أن) ارتفع الفعل، قال طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
يريد: أن أحضر، فحذف ألا تراه أظهرها في قوله: (وأن أشهد) .
(1/388)
والثاني: أن المعنى ومن آياته آية يريكم،
ثم حذف لدلالة (من) عليها، قال الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت ,أخرى أبتغي العيش أكدح
يريد: فمنهما تارة أموت فيها وأخرى أبتغي العيش فيها، فخذف
لدلالة (من) على المعنى.
والثالث: أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: ويريكم البرق من
آياته، فهذا على غير حذف.
* * *
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] .
يقال ما معنى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، وهل يهون عليه شيء
دون شيء؟
وفي هذا ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن المعنى: وهو أهون عليه عندكم، ثم حذف، وهذا قول
المفسرين.
والثاني: أن (هون) بمعنى (هين) .
كما قال:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول
وقال آخر:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي: بواحد، وهذا قول أهل اللغة.
(1/389)
والقول الثالث: أن الهاء في عليه تعود على
(الخلق) ، أي: والإعادة على الخلق أهون من النشأة الأولى؛ لأنه
إنما يقال له كن فيكون، وفي النشأة الأولى: كان نطفة ثم علقة
ثم مضغة ثم عظاماً ثم كسيت العظام لحماً ثم نفخ فيه الروح،
فهذا على المخلوق صعب والإنشاء يكون أهون عليه، وهذا قول
النحويين، ويروى مثله عن ابن عباس.
قال الفراء: حدثني حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} يقول على المخلوق؛ لأنه يقول
له يوم القيامة (كن فيكون) .
فأما ما يروى عن مجاهد من أنه قال: الإنشاء عليه أهون من
الابتداء، فقول مرغوب عنه، لأنه لا يهون عليه شيء دون شيء
تبارك تعالى.
* * *
قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ} [الروم: 41] .
قيل: البر: أهل البادية، والبحر: القرى التي على الأنهار
العظيمة، هذا قول قتادة.
قال مجاهد: البر: ظهر الأرض، والبحر: البحر المعروف (تؤخذ كل
سفينة غصباً) .
وقيل: البر: الأرض القفر، والبحر: المجرى الواسع للماء عذباً
كان أو مالحاً.
وقيل: البر: البرية، والبحر: الريف، والمواضع الخصبة.
وأصل (البر) من البِرَّ؛ لأنه يبر بصلاح المقام فيه، وأصل
(البحر) الشق، ومنه (البحيرة) ، ومنه قيل (بحر) لأنه شق في
الأرض، ثم كثر فسمي الماء الملح بحراً، وأنشد ثعلب:
وقد عاد ماء الأرض بحرأ فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
(1/390)
والفساد: ضد الصلاح، وقيل الفساد هاهنا:
المعاصي، وقيل: هو على الحذف، والتقدير: ظهر الفساد في البر
والبحر.
قال الفراء: أجدب البر، وانقطعت مادة البحر بذنوبهم، كان ذلك
ليذاقوا الشدة في العاجل.
* * *
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ
مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51]
.
قال الخليل: الفعل الماضي هاهنا في موضع المستقبل، والمعنى:
ليظلن.
ومما يسأل عنه أن يقال: أين جواب الشرط في قوله: {وَلَئِنْ} ؟
والجواب: أغنى عنه بجواب القسم وكان أحق بالحكم لتقدمه على
الشرط، ولو تقدم الشرط لكان الجواب له، كقولك: عن أرسلنا ريحاً
لظلوا والله يكفرون.
وهذه (اللام) يسميها البصريون لام التوطئة، ويسميها الكوفيون
لام إنذار القسم.
ويسأل عن (الهاء) في قوله: {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} ؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها تعود على السحاب، والمعنى ولئن رأوا السحاب
مصفراً؛ لأنه إذا كان كذلك لم يكن فيه مطر.
والثاني: أنها تعود على الزرع؛ لأنه قوله: {إِلَى آثَارِ
رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]
(1/391)
يدل عليه، فأما من قرأ {إِلَى آثَارِ} على الإفراد، فيجوز أن
تعود الهاء على (أثر) ؛ لأنه يدل على الزرع.
والثالث: أنها تعود على الريح، أي: فرأوا الريح مصفراً، وهو
قول الحسن، ومجازه: أن الريح تأنيثها غير حقيقي، والمؤنث
الحقيقي إنما يكون في الحيوان، فذكر الوصف، كما قال تعالى:
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ،
والموعظة مؤنثة. |