النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
الفتح}
* * *
قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ
مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
[الفتح: 25]
قال قتادة: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات بمكة. قال ابن زيد:
المعرة: الإثم، وقال: ابن إسحاق: غرم الدية وكفارة قتل الخطأ
عتق رقبة مؤمنة، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال: وهي كفارة الخطأ
في الحرب، قال الفراء: كان بمكة مسلمون من الرجال والنساء،
فقال الله تعالى: لولا أن تقتلوهم وأنتم لا تعرفونهم فتصيبكم
منعم معرة، يعني: الدية، ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو
خلص الكفار من المؤمنين لأنزل الله بهم القتل والعذاب.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع قوله تعالى: {أَنْ
تَطَئُوهُمْ} ؟ وفيه جوابان:
أحدهما: أن موضع {أَنْ} رفع على البدل من رجال في قوله:
{وَلَوْلَا رِجَالٌ} والتقدير: ولولا وطئ رجال ونساء، أي:
قتلهم، وهو بدل الاشتمال، ومثله: نفعني عبد الله علمه،
وأعجبتني الجارية حسنها، ومثله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} ، ومثل ذلك قول الأعشى:
(1/450)
لقد كان في حُولٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه تَقضَّى
لُبَاناتٍ، ويسْأمُ سَائِمُ
أي: في ثواء حول.
والثاني: أن يكون موضعها نصباً على البدل من (الهاء والميم) في
{تَعْلَمُوهُمْ} ، والتقدير ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم
تعلموا أن تطؤوهم، أي: لم تعلموا وطأهم، وهو بدل الاشتمال
أيضا.
* * *
قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] .
يسأل عن الاستثناء في قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} كذا
يسميه المفسرون والفقهاء، وهو في الحقيقة شرط؟ وفيه أجوبة:
أحدها: أنه تأديب من الله تعالى ليتأدب الخلق بذلك، فيقولوا:
سأفعل ذلك إن شاء الله.
والثاني: أنه تقييد لدخول الجميع أو البعض، وهو قول علي بن
عيسى.
والثالث: أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: لتدخلن المسجد
الحرام آمنين إن شاء الله، والاستثناء واقع على دخولهم آمنين.
فهذه ثلاثة أقوال للبصريين، وقال بعض الكوفيين {إِنْ} بمعنى
(إذ) والمعنى: إذ شاء الله، ولا يجوز عند أهل البصرة.
* * *
قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ
رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ
فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} [الفتح: 29] .
(1/451)
الشطأ: فراخ الزرع التي تخرج من جوانبه،
ومنه شاطئ النهر، أي: جانبه، وأشطأ الزرع فهو مشطئ.
وآزره: عاونه، واستغلظ: طلب الغلظ، والسوق: جمع: ساق، وساق
الشجرة حاملتها.
وقيل: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} :
علامة نور تجعل في وجوههم يوم القيامة، وهو قول ابن عباس
والحسن وعطية، وقال مجاهد: علامتهم ف الدنيا من أثر الخشوع.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال ما معنى قوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} ؟ وفيه جوابان:
أحدهما: أن هذه الصفات التي تقدمت مثلهم في التوارة، تم
الكلام، ثم قال: ومثلهم في الإنجيل كزرع من صفته كيت وكيت.
والثاني: أن المعنى: أن صفته في التوراة والإنجيل الصفة التي
تقدمت.
فعلى القول الأول يكون الوقف على {التَّوْرَاةِ} ، وعلى القول
الثاني يكون الوقف على {الْإِنْجِيلِ} ، والإشارة بذلك إلى
الوصف المتقدم ذكره.
{ومن سورة الحجرات}
* * *
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]
(1/452)
جاء في التفسير: أن أعراباً جفاة جاءوا،
فجعلوا ينادون من وراء الحجرات: يا محمد، أخرج إلينا، وهو قول
قتادة ومجاهد وكانوا من بني تميم.
قال الفراء: أتاه وفد بني تميم، وهو نائم في الظهيرة، فجعلوا
ينادون: أخرج إلينا يا محمد، فاستيقظ، فخرج إليهم، ونزل:
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ،
ثم أذن لهم بعد ذلك، وقام شاعرهم وشاعر المسلمين وخطيبهم وخطيب
المسلمين فعلت أصواتهم بالتفاخر، فنزلت: {لَا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] .
وقيل: نزلت في قوم كانوا يسبقون النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالقول إذا سئل عن شيء.
والحجرات: جمع حجرة، وفيها ثلاث لغات: حُجُرات - بضمتين -
وحُجَرات - بفتح الجيم - وحُجْرات - بإسكانها، والأولى أفصح.
قال الشاعر:
أما كان عباد كفيا لدارم بلى ولأبيات بها الحجرات
* * *
قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}
[الحجرات: 7] .
يسأل عن قوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ} في صفة النبي - صلى الله
عليه وسلم -؟
والجواب: أنه على طريق المجار؛ لأن حقيقة الطاعة: موافقة
الداعي الأجل فيما دعا إليه من الأدون، ولا يجوز أن يقال: إن
الله تعالى يطيع العبد، كما لا يجوز أن يقال: إن العبد أمر ربه
ونهاه، ولكن دعاه فأجابه، فكان الطاعة هاهنا: الإجابة لما
سألوا منه.
والعنت: المعاندة.
(1/453)
ويسأل عن خبر {أَنَّ} ؟
والجواب: أن النحويين يجعلونه في الظرف الذي هو {فِيكُمْ} ،
وهذا القول فيه نظر؛ لأن حق الخبر أن يكون مفيداً، ولا يجوز:
النار حارة؛ لأنه لا فائدة في الكلام، ومجاز هذا القول أنه على
طريق التنبيه لهم على مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
كما يقول القائل للرجل يريد أن ينبهه على شيء؛ فلان حاضر،
والمخاطب يعلم ذلك، فهذا وجهه.
والوجه عندي؛ أن يكون الخبر في قوله: {لَعَنِتُّمْ} ؛ لأن
الفائدة واقعة به؛ والمعنى: واعلموا أن رسول الله لو يطيعكم
لعنتم، كما تقول: إن زيداً لو أكرمته لقصدك، وما أشبه ذلك.
{ومن سورة ق}
* * *
قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا
أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا
شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 1-3] .
قد تقدم في صدر الكتاب ما قيل في فواتح السور، ومما لم نذكره
هنالك بعض ما قيل في {ق} : قيل: {ق} جبل محيط بالدنيا، وقد
ذكرنا قول الحسن؛ أنه اسم للسورة، وقيل معناه: قضي الأمر؛ وكذا
قيل في {حم} [غافر: 1] : حمَّ الأمر، أي: دنا، قال الفراء: هو
قسم أقسم به.
والمجيد: العظيم الكريم، يقال: مجد الرجل، ومجد: إذا عظم وكرم:
إذا عظم كرمه، والأصل من مجدت الإبل مجوداً إذا عظمت بطونها
لكثرة أكلها من الربيع.
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: أين جواب القسم؟
(1/454)
والجواب عن ذلك: أنه محذوف، والتقدير فيه:
قاف القرآن المجيد ليبعثن، ويدل عليه قوله: {أَإِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا} .
وكذا جواب (إذا) محذوف، وتقديره أإذا متنا وكنا تراباً بعثنا
أو رجعنا، ويدل عليه قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ، أي: أمر
لا ينال، وهو جحد منهم، كما تقول للرجل يخطئ في المسألة: لقد
ذهبت مذهباً بعيداً من الصواب، أي: أخطأت.
ويقال: عجيب وعجاب وعجاب، وهذه أبنية للمبالغة، ومثله كبير
وكبار وكبار، وله نظائر.
* * *
قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] .
يسأل عن توحيد {قَعِيدٌ} ؟
وعنه جوابان:
أحدهما: أنه واحد يراد به الجمع، قال الفراء: حدثني حيان عن
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {قَعِيدٌ} قال: يريد
قعوداً عن اليمين وعن الشمال، وهذا كما تقول: أنتم صديق لي،
وكما قالوا: (رسول) في معنى (رسل) وقال الهذلي:
ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر
فجل (الرسول) في معنى (الرسل) ، والعلة في هذا: (أن فعيلاً) و
(فعولاً) من أبنية المصادر نحو: الزئير والدوي والقبول
والولوع، والمصدر يقع بلفظ الواحد، ويراد به التثنية والجمع:
لأنه جنس، والجنس يدل على واحده على ما هو أكثر منه.
الجواب الثاني: أن يكون المعنى: عن اليمين قعيد وعن الشمال
قعيد، ثم حذف اكتفاء بأحد الاسمين عن الثاني؛ لأن المعنى
مفهوم، قال الشاعر:
(1/455)
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ، والرأي
مختلف
والمعنى: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، فحذف، وقال
الفرزدق.
