النكت في القرآن الكريم {ومن سورة
الصافات}
* * *
قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] .
التزيين: التحسين، وحفظ الشيء: صونه، والمارد: الخارج إلى
الفساد العاتي. واختلف القراء فقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر
وابن كثير {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} وقرأ عاصم من طريق أبي بكر
{بِزِينَةِ} ينون (زينة) وينصب (الكواكب) ، وقرأ حمزة وحفص
(1/413)
عن عاصم {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} بالتنوين
وجر الكواكب.
فمن أضاف ولم ينون جعل المصدر الذي هو (زينة) مضافا إلى
الكواكب، وأما من نون ونصب (الكواكب) فإنه نصبها (بزينة) ،
كأنه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بأن زينا الكواكب؛ لأن
تزيين الكواكب تزيين للسماء. ومن نون وجر جعل الكواكب بدلا من
زينة، كأنه قال: ولقد زينا السماء الدنيا بالكواكب، وهذا من
بدل الشيء من الشيء الذي هو هو؛ لأن الكواكب هي الزينة، ومثله:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ
اللَّهِ} [الشورى: 52-53] ، أجاز الفراء الرفع في (الكواكب) مع
تنوين (زينة) على أن تكون (الكواكب) هي (الزينة) للسماء، قال:
يريد زيناها بتزينها الكواكب.
قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ}
[الصافات: 51]
القرين والمقارن، والصاحب والمصاحب ألفاظ متقاربة المعنى،
والمديون المجازون، والسواء الوسط، سمي سواء لاستواء المسافة
منه إلى جميع جوانبه، قال ابن عباس: كان القرين رجلا من الناس،
وقال مجاهد: كان شيطانا.
وروي عن أبي عمرو {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54]
بكسر النون، رواه حسين (فأطلع) بقطع الألف والنحويون لا يجيزون
ذلك؛ لأن السماء إذا أضيفت حذفت منها النون، فكان يجب أن يقال:
هل أنتم مطلعي وإنما يقال: (يطلعون) في (يطالعونني) بحذف إحدى
النونين، كما قرأ نافع {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} ، فهذا يجوز في
(1/414)
الفعل ولا يجوز في الاسم، وأنشد الفراء:
وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قوم شراح
يعني: شراحيل، والمبرد يروي هذا البيت (يسلمني) .
قال الفراء في قوله: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} هذا الرجل
من أهل الجنة كان له أخ من أهل الكفر وأحب أن يرى مكانه، فيأذن
الله له، فيطلع إليه في النار ويخاطبه، فإذا رآه قال:
{تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] ، قال: وفي
حرف عبد الله (لتغوين) ولولا رحمة ربي {لَكُنْتُ مِنَ
الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] معك في النار.
والعامل في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا
وَعِظَامًا} [الصافات: 53] مضمر، كأنه قال: ندان ونجازى إنا
لمدينون، ولا يجوز أن يعمل فيه {لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] ؛
لأن الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله.
ويقال: مت ومت، وكان القياس أن يقول من يقول: (مت) (أمات) إلا
أنه جاء (فعل يفعل) ومثله: دمت أدوم وفضل يفضل، وقد حكى
الكسائي: مت تمات ودمت تدام على القياس، كما تقول: خفت أخاف
ونمت أنام.
* * *
قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ} [الصافات: 62]
الألف في قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ} ألف تبكيت وتقريع، وشجرة
الزقوم: هي الشجرة الملعونة في القرآن، وكانت فتنتهم بها أن
أبا جهل قال: النار تأكر الشجر، فكيف ينبت فيها الشجر!!
وللعلماء عن هذا جوابان:
أحدهما: أنها شجرة من النار.
والثاني: أنها من جوهر لا تأكله النار، وقد استقصيت شرح هذا في
سورة بني إسرائيل، وذكر ابن إسحاق أن أبا جهل لما سمع
{شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} قال: أتعلمون ما
(1/415)
شجرة الزقوم؟ قالوا: لا، قال: عجوز يثرب،
بسمن الحجاز، والله لنتزقمها تزقما.
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ
الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:
43-45] .
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: إنما يشبه الشيء بما يعرف، ورؤوس
الشياطين لا تعرف، فكيف شبه طلع هذه الشجرة برؤوس الشياطين وهي
لا تعرف؟
وعن هذا ثلاثة أجوبة:
أحدهما: أن رؤوس الشياطين ثمرة شجرة يقال لها الأستن، وإياه
عني النابغة:
تحيد عن أستن سود أسافله مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما
وهذه الشجرة تشبه بني آدم، قال الأصمعي: ويقال له (الصوم) ،
وأنشد:
موكل بشدوف الصوم يرقبه من المغارب مهضوم الحشا زرم
يصف وعلا يظن هذا الشجر قناصين فهو يرقبه.
والجواب الثاني: أن الشيطان جنس من الحيات، أنشد الفراء:
عنجرد تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف
وأنشد المبرد:
وفي البقل إن لم يدفع الله شره شياطين يعدو بعضهن على بعض
والثالث: أن الله تعالى شنع صور الشياطين عن الناس، فاستقر في
قلوبهم أنها شنعة، فشبه طلع هذه الشجرة بما استقرت شناعته في
القلوب، قال الراجز:
(1/416)
بصرتها تلتهم الثعبانا
شيطانة تزوجت شيطانا.
وقال أبو النجم
الرأس قمل كله وصئبان
وليس في الرجلين إلا خيطان
فهي التي يفزع منها الشيطان
وقال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
فشبه أسنته بأنياب الأغوال، ولا يقول أحد أنه رأى الغول، ومن
قاله من العرب فكاذب، نحو ما يحكى عن تأبط شرا، وهذا قول
المحققين من أصحابنا.
* * *
قوله تعالى: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي
سَقِيمٌ} [الصافات: 87-89]
قيل في قوله: {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} قولان:
أحدها: أن المعنى: أي شيء ظنكم به أسوأ ظن.
والثاني: فما ظنكم برب العالمين أنه يصنع بكم.
وقيل في قوله: {فنظر نظرة في النجوم} أقوال:
أحدهما: أن المعنى نظر في علم النجوم ليعلمهم أنه علمهم مثل ما
يعلمون، فيكون إنكاره لعبادتهم الأصنام وقولهم بعلم النجوم على
بصيرة، لئلا يحتجوا عليه بأنه لا يحسنها، وكان يقال: (من جهل
شيئا عاداه) ، فقال: إني سقيم، أي: سأسقم.
(1/417)
والثاني: أنه نظر في نجوم الأرض، وهو جمع
نجم وهو ما لم يقم على ساق فرآها تجف وتذوي، فقال: إني سقيم،
أي: سأسقم وأذهب كما تذهب هذه النجوم.
وقيل: فنظر نظرة في النجوم، أي: فيم ينجم، له من الرأي، أي:
يظهر، يقال نجم النبت إذا ظهر، فقال: إني سقيم.
قال الفراء في قوله: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} أي: مطعون،
ويقال: إنها كلمة فيها معراض، أي: كل من كان في عنقه الموت فهو
سقيم وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر، قال: وهو وجه حسن.
وروي عن يحيى بن المهلب عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو
عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب في قوله تعالى:
{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] ، وقال: لم يس
ولكنها من معاريض الكلام، وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - (إن
في المعاريض لما يغنيط عن الكذب) .
وقيل: (كذب إبراهيم - عليه السلام - ثلاث كذبات) : قوله
{إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}
[الأنبياء: 63] ، وقوله في (سارة) هي أختي، وهذا على ما ذهب
إليه الفراء من المعاريض: {إِنِّي سَقِيمٌ} سأسقم، و {بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} على طريق التبكيت لهم، وكأنه فعله
لتعظيمهم إياه، وسارة أخته في الدين.
(1/418)
وقيل: الكذب يجوز في المكيدة والتقية ومسرة
الأهل بما لا يضر.
* * *
قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا
بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي
الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ
يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 101-102] .
قوله: {مَاذَا تَرَى} من الرأي، أي: ما رأيك في ذلك، وقال
الفراء المعنى: ماذا تريني من رأيك أو ضميرك، و (رأى) في
الكلام على خمسة أوجه:
- بمعنى أبصر، نحو: رأيت.
- وبمعنى علم، نحو: رأيت زيدا عالما.
- وبمعنى ظن، نحو قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7] ، فالأول بمعنى الظن،
والثاني بمعنى العلم.
- وبمعنى أعتقد، نحو قوله:
وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول
- وبمعنى الرأي، نحو قولك رأيت هذا الرأي.
فأما (رأيت في المنام) فمن رؤية البصر، فلا يجوز أن تكون (ترى)
هاهنا بمعنى تبصر؛ لأنه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين، ولا يجوز
أن تكون بمعنى (علم) أو (ظن) أو (اعتقد) ؛ لانه هذه الأشياء
تتعدى إلى مفعولين، وليس هاهنا إلا مفعول واحد، مع استحالة
المعنى، فلم يبق إلا أن يكون من (الرأي) والمعنى: ماذا تراه.
واختلف في جواب {لَّمَّا} :
(1/419)
فقيل: هو محذوف، والمعنى: فلما أسلما وتله
للجبين وناديناه فازا أو ظفرا بما أرادا.
وقيل: (الواو) زائدة: والمعنى: فلما أسلما تله للجبين. والتل:
الصرع.
وقيل في معنى قوله: {بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} : أطاق أن يسعى
معه، وهو قول مجاهد، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو السعي في
العبادة.
وقيل: إنه أمر أن يقعد مقعد الذابح، وينتظر الأمر بإمضاء الذبح
على ما رآخ في منامه، ففعل، وقيل: إنه أمر على شرط التخلية
والتمكين، فكان - كما روي - أنه: كلما اعتمد بالشفرة انقلبت،
وجعل على حلقه صفيحة من نحاس، وقيل: بل ذبح، ووصل الله تعالى
ما فراه بلا فصل.
واختلف في الذبيح:
فقيل: هو إسماعيل، وقيل: هو إسحاق، روى محمد بن خالد عن سلم بن
قتيبة عن مبارك عن الحسن عن الأحنف عن العباس بن عبد المطلب -
رضي الله عنه - أنه قال: الذبيح إسحاق، وروى أبو الخطاب حدثنا
أبو داود عن زيد عن عطاء عن سماك
(1/420)
ابن حرب عن محمد بن المنتشر عن مسروق أنه
كان يقول: الذبيح إسحاق، وروى إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن
يحيى اليمان عن إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر قال:
الذبيح إسماعيل، وروى محمد بن عبيد حدثنا مسلم بن إبراهيم عن
الحجاج بن الحجاج عن الفرزدق همام بن غالب قال: سمعت أبا هريرة
على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الذبيح إسماعيل،
والأول قول علي وابن مسعود والحسن وكعب الأحبار، والثاني قول
محمد بن كعب وسعيد بن المسيب وابن عباس والحسن بخلاف.
وقيل: كان الذبيح يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة.
وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أنا ابن
الذبيحين) ، فهذا يدل على أن الذبيح (إسماعيل) ؛ لأن النبي -
عليه السلام - من ولد إسماعيل، والذبيح الثاني (عبد الله) أب
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
حدثني أبي عن عمه حدثنا القاضي منذر بن سعيد حدثنا أبو النجم
عصام بن منصور عن أبي بكر أحمد بن عبد الله البرقي عن أبي محمد
عبد الملك بن هشام عن زياد
(1/421)
بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق،
قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن يزيد بن عبد الله عن
عبد الله بن دريد الغافقي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله
عنه يحدث، قال: كان عبد المطلب نائماً في الحجر، فأتاه آت،
فقال: احفر طيبة، قال عبد المطلب: وما طيبة؟ قال: فذهب عني،
قال عبد المطلب: فلما كان الغد رحعت إلى مضجعي فنمت فيه،
فجاءني فقال: احفر برة، قلت: وما برة؟ قال: فذهب عني، فلما كان
من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة،
قلت: وما المضنونة؟ قال: فذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى
مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر زمزم، قلت وما زمزم؟ قال: لا
ينزف أبدا ولا يندم، وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب
الأعصم عند قرية النمل، قال: فلما بين شأنها، وعرف موضعها،
وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث، وليس له يؤمئذ
ولد غيره، فحفر فلما بدا له الفئ كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك
حاجته، فقاموا إليه، فقالوا له: يا عبد المطلب، إنما بئر أبينا
إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها، فقال: ما أنا
بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا
له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيكحتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا
بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا كاهنة بني سعد ابن
هذيم، قال: نعم، وكانت بأطراف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر
من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر
والآرض إذ ذاك مفاوز، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز
بين الحجاز والشام فُني ماء عبد المطلب، فظمئوا حتى أيقنوا
بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، فقالوا
إنا بمفاوز، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأي عبد
المطلب ذلك قال لأصحابه ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع
رأيك، فمرنا بما شئت، قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته
لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفنه أصحابه في
حفرته، ثم واروه حتى يكون آخركم رجلاً، فضيعة رجل واحد أيسر من
