تأويل مشكل القرآن

باب التناقض والاختلاف
قال أبو محمد: عبد الله بن مسلم بن قتيبة:
فأما ما نخلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] . وهو يقول في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] .
فالجواب في ذلك: أن يوم القيامة يكون كما قال الله تعالى: مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] ، ففي مثل هذا اليوم يسألون وفيه لا يسألون، لأنهم حين يعرضون يوقفون على الذنوب ويحاسبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة: انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] وانقطع الكلام، وذهب الخصام، واسودّت وجوه قوم، وابيضت وجوه آخرين، وعرف الفريقان بسيماهم، وتطايرت الصحف من الأيدي: فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار.
وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] قال: هو موطن لا يسألون فيه.
ومثله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] .
وقوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق: 28] وقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات: 35، 36] ، وهو يقول في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر: 31] ويقول: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111، والنمل: 64] .
والجواب عن هذا كله نحو جوابنا الأول، لأنهم يختصمون ويدعي المظلومون على الظالمين، ففي تلك الحال يختصمون، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم قيل لهم:
لا تختصموا ولا تنطقوا، ولا تعتذروا، فليس ذلك بمغن عنكم ولا نافع لكم، فيخسؤون.

(1/46)


روى عبد الرزّاق «1» عن معمر «2» ، عن قتادة «3» : أن رجلا جاء إلى عكرمة «4» فقال: أرأيت قول الله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها: فتكلموا واختصموا، ثم ختم الله على أفواههم فتكلّمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا يتكلمون.
وقوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) [الطور: 25] ، وهو يقول في موضع آخر: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] ، فإنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة، تقطّعت الأرحام، وبطلت الأنساب، وشغلوا بأنفسهم عن التّسآل وفَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] . فإذا نفخ فيه أخرى: قاموا ينظرون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات: 27] وقالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] . وهو معنى قول ابن عباس.
وقوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصلت: 9، 11] فدلّت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء.
وقال في موضع آخر: أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27، 30] .
فدلّت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض.
وليس على كتاب الله تحريف الجاهلين، وغلط المتأوّلين. وإنما كان يجد الطاعن
__________
(1) عبد الرزاق: هو أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم الصغاني، المحدث اليمني، من رواة البخاري، ولد سنة 120 هـ، وتوفي سنة 211 هـ، من تصانيفه: «تزكية الأرواح عن مواقع الفلاح» ، «تفسير القرآن» ، «الجامع الكبير في الحديث» ، «كتاب السنن في الفقه» ، «كتاب المغازي» . (كشف الظنون 5/ 566) .
(2) معمر: هو معمر بن المثنى، أبو عبيدة، تقدمت ترجمته.
(3) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عرنين (بفتح العين وتشديد الراء) بن عمرو بن ربيعة السدوسي، أبو الخطاب البصري التابعي، ولد سنة 60 هـ، وتوفي سنة 117 هـ. صنّف «تفسير القرآن» . (كشف الظنون 5/ 834) .
(4) عكرمة: هو الحافظ أبو عبد الله، عكرمة بن عبد الله، بربري الأصل، مولى ابن عباس، من كبار التابعين توفي سنة 105 هـ، له «تفسير القرآن» . (كشف الظنون 5/ 666) .

(1/47)


متعلّقا ومقالا لو قال: والأرض بعد ذلك خلقها أو ابتدأها أو أنشأها، وإنما قال:
دَحاها فابتدأ الخلق للأرض على ما في الآي الأول في يومين، ثم خلق السموات وكانت دخانا في يومين، ثم دحا بعد ذلك الأرض، أي بسطها ومدّها، وكانت ربوة مجتمعة، وأرساها بالجبال، وأنبت فيها النبات في يومين، فتلك ستة أيام سواء للسائلين، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال مجاهد «1» : بعد ذلك في هذا الموضع، بمعنى (مع ذلك) ، و (مع) و (بعد) في كلام العرب سواء.
وقوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية: 6] ، وهو يقول في موضع آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) [الحاقة: 35، 36] ، فإن النار دركات، والجنة درجات، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار من طعامه الزّقّوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد.
والضّريع: نبت يكون بالحجاز، يقال لرطبه: الشّبرق، لا يسمن ولا يشبع، قال امرؤ القيس «2» :
فأتبعتهم طرفي وقد حال دونهم ... غوارب رمل ذي ألاء وشبرق
والعرب تصفه بذلك.
وغسلين: فعلين من غسلت، كأنه الغسالة، قال بعض المفسرين: هو ما يسيل من أجساد المعذّبين.
وهذا نحو قوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] وسرابيلهم من قطر آن قراءة عكرمة ومن تابعه.
والقطر: النّحاس. والآن: الذي قد بلغ منتهى حرّه. كأن قوما يسربلون هذا،
__________
(1) مجاهد: هو مجاهد بن جبير المخزومي، أبو الحجاج المقري المكي، مولى عبد الله بن السائب، وقيل: مولى السائب بن أبي السائب، فقيه محدّث تابعي ثقة. توفي بمكة سنة 102 هـ، وقيل:
103 هـ، وقيل: 104 هـ. صنّف «تفسير القرآن» . (أسماء التابعين 1/ 363، كشف الظنون 6/ 4) .
(2) البيت من الطويل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 169، ولسان العرب (شبرق) ، والبيت بلا نسبة في رصف المباني ص 51. [.....]

(1/48)


وقوما يسربلون هذا، ويلبسون هذا تارة، وهذا تارة.
وأما قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر، والنار تأكلهما؟) فإنه لم يرد فيما يرى أهل النظر- والله أعلم- أن الضريع بعينه ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه.
والضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هزلا.
قال الهذليّ يذكر إبلا وسوء مرعاها «1» :
وحبسن في هزم الضريع فكلّها ... حدباء دامية اليدين حرود
فأراد أن هؤلاء قوم يقتاتون ما لا يشبعهم، وضرب الضريع لهم مثلا. أو يعذّبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وكان ما أراد الله بهذا معلوما عندهم مفهوما، ولو لم يكن كذلك لأنكروه كما أنكروا قوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات: 64، 65] وقالوا: كيف تكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر؟
فأنزل الله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء: 60] ، يعني بالرؤيا: ما رآه ليلة أسري به وأخبر عنه، فارتد لذلك قوم، وزاد الله في بصائر قوم. وأراد بالشجرة الملعونة: شجرة الزّقّوم. فهذا وجه.
وقد يكون الضريع وشجرة الزّقّوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار.
وكذلك سلاسل النار وأغلالها، وأنكالها وعقاربها وحيّاتها- لو كانت على ما نعلم، لم تبق على النار، وإنما دلّنا الله سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة للدلالة، والمعاني مختلفة.
وما في الجنة من شجرها وثمرها وفرشها، وجميع آلاتها- على مثل ذلك.
قال ابن عباس: نخل الجنة، جذوعها من زمرّد أخضر، وكربها من ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطّعاتهم وحللهم وتمرها أمثال القلال والدّلاء، أشدّ
__________
(1) يروى عجز البيت بلفظ:
حدباء بادية الضلوع حرود والبيت من الكامل، وهو لقيس بن عيزارة الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 598، ولسان العرب (ضرع) ، (هزم) وأساس البلاغة (حرد) ، وتاج العروس (ضرع) ، (هزم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 396، وديوان الأدب 1/ 414، والمخصص 10/ 201.

(1/49)


بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس له عجم.
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، [الأنفال: 33] ثم قال على إثر ذلك: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الأنفال: 34] فإن النّضر بن الحارث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] يريد أهلكنا ومحمدا ومن معه عامة. فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، [الأنفال: 33] أي وفيهم قوم يستغفرون، يعني المسلمين.
يدلّك على ذلك قول الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) [الأنفال: 33] ، ثم قال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ خاصة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: 34] يعني المسلمين، فعذّبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، وفي ذلك نزلت: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) ، [المعارج: 1] أي دعا داع بعذاب واقع، يعني النضر بن الحارث لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج: 2] يقول: هو للكافرين خاصة دون المؤمنين، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال (مجاهد) في قوله: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: علم أن في أصلابهم من سيستغفر.
وأما قولهم: أين قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى من قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] ، فهل شيء أشبه بشيء أليق به من أحد الكلامين بالآخر؟!.
والمعنى: أن الله تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمن لم يستطيعوا العدل عليهن بالتّسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل.
ثم قال: فإن خفتم أيضا ألا تعدلوا بين الثلاث والأربع، فانكحوا واحدة، أو اقتصروا على ما ملكت أيمانكم من الإماء، ذلك أدنى ألا تعولوا، أي لا تجوروا وتميلوا.
وقال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من أجل اليتامى.
يقول: لما كان النساء مكفولات بمنزلة اليتامى، وكان العدل على اليتامى شديدا

(1/50)


على كافلهم- قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يطلق لهم ما فوق ذلك، لئلا يميلوا.
وقولهم: أين قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ من قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97] ؟.
وتأويل هذا: أن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون ويسفكون الدماء بغير حقