تأويل مشكل القرآن

باب ما ادّعي على القرآن من اللحن
وأما ما تعلقوا به من حديث عائشة رضي الله عنها في غلط الكاتب، وحديث عثمان رضي الله عنه: أرى فيه لحنا- فقد تكلم النحويون في هذه الحروف، واعتلوا لكل حرف منها، واستشهدوا الشعر:
فقالوا: في قوله سبحانه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] وهي لغة بلحرث بن كعب يقولون: مررت برجلان، وقبضت منه درهمان، وجلست بين يداه، وركبت علاه. وأنشدوا «2» :
تزوّد منّا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التّراب عقيم
أي موضع كثير التراب لا ينبت.
وأنشدوا «3» :
أيّ قلوص راكب تراها ... طاروا علاهنّ فطر علاها
__________
(1) الوكف: الإثم والعيب.
(2) يروى صدر البيت بلفظ:
تزوّد منّا بين أذناه طعنة والبيت من الطويل، وهو لهوبر الحارثي في لسان العرب (صرع) ، (شظى) ، (هبا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 707، وخزانة الأدب 7/ 453، والدرر 1/ 116، وسر صناعة الإعراب 2/ 704، وشرح شذور الذهب ص 61، وشرح المفصّل 3/ 128، 133، والصاحبي في فقه اللغة ص 49، وهمع الهوامع 1/ 40.
(3) يروى الشطر الأول من الرجز:
أي قلوص راكب تراها ... ناجية وناجيا أباها
والرجز بلا نسبة في تاج العروس (قلص) ، (نجا) ، ولسان العرب (علا) ، (نجا) ، ويروى أيضا بلفظ:
أي قلوص راكب تراها ... فاشدد بمثني حقب حقواها
وهو بلا نسبة في لسان العرب (علا) ، وتاج العروس (قلص) ، ويروى الشطر الثاني بلفظ:
نادية وناديا أباها ... طاروا علاهنّ فطر علاها
والرجز لرؤبة في ديوانه ص 168، وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية 1/ 133، ولبعض أهل اليمن في خزانة الأدب 7/ 133، 115، وشرح شواهد المغني 1/ 128، وبلا نسبة في لسان العرب (طير) ، (علا) ، (نجا) ، وخزانة الأدب 4/ 105، والخصائص 2/ 269، وشرح شواهد الشافية ص 355، وشرح المفصّل 3/ 34، 129، وتاج العروس (قلص) .

(1/36)


على أن القراء قد اختلفوا في قراءة هذا الحرف: فقرأه أبو عمرو بن العلاء «1» ، وعيسى بن عمر «2» : «إنّ هذين لساحران» وذهبا إلى أنه غلط من الكاتب كما قالت عائشة.
وكان عاصم الجحدريّ «3» يكتب هذه الأحرف الثلاثة في مصحفه على مثالها في الإمام، فإذا قرأها، قرأ: «إنّ هذين لساحران» ، وقرأ المقيمون الصلاة [النساء: 162] ، وقرأ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ [الحج: 17] .
وكان يقرأ أيضا في سورة البقرة: والصابرون فى البأساء والضراء [البقرة: 177] ويكتبها: الصابرين.
وإنما فرق بين القراءة والكتاب لقول عثمان رحمة الله: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها فأقامه بلسانه، وترك الرسم على حاله.
وكان الحجاج «4» وكّل عاصما «5» وناجية بن رمح وعليّ بن أصمع بتتبّع المصاحف، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفا لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهما.
خبّرني بذلك أبو حاتم «6» عن الأصمعي «7» قال: وفي ذلك يقول الشاعر:
__________
(1) أبو عمرو بن العلاء: هو زبان بن العلاء بن عمار بن الريان المازني البصري، تقدمت ترجمته قبل قليل.
(2) عيسى بن عمر: هو أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، مولى خالد بن الوليد، توفي سنة 149 هـ، صنّف «الإكمال في النحو» ، «جامع في النحو» . (كشف الظنون 5/ 805) .
(3) عاصم الجحدري: هو عاصم بن أبي الصباح، أبو المجشر الجحدري، البصري، المقرئ المفسر، قرأ على الحسن البصري، توفي سنة 128. (لسان الميزان 3/ 220) .
(4) الحجاج: هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن قيس الثقفي، ولّاه عبد الملك بن مروان العراق، وكان له في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها، بنى مدينة واسط، وتوفي سنة 95 هـ. (انظر أخباره في مروج الذهب 3/ 151- 191، والكامل في اللغة 1/ 158، 224، 2/ 262، 268، 288، ووفيات الأعيان 3/ 29- 54، والأعلام 2/ 168) .
(5) عاصم: هو عاصم الجحدري. تقدمت ترجمته.
(6) أبو حاتم: هو أبو حاتم السجستاني البصري. سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي الإمام.
توفي سنة 250 هـ. وقيل: سنة 248 هـ، له العديد من التصانيف، منها: «إعراب القرآن» ، «كتاب الإدغام» ، «كتاب الأضداد» في اللغة، «كتاب الفصاحة» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «ما يلحن به العامة» وغيرها الكثير (كشف الظنون 5/ 411) . [.....]
(7) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب (بالتصغير) ابن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي

(1/37)


وإلا رسوم الدّار قفرا كأنّها ... كتاب محاه الباهليّ بن أصمعا
وقرأ بعضهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] اعتبارا بقراءة أبيّ لأنها في مصحفه:
«إن ذان إلا ساحران» وفي مصحف عبد الله: (وأسرّوا النّجوى أن هذان ساحران) منصوبة بالألف يجعل إِنْ هذانِ تبيينا للنجوى.
وقالوا في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة:
69] رفع (الصابئين) لأنه ردّ على موضع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وموضعه رفع، لأن (إنّ) مبتدأة وليست تحدث في الكلام معنى كما تحدث أخواتها. ألا ترى أنك تقول: زيد قائم، ثم تقول: إن زيدا قائم، ولا يكون بين الكلامين فرق في المعنى. وتقول: زيد قائم، ثم تقول: ليت زيدا قائم، فتحدث في الكلام معنى الشك. وتقول: زيد قائم، ثم تقول: ليت زيدا قائم، فتحدث في الكلام معنى التمني، ويدلّك على ذلك قولهم: إن عبد الله قائم وزيد، فترفع زيدا، كأنك قلت: عبد الله قائم وزيد، وتقول: لعل عبد الله قائم وزيدا، فتنصب مع (لعلّ) وترفع مع (إن) لما أحدثته (لعلّ) من معنى الشك في الكلام، ولأنّ (إنّ) لم تحدث شيئا. وكان الكسائي «1» يجيز: أن عبد الله وزيد قائمان، وإنّ عبد الله وزيد قائم. والبصريون يجيزونه، ويحكون: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] وينشدون «2» :
__________
الباهلي، الإمام أبو سعيد البصري، الأديب اللغوي، ولد سنة 123 هـ، وتوفي بالبصرة سنة 215 هـ، له العديد من التصانيف منها: «أصول الكلام» ، «الأضداد في اللغة» ، «كتاب الأراجيز» ، «كتاب الاشتقاق، «كتاب الألفاظ» ، «كتاب غريب الحديث والقرآن» ، «كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه» ، «كتاب معاني الشعر» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب الهمزة وتحقيقها» وغيرها الكثير (كشف الظنون 5/ 623- 624) .
(1) الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائي، ثم البغدادي الكوفي، أحد أئمة النحو، توفي سنة 189 هـ بالري، صنّف من الكتب:
«اختلاف العدد» ، «أشعار المعاياة وطرائقها» ، «قصص الأنبياء» ، «كتاب الحروف» ، «كتاب العدد» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المصادر» ، «كتاب النوادر الأصغر» ، «كتاب النوادر الأكبر» ، «كتاب النوادر الأوسط» ، «كتاب الهاءات المكنى في القرآن» ، «كتاب الهجاء» ، «مختصر في النحو» ، «معاني القرآن» ، «مقطوع القرآن وموصوله» . (كشف الظنون 5/ 668) .
(2) البيت من الطويل، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص 184، والإنصاف ص 94، وتخليص الشواهد ص 385، وخزانة الأدب 9/ 326، 10/ 312، 313، 320، والدرر 6/ 182، وشرح أبيات سيبويه 1/ 369، وشرح التصريح 1/ 228، وشرح شواهد المغني ص 867، وشرح المفصل 8/ 86، والشعر والشعراء ص 358، والكتاب 1/ 75، ولسان العرب

