النكت في القرآن الكريم

{ومن سورة سبأ}
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10] .
التأويب: سير النهار، والاساد: سير الليل. وقيل: في {أَوِّبِي مَعَهُ} سبحي، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة.
تأويله عند أهل اللغة: سبحي معه مؤوبة، أي: سبحي معه في النهار، وسيري معه.
وقيل تأويله: رجعي معه التسبيح، لأن أصله من آب يؤوب، أي: رجع.
وقيل معناه: سيرى معه حيث شاء.
وجاء في التفسير: أن الحديد لان في يده حتى صار كالشمع، قال: وأسيل له الحديد حتى صار كالطين، فكان يعمل به ما يشاء.
فأما النصب في قوله: {وَالطَّيْرَ} ففيه أربعة أوجه:

(1/396)


أحدها: أنه معطوف على قوله: {فَضْلًا} ، والتقدير: آتينا داود منا فضلاً والطير يا جبال أوبي معه، وهذا قول الكسائي.
والثاني: أنه نصب بإضمار فعل، كأنه قال: وسخرنا له الطير، وهو قوب أبي عمرو.
والثالث: أنه مفعول معه، كأنه قال: يا جبال أوبي معه مع الطير، قال الشاعر:
فكونوا أنتم وبني أبيكم مكان الكليتين من الطحال
أي: مع بني أبيكم
والرابع: أن يكون معطوفاً على موضع الجبال؛ لأن موضعها نصب بالنداء، كما تقول: يا زيد والضحاك، قال الشاعر
ألا يا زيد والضحكاك سيرا فقد جاوزتما خمر الطريق
وروي أن الأعمش أو غيره قرأ {وَالطَّيْرُ} بالرفع، وكذلك قرأ يعقوب، وأجازه الفراء، ورفعه من وجهين:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على لفظ (الجبال) ، كما تقول: يا زيد والضحاك، وهو اختيار الخليل، وأبو عمرو يختار: يا زيد والضحاك.
والثاني: أن يكون معطوفاً على المضمر في {أَوِّبِي} ، وهو قول الفراء، وحسن العطف على المضمر المرفوع وإن لم يؤكد؛ لأن قوله: {مَعَهُ} قام مقام التوكيد، كما قال في

(1/397)


آية أخرى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ، فقامت {لَا} مقام التوكيد، وقد جاء العطف من غير توكيد ولا فصل في نحو قول عمر بن أبى ربيعة:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا
وهو قبيح، وكان حقه أن يقول: هي وزهر.
* * *
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15-16] .
قال الزجاج: (سبأ) مدينة بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام.
قال غيره: هي قبيلة، وقيل: (سبأ) رجل، وهو أبو اليمن، وللعرب فيها مذهبان.
منهم من يصرفها، يجعلها اسماً للحي، أو اسماً لمكان، أو لأب: قال جرير:
تدعوك تيم في قرى سبأ فدع أعناقهم جلد الجواميس
ومنهم من لا يصرفعل، يجعلها اسماً لقبيلة أو لمدينة أو لبقعة أو لأم، قال الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما
والعرم: المسناة، واحدها (عرمة) وكأنه مأخوذ من (عرامة) الماء، ويقال أيضاً (محبس الماء) ، قال الأعشى في العزت:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة ومأرب قفى عليها العرم

(1/398)


رخام بنته لهم حمير إذا جاءه ماؤهم لم يرم
الخمط: كل شجرة ذات شوك، وقيل: الخمط: شجرة الأراك، وهو قول ابن عباس، والحسن وقتادة والضحاك.
وأكُُلُهُ: ثمره، يقال: أُكل وأُكل، بضم الهمزة: فأما الأكل بالفتح فمصدر أًكَلَ.
والأثل: الطرفاء: وقيل: خشب وهو قول الحسن، والمعروف أن الأثل شجر يشبه الطرفاء.
والسدر: شجرة النبق، وقيل: السدر هاهنا السمر، وهو شجر أم غيلان.
وقرئ {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} بالإضافة، وهي قراءة أبي عمرو، وقرأ الباقون {أُكُلٍ} بتنوين {أُكُلٍ} ، جعلوا {خَمْطٍ} بدلاً من {أُكُلٍ} وهو بدل بعض من كل.
حدثني أبي عن عمه إبراهيم بن غالب عن القاضي منذر بن سعيد قال: حدثنا أبو النجم عصام بن منصور المرادي عن أبي بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال كان عمرو بن عامر فيما حدثني أبو زيد الأنصاري: رأى جرذاً في سد مأرب الذي يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم فلما رأي ذلك علم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمين، وكاد قومه؛ فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له أن يقوم إليه فليطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي، وعرض أمواله، فقال أشراف كم أشراف اليمن: أغتنموا غضبة عمرو، واشتروا أمواله، ففعلوا، وانتقل في ووولد ولده، وقالت