إني ضمنت لمن أتاني راجياً وأبي، وكان وكنت غير غندور
يريد: وكان أبي غير غندور، فحذف، ولم يقل: وكنا غير غدورين،
ومثله:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوى رماني
ولم يقل: بريئين، ومثله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا
آيَةً} [الأنبياء: 91] وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.
قال مجاهد: القعيد: الرصد، وقال أيضا: عن اليمين ملك يكتب
الحسنات وعن الشمال ملك يكتب السيئات، وهو قول الحسن، وزاد
الحسن: حتى إذا مات طويت صحيفة عمله، وقيل له يوم القيامة:
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيبًا} [الإسراء: 14] ، ثم قال: عدل والله من جعله حسيب
نفسه.
* * *
قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}
[ق: 24] .
جهنم: اسم أعجمي لا ينصرف للتريف والعجمة، وقيل: هو عربي:
وأصله من قولهم: بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر، فلم ينصرف في
هذا الوجه للتعريف والتأنيث.
ويسأل عن التثنية في قوله: {أَلْقِيَا} ؟ وفيها خمسة أجوبة:
أحدها: ان العرب تأمر القوم والواحد بما يؤمر به الاثنان؛
يقولون للرجل الواحد: قوما، واخرجا، ويحكى أن الحجاج قال: يا
حرسي اضربا عنقه، يريد: اضرب، قال الفراء: سمعت من العرب من
يقول: (ويلك ارحلاها ويلك ارحلاها) ، وأنشد قال أنشدني بعضهم:
(1/456)
فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز
شيحا
ولم يقل: لا تحبسنا، قال وأنشدني أبو ثروان:
وإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
قال: ونرى ذلك منهم أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان،
وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على
صاحبيه، ألا ترى أن الشعراء أكثر شيء قيلا: يا صاحبي ويا
خليلي، قال امرؤ القيس:
خليلي مرا بي على أم جندب نقض لبانات الفؤاد المعذب
ثم قال:
أم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
فرجع إلى الواحد؛ لأن أقل الكلام واحد في لفظ الاثنين، وأنشد
أيضاً:
خليلي قوما في عطالة فانظرا أثاراً ترى من نحو بابين أو برقا
ولم يقل: تريا، فهذا وجه.
والجواب الثاني: أنه ثنى ليدل التكرير، كأنه قال: الق الق،
فثنى الضمير ليدل على تكرير الفعل، وهذا لشدة ارتباط الفاعل
بالفعل، حتى صار إذا كرر أحدهما فكأن الثاني كرر؟ ، وهذا قول
المازني، ومثله عنده: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99]
، جمع ليدل على التكرير، كأنه قال: ارجعن ارجعن ارجعن. وقد
شرحناه.
والثالث: أن الأمر تناول السائق والشهيد، كأنه قال: يا أيها
السائق ويا أيها الشهيد ألقيا في جهنم.
(1/457)
والجواب الرابع: أنه ثنى؛ لأن إلقاءه في
النار لشدته بمنزلة إلقاء اثنين للواحد.
والجواب الخامس: أنه يريد (النون الخفيفة) كأنه قال: ألقين،
فأجرى الوصل مجرى الوقف، فأبدل من النون ألفا.
كما قال:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
وعليه تأول بعضهم قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
من قال: أراد (قفن) ؛ لأن يخاطب واحداً بدلالة قوله في آخر
القصيدة:
أحار ترى برقاً أريك وميضه كلمع اليدين في حبي مكلل
وهذا الجواب أضعف الأجوبة؛ لأنه محال أن يوصل الكلام والنية
فيه الوقف.
* * *
قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]
قال أنس: طلبت الزيادة، وقال مجاهد: المعنى معنى الكفاية، أي:
لم يبق مزيد لامتلائها، ويدل على هذا القول: {لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]
، ولا يمتنع القول الأول لوجهين:
أحدهما: أن هذا القول كان منها قبل دخول جميع أهل النار فيها.
والآخر: أن تكون طلبت الزيادة على أن يزاد في سعتها، ومثله حمل
بعضهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ألا تترك
دارك فقال: (وهل ترك لنا عقيل من دار) ؛ لأنه كان قد باع دور
بني هاشم لما خرجوا إلى المدينة. فعلى هذا يكون على المعنى
الأول أي: وهل بقي زيادة، وجاء في التفسير: أن الله تعالى يخلق
لجهنم آلة الكلام فتكلم، وقال
(1/458)
بعضهم: هو على التمثيل، وأنشد:
امتلأ الحوض وقال قطن
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وكذا قول عنترة:
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
والأول هو المذهب؛ لأنه لا يمتنع أن يخلق الله لها آلة فتتكلم؛
لأن من أنطق الأيدي والأرجل والجلود قادر على أن ينطق جهنم،
وكذا قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ، هو
قول وليس على طريق التمثيل.
وقيل في هذا الجمع إنه إنما أتى كذلك؛ لأنه لما أخبر عنها بفعل
من يعقل جمعها جمع من يعقل فهذا يؤكده ما قلناه.
وقال الكسائي: المعنى أتينا نحن ومن فينا طائعين. وفيها من
يعقل فغلب على ما لا يعقل، وكل حسن جميل.
{ومن سورة الذاريات}
* * *
قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:
17-18] .
يسأل عن نصب {قَلِيلًا} ؟ وفيه وجهان:
أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف تقديره؛ هجوعاً قليلاً من الليل
ما يهجعون، فعلى هذا الوجه تكون {مَا} زائدة، و {يَهْجَعُونَ}
خبر {كَانُوا} ، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً.
(1/459)
والوجه الثاني: أن يكون {قَلِيلًا} خبرً
لكانوا، والمعنى: كان هؤلاء قليلاً، ثم قال: من الليل ما
يهجعون، أي: ما يهجعون شيئاً من الليل.
فعلى الوجه الأول يهجعون عجوعاً قليلاً، وعلى القول الثاني لا
يهجعون البتة.
والهجوع: النوم، وهو قول ابن عباس وإبراهيم الضحاك، والأول قول
الحسن والزهري. و {مَا} في القول الأول صلة، وفي القول الثاني
نافية، وقيل {مَا} مصدرية، والتقدير؛ كانوا قليلاً هجوعهم،
وقدر بعضهم {قَلِيلًا} نعتاً لظرف محذوف، أي: كانوا وقتاً
قليلاً يهجعون، وكل محتمل، قال قتادة: لا ينامون عن العتمة
ينتظرونها لوقتها؛ كأنه عد هجوعهم قليلاً في جانب يقظتهم
للصلاة، ولا يجوز أن تجعل {مَا} نفياً وينصب بها {قَلِيلًا} ؛
لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله.
* * *
قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
(22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ
مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 22-23] .
قال الضحاك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} ، أي المطر، لأنه
سبب الخير، قال مجاهد: {وَمَا تُوعَدُونَ} من خير أو شر، وقيل:
ما توعدون؛ الجنة؛ لأنها في السماء قال الفراء؛ أقسم بنفسه إن
الذي قال لكم حق مثل ما إنكم تنطقون، قال: وقد يقول القائل كيف
اجتمع {مَا} و {إِنَّ} وقد يكتفى بإحداهما من الأخرى؟ وفي هذا
وجهان:
أحدهما: أن العرب تجمع، بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا
اختلف لفظهما، في الأسماء، قال الشاعر:
(1/460)
من النفر اللاتي الذين إذا هم يهاب اللئام
حلقة الباب قعقعوا
فجمع بين (اللاتي) و (الذين) وأحدهما مجزي من الآخر، وأما في
الأدوات فقول الشاعر:
ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب
فجمع بين (ما) و (إن) وهما جحدان أحدهما يجري مجرى الآخر.
وأما الوجه الآخر: فإن المعنى لو أفرد بـ: {مَا} لكان المنطق
في نفسه حقاً لا كذباً، ولم يرد به ذلك، وإنما أراد به أنه لحق
كما أن الآدمي ناطق، ألا ترى أن قولك: أحق منطقك؟ معناه: أحق
هوأم كذب؟ وإن قولك؛ أحق أنك تنطق؟ معناه؛ ألك النطق حقاً؟
والنطق له لا لغيره، وأدخلت {أن} ليفرق بين المعنيين، قال:
وهذا أعجب الوجهين إلي.
وهو كما قال؛ لأن الوجه الأول ضعيف، أما البيت الأول فالرواية
المشهورة فيه:
من النفر البيض الذين إذا هم يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
وأما البيت الثاني فلأن (لا) فيه زائدة، والعرب تزيد (إن) مع
(ما) ، نحو قول النابغة:
فما إن كان من نسب بعيد ولكن أدركوك وهو غضاب
وكذا قول الآخر:
فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا
وهذا إن شاع في الحروف فإنه في الأسماء، بعيد و (ما) و (أن)
اسمان في تأويل المصدر، إلا أنه يجوز أن تكون (ما) حرفاً فيسوغ
زيادتها، ولا يسوغ إذا كانت مصدرية؛ لأنها في حيز الأسماء، ولا
يستحسن زيادة الأسماء، وأما الحروف فيستحسن زيادتها لا سيما
(ما)
(1/461)
نحو قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ} [آل عمران: 159] ، و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ
مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] ونحو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة:
26] فـ: {مَا} في أحد القولين زائدة، وقد زادت العرب (ما)
زيادة لازمة نحو قولهم: افعل ذلك آثراً ما.
قرأ الكسائي وحمزة وعاصم من طريقة أبي بكر {مَثَلً} بالرفع،
وهي قراءة الأعمش، وقرأ الباقون بالنصب، وهي قراءة الحسن،
فالرفع على أنه نعت للحق، وأما النصب ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون في موضع رفع؛ لأنه مبني لأضافته إلى غير متمكن
وهو الاسم الناقص، قال الشاعر:
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في غصون ذات أوقال
فبنى (غير) لمخت مبهمة أضافها إلى مبني وهو (أن) ، وموضع (غير
أن نطقت) رفع، وكذلك (مثل) مبهم أضيف إلى مبني، فهذا وجه.
والوجه الثاني: أنه منصوب على الحال، وهو قول الجرمي، وفيه
بعد؛ لأن (حقا) نكرة والحال لا تكون من النكرة، إنما شرطها أن
تكون نكرة بعد معرفة قد تم الكلام دونها، نحو قولك: جاء زيد
راكباً، تنصب (راكباً) لأنه نكرة جاء بعد (زيد) وهومعرفة يجوز
أن يوقف دونه؛ لأنك لو قلت: جاء زيد، لكان كلاماً تاماً، وهذه
الحال منتقلة، إلا أنه قد جاء عن العرب حرف شاذ، وهو قولهم:
وقع أمر فجأة، نصبوا (فجأة) على الحال من (أمر) وأمر نكرة، ولو
حمله حامل على أنه منصوب على المصدر لكان وجهاً؛ لأن المعنى:
وقع أمر وفاجأ أمر سواء.
(1/462)
وقيل؛ إن {مِثْلَ مَا} حال من مضمر في
{حقٌ} ؛ لأنه وإن كان مصدراً فهو في موضع اسم الفاعل، واسم
الفاعل يتضمن الضمير، نحو قولك؛ هذا زيد قائم، ففي (قائم)
ضمير، ألا ترى أنك لو أجريت (قائماً) على غير من هو له لأظهرت
الضمير؛ فقلت: هذا زيد قائماً أبوه، وقائم أبوه، إن شئت، فـ
(الهاء) في (أبوه) هو الضمير الذي كان في (قائم) ، ولم يبق في
(قائم) ضمير.
والوجه الثالث: أنه منصوب على المصدر، كأنه قيل؛ إنه لحق حقاً
كنطقكم، وهو قول الفراء، وزعم أن العرب تنصبها إذا رفع بها
اسم، فيقولون؛ مثل من عبد الله ويقولون: عبد الله مثلك، وأنت
مثله، وعلة النصب فيها؛ أن الكاف قد تكون داخلة عليها فتنصب
إذا ألقيت الكاف، قال؛ فإن قال قائل؛ أفيجوز أن نقول: زيد
الأسد شدة، فتنصب (الأسد) إذا ألقيت الكاف؟ قلت: لا، وذلك أن
(مثل) تؤدي عن الكاف والأسد، ولا يؤدي عنها، ألا ترى قول
الشاعر:
وزعت بكا لهراوة أعوجي إذا ونت الركاب جرى وثابا
أن الكاف قد أجزأت عن (مثل) ، وأن العرب تجمع بينهما، فيقولون:
زيد كمثلك، وقال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11] ، قال: واجتماعهما دليل على أن معناهما واحد.
وهذا لا يجوز عند البصريين، و (الكاف) هاهنا زائدة، وإنما لم
يجز عندهم؛ لأنه لا ناصب هنالك وإنما ينصب الاسم إذا حذف منه
حرف الجر إذا كان قبله فعل ينصبه، نحو قولك: أمرتك الخير، أنت
تريد: أمرتك بالخير، وأنت إذا قلت: إنه لحق كمثل ما أنكم
تنطقون، فحذفت الكاف لم يبق ما ينصب (مثل) ؛ لأنه فعل هنالك،
وإنما قبله (حق) وهو مصدر، والمصدر لا يعمل في المصدر إلا أن
يضمر له فعل تقديره: إنه لحق يحق حقاً مثل نطقكم، ثم حذفت
الفعل والمصدر جميعاً وأقمت نعت المصدر مقامه، فهذا يجوز على
هذا التقدير.
(1/463)
|