النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
الطور}
* * *
قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا
وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] .
الكأس: القدح بما فيه، ولا يسمى كأساً إذا لم يكن فيه شيء، قال
الشاعر:
صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا
وقد تسمى الخمر نفسها كأساً، قال علقمة:
كأس عزيز من الأعناب عتقها لبعض أربابها حانية حوم
ومعنى {يَتَنَازَعُونَ} يتعاطفون كأس الخمر، قال الأخطل:
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
واللغو واللغا: كل ما لا خير فيه من الكلام، قال الراجز:
عن اللغا ورفث التكلم
والتأثيم والإثم والآثام واحد.
وقرأ ابن كثير {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} بالنصب،
وقرأ الباقون بالرفع والتنوين.
فمن نصب أعمل {لَا} في الموضعين، وهي تنصب النكرة بلا تنوين؛
لأنها مشبهة بـ: (إن) / وذلك أن (إن) موجبة و (لا) نافية،
والعرب تحمل النقيض على النقيض، كما لم
(1/464)
تحمل النظير على النظير، فلما كانت (إن)
تنصب الاسم وترفع الخبر، أعملوا (لا) ذلك العمل، وحكى يونس: لا
رجل أفضل منك، تنصب (رجل) وترفع (أفضل) ؛ لأنه خبر (لا) إلا
أنها نقصت عن حكم (إن) فلم تعمل إلا في النكرة، وذلك أن (إن)
مشبهة بالفعل، و (لا) مشبهة بـ: (إن) فلما كانت مشبهة بالمشبه
قصرت على شيء واحد، ولهذا نظير، وذلك أنك تقول: تالله ووالله
وبربك ووربك، وتقول: تالله، ولا يجوز: تربك؛ وذلك أن (التاء)
بدل من (الواو) و (الواو) بدل (الباء) فلما كانت (التاء) مبدلة
من مبدل قصرت على شيء واحد، وكذلك: فلان من آل فلان، ولا يجوز:
فلان من آل المدينة؛ لأن (الألف) من الآل بدل من (الهمزة) و
(الهمزة) بدل من (أهل) فصارت بدلاً من بدل فقصرت على شيء واحد،
وكذلك: أسنى القوم، إذا دخلوا في السنة، وسواء كانت مخصبة أو
مجدية، فإذا قالوا: استنوا، لم يقع إلا على المجدية؛ لأن
(التاء) بدل من (الياء) و (الياء) بدل من (الواو) و (الهاء)
على الخلاف في ذلك؛ لأنه يقال: سانهت وسانيت، وقالوا: سنوات
وسنة سنهاء، وهذا كله مذهب سيبويه، وذهب غيره من النحويين، إلى
أن (لا) مبنية على ما بعدها على الفتح، وليس ما بعدها معرباً
ولكنه مبني لتضمنه معنى الحرف؛ لأن حق الجواب أن يكون وفق
السؤال و (لا) جواب لمن قال: هل من رجل عندك؟ فجوابه: لا رجل
عندي، وكان يجب أن يقول: لا من رجل، إلا أن (من) حذفت، وضمن
الكلام معناها، ووجب البناء؛ لأن كل ما تضمن معنى الحرف يبنى،
فإن قال: هل رجل عندك؟ قلت: لا رجل عندي ترفع لا غير؛ لأن
الكلام لم يتضمن معنى (من) والنصب أبلغ في المعنى لتضمنه معنى
(من) لأن (من) يدخل في (النفي) لاستغراق الجنس، نحو قولك: ما
جاءني من رجل، فقد نفيت جميع الرجال، ولو قلت: ما جاءني رجل،
لجاز أنك تريد: جاءني اثنان فصاعداً، ومن هذا الوجه كان النصب
في قوله: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} أجود؛ لأنه أشد
في المبالغة.
ومن رفع جهل {لَا} جواباً لـ (هل) من غير (من) وهذا يقتضي
الرفع، والرفع على الابتداء، و {فِيهَا} الخبر، و {تَأْثِيمٌ}
عطف على لغو، وإذا نصبت جعلت {فِيهَا} خبراً لـ: {لَا} ويجوز
هاهنا خمسة أوجه:
(1/465)
أحدها: نصب الاثنين.
والثاني: رفع الاثنين، وقد قرئ بهما، قال الشاعر في الرفع:
وما هجرتك حتى قلت معلنة: لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ويجوز نصب الأول بلا تنوين ونصب الثاني بتنوين قال الشاعر:
لا نسب اليوم ولا خلة اتسع الخرق على الراقع
ويجوز رفع الأول منوناً ونصب الثاني بلا تنوين، قال الشاعر:
فلا لغو ولا تأثيم فيها وما فاهوا به أبداً مقيم
ويجوز نصب الأول بلا تنوين ورفع الثاني بتنوين، قال الشاعر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
هذا وجدكم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وحق قوله: (ولا أب) أن يكون منوناً إلا أنه قافية، والقوافي لا
تنون في الوصل.
فهذه خمسة أوجه، فإن حذفت (لا) الثانية لم يجز فيما بعد الواو
إلا التنوين رفعاً ونصباً، نحو قولك: لا غلام وجارة، ولا غلام
وجاريةً، قال الشاعر:
لا أب وابناً مثل مروان وابنه إذا هو بالمجد ارتدى وتآزرا
وهذه الوجوه كلها تجوز في قولنا: (لا حول ولا قوة إلا بالله) .
(1/466)
{ومن سورة
النجم}
* * *
قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ
صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
[النجم: 1-3] .
النجم هاهنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الثريا إذا سقطت مع
الفجر، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أن النجم هاهنا أحد نجوم القرآن، وهو أيضا عن مجاهد،
كأنه قال: والنجم إذا نزل، أي؛ والقرآن إذا نزل، فهو قسم به.
والقول الثالث: أن النجم واحد ويراد به الجماعة، أي: والنجوم
إذا سقطت يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انْتَثَرَتْ} ، وهذا قول الحسن، والنجم في كلام العرب يأتي
ويراد به الجمع على طريق الجنس قال الراعي:
وباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
والمستحيرة هاهنا: شحمة مذابة صافية؛ لأنها من شحم سمين.
و {غَوَى} من الغي، يقال: غوى يغوي غياً، قال الشاعر:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
و {الْهَوَى} : ميل الطباع إلى ما فيه الاستمتاع، وهو مقصور،
وجمعه: أهواء، فأما (الهواء) الممدود؛ فكل منخرق، قال الله
تعالى: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43] ، أي: خاوية
منخرقة لا تعي شيئاً، قال زهير:
(1/467)
كأن الرحل منها فوق صعل من الظلمان جؤجؤه
هواء
أي: خاو ومنخرق، و (عن) في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوَى} بمنزلة (الباء) كأنه قال؛ وما ينطق بالهوى، أي:
برأية وهواء.
واختلف في قوله: {وَالنَّجْمِ} وما جرى مجراه من الأقسام التي
اقسم الله بها:
فقيل تفضيلاً لها وتنويهاً بها، وقيل: بل المقسم به محذوف، ورب
النجم ورب الطور ورب التين والزيتون وما أشبه ذلك.
* * *
قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 5-10] .
قال ابن عباس وقتادة والربيع: شديد القوى هاهنا: جبريل.
وأصل المرة: شدة الفتل، يقال في الحبل: هو شديد المرة، أي:
أمررت فتله وشددته، والمرة والقوة والشدة سواء، قال الشاعر:
ألا قل لتيا قبل مرتها اسلمي تحية مشتاق إليها متيم
أي: قبل شدة عزيمتها في السير.
والأفق: واحد الآفاق، وهي نواحي السماء, وقال تسمى نواحي الأرض
آفاقاً على التشبيه، قال الشاعر في المعنى الأول:
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
وقال امرؤ القيس في المعنى الثاني:
(1/468)
وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة
بالإياب
والتدلي: الامتداد إلى جهة الأسفل.
والقاب والقاد والقيد سواء، والمعنى: فكان قدر قوسين أو أدنى.
وقيل إنما مثل بالقوس؛ لأن مقدارها في الأغلب لا يزيد ولا
ينقص.
وقيل: فاستوى جبريل ومحمد - عليهما السلام - بالأفق الأعلى،
وقيل: الأفق الأعلى، مطلع الشمس.
واختلف في {هُوَ} :
فقيل: {هُوَ} مبتدأ، وخبره {بِالْأُفُقِ} ، والجملة في موضع
نصب على الحال.
والثاني: أنه معطوف على المضمر في {اسْتَوَى} أي: استوى هو
وهو، وحسن ذلك كراهة أن يتكرر (هو) ؛ لأن الوجه أن لا يعطف على
المضمر المرفوع إلا بعد التوكيد، نحو قولك: قمت أنا وزيد، ونحو
قوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ،
إلا أنه حسن هاهنا لما ذكره، وهذا قول الفراء، وأنشد:
ألم تر أن النبع يخلق عوده ولا يستوي والخروع المتقصف
وكان حقه أن يقول: ولا يستوي هو والخروع، إلا أنه لم يقل، وهو
في الآية أحسن منه هاهنا، ومثل ذلك قول الشاعر:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملأ تعسفن رملاً
(1/469)
قال الربيع: فاستوى جبريل - عليه السلام -
وهو بالأفق الأعلى، فـ: (هو) على هذا كناية عن جبريل - عليه
السلام - وهذا هو القول الأول، و (هو) كناية عن محمد - عليه
السلام - في القول الثاني.
قال القتبي: الكلام على التقديم والتأخير في قوله: {ثُمَّ
دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8] ، والمعنى: ثم تدلى فدنا، وهذا
لا يجوز في (الفاء) ؛ لأنها مرتبة، وليست كالواو، ولا يحتاج
هاهنا إلى هذا التقدير؛ لأن المعنى بين، والتقدير: ثم دنا
وامتد في دنوه.
* * *
قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 11-15] .
الفؤاد هاهنا: القلب, والمراء: الجدال بالباطل، والسدرة واحدة
السدر، وهو شجر النبق، وقيل: سدرة المنتهى في السماء السادسة
إليها ينتهي من يعرج إلى السماء، هذا قول ابن مسعود والضحاك،
وقال غيرهم:
إليها تنتهي أرواح الشهداء
وجنة المأوى: جنة الخلد، قيل هي في السماء السابعة، وقال
الحسن: جنة المأوى: هي التي يصير إليها أهل الجنة.
قال إبراهيم في قوله: {أَفَتُمَارُونَهُ} أي: أفتجحدونه. وقال
غيره: المعنى: أفتجادلونه، وجاء في التفسير، عن عبد الله بن
مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها مرتين، قال ابن
مسعود: رآه
(1/470)
وله ستمائة جناح، وقال ابن عباس: رأى ربه
بقلبه، وروي مثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأجمع العلماء، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج به،
إلا أنه روي عن الحسن أنه قال: عرج بروحه، يذهب إلى أنها رؤية
النوم، وهذا القول مرغوب عنه؛ لأنه لا فضيلة له في ذلك؛ لأن
الإنسان يرى في منامه مثل ذلك ولا تكون معجزة.
* * *
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] .
{اللَّاتَ وَالْعُزَّى} : ضمان، واشتقاق {اللَّاتَ} من لويت
إذا تحبست ووقفت، يقال: لويت عليه، وما لويت عليه، ومما يدل
على ذلك قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ
عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، والعكوف واللي سواء؛
وذلك أنهم كانوا يلزمونها بالعبادة، ويعكفون عليها ولا يلوون
على سواها والأصل فيها: لوية، فحذفت الياء كما حذفت من (يد) و
(دم) طلباً للاستخفاف، ثم فتحت (الواو) لوقوع علامة التأنيث
بعدها، ثم قلبت (ألفا) لتحركها وانفتاح ما قبلها، فقيل: لات،
والألف واللام في (اللات) زائدتان وليستا للتعريف، وكذلك في
{الْعُزَّى} ؛ لأن هذه الأصنام معارف عندهم كالأعلام نحو: زيد
وعمرو، يدل على ذلك قوله تعالى: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ
وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] ألا ترى كلها بغير ألف ولام،
وكذلك قول الشاعر:
أما ودماء ما تزال كأنها على قنة العزى وبالنسر عندما
الألف واللام في (النسر) زائدتان، هذا قول الأخفش، وتابعه عليه
أبو علي
(1/471)
الفارسي، فأما من قرأ {أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ} بالتشديد فإنه من (لتت السويق) ذكروا أن رجلاً كان
يلت السويق هنالك عند هذا الصنم فسمي الصنم باسمه.
{ومن سورة القمر}
* * *
قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ
مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 1-2] .
جاء في التفسير: أن القمر انشق على زمن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، قال الزجاج: وقد عاند قوم وارتكبوا العناد،
فقالوا: لم ينشق وإنما المعنى: سينشق، وقد روى ذلك عن جماعة،
حدثنا الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله بن الوليد عن التميمي
قال حدثنا ابن مقسم، قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري
الزجاج قال حدثنا القاضي إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا مسدد، قال
حدثنا يحيى عن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انشق القمر على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة فوق الجبل
وفرقة دونه، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشهدوا) ،
قال مسدد وحدثنا يحيى عن شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر
مثله، قال القاضي إسماعيل وحدثنا علي بن عبد الله، قال حدثنا
سفيان قال أخبرنا ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد
الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فقال: (اشهدوا اشهدوا) ، وبهذا الإسناد عن ابن مسعود أنه
قال:
انشق القمر، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(اشهدوا) ، قال إسماعيل وحدثنا محمد
(1/472)
ابن أبي بكر، عن محمد بن كثير عن سليمان عن
حصين عن محمد بن جبير عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صال فرقتين على هذا الجبل
وعلى هذا الجبل، فقال ناس: سحر محمد القمر، فقال رجل: إن كان
سحره وسحركم فلم لم يسحر الناس كلهم، قال محمد بن أبي بكر
أخبرني زهير بن إسحاق عن داود عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
قال: ثلاث ذكرهن الله قد مضين: اقتربت الساعة وانشق القمر، فقد
انشق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والدخان
والروم. قال إسماعيل وحدثنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة
وعطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب قال: كنا بالمدائن، فجئنا
إلى الجمعة، فخطبنا حذيفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما
بعد فإن الله تعالى يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ} ، ألا إن اليوم المضمار وغداً السباق، ألا وأن
الغاية النار، قال: فلما كانت الجمعة الأخرى، قال مثل ذلك، ثم
قال: والسابق من سبق إلى الجنة.
(1/473)
وروي مسروق عن عبد الله قال، مضى اللزام
ومضت البطشة ومضى الدخان ومضى القمر ومضى الروم، والأخبار في
هذه كثيرة.
وسمي القمر قمراً لبياضه، والأقمر: الأبيض، وهو يسمى قمراً من
الليلة الثالثة، وقيل: إذا حجر، أي: بان السواد حوله، وقيل:
إذا بهر، وذلك يكون في السابعة، فإذا انتهى واستوى قيل له بدر،
وذلك ليلة الرابع عشر سمي بذلك لتمامه، ومنه اشتقاق البدرة،
وقيل: سمي بذلك لمبادرته الشمس بالطلوع، والعرب تقول للهلال
أول ليلة: ليلة عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين: حديث
أمتين كذب ومين، وابن ثلاث: قليل اللباث، وابن أربع: عتمة ربع
لا جائع ولا مرضع، وابن خمس: عشاء خلفات قعس، ويقال: حديث
وأنس، وابن ست: سر وبت، وابن سبع: دلجة الضبع، وابن ثمان: قمر
اضحيان، وابن تسع: يلتقط فيه الجزع، وربما قالوا: مقطع الشسع،
وابن عشر: مخنق الفجر، وربما قالوا: ثلث الشهر، وليس له اسم
بعد ذلك لقربه من الصباح.
وسمي الهلال هلالاً لإهلال الناس عند رؤيته، والإهلال: الصياح،
ومنه: استهل الصبي، إذا صرخ عند الولادة.
* * *
قوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]
العذاب: اسم للتعذيب، بمنزلة: الكلام من التكليم والسلام من
التسليم، في أنهما اسمان لمصدرين، وليس بمصدرين.
والنذر: قيل هو جمع (نذير) بمنزلة: رغيف ورغف، وقيل: هو واحد،
وفي الآية دلالة على أن (الواو) لا ترتب؛ لأن النذر قبل
العذاب، بدليل قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]
* * *
قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا
نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24]
نصب {بَشَرًا} بفعل مضمر يدل عليه {نَتَّبِعُهُ} ، والتقدير:
أنتبع بشراً منا واحداً نتبعه، إلا أنه حذف اكتفاء بالظاهر
الذي هو {نَتَّبِعُهُ} ولا يجوز إظهاره، ولا
(1/474)
نتبعه، إلا أنه حذف اكتفاء بالظاهر الذي هو
{نَتَّبِعُهُ} ولا يجوز إظهاره، ولا يجوز أن يكون منصوباً بـ:
{نَتَّبِعُهُ} ؛ لأنه عامل في (الهاء) ، ولا ينصب أكثر من
مفعول واحد، ويجوز في الكلام الرفع، على الابتداء و
{نَتَّبِعُهُ} الخبر، إلا أن النصب أجود؛ لأن الاستفهام أولى:
لأنه يقتضي الفائدة، والفائدة أصلها أن تكون بالفعل.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}
[القمر: 49] .
يسأل عن نصب {كُلَّ} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه منصوب بإضمار فعل يدل على {خَلَقْنَاهُ} كأنه في
التقدير: إنا خلقنا كل شيء خلقنا، ثم حذف على ما تقدم في قوله:
{أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا} [القمر: 24] ومثله: زيداً ضربته،
إلا أنه مع الاستفهام أجود.