(1/38)


فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإنّي وقيّار بها لغريب
وقالوا في نصب (المقيمين) بأقاويل: قال بعضهم: أراد بما أنزل إليك وإلى المقيمين. وقال بعضهم: وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين، وكان الكسائي يرده إلى قوله: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] أي: ويؤمنون بالمقيمين، واعتبره بقوله في موضع آخر: يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بالمؤمنين. وقال بعضهم: هو نصب على المدح. قال أبو عبيدة «1» : هو نصب على تطاول الكلام بالنّسق، وأنشد للخرنق بنت هفّان «2» :
لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر
النازلين بكلّ معترك ... والطيّبون معاقد الأزر
ومما يشبه هذه الحروف- ولم يذكروه- قوله في سورة البقرة: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة: 177] . والقرّاء جميعا على نصب الصابرين إلا عاصما الجحدري فإنه كان يرفع الحرف إذا قرأه، وينصبه إذا كتبه، للعلّة التي تقدم ذكرها.
واعتل أصحاب النحو للحرف، فقال بعضهم: هو نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذم، كأنهم ينوون إفراد الممدوح بمدح مجدّد غير متبع لأوّل
__________
(قير) ، ومعاهد التنصيص 1/ 186، والمقاصد النحوية 2/ 318، ونوادر أبي زيد ص 20، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 103، وأوضح المسالك 1/ 358، ورصف المباني ص 267، وسر صناعة الإعراب ص 372، وشرح الأشموني 1/ 144، ومجالس ثعلب ص 316، 598، وهمع الهوامع 2/ 144.
(1) أبو عبيدة: هو الحافظ أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المنشأ، بغدادي الدار والوفاة، الفقيه اللغوي الأخباري، ولد سنة 110 هـ، وتوفي سنة 203 هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «إعراب القرآن» ، «مجاز القرآن» ، «الجمع والتثنية» ، «غريب الحديث» ، «غريب القرآن» ، «كتاب الأضداد» في اللغة، «كتاب الشعر والشعراء» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المجاز» ، «معاني القرآن» ، وغيرها الكثير (كشف الظنون 6/ 466- 467) .
(2) البيتان من الكامل، وهما في ديوان الخرنق بنت بدر بن هفان ص 43، والأشباه والنظائر 6/ 231، وأمالي المرتضى 1/ 205، والإنصاف 2/ 468، وأوضح المسالك 3/ 314، والحماسة البصرية 1/ 227، وخزانة الأدب 5/ 41، 42، 44، والدرر 6/ 14، وسمط اللآلي ص 548، وشرح أبيات سيبويه 2/ 16، وشرح التصريح 2/ 116، والكتاب 1/ 202، 2/ 57، 58، 64، ولسان العرب (نضر) ، والمحتسب 2/ 198، والمقاصد النحوية 3/ 602، 4/ 72، وأساس البلاغة (أزر) ، والبيتان بلا نسبة في رصف المباني ص 416، وشرح الأشموني 2/ 399.

(1/39)


الكلام، كذلك قال الفرّاء «1» .
وقال بعضهم: أراد: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضّرّاء.
وهذا وجه حسن، لأنّ البأساء: الفقر، ومنه قول الله عز وجل: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28] .
والضّرّاء: البلاء في البدن، من الزّمانة والعلّة. فكأنه قال: وآتى المال على حبّه السائلين الطّوّافين، والصابرين على الفقر والضرّ الذين لا يسألون ولا يشكون، وجعل الموفين وسطا بين المعطين نسقا على من آمن بالله.
ومن ذلك قوله في سورة الأنبياء: وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88] كتبت في المصاحف بنون واحدة، وقرأها القرّاء جميعا ننجي بنونين إلا عاصم بن أبي النّجود «2» فإنه كان يقرؤها بنون واحدة، ويخالف القرّاء جميعا، ويرسل الياء فيها على مثال (فعل) .
فأما من قرأها بنونين، وخالف الكتاب، فإنه اعتل بأن النون تخفى عند الجيم، فأسقطها كاتب المصحف لخفائها، ونيّته إثباتها.
واعتلّ بعض النحويين لعاصم فقالوا: أضمر المصدر، كأنه قال: نجّي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب الضرب زيدا، ثم تضمر الضّرب، فتقول: ضرب زيدا.
وكان أبو عبيد «3» يختار في هذا الحرف مذهب عاصم كراهية أن يخالف الكتاب،
__________
(1) الفراء: هو الحافظ أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الكوفي اللغوي، المغربي البغدادي، المعروف بالفراء، المتوفى بطريق مكة سنة 207 هـ، له من الكتب: «آلة الكتابة» ، «الجمع والتثنية» ، «حدود الإعراب» في أصول العربية، «كتاب البهي» ، «كتاب الفاخر» ، «كتاب فعل وأفعل» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب الوقف والابتداء» ، «كتاب النوادر» ، «مصادر القرآن» ، «معاني القرآن» . (كشف الظنون 6/ 514) .
(2) عاصم بن أبي النجود، تقدمت ترجمته.
(3) أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الأزدي، أبو عبيد البغدادي الأديب الفقيه اللغوي، ولد سنة 154 هـ، وتوفي بمكة سنة 224 هـ. من تصانيفه: «أدب القاضي» على مذهب الشافعي، «الأمثال السائرة» ، «عدد آي القرآن» ، «غريب الحديث» ، «غريب القرآن» ، «غريب المصنف» ، «فضائل القرآن» ، «كتاب الأحداث» ، «كتاب الأموال» ، «كتاب الأيمان والنذور» ، «كتاب الحجر والتفليس» ، «كتاب الحيض» ، «كتاب الشعراء» ، «كتاب الطهارة» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب النسب» ، «معاني القرآن» ، «ناسخ القرآن ومنسوخة» . (كشف الظنون 5/ 825) .

(1/40)


ويستشهد عليه حرفا في سورة الجاثية، كان يقرأ به أبو جعفر المدني «1» ، وهو قوله:
لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] أي ليجزى الجزاء قوما.
وأنشدني بعض النحويين «2» :
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا
ومن ذلك: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] أكثر القرّاء يقرؤون فأصدق أكن بغير واو. واعتلّ بعض النحويين في ذلك بأنها محمولة على موضع فأصّدّق، لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، وأنشد «3» :
فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا
فجزم وأستدرج، وحمله على موضع أصالحكم لو لم يكن قبلها: لعلّي كأنه قال:
فأبلوني بليتكم أصالحكم وأستدرج.
وكان أبو عمرو بن العلاء «4» يقرأ: فأصدق وأكون بالنصب، ويذهب إلى أن الكاتب أسقط الواو، كما تسقط حروف المد واللين في (كلمون) وأشباه ذلك.
وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها.
فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن بحمد الله.
وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، جناية الكاتب في الخط.
ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن، لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التّهجّي:
__________
(1) أبو جعفر المدني: هو يزيد بن القعقاع الإمام، عرض القرآن على مولاه أبي جعفر المخزومي المدني أحد العشرة، تابعي مشهور القدر، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة. توفي سنة 130 هـ (غاية النهاية 2/ 382، الإعلام 9/ 241، الإصابة 2/ 349) .
(2) البيت من الطويل، وهو لجرير في خزانة الأدب 1/ 337، والدرر 2/ 292، وليس في ديوانه، وهو بلا نسبة في الخصائص 1/ 397، وشرح المفصل 7/ 75، وهمع الهوامع 1/ 162، ويروى: «ولو ولدت قفيرة» ، بدل: «ولو ولدت فقيرة» .
(3) البيت من الوافر، وهو لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص 350، والخصائص 1/ 176، 2/ 341، وسر صناعة الإعراب 2/ 701، وشرح شواهد المغني 2/ 839، وللهذلي في مغني اللبيب 2/ 477، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) .
(4) أبو عمرو بن العلاء: تقدمت ترجمته. [.....]

(1/41)


فقد كتب في الإمام: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بحذف ألف التثنية.
وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل: قال رجلن وفَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما [المائدة: 107] وكتبت كتّاب المصحف: الصلاة والزكوة والحيوة، بالواو، واتّبعناهم في هذه الحروف خاصة على التّيمّن بهم، ونحن لا نكتب: (القطاة والقناة والفلاة) إلا بالألف، ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه.
وكتبوا (الربو) بالواو، وكتبوا: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: 36] فمال بلام منفردة.
وكتبوا: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34] بالياء أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] بالياء في الحرفين جميعا، كأنهما مضافان، ولا ياء فيهما، إنما هي مكسورة.
وكتبوا: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [القلم: 41] وفَقالَ الضُّعَفاءُ [إبراهيم: 21] بواو، ولا ألف قبلها.
وكتبوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [هود: 77] بواو بعد الألف، وفي موضع آخر ما نَشاءُ [الإسراء: 18، والحج: 5] بغير واو، ولا فرق بينهما.
وكتبوا: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [النمل: 31] بزيادة ألف.
وكذلك وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] بزيادة ألف بعد لام ألف.
وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه.
وكذلك لحن اللاحنين من القرّاء المتأخرين، لا يجعل حجّة على الكتاب.
وقد كان الناس قديما يقرؤون بلغاتهم كما أعلمتك.
ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلّف، فهفوا في كثير من الحروف وزلّوا وقرؤوا بالشاذ وأخلّوا.
منهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقرّبه من القلوب بالدين.
لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطا، ولا أشد اضطرابا منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصّل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علّة. ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة.
هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، فإفراطه في المد والهمزة

(1/42)


والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله، وتضييقه ما فسحه.
ومن العجب أنه يقرىء الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها! ففي أي موضع تستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟! وكان ابن عيينة «1» يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتم بقراءته: أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث «2» وأحمد بن حنبل.
وقد شغف بقراءته عوامّ الناس وسوقهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أمّ الكتاب عشرا، وفي مائة آية شهرا، وفي السبع الطّول حولا، ورأوه عند قراءته مائل الشّدقين، دارّ الوريدين، راشح الجبينين- توهّموا أن ذلك لفضيلة في القراءة وحذق بها.
وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القرّاء العالمين، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة. وهكذا نختار لقراء القرآن في أورادهم ومحاربهم. فإما الغلام الرّيّض والمستأنف للتعلّم، فنختار له أن يؤخذ بالتحقيق عليه، من غير إفحاش في مدّ أو همز أو إدغام، لأن في ذلك تذليلا للّسان، وإطلاقا من الحبسة، وحلّا للعقدة.
وما أقلّ من سلم من هذه الطبقة في حرفه من الغلط والوهم:
فقد قرأ بعض المتقدمين: ما تلوته عليكم ولا أدرأتكم به [يونس: 16] فهمز، وإنما هو من دربت بكذا وكذا.
وقرأ: وما تنزلت به الشياطون [الشعراء: 210] توهم أنه جمع بالواو والنون.
وقرأ آخر: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [الأعراف: 150] بفتح التاء، وكسر الميم، ونصب الأعداء. وإنما هو من: أشمت الله العدوّ فهو يشمته، ولا يقال: شمت الله العدوّ.
__________
(1) ابن عيينة: هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، الإمام العالم الزاهد الورع، ولد بالكوفة سنة 107 هـ، وسكن مكة وقدم بغداد، وتوفي بمكة سنة 198 هـ. (تاريخ بغداد 9/ 174- 184، وفيات الأعيان 2/ 391- 393) .
(2) بشر بن الحارث: هو بشر الحافي، توفي سنة 227 هـ. (انظر تاريخ بغداد 7/ 68- 80، ووفيات الأعيان 1/ 248- 251) .

