النكت في القرآن الكريم {ومن سورة حم
عسق}
* * *
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ
كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32] .
الجواري: السفن، واحدها جارية.
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر {الجَوَارِي} بالياء في الوصل،
ووقف ابن كثير وحده على الياء، وقرأ الباقون بحذف الياء في
الوصل والوقف.
فإثبات الياء هو الأصل في الوقف، وحذفها على التشبيه بحذفها مع
التنوين؛ لأن التنوين وحرف التعريف يتعاقبان على الكلمة، فأعطى
أحدهما حكم الآخر، فمن أثبتها في الوقف فعلى الأصل، ومن حذفها
فعلى التشبيه بما وقف عليه من المنون.
والأعلام: الجبال، واحدها علم، قالت الخنساء:
ومعنى يظللن: يدمن ويقمن، ويقال: ظل يفعل كذا وكذا، إذا فعله
نهارا، وبات يفعل كذا وكذا، إذا فعله ليلاً.
والواكد: الثوابت، والإيباق، الإهلاك والإتلاف هذا قول ابن
عباس ومجاهد والسدي.
(1/436)
وقرأ نافع وابن عامر {الَّذِينَ
يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا} [الشورى: 35] بالرفع على القطع.
وقرأ الباقون {وَيَعْلَمَ} بالنصب على إضمار (أن) .
والكوفيون يقولون: نصب على الصرف، وإنما أضمرت (أن) ليكون مع
الفعل مصدراً فيعطف على مصدر ما قبله، ومثله قول الشاعر:
للبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف
أي: (وأن تقر عيني) ، أضمر (أن) ؛ لأن في صدر الكلام مصدراً
وهو (لبس) .
* * *
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولًا} [الشورى: 51]
قال الفراء هذا: كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى في
منامه ويلهمه - يعني الوحي، قال: ومن وراء حجاب كلم موسى -
عليه السلام - أو يرسل رسولاً مثل ما كان من الملائكة التي
تكلم الأنبياء عليهم السلام.
قال غيره: إرسال الرسول أحد أقسام الكلام، كما يقال: عتابك
السيف، كأنه قيل: إلا وحياً أو إرسالا. وقيل المعنى: (إلا أن)
، كما تقول: لألزمنك أو تقضيني حقي. فلا يكون الإرسال على هذا
الوجه كلاماً.
قرأ نافع وابن عامر {أَوْ يُرْسِلَ} بالرفع، وهو وجه، على
تقدير: أو هو يرسل رسولاً، وقرأ الباقون بالنصب على إضمار (أن)
كأن في التقدير أو أن يرسل رسولاً. ولا يجوز أن يكون معطوفاً
على {يُكَلِّمَهُ} ؛ لأن المعنى يصير: وما كان لبشر أن يكلمه
الله، ولا كان أن يرسل رسولاً، وهذا إبطال النبوة.
(1/437)
{ومن سورة
الزخرف}
* * *
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
القريتان هاهنا: مكة والطائف، ويعني بالرجل هاهنا: الوليد بن
المغيرة القرشي أو حبيب ابن عمرو الثقفي، وهو قول ابن عباس،
وقال مجاهد يعني بالرجلين عتبة بن ربيعة من أهل مكة وابن عبد
يا ليل من أهل الطائف، وقال قتادة: يعني من أهل مكة (الوليد بن
المغيرة) ومن أهل الطائف (عروة بن مسعود الثقفي) وقيل: يعني
بالذي من الطائف (كنانة ابن عمرو) ، وهو قول السدي.
وفي الكلام حذف، والتقدير: لولا أنزل هذا القرآن على أحد رجلين
من القريتين عظيم، ولا يجوز أن يكون على غير حذف؛ لأن رجلاً لا
يكون من قريتين، وقيل التقدير: لولا أنزل هذا القرآن على رجل
من رجلين من القرية، ثم حذف؛ لأن المعنى مفهوم.
* * *
قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] .
الأصل في (سل) : (اسأل) فألقيت حركة الهمزة على السين، وانفتحت
السين، فاستغنى عن همزة الوصل فبقى (سل) ، ومن العرب من يقول
(اسأل) على الأصل، ومنهم من ينقل الحركة إلى السين ويترك همزة
الوصل على حالها فيقول (اسال) ومثله في
(1/438)
أن همزة الوصل دخلت على متحرك (الحمر) وليس
لهما نظير إلا إذا سميت رجلاً بالباء من قولك: (اضرب) فإنك
تقول هذا (إب) وهو مذهب الخليل، وقال غيره (رب) .
ومما يسأل عنه أن يقال: من الذي أمر أن يسألهم؟ وفيه جوابان:
أحدهما: قال الضحاك وقتادة يعني به: أهل الكتابين.
والثاني: أنه يعني به: الأنبياء - عليهم السلام - حين جمعوا له
ليلة الإسراء، وهوقول عبد الرحمن بن زيد.
وفي الكلام على الوجه الأول حذف، والتقدير: وسل أمم من أرسلنا
من قبلك، وهو كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ،
وقيل: سلهم وإن كانوا كفاراً فإن تواتر خبرهم تقوم به الحجة.
والآلهة: جمع إله، مثل: إزار وآزرة، وكان المشركون يعظمون
الأصنام تعظيم ملوك بني آدم، وكان ذلك التعظيم كالعبادة لها،
والمشركون مع ذلك مقرون أن الله تعالى هو خالقهم ورازقهم، ويدل
عليه قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]
.
* * *
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا
أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]
في {إِنْ} هاهنا وجهان:
أحدهما: أن يكون نفياً، كأنه قال: ما كان للرحمن ولد، ومثله
قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ
فِيهِ} [الأحقاف: 26] أي: في الذي ما مكناكم.
والوجه الثاني: أنها شرط، والتقدير: قل إن كان للرحمن ولد على
زعمكم فأنا أول العابدين وقيل في العابدين ثلاثة أقوال:
(1/439)
أحدها: أنه من العبادة كأنه قال: فأنا أول
من يعبده على أن لا ولد له؛ لأن من جعل له ولداً لم يعبده حق
العبادة، هذا قول المبرد.
والثاني: أن (عابدين) هاهنا بمعنى (جاحدين) ، والمعنى: أنه لا
ولد له على الحقيقة، وإذا كان كذلك وجب أن يجحد ادعاء من ادعاه
وينكر ولا يعتقد.
والثالث: أن معنى عابدين هاهنا بمعنى الآنفين، يقال عبدت من
كذا أعبد عبداً.
قال الشاعر:
ألا هزئت أم الوليد وأصبحت لما أبصرت في الرأس مني تعبد
وقال الفرزدق:
أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن يهجا كليب بدارم
قال مجاهد المعنى: قل إن كان للحمن ولد فأنا أو العابدين لله
في تكذيبكم، وقال عبد الرحمن بن زيد وقتادة المعنى: قل ما كان
للرحمن ولد، وروي عن ابن عباس فيما روى السُّدي أن المعنى: قل
لو كان للرحمن ولد لكنت أول من عبده بأن له ولداً، ولكن لا ولد
له.
والرحمن: اسم ممنوع، ومعنى ممنوع: أنه لا يسمى به غير الله
تعالى، وقيل: إن الجاهلية لم تكن تعرفه، فلما نزل قالوا: لا
نعرف هذا الاسم، وقيل: إنه لما نزل قالوا: لا نعرف (الرحمن)
إلا هذا الذي باليمامة، وقد جاء في الشعر الجاهلي، قال الشاعر
وهو
(1/440)
(سلامة بن جندل) :
عجلتم علينا حجتين عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
* * *
قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا
رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:
85-88] .
الساعة هاهنا: القيامة.
ومعنى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي: إلا من شهد بأنه
أهل العفو عنه.
ومعنى قوله: {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: يدعون
إلها، إلا أنه حذف.
قرأ عاصم {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} وكذلك قرأ حمزة، وهي قراءة
السلمي وبعض أصحاب عبد الله بن مسعود، وقرأ أهل المدينة
{وَقِيلِهِ} بالنصب، وهي قراءة الحسن أيضا، وروي عن الأعمش أو
غيره {وَقِيلِهِ} بالرفع.
فمن جر عطفه على (الساعة) كأنه قال: وعنده علم الساعة وعلم
قيله يا رب، وقيل: ويجوز أن يكون معطوفاً على (الحق) من قوله:
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} ، {وَقِيلِهِ} .
ومننصب أضمر فعلاً تقديره: ويعلم قيله يارب، وهو اختيار أبي
إسحاق، وقال الفراء: كأنه قال: وشكى شكواه إلى ربه، قال: وهي
في إحدى القراءتين، قال: ويجوز نصبه على قوله: {نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ} [الزخرف: 80] {وَقِيلِهِ} ، وقال الرماني التقدير:
إلا من شهد الحق وقال قيله يارب أن هؤلاء قوم لا يؤمنون، على
جهة الإنكار عليهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على موضع الساعة؛
لأن معنى قوله: {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ، ويعلم
الساعة، والساعة مفعولة وليست ظرفاً؛ لأن الله تعالى لا يعلم
في
(1/441)
ساعة دون ساعة تعالى عن ذلك.
وأما الرفع فعلى أنه معطوف على {عِلْمُ السَّاعَةِ} ، والمعنى:
وعنده علم الساعة وقيله، أي: وعنده قيله.
قال مجاهد: ولا تشفع الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام إلا من
شهد بالحق، وهو يعلم الحق، وقال قتادة: إلا من شهد بالحق
الملائكة وعيسى وعزير عند الله شهادة بالحق.
{ومن سورة الدخان}
* * *
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ
إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ
حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ} [الدخان: 3-5]
أي: أنزلنا القرآن، والليلة المباركة: ليلة القدر، وهوقول
قتادة وعبد الرحمن بن زيد، قالوا: أنزل القرآن جملة واحدة إلى
بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل على النبي - صلى الله عليه
وسلم - نجوماً في نيف وعشرين سنة، وقال عكرمة: الليلة
المباركة: ليلة النصف من شعبان، قيل: الليلة المباركة: في جميع
شهر رمضان؛ تقسم فيها الآجال والأرزاق وغيرهما من الألطاف، وهو
قول الحسن.
وسميت (مباركة) لانها يقسم فيها أرزاق العباد منالسنة إلى
السنة، وقيل في {أَنْزَلْنَاهُ} أي: ابتدأنا إنزاله.
ويسأل عن نصب قوله: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} ؟
وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون مصدراً؛ أي: أمرنا أمراً؛ لأن معنى {فِيهَا
يُفْرَقُ} كمعنى (فيها يؤمر) فدل يفرق على يؤمر.
(1/442)
والقول الثاني: أنه منصوب على الحال، على
أحد وجهين: إما أن يكون على تقدير: ذا أمرٍ، ثم حذف: كما قال:
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} ، أو يكون وضع المصدر موضع الحال كما
يقال: جاء مشياً وركضاً، أي: ماشياً وراكضاً.
* * *
قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ
وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]
يقال ما معنى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ} ؟.
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن المعنى: أهل السماء والأرض؛ لأنهم يسخط الله تعالى
عليهم في مكان خزي.
والثاني: أن المعنى: لو كانت السماء والأرض ممن يبكي على أحد
لم تبك على هؤلاء؛ لأنهم عصاة مجرمون.
والثالث: أن المعنى: أنه لم تبك عليهم كما تبكي على المؤمن إذا
مات مصلاه ومصعد عمله، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير،
والأول قول الحسن.
* * *
قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
[الدخان: 49]
يسأل عن معنى: {الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} هاهنا؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون على طريق النقيض، المعنى: ذق إنك أنت الذليل
المهين، إلا أنه جاء على جهة الاستخفاف، وهذا في الكلام مستعمل
بقول الرجل للرجل يستجهله ويستحمقه: ما أنت إلا عاقل.
والثاني: ذق العذاب إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم، وما
أغنى عنك ذلك شيئاً.
(1/443)
قال قتادة: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه كان
يقول: أنا أعز من بها وأكرم، فقيل له: أأنت الذي كنت تقول ذلك
في قومك وتطلب العز والكرم بمعصية الله، ذق هذا العذاب.
ومما جاء على طريق النقيض قوله تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] ، قيل معناه: أنت السفيه
الغوي؛ لأنهم إنما قالوا ذلك عن طريق الاستخفاف به، قال الحسن
المعنى: ذق إنك أنت العزيز الكريم عند نفسك، والمعني به أبو
جهل.
ويجوز في قوله: {أَنْتَ} وجهان:
أحدهما: أن يكون توكيداً للكاف، و {الْعَزِيزُ} خبر {إِنَّ} .
والثاني: أن يكون {أَنْتَ} مبتدأ، و {الْعَزِيزُ} خبره،
والجملة خبر {إِنَّ} .
* * *
قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}
[الدخان: 56] .
يقال لم استثنى هاهنا الموتة الأولى، وهي قد انقضت؟.
والجواب: أنه استثنى من غير الجنس، والتقدير على مذهب سيبويه:
لكن الموتة الأولى، ومثله: ما زاد إلا ما نقص، أي: لكن نقص.
قال الفراء: (إلا) هاهنا بمعنى (سوى) والتقدير: سوى الموتة
الأولى، ومثله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] .
وقال غيره: {إِلَّا} بمعنى (بعد) ، والتقدير: بعد الموتة
الأولى، وإنما جاز أن تقع (إلا) موقع (بعد) لأن (إلا) لإخراج
بعض من كل، و (بعد) لإخراج الثاني عن الوقت الأول.
والموتة: المرة الواحدة من الموت، والميتة الموت، والميتة -
بفتح الميم - الميتة، وكثير من المحدثين يغلط في مثل هذا فيقول
في (البحر) : (هو الطهور ماؤه والحل ميتته) - بكسر الميم -
والصواب فتحها.
(1/444)
{ومن سورة
الجاثية}
* * *
قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3-5] .
يقال: ما الآيات في السموات والأرض؟
والجواب: الدلائل، وهي من وجوه كثيرة:
منها: أنه يدل خلقها على خالف لها؛ لأنه لا يكون بناء بغير
بان.
ومنها: أنها أعظم الخلق.
ومنها: أنها محكمة على اتساق ونظام، وهذا يدل على أن صانعها
واحد، وعلى أنه قديم؛ لأنه صانع غير مصنوع.
ومنها: أنها ممسكة مع عظمها وثقل جرمها بغير عمد ... إلى أشباه
ذلك.
ويسأل: عن الآيات في خلق الإنسان؟
والجواب: أنها من وجوه:
منها: خلق الإنسان على ما هو به من وضع كل شيء في موضعه لما
يصلح له، وذلك يقتضي أن الصانع عالم بموضع المصالحة.
ومنها: جعل الحواس الخمس على الهيئة التي تصلح لها.
ومنها: آلة مطعمه ومشربه، ومثال ذلك، كل هذا في تدبير محكم.
قرأ الكسائي وحمزة {آيَات} بالكسر، وقرأ الباقون بالرفع في
الثانية والثالثة، فمن كسر (التاء) جعل (الآيات) في موضع نصب
على التكرير للتوكيد، والعرب تؤكد بتكرير اللفظ، نحو قولك:
(1/445)
رأيت زيداً زيداً. ومثله قوله الراجز:
لقائل يا نصر نصراً نصرًا
هذا مذهب حذاق النحويين، وقال الأخفش: هو عطف على عاملين، كأنه
قال: إن في السموات والأرض لآيات وفي خلقكم آيات، فعطف على
(إن) و (في) وأنشد:
سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي يحل من التقبيل في رمضان
فقال لي المكي أما لزوجة فسبع وأما خلة فثماني
فعطف (خلة) على زوجة، و (ثمانياً) على سبع، وأنشد سيبويه:
أكل امرئ تحسبين امراً ونار توقد بالليل نارا
فعطف (ناراً) الأولى على (امرئ) الأول، وعطف (ناراً) الثانية
على (امرئ) الثاني، ومثل ذلك:
وهون عليك فإن الأمور بكف الإله مقاديرها
فليس بآتيك منهيها ولا قاصر عنك مأمورها
والعطف على عاملين عند البصريين لا يجوز، لا تقول: في الدار
زيد والسوق عمرو، وأنت تريد: وفي السوق عمرو؛ لأن حرف الجر
ضعيف، فلا يعمل بعد الفصل بالأجنبي.
وأما من رفع فإنه جعل (الآيات) الثانية رفعاً بالابتداء والخبر
المجرور الذي {َفِي خَلْقِكُمْ} [الجاثية: 4] وجعل (الآيات)
الثالثة تكريراً للثانية، قال الفراء: العرب تقول: إن لي عليك
مالاً وعلى أخيك مال كثير، فينصبون الثاني ويرفعونه، وأجاز
الفراء رفع
(1/446)
(الآيات) وفيها (اللام) وأنشد قال: أنشدنا
الكسائي:
إن الخلافة بعدهم لذميمة وخلائف طرف لما أحقر
وذكر أن أبيا قرأ {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ
دَابَّةٍ آيَاتٌ} ، وكذلك في الثالثة، وأجاز الكسائي: في الدار
لزيد، والبصريون لا يجيزون ذلك.
{ومن سورة الأحقاف}
* * *
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:
24] .
العارض: الدفعة من المطر هاهنا، وأصل العارض: الماء ولا يلبث.
ومنه قيل: الدنيا عرض، ولذلك قالوا لخلاف الجوهر؛ لقلة بقائه،
وقيل سمي السحاب عارضاً لأخذه في عرض السماء قال الأعشى:
يا من يرى عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل
والضمير يعود على العذاب، أي فلما رأوا العذاب الذي تقدم ذكره
معترضاً مستقبل أوديتهم ظنوه مطراً.
وقوله: {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} نكرة، وإن كان بلفظ
المعرفة؛ لأن الانفصال مقدر فيه، والمعنى: فلما رأوه مستقبلاً
أوديتهم، وكذلك {مُمْطِرُنَا} إنما معناه: ممطر لنا، واسم
الفاعل إذا كان بمعنى الحال والاستقبال كان الانفصال مقدراً
فيه، نحو قولك: هذا ضارب زيد غداً، وشاتم عمر الساعة، والمعنى
سيضربه وهو يشتمه، وعليه قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ
الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وقوله: {هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، قال جرير:
(1/447)
يا رب غابطنا لو كان يطلبكم لاقى مباعدة
منكم وحرمانا
يريد: يا رب غابط لنا؛ لأن (رُبَّ) لا تدخل على معرفة، وإنما
تدخل على النكرة وكذلك {كلُّ} .
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] .
يسأل: عن معنى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن المعنى: صرفناهم بالرجم بالشهب، فقالوا إن هذا لأمر
كبير، هذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير.
والثاني: أن المعنى عدلنا بهم إليك.
وقيل: قرفوا بالتوفيق.
قال ابن عباس: كانوا سبعة نفر، وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة
نفر.
قال ابن عباس: كانوا من أهل نصيبين، وقال قتادة، صرفوا إليه من
(نينوى) وهي مدينة يونس عليه السلام,
{ومن سورة محمد - صلى الله
عليه وسلم -}
* * *
قوله تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}
[محمد: 6]
يسأل عن معنى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه تعالى عرفها لهم، فوصفها على ما يشوف إليها؛
فعلموا ما يتسوجبون بأعمالهم من الثواب، وما يحرمون بارتكاب
المعاصي.
(1/448)
والثاني: أن المعنى؛ طيبها لهم بضروب
الملاذ من (العرف) والعرف: الرائحة الطيبة التي تتقبلها النفس
تقبل ما تعرفه ولا تنكره.
وقيل: طبقات الجنة أربع: طبقة نعيم وهي أعلاها، وهي طبقة
النبيين. ثم طبقة نعيم للمؤمنين المجازين بأعمالهم، ثم طبقة
نعيم للمعوضين من غيرهم، ثم طبقة نعيم للمفتدين بالتفضل عليهم.
وللطبقات تفاوت، والمراتب لا تتفاوت، كما قال تعالى: {لَا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ}
[الحديد: 10] ، وقال: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ
اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] .
* * *
قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى
لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] .
يسأل عن موضع {ذِكْرَاهُمْ} من الإعراف؟
والجواب: أن موضعها رفع، والتقدير: فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم
الساعة.
وأنى: بمعنى: (من أين لهم) ومثل: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، أي ليس ينفعه ذكره
ولا ندامته.
* * *
قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] .
يسأل عن معنى قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} ، وبم
ارتفع؟ وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى: قولوا أمرنا طاعة وقول معروف، قال
مجاهد: أمر الله تعالى بذلك المنافقين، وقال غيره: هو حكاية
عنهم يقولون: طاعة وقول معروف قبل فرض الجهاد؛ لأن نقيضه قوله:
{فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]
.
والثاني: أن المعنى طاعة وقول معروف أمثل، وأليق من أحوال
هؤلاء المنافقين.
(1/449)
وقيل: المعنى: طاعة وقول معروف خير لهم من جزعهم عند نزول فرض
الجهاد وهو قول الحسن، و {طَاعَةٌ} على القول الأول خبر مبتدأ
محذوف، وعلى القول الثاني مبتدأ محذوف الخبر. |