والثاني: أنه جاء على ما هو بالفعل أولى؛ لأن {إِنَّا} يطلب
الخبر في {خَلَقْنَاهُ} فهو على قياس: أزيداً ضربته، وهذا
الوجه في القوة مثل قوله: {أَبَشَرًا مِنَّا} [القمر: 24]
والثالث: أنه يدل على البدل الذي المعنى يشتمل عليه، كأنه قال:
إن كلا خلقناه بقدر، وكان سيبويه يقول: الرفع أجود هاهنا، إلا
أن العامة أبوا إلا النصب.
والرفع على الابتداء والخبر والجملة خبر {إِنَّا} .
{ومن سورة الرحمن}
* * *
قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5]
يسأل عن معنى: {بِحُسْبَانٍ} ؟
(1/475)
والجواب: أن المعنى: بحساب يقال: حسبت
الشيء حسباً وحسباناً، بمنزلة: الشكران والكفران، وقيل: هو جمع
حساب، كشهاب وشهبان، قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: بحسبان، أي
بحساب ومنازل يجريان فيهما.
وفي تقدير الخبر وجهام:
أحدهما: أن يكون {بِحُسْبَانٍ} الخبر.
والثاني: أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المجرور عليه،
والتقدير: والشمس والقمر يجريان بحسبان، والتقدير في الوجه
الأول: وجرى الشمس والقمر بحسبان، والمعنيان يتقاربان، إلا أنك
تقدر في الوجه الأول حذف مضاف وحذف الخبر، وتقدير على الوجه
الثاني حذف الخبر فقط، وحذف شيء واحد أولى من حذف شيئين.
* * *
قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:
6] .
النجم من النبات: ما لم يقم على ساق، نحو: العشب والبقل،
والشجر: ما قام على ساق.
ويسأل عن معنى {يَسْجُدَانِ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن ظلهما يسجد لله بكرة وعشياً، هذا قول جاهد وسعيد بن
جبير، وكل جسم له ظل فهو يقتضي الخضوع بما فيه من الصنعة.
والثاني: وهو قول الفراء: أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم
يميلان حين ينكسر الفيء، فذلك سجودهما.
وقيل: سجودها: الخضوع لله بالأقوات المجعولة فيهما للناس
وغيرهم من الحيوان،
(1/476)
والاستمتاع بأصناف الرياحين وما في الأشجار
من الثمار الشهية، وصنوف الفواكه اللذيذة، فلا شيء أدعى إلى
الخضوع والعبادة لمن أنعم بهذه النعمة الجليلة مما فيه مثل
الذي ذكرنا في النجم والشجر.
* * *
قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 31-32] .
يسأل عن معنى: {سَنَفْرُغُ} ؟
والجواب: أن معناه: سنعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير
تصحيح فيه، وهذا من أبلغ الوعيد وأشده؛ لأنه يقتضي أن يجازى
العبد بجميع ذنوبه، وليس من الفراغ الذي هو نقيض المشتغل؛ لأن
الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء.
والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لعظم شأنهما إلى ما في الأرض
من غيرهما، فهو أثقل وزناً لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكيف
لأداء الواجب في الحقوق.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم كرر في هذه السورة {فَبِأَيِّ
آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} في عدة مواضع؟
والجواب: أنه ذكر آلاء كثيرة، فكرر التقرير، ليكون كل تقدير
لنعمة، والعرب تكرر مثل هذه الأشياء للتوكيد، نحو قولك: اعجل
اعجل، وتقول للرامي ارم ارم، قال الشاعر:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقال آخر:
هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا؟
وقال الفرزدق:
(1/477)
ألفينا عيناك عند القفا أولى فأولى لك ذا واقية
وقال عوف بن الخرع:
فكادت فزارة تصلى بنا فأولى فزارة أولى فزارة
وقرئ {سَنَفْرُغُ} و {سَنَفْرُغُ} ، فمن قرأ {سَنَفْرُغُ} فهو
على بابه، مثل: دخل يدخل وخرج يخرج، ومن قرأ {سَنَفْرُغُ} فتح
(الراء) من أجل حرف الحلق؛ لأن حرف الحلق إذا كان عيناً أو
لاماً جاء في غالب الأمر على (يفعل) بالفتح، إذا كان من (فعل)
وحروف الحلق ستة وهي: الهمزة، نحو قرأ وسأل، والهاء، نحو: ذهب
ووهب، والعين، نحو: جعل وصنع، والحاء، نحو: سمح ولحج، والغين،
نحو: فغر وولغ، والخاء، نحو: سلخض وبخع، وما أشبه ذلك. |