(1/399)


الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد (عك) ، فحاربهم عك، فكانت حربهم سجالاً ففي ذلك يقول عباس بن مرداس:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا بغسان حتى طردوا كل مطرد.
وغسان: ماء بسد مأرب، كان شربا لولد مازن من بني الأزد بن الغوث، فسموا به، ويقال: غسان: ماء بالمشلل قريب من الجحفة، قال حسان بن ثابت:
إما سألت فإنا معشر نجب الأزد نسبتنا والماء غسان
قال: ثم ارتحلوا وتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة بطن مر، ونزلت أزد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثم أرسل الله على السد السيل فهلك به، ففيه أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15] .
قال: ويقال: من ولد عمر بن عامر (ربيعة بن نضر بن أبي حارثة بن عمرو) ومن ولد ربيعة (النعمان بن المنذر) ، فيما يقال، وقالت العرب: (تفرقوا أيدي سبأ) ، فأجري هذا مثلاً، وأنشد الفراء:
عيناً ترى الناس إليها نسبا من صادر ووارد أيدي سبأ
* * *
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] .

(1/400)


قرأ الكسائي وعاصم وحمزة {صَدَّقَ} بالتشديد، وقرأ الباقون {صَدَقَ} بالتخفيف، فمن شدد نصب (الظَّنَّ) لأنه مفعول بصدق، وذلك أنه قال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء: 119] {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ} [الحجر: 39] فقال: ذلك بالظن فصدق ظنه.
وأما من خفف فذهب الفراء إلى أن المعنى: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بالرفع، على أن قوله: {ظنه} بدل من {إبليس} ، قال: ولو قرأ قارئ (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) لجاز كما تقول: صدقك ظنك وكذلك ظنك؛ لأن (الظَّنَّ) يخطئ ويصيب.
* * *
قوله تعالى: {لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]
قال المفسرون معناه: وأنا لعلى هدى وأنتم في ضلال مبين.
ومعنى {أَوْ} هاهنا معنى (الواو) ، قال الفراء، وكذلك هو في المعنى، غير ان العربية على غير ذلك لا تكون (أو) بمنزلة (الواو) ولكنها تكون في الأمر المفوض، كما تقول: إن شئت فخذ درهماً أو اثنين، وليس له أن يأخذ ثلاثة، قال والمعنى في قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ} إنا لضالون أو لمهتدون، وإنكم أيضاً لضالون أو مهتدون، وهو يعلم أن رسوله المهتدي وأن غيره الضال، قال: وأنت تقول في الكلام للرجل يكذبك: والله إن أحدنا لكاذب، فكذبته تكذيباً غير مكشوف، وهو في القرآن وفي كلام العرب كثير يوجه إلى أحسن مذاهبه إذا عرف، كقول القائل: والله لقد قام زيد، وهو كاذب، فيقول العالم بأن الأمر على خلاف ذلك، قال: (إن شاء الله) أو قال: (فيما أظن) فيكذبه بأحسن من تصريح التكذيب.
قال علي بن عيسى: هذا على الإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وحقيقة {أَوْ} هاهنا أنها لأحد الأمرين.

(1/401)


قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33]
قال الحسن وابن زيد المعنى: بل مكركم في الليل والنهار، وكذلك في العربية يتسع في الكلام فتضاف الأحداث إلى الزمان، ويخبر عن الزمان بما يقع فيه، فيقال: صيام النهار وقيام الليل، والمعنى: الصيام في النهار، والقيام في الليل، ويقولون: ليل قائم ونهار صائم، والليل والنهار غير صائمين، قال الشاعر:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المطي بنائم
وأضاف الليل إلى المطي على الاتساع، ووصف الليل بالنوم، وهذا على حد قولك: ليلي نائم، فيقول السامع: ليس ليلك بنائم.
* * *
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سبأ: 48]
فيجوز في {علم} وجهان: النصب والرفع، فالنصب من وجهين:
أحدهما: أن يكون نعتاً لربي، كأنه قال: قل إن ربي علاَّم الغيوب يقذف بالحق.
والثاني: أن يكون نصباً على المدح، كأنك قلت: أعني علام الغيوب.
وأما الرفع فيجوز من وجهين أيضاً:
أحدهما: يكون بدلاً من المضمر في {يَقْذِفُ} [سبأ: 48] ؛ لأن في {يَقْذِفُ} ضميراً تقديره: يقذف هو.
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: هو علام الغيوب.

(1/402)


وقد قيل: هو مرفوع على موضع {أَنْ} قبل دخولها، كما تعطف على موضعها بالرفع، وليس بوجه.
{من سورة الملائكة}
* * *
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]
العزة: المنعة، ويقال: عز الشيء إذا امتنع، ومنه قيل، شاة عزوز إذا كانت عسرة الحلب، وقيل: أصله من عز إذا غلب، ومنه يقال: من عزَّ بَزَّ، أي: من غلب سلب، قالت الخنساء:
وكنا القديم سراة الأديم والناس إذ ذاك من عز بزا
والعزاز: أطراف الأرض؛ لأنها ممتنعة لعسر المشي فيها، ومن كلام الزهري لرجل كان يأخذ عنه، ويقوم إذا رآه حتى إذا ظن أنه قد استنفد ما عنده ترك القيام، فقال له: إنك في العزاز بعد فعد إلى القيام: أي: أنت في الطرف.
والصعود: ضد الهبوط، وهما المصدران، فأما (الصعود) و (الهبوط) بفتح الأول فاسمان: يقال: صعد يصعد صعوداً، إذا ارتفع، وأصعد في الأرض يصعد إصعاداً، قال الشاعر:
هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
والكلم: يذكر ويؤنث، تقول: هذه كلم وهذا كلم، وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا (الهاء) يجوز فيه التذكير والتأنيث، نحو: هذه نخل وهذا نخل.
قال الله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] .

(1/403)


وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]
وقرأ أبو عبد الرحمن: {الكَّلاَمُ الطَّيِّبِ} .
والفرق بين الكلام والكلم: أن (الكلام) يقع على الجملة القائمة بنفسها، نحو قولك: زيد قائم، و (الكلم) إنما هو جمع كلمة، كلبنة ولبن وخلفة وخلف، أنشد الفراء:
مالك ترغين ولا ترغو الخلف
وتضجرين والمطي معترف
ومما يسأل عنه أن يقال: علام يقوم الضمير الذي في قوله: {يَرْفَعُهُ} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدهما: ان المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب.
والثاني: أن المعنى: والله يرفعه.
والثالث: أن الكلام يرفع العمل الصالح، ويجوز في {الْعَمَلُ} على هذا الوجه النصب بإضمار فعل تقديره: ويرفع الكلم الطيب العمل الصالح يرفعه، ذم حذفت؛ لأن الثاني يفسره، ومثله: قام زيد وعمراً ضربته وأجاز الفراء أن تنصب على تقدير: يرفع الله العمل الصالح يرفع، فيكون {اللَّهِ} فاعلا.
* * *
قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12]
الأجاج: الشديد المرارة، وأصله من أجت النار، كأنه يحرق من شدة المرارة، ويقال: ماء ملح، ولا يقال: مالح، وما ملح أجاج، إذا كان فيه مرارة.

(1/404)


والفلك: السفن، وهو يقع على الواحد والجمع بلفظ واحد والتقدير مختلف: فإذا كان واحداً كان بمنزلة (قفل) و (برد) ، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] فجعله واحداً، وإذا كان جمعاً كان بمنزلة (أسد) و (وثن) وعليه قوله: {وترى الفلك} ، وإنما كان كذلك لأنهم جمعوا (فلاً) على (فعل) وجاز أن يجمع (فعل) على (فعل) وليس بابه من قبل أن (فعلاً) و (فعلا) يشتركان؛ نحو: رُشْد ورَشَد، وسُقَم وسَقَم، وعُدْم وعَدَم، وحُزْن وحَزَن، وعُرْب وعَرَب، وعُجْم وعَجَم في أشباهٍ لذلك، و (فعل) يجمع على (فعل) نحو: أسد وأسد، ووثن ووثن، فجمعوا (فعلا) كجمع (فعل) ، وهذا مذهب سيبويه وإن لم يصرح به.
ويقال: مخرت السفينة، إذا شقت الماء تمخر مخرا فهي ماخرة والجمع مواخر.
ومما يسأل عنه أن يقال: الحلية إنما تخرج من الملح دون العذب، فكيف قال: {تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} ؟ وعن هذا جوابان:
أحدهما: أنه كذلك إلا أنه جمع بينهما في ذلك لاصطحابهما؛ لأن المعنى قد عرف، ومثل ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورً} [نوح: 15-16] .
والقمر إنما هو في سماء الدنيا، غير أنه وإن كان قد اختص بمكان من السموات فهو فيها، وكذلك البحران وان كان اللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحدهما فهو يخرج منهما وإن اختص خروجهما من أحدهما.
والقول الثاني: أن في البحر عيوناً عذبة واللؤلؤ والمرجان يخرجان من بينهما، ذكر أنهما يتكونان في الماء العذب الذي في تلك العيون، فقد اشترك العذب والملح فيهما.
* * *
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] .

(1/405)


الجدد: جمع (جدة) وهي الطريقة، وجدد: طرائق، قال الشاعر:
كأن سراته وجدة ظهره كنائن يجري بينهن دليص
يعني بالجدة: الخطة السوداء التي في متن الحمار، والدليص: البراق.
والغرابيب: حجارة سود واحدها (غريب) ، وقال (سود) والغرابيب لا تكون إلا سوداً للتوكيد، كما تقول: رأيت زيداً زيداً، إذا أردت التوكيد, وقيل: هو على التقديم والتأخير، كأنه قال: وجدد سود غرابيب؛ لأنه يقال: أسود غربيب, وأسود حالك، وأسود حلكوك, وأسود حانك بمعنى واحد.
وقوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أضاف الفعل إلى نفسه، وكان الأول بلفظ الغائب، لقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ} ؛ لأن الضمير هو المظهر في المعنى فقام أحدهما مقام الآخر.
ونصب {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} على الحال، وهي حال مقدرة؛ لأن الثمرة أول ما تخرج لا تختلف ألوانها، وإنما تختلف عند البلاغ، والحال على أربعة أوجه:
هذا أحدها، وهو الحال المقدرة.
والثاني: حال مؤكد، نحو قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] ، فهذه حال مؤكدة؛ لأن صراط الله لا يكون إلا مستقيماً، ومثله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] لأن الحق لا يكون إلا مصدقاً.
والثالث: حال منقلبة، نحو قولك: قام زيد ضاحكاً؛ لأنه يجوز أن يقوم عابساً، ففرقت بين المعنيين.
والرابع: حال منفية، نحو قولك: ما لزيد غير ملتفت ولا مقبل علينا.

(1/406)


وأجمع القراء على رفع (العلماء) ونصب (اسم الله تعالى) ، وهو الصواب الذي لا معدل عنه، إلا أن طلحة بن مصرف قرأ كذلك: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فرفع (اسم الله تعالى) ونصب "العلماءَ" ويروى مثل ذلك عن أبي حنيفة، وأكثر أهل العلم يذهب إلى أنه لحن، وقد اعتذر بعضهم لهذا بأن قال: هو على القلب، كما تقول: تهيبني الفلاة، في معنى تهيبت الفلاة، وكما قال الشاعر:
غداة أحلت لابن أصرم طعنه حصين عبيطات السدائف الخمر
فنصب (الطعنة) وهي فاعلة، ورفع (العبيطات) وهي مفعولة، والمعنى: أن الطعنة التي طعنها أحلت له العبيطات؛ لأنه نذر أن لا يأكل عبيطاً من اللحم ولا يشرب خمراً حتى يقتل فلاناً ويأخذ بثأره، فلما قتله أحل له ذلك القتل وما كان حرم، ومثله قول امرئ القيس:
حلت لي الخمر وكانت امرءا عن شربها في شغل شاغل
وقال قوم: {يَخْشَى} هاهنا بمعنى يراعي، والتقدير: إنما يراعي الله من عباده العلماء، لأنهم هم المخاطبون الذين يفهمون ما يخاطبهم به، ومن سواهم تبع لهم، ومثل ذلك قولهم: ما تركت ذلك إلا خشيتك، أي: مراعاة لك.
وقيل: {يَخْشَى} بمعنى: يعلم، والمعنى: كذلك يعلم الله من عباده العلماء، وهذه التأويلات بعيدة.
{ومن سورة يس}
* * *
قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] .
الإنذار: التخويف، و (اللام) في {لِتُنْذِرَ} لام كي، قال قتادة المعنى لتنذر قوماً لم

(1/407)


ينذر آباؤهم، على جحد؛ لأن عرب الجاهلية لم يكن فيهم نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأويل إنما يصح إذا كان (القوم) هاهنا يعني بهم العرب المضرية والعدنانية، فأما القحطانية فقد كان فيهم هود وصالح وشعيب - عليه السلام -، ومبعد أيضا من قبل أن قيساً بعث فيهم خالد بن سنان، وهو الذي أطفأ نار الجمرة التي كانت ببلاد قيس، وروي أن بنته وفدت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكرمها، وقال: (هذه بنت نبي ضيعه قومه) ، وقال عكرمة المعنى: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم، فعلى هذا يكون الإنذار لجميع الناس، وتحتمل {مَا} على هذا الوجه أن تكون بمعنى (الذي) ، فيكون التقدير: لتنذر قوماً كالذي أنذر آباؤهم.
وتحتمل أن تكون مصدرية والتقدير: لتنذر قوماً كإنذار آبائهم.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]
قال قتادة ومجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} أي: أعمالهم: وقال مجاهد: {وَآثَارَهُمْ} خطاهم إلى المساجد قال غيره: {وءاثارهم} ما أثروا من الآثار الصالحة أو غير الصالحة، فعمل بها فلهم أجر من عمل بها بعدهم، أو وزره وهو قول الفراء.
و (الإمام) هاهنا الكتاب الذي تثبته الملائكة عليهم السلام، وتكتب فيه أعمال العباد.
وأجمع القراء على النصب في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} على إضمار فعل، والمعنى: أحصينا كل شيء أحيناه، قال الفراء: والرفع وجه جيد، قد سمعت ذلك من العرب.

(1/408)


قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38-39]
العرجون: الكباسة، وهو القنو أيضاً والقنا والعثكول والعثكال، والقديم: البالي.
ويسأل عن قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنها تجري لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا.
والثاني: أنها تجري لوقت واحد لا تعدوه، وهو قول قتادة.
والثالث: أنها تجري إلى أبعد منازلها في الغروب.
وقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] قيل معناه: حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانه، وقال أبو صالح: لا يدرك أحدهما ضوء الآخر، وقيل: الشمس لا تدرك القمر في سرعة سيره، ولا الليل سابق النهار وكل على مقادير قدرها الله تعالى.
والفلك: موضع النجوم من الهواء، وأصله: الاستدارة، ومنه قيل: فلكة المغزل، ويروى أن بعضهم قرأ {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي لا نهاية.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، فمن رفع جعله مبتدأ، والخبر في قوله: {قَدَّرْنَاهُ} وهذا كما تقول: زيد قام وعبد الله أكرمته، وأما النصب فعلى إضمار فعل يدل عليه {قَدَّرْنَاهُ} ، كأنه قال: وقدرنا القمر قدرناه منازل، ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: زيد قام

(1/409)


وعمراً أكرمته، والنصب أجود من الرفع؛ لأنك تعطف فعلاً على فعل، قال الربيع بن ضبع الفراري:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا
يريد: وأخشى الذئب أخشاه، وأما الرفع فهو عطف جملة على جملة وفي الكلام حذف، والتقدير: والقمر قدرناه ذا منازل، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يجوز أن يكون بلا حذف؛ لأن القمر غير المنازل وإمما يجري في المنازل, ولا يجوز أن تنصب {مَنَازِلَ} على الظرف؛ لأنه محدود والفعل لا يصل إلى المحدود إلا بحرف جر نحو: جلست في المسجد، ولا يجوز: جلست المسجد، وإنما يصل الفعل بغير حرف إلى الظرف المبهم نحو: أمام ووراء وفوق وتحت ويمنة ويسرة وما كان في معناها.
* * *
قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 51-52] .
الصور: قرن من نور ينفخ فيه يوم القيامة، واشتقاقه من: صرت الشيء أصوره، أي: أملته وعطفته، كأنه قال: يميل الناس إلى الحشر ويعطفهم.
وقيل: الصور جمع صورة بمعنى الصور، والمعنى: ينفخ في صور بني آدم، وأصل الصورة أيضاً من الميل؛ لأنها تمال إلى هيأة من الهيئات.
والأجداث: القبور، واحدها: جدث، هذه لغة أهل العالية، وأهل السافلة يقولون (جدف) .

(1/410)


والويل: بمعنى القبوح، هذا قول الأصمعي، وقال المفسرون: هو وادٍ في جهنم.
وموضع قوله: {فِي الصُّورِ} رفع؛ لأنه مفعول لم يسم فاعله لـ {نُفِخَ} ، كما تقول: جلس في المكان.
ويحتمل قوله هذا وجهين:
أحدها: أن يكون (هذا) نعتاً للمرقد، فتبتدئ حينئذ {مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} .
والثاني: أن يكون الوقف على قوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ، وانقطع الكلام، ثم قالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} وفي حرف عبد الله: "من أهبنا من مرقدنا هذا"، وهو بمعنى البعث، والبعث: بمعنى الإيقاظ هاهنا، يقال: بعثت ناقتي فانبعثت، أي: أثرتها فثارت، وهب من منامه وأهبه غيره، وانبعث من منامه وبعثه غيره.
والنسول: الإسراع في الخروج، يقال: نسل ينسل نسولاً, قال الشاعر:
عسلان الذئب أمسى قارباً برد الليل عليه فنسل
قال امرؤ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقال قتادة في قوله: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} يعني بين النفختين.
وقال ابن زيد: قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} من قول الكافرين.

(1/411)


وقال قتادة: هو من قول المؤمنين, والأول أعني: أنه من قول الملائكة، قول الفراء.
* * *
قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
يقال: من المخاطب في قوله: {كُنْ} ؟
وفيه ثلاثة أجوبة عن الزجاج:
أحدها: أنه لم يقع، وإنما هو إخبار لحدوث ما يريد، كأنه في التقدير: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يكونه فيكون, فعبر عن هذا المعنى بـ: {كُن} ؛ لأنه أبلغ فيما يراد.
والثاني: أن المعنى: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول من أجله {كُنْ فَيَكُونُ} ، فالمخاطب في هذين الوجهين معدوم, وجاز أمر المعدوم؛ لأن الآمر هو الموجد له.
والثالث: أن هذا إنما هو في التحويلات نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] و {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50] وما أشبه ذلك.
ولفظ الأمر في الكلام على عشرة أوجه:
أحدها: الأمر لمن دونك، نحو قولك لغلامك: قم.
والثاني: الندب، نحو قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] .
والثالث: الإباحة، نحو قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] .
والرابع: الدعاء، نحو قوله: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] ، ونحو قوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286]
والخامس: الرغبة، نحو قوله: ارفق بنفسك، أحسن إلى نفسك.
والسادس: الشفاعة، نحو قولك: هب لي ذنبه، شفعني فيه.
والسابع: التحويل، نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] و {كُونُوا حِجَارَةً} [الإسراء: 50] .

(1/412)


والثامن: التهديد، نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] ، {قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102] .
والتاسع: الاختراع والإحداث، نحو: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117]
والعاشر: التعجب، نحو: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] ومن قرأ {فَيَكُونُ} عطف على قوله: {أَنْ نَقُولَ لَهُ} ، ولا يجوز أن يكون جوابا لـ {كُنْ} ؛ لأن حق الجواب أن يكون مخالفا لما هو جواب له: إما باختلاف اللفظ، أو باختلاف الفاعل، فاختلاف اللفظ نحو قولك: قم تكرم، واخرج فيحسن إليك، وأما اختلاف الفاعل فنحو قولك، قم أقم معك، واخرج اخرج معك، وقوله: {كُنْ فَيَكُونُ} قد اتفق فيه الأمران: اتفاق اللفظ، واتفاق الفاعل، فصال بمنزلة قولك: قم تقم، وهذا لا فائدة فيه. فأما من رفع فعلى القطع؛ كأنه قال: فهو يكون، والرفع أجود من النصب، قال علي بن عيسى: الامر هاهنا أفخم من الفعل فجاء للتعظيم والتفخيم، قال: ويجوز أن يكون بمنزلة التسهيل والتهوين وانشد:
فقالت له العينان سمعا وطاعة وحدرتا كادر لما يثقب
والملكوت والملك بمعنى واحد إلا أن الملكوت أكثر مبالغة.