ضيعة ركب، قالوا نعم ما أمرت به، ففعلوا ثم قعدوا ينتظرون
الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه:
والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نبتغي لأنفسنا فرجاً
لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ارتحلوا، فارتحلوا
حتى إذا فرغوا، وقبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم
عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت
خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب
وشربوا، واستقموا حتى
(1/422)
اسقيتهم ودعا عبد المطلب قبائل قريش فقال:
هلم إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا، فشربوا
واستقوا، ثم قالوا له: والله لقد قضي لك علينا يا عبد المطلب،
والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه
الفلاة لهو سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا،
ولو يصلوا إلى الكاهنة، قال: وكان قد نذر حين لقي من قريش ما
لقي (لئن ولد له عشرة نقر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه لينحرَّن
أحدهم عند الكعبة، فلما ولد له عشرة، وعلم أنهم سيمنعونه، أحب
أن يفي بنذره، فجمع بنيه وأخبرهم بذلك، ودعاهم إلى الوفاء لله
تعالى، فأطعوه، قالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحاً
ثم يكتب عليه اسمه، ثم إئتوني، ففعلوا، وأتوه فدخل بهم على
(هبل) في جوف الكعبة، وكان (عبد الله) أحب ولده إليه، فكان يرى
أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى، فلما أخذ صاحب القداح القدح
ليضرب بها، قام عبد الطلب يدعو الله عند هبل، فضرب صاحب
القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب يدعو الله
عند هبل، فضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد
المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى أساف ونائلة ليذبحه،
فقالت إليه قريش من أنديتها، فقالوا ما تريد يا عبد المطلب؟
قال: أذبحه، قالوا به: والله لا ندعك تذبحه، لئن فعلت لا يزال
الرجل يأتي بابنه حتى يذبحه، فما بقاء للناس على هذا، وساعدهم
بنوه، فقال له المغيرة بن عبد الله المخزومي: لاندعك تذبحه حتى
تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا، وقالت له قريش: اذهب
إلى عرافة بالحجاز لها تابع، فسلها وأنت على رأس أمرك، فذهب
وذهبوا معه إلى خيبر، فسألوه العرافة عن ذلك، فقال: ارجعوا عني
اليوم حتى يأتي تابعي فأسأله، فرجعوا، فلما كان من الغد، عادوا
إليها، فقالت لهم: قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا عشرة
من الإبل، وكانت كذلك، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا
صاحبكم وقربوا عشراً من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح
فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم. فإن خرجت
الإبل فانحروها عنده، فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فرجعوا إلى
مكة فلما اجمعوا على ذلك قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا
عبد الله وعشراً من الإبل، وعبد المطلب يدعو، فخرج القدح على
عبد الله، فزادوا عشراً، وضربوا فخرج على عبد الله، فزادوا
عشراً فخرج على عبد الله، فزادوا عشراً فخرج على عبد الله، إلى
أن بلغت مائة فخرجت على الإبل، فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى،
رضى ربك يا عبد المطلب فقال: لا والله، حتى أضرب عليها ثلاث
مرات ففعل، فخرج في جميع ذلك على الإبل، فنحرت وتركت لا يصد
عنها إنسان ولا سبع، فكان النبي - عليه السلام -.
(1/423)
يقول (أنا ابن الذبيحين) فهذا يدل على أن
الذبيح إسماعيل - عليه السلام - لأن النبي من ولده.
* * *
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] .
{أَوْ} هاهنا لأحد الأمرين على طريق الإبهام من المخبر، قال
سيبويه: هي تخيير، كان الرائي خير في أن يقول: هم مائة ألف أو
يزيدون.
وقال بعض الكوفيين: {أَوْ} بمعنى (الواو) كأنه قال: ويزيدون.
وقال بعضهم: هي بمعنى (بل) ، وهذان القولان عند العلماء غير
مرضين قال ابن جني: هي شك من الرائي.
وأجود هذه الأقوال الأول والثاني.
{ومن سورة ص}
* * *
قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1-2]
الذكر هاهنا: الشرف، وهو قول ابن عباس، كأنه قال: والقرآن ذي
الشرف، وقال الضحاك وقتادة: ذي الذكر: ذي التذكير.
قال قتادة في قوله: {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي: في حمية
وفراق، وقال عبد الرحمن بن زيد: الشقاق: الخلاف، وأصله من
المشاقة وهو أن يصبر كل واحد من الفريقين في شق، أي: في جانب،
ومنه يقال: شق فلان العصا، إذا خالف.
(1/424)
قال الفراء: أجمع القراء على إسكان (صاد)
إلا الحسن فإنه جرها بلا تنوين لاجتماع الساكنين شبهه بقولهم:
خاز باز، وتركته في حيص بيص، وأنشد:
لم يلتحصني حيص بيص لحاصي
قال و {ص} في معنى: وجب والله، نزل والله، حق والله، فهي جواب
لقوله: {وَالْقُرْآنِ} كما يقول: نزل والله.
قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقال السدي: هو من
حروف المعجم، وقال الضحاك معناه: صدق الله، وقال قتادة: هو اسم
من أسماء القرآن.
واختلف في كسر {ص} فقال الفراء: هو لالتقاء الساكنين، وقال
غيره: هو أمر من المصاداة، كأنه قال: صاد القرآن، أي: عارضة
بعملك وقابله، وهذا قول الحسن.
وقرأ بعضهم {ص} بالفتح اسماً للسورة، ولم يصرفه للتعريف
والتأنيث، ويجوز أن يكون موضع (صاد) في هذا الوجه نصباً، كأنه
قال: اتل صاد، ولو رفع لجاز على تقدير: هذه صاد، فأما من أسكن
فيجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير: اتل، وعلى تقدير حذف حرف
القسم في مذهب من جعلها قسماً، ويجوز أن يكون في موضع رفع على
تقدير: هذه ص، في مذهب من جعلها اسما للسورة.
الصافنات. وقرئ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ} أي: المتخيرة.
والجياد: جمع جواد، وياؤها منقلبه عن واو، وأصلها (جواد) .
(1/425)
والخير هاهنا الخيل وكان النبى - صلى الله
عليه وسلم - يسمي (زيد الخيل) (زيد الخير)
قال قتادة والسدى: الخير الخيل هاهنا
ويقال طفق يفعل كذا وكذا، وجعل يقول كذا وكذا، وأخذ يفعل.. كل
ذلك بمعنى واحد.
والكرسي أصله من التكرُّس وهو الاجتماع ومنه قيل للجر (كراسة)
؛ لأنها مجتمعة.
والجسد هاهنا: شيطان، قال ابن عباس: اسمه (صخر) وقال مجاهد:
اسمه (آصف) ، وقال السُّدي اسمه (حبقيق) .
واختلف في قوله (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
(33)
فقيل: كشف عراقيبها وضرب أعناقها، وقال: لا تشغلني عن عبادة
ربي مرة أخرى، وهو قول الحسن.
وقال ابن عباس: مسح أعرافها، وعراقيبها حبالها
قال الزجاج: هذا لا يوجب ذنبا، واستعظم ضرب أعناقها، وكشف
عراقيبها، وقال: لعله أوحي إليه بذلك، وأبيح له؛ لأن ضرب أعناق
الخيل لا يوجبه تأخره عن الصلاة.
قال الفراء في قوله (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا
ثُمَّ أَنَابَ) أي صنماً.
(1/426)
وقيل: كان سليمان، - عليه السلام. يحب بعض
ولده فجعله في السحاب خوفاً عليه، فعوقب بذلك وألقي جسد ولده
ميتاً على كرسيه.
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34]
أي: ابتليناه، وقيل: سلب ملكه أربعين يوماً، وكان ملكه في
خاتمه، فلما أخذه الشيطان رماه في البحر، فوجده سليمان بعد
أربعين يوماً في بطن سمكة.
وقيل: كان ذنبه أنه وطئ في ليلة عدداً كبيراً من جواريه حرصاً
على كثرة الولد.
وقيل: كان ذنبه أنه وطئ امرأته في الحيض.
وقيل: كانت له امرأة سباها من المغرب، وقتل أباها، فاتخذت
صنماً على صورة أبيها، فكانت تسجد له، وكان اتخاذها له بعلم
سليمان، فعوقب على تمكينها من ذلك.
قال الفراء في وقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ
الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}
[ص: 32] .
يعني: الشمس، كان قد عرض هذا الخيل، وكان غنمها من جيش قاتله،
فظفر به، فلما صلى الظهر دعا بها فلم يزل يعرضها حتى غابت
الشمس، ولم يصل العصر، وكان مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يأمر به،
فلم يذكر العصر، ولم يكن ذلك عن تخير منه، فلما ذكرها قال:
{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} يقول: آثرت حب الخير:
يعني الخيل، والعرب تقول للخيل: خير.
يروى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. في قوله {عَنْ
ذِكْرِ رَبِّي} أنه قال: يعني صلاة العصر، وهو قول قتادة
والسدي، قال الزجاج: أراها صلاة كانت مفروضة عليه في ذلك
الوقت؛ لأن صلاة العصر لم تفرض على غير نبينا - عليه السلام.
وأضمر (الشمس) في قوله: {تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي: سترت،
ولم يجر لها ذكر؛ لأنه
(1/427)
شيء قد عرف، كما قال تعالى: {إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] يعني:
القرآن، ولم يجر له ذكر، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
[الرحمن: 26] يعني: الأرض، ولم يجر لها ذكر.
هذا قول جميع النحويين.
قال الزجاج: وما أراهم اعملوا الفكر في هذا؛ لأن في الكلام ما
يقوم مقام ذكر الشمس، وهو قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} [ص: 31] فالعشي يدل على معنى
الشمس.
* * *
قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 84]
قرأ حمزة وعاصم برفع الأول ونصب الثاني، وقرأ الباقون بنصبهما
جميعاً، وهي قراءة الحسن، والأولى قراءة الأعمش وابن عباس
ومجاهد.
فمن رفع الأول جعله خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: أنا الحق، أي:
ذو الحق والحق أقول.
قال الفراء: هو مبتدأ والخبر محذوف، كأنه قال: فالحق مني: وذكر
أن مجاهداً قرأ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} .
والأول معنى قول ابن عباس قال الفراء: وقد يكون رفعه على
تأويل: الحق لأقومن، كما تقول: عزمة صادقة لآتينك؛ لأن فيه
تأويل: عزمة صادقة أن آتيك، قال: ومثله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ
مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف:
35] .
ومن نصب فعلى تقدير: فالحق لأملان، فينصب على المصدر، وإن كان
فيه الألف واللام؛ لأنه يؤدي عن قولك: حقاً لأملان، ويكون
قوله: {وَالْحَقَّ أَقُولُ} اعتراضاً بين الكلامين. ونصب
{وَالْحَقَّ} الثاني بـ {أَقُولُ} ، ويجوز رفعه على الابتداء،
{أَقُولُ} الخبر، و (الهاء) محذوفة؛ كأنه قال: والحق أقوله،
كما قال امرؤ القيس:
(1/428)
فلما دنوت تسدَّيتُها
فَثَوبٌ نَسيتُ وَثَوباً أجُرُّ
يروى: فثوب وثوباً بالرفع والنصب، فالرفع على ما ذكر لك،
والنصب على أنه مفعول مقدم.
{ومن سورة الزمر}
* * *
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ
أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] .
الأزواج: الأصناف، ويعني بالأنعام هاهنا: الإبل والبقر والضأن
والمعز، من كل صنف اثنين، وهو قول قتادة والضحاك ومجاهد.
قال الحسن: أنزل لكم من الأنعام: جعل لكم.
وقيل: أنزلها بعد أن خلقها في الجنة.
وقيل: الظلمات الثلاث هاهنا: ظلمة ظهر الرجل، وظلمة البطن،
وظلمة الرحم، وقيل: بل ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة
المشيمة، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعبد
الرحمن بن زيد.
* * *
قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ
أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]
الألف هاهنا: ألف إنكار.
ويسأل عن نصب قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي} ؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن يكون منصوباً بـ: (أعبد) ، كأنه قال: أفغير الله
أ'بد، فيكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضاً، وحقيقته، أفغير الله
أعبد فيما تأمرونني أيها الجاهلون.
والثاني: أن يكون التقدير: أتامروني أعبد غير الله أيها
الجاهلون، فلا يكون {تَأْمُرُونِّي} اعتراضاً، ولكن على
التقديم والتأخير.
(1/429)
ويسأل عن موضع {أَعْبُدُ} من الإعراب؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنه لا موضع لها من الإعراب؛ وذلك إذا جعلت التقدير:
أعبد غير الله فيما تأمرونني أيها الجاهلون.
والثاني: أن يكون موضعه نصبا على الحال، وذلك إذا لم تجعل
{تَأْمُرُونِّي} اعتراضا، فيكون التقدير: أتأمرونني عابدا غير
الله، فخرجه مخرج الحال، ومعناه: أن أعبد، على تقدير المصدر،
والمصدر قد يأتي في موضع الحال، نحو قولك: جئته ركضا ومشيا
وكلمته مشافهة وشفاها.
وارتفع {أَعْبُدَ} لأنك لما حذف (أن) رجع الفعل إلى أصله، قال
طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
يريد: أن أحضر، فلما (أن) ارتفع الفعل، ورواه بعضهم بالنصب على
إضمار (أن) ؛ لأن الثانية تدل عليها.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}
[الزمر: 73]
يسأل عن دخول هذه (الواو) هاهنا، وعن جواب {إِذَا} من قوله:
{حَتَّى إِذَا} ؟
فذهب المبرد إلى أن (الواو) زائدة، والمعنى: حتى إذا جاءوها
فتحت أبوابها، وكان ينكر قول من يقول هي (واو الثمانية) قال:
لأن هذا غير معروف في كلام العرب، وأنشد:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
(1/430)
قال: المعنى: فلما أجزنا ساحة الحي انتحى.
قال ابن الرماني: جاءت (الواو) هاهنا للتصرف في الكلام، وقال
أيضا: جاءت لتدل على أبواب الجنة الثمانية، وهو قول أكثر
المفسرين.
وأكثر النحويين يمنع ذلك.
والجواب على هذا محذوف، والتقدير: حتى إذا جاءوها وفتحت
أبوابها وكان كيت وكيت فازوا ونالوا المنى وما أشبه ذلك، وهذا
معنى قول الخليل؛ لأنه قال في بيت امرئ القيس الذي تقدم ذكره.
الجواب محذوف، والتقدير: فلما أجزنا ساحة الحي خلونا ونعمنا،
قال بعض الهذليين:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
فحذف جواب (إذا) ؛ لأن هذا البيت آخر القصيدة.
وقيل: (الواو) واو حال، دخلت لتدل على أنهم إذا جاءوها وجدوا
أبوابها مفتحة، فلم يعقهم عائق عن الدخول، وحذفت من الأول، كأن
جهنم قد أغلقت، وأقيموا على أبوابها؛ لأنه أشد لخوفهم وفزعهم؛
لأن البلاء توقعه أشد من وقوعه.
{ومن سورة المؤمن (غافر) }
* * *
قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] .
يسأل: عن الإماتة الأولى، والإماتة الثانية، والإحياء الأول،
والإحياء الثاني؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أن الإماتة الأولى إماتتهم عند خروجهم من الدنيا،
والإحياء الأول
(1/431)
إحياؤهم بمسألة منكر ونكير، والإماتة
الثانية إماتتهم بعد المساءلة، والإحياء الثاني إحياؤهم للبعث
يوم القيامة، هذا قول السدي.
والثاني: أن الإماتة الأولى كونهم نطفة، والإحياء الأول
إحياؤهم في الدنيا، والإماتة الثانية إماتتهم عند خروجهم من
الدنيا، والإحياء الثاني إحياؤهم يوم القيامة.
* * *
قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ
يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]
.
قيل: هذا المؤمن كان إسرائيليا يكتم إيمانه من آل فرعون، وقيل:
كان قبطيا من آل فرعون.
ويسأل عن قوله: {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ما علة دخول
{أَنْ} هاهنا، وما موضعها من الإعراب؟
والجواب: أنها دخلت لتدل على أن القتل إنما كان من أجل
الإيمان، ولو حذفت لم يدل على هذا، وإنما يدل على قتل رجل مؤمن
لا من أجل إيمانه، والتقدير: أتقتلون رجلا من أجل أن يقول، أي:
لأن يقول، وتلخيصه من أجل قوله، ولو حذفت {أَنْ} كان التقدير:
أتقتلون رجلا قائلا ربي الله؛ لأن {يَقُولَ} حينئذ نعت لرجل،
كما تقول: مررت برجل يأكل، أي: رجل أكل.
وموضع {أَنْ} نصب على المفعول له.
وقوله: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} روي عن الخليل
أن (بعضا) هاهنا زائدة، والمعنى: يصيبكم الذي يعدكم.
وقال بعض المفسرين: {بَعْضُ} هاهنا بمعنى: كل، وبه قال ابن
قتيبة. وهذان
(1/432)
القولان غير مرضيين عند العلماء؛ لأن
(بعضا) اسم ولا يصح زيادة الأسماء، وإنما يزاد الحرف في بعض
المواضع، و (بعض) ضد كل، فلا يدل على ضدها؛ لأن المعاني إن فعل
ذلك بها تشكل، قال ابن الرماني: إنما قال: {يُصِبْكُمْ بَعْضُ
الَّذِي يَعِدُكُمْ} على المظاهرة بالحجاج، أي: أنه يكفي بعضه
فكيف جميعه، وقيل: بعضه في الدنيا، وقيل: كان يتوعدوهم بأمور
مختلفة، فخوفهم ببعض تلك الأمور.
{ومن سورة حم السجدة}
* * *
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا
قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]
قد تقدم في سورة البقرة أن السماء قد تقع في معنى الجمع، وهي
هاهنا كذلك؛ لقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
[فصلت: 12] فرد الضمير على الجمع.
جاء في التفسير: أنه تعالى خلقها أولا دخانا، ثم نقلها إلى حال
السماء من الكثافة والالتئام.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} معناه: قصد، وروي عن الحسن أنه قال:
ثم استوى أمره ولطفه إلى السماء، حدثنا أبو الحسن الحوفي عن
أبي بكر الأذفوي حدثنا أبو جعفر أحمد ابن محمد النحاس قال: قرئ
على إسحاق بن إبراهيم عن هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش
عن أبي سعيد بن المرزبان عن عكرمة عن أبي عباس قال هناد:
(1/433)
وقرأته أنا على أبي بكر: أن اليهود أتت
النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن خلق السموات والأرض؟
فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق
الجبال وما فيهن يوم الثلاثاء وخلق الشجر والماء والمدائن
والعمارات يوم الأربعاء فهذه أربعة أيام، فقال تعالى: {قُلْ
أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9] ، ثم قال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] ويقول: لمن سأل. وخلق يوم
الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة
- صلوات الله عليهم، إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول
ساعة من هذه الثلاث الآجال، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء
مما ينفع الناس، وفي الثالثة خلق آدم - عليه السلام -، وأسكنه
الجنة أمر الملائكة بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة.
قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش،
قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح يوم السبت. فغضب النبي - صلى
الله عليه وسلم - غضبا شديدا، فنزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى
مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] .
قال أبو جعفر روي عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن
الله تعالى خلق يوما واحدا فسماه (الأحد) ، ثم خلق ثانيا فسماه
(الاثنين) ثم خلق ثالثا فسماه (الثلاثاء) ثم خلق رابعا فسماه
(الأربعاء) ثم خلق خامسا فسماه (الخميس) ثم جمع الخلق فسماه
(يوم الجمعة) .
وروى عبد الله بن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة - رضي
الله عنه - أنه قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي
فقال: (خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم
الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه فيها يوم
الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم
الخميس، وخلق آدم - عليه السلام - بعد العصر في آخر ساعة من
ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل) .
(1/434)
قال أبو جعفر: الحديثان ليسا بمتناقضين؛
لأن إن عملنا على الحديث الأول فالخلق في ستة أيام، وليس في
التنزيل أنه لا يخلق بعدها شيئا، فيكون هذا متناقضا، وإن عملنا
على الثاني فليس في التنزيل أنه لم يخلق قبلها شيئا.
قال ابن عباس فيما روى عنه أبو مالك وأبو صالح: {ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} كان ذلك الدخان من
تنفس الماء حين تنفس فجعله سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع
سموات في يومين الخميس والجمعة.
قال غيره: قد صح أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام
مقدار كل يوم ألف سنة من أيام الدنيا، فكان بين ابتدائه في خلق
ذلك وخلق القلم الذي أمره بكتابة ما هو كائن إلى قيام الساعة
يوم وهو ألف سنة، فصار ابتداء الخلق إلى الفراغ منه سبعة آلاف
سنة.
قال ابن عباس: إقامة الخلق في الأرض سبعة أيام، كما كان الخلق
في سبعة أيام، ومدة الدنيا سبعة آلاف سنة.
قال العلماء: نظير خلق الأرض في يومين، ثم لما فيها من تتمة
أربعة أيام، قول القائل: خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة
أيام ثم إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، أي في تتمة هذا العدد،
ولا يريد أنه سار من بغداد إلى الكوفة في خمسة عشر يوما، وقد
فسرنا هذا فيما تقدم بأشبع من هذا.
* * *
قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] .
يسأل عن الضمير في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَهُنَّ} علام
يعود، وكيف جمع، وإنما تقدم ذكر الشمس والقمر؟
(1/435)
والجواب: أن الضمير يعود على الآيات، والمعنى: واسجدوا لله
الذي خلقهن، أي: خلق الآيات، وليس يعود الضمير على الشمس
والقمر فتجب تثنيته. |