(1/43)


وقال: الأعمش «1» قرأت عند إبراهيم «2» وطلحة بن مصرّف «3» : قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) [الشعراء: 25] ، فقال: إبراهيم ما تزال تأتينا بحرف أشنع! إنما هو (لمن حوله) واستشهد طلحة فقال مثل قوله. قال الأعمش: فقلت لهما: لحنتما، لا أقاعدكما اليوم.
وقرأ يحيى بن وثّاب «4» : وإن تلوا أو تعرضوا [النساء: 135] من الولاية. ولا وجه للولاية هاهنا، إنما هي تلووا- بواوين- من ليّك في الشهادة وميلك إلى أحد الخصمين عن الآخر. قال الله عز وجل: يلون ألسنتهم بالكتاب [آل عمران: 78] واتبعه على هذه القراءة الأعمش وحمزة «5» .
وقرأ الأعمش: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] بكسر الياء، كأنه ظن أن الباء تخفض الحرف كله، واتّبعه على ذلك (حمزة) .
وقرأ حمزة: وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] فجزم الحرف الأوّل، والجزم لا يدخل الأسماء، وأعرب الآخر وهو مثله.
وقرأ نافع «6» : فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] بكسر النون. ولو أريد بها الوجه الذي ذهب إليه، لكانت (فبم تبشّرونني) بنونين، لأنها في موضع رفع.
__________
(1) الأعمش: هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكوفي، ولد سنة 60 هـ، وتوفي سنة 148 هـ (غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 315) .
(2) إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد، أبو عمران النخعي الكوفي، توفي سنة 96 هـ.
(3) طلحة بن مصرف: هو طلحة بن عمرو بن كعب، أبو عبد الله الهمداني الكوفي، تابعي، توفي سنة 112 هـ، (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 343) .
(4) يحيى بن وثاب: هو يحيى بن وثاب الأسدي، الكوفي، تابعي ثقة، توفي سنة 103 هـ. (المعارف لابن قتيبة ص 330) .
(5) حمزة: هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي الزيات، أحد القراء السبعة، وإليه صارت إمامة الإقراء بعد عاصم والأعمش. ولد سنة 80 هـ، وتوفي في خلافة المنصور سنة 156 هـ.
(غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 261، شذرات الذهب 1/ 240، معرفة القراء 1/ 93، تقريب التهذيب 1/ 199) .
(6) نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم، ويقال: أبو نعيم، ويقال: أبو الحسن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن الليثي، مولاهم، وهو مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب. أحد القراء السبعة. (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 330، شذرات الذهب 1/ 270، تقريب التهذيب 2/ 295، الأعلام 8/ 317) .

(1/44)


وقرأ حمزة. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) [الأنفال: 59] بالياء. ولو أريد بها الوجه الذي ذهب إليه لكانت (ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنهم سبقوا، إنهم لا يعجزون) .
وهذا يكثر. ولم يكن القصد في هذا الكتاب له، وستراه كله في كتابنا المؤلف في وجوه القراءات إن شاء الله تعالى.

(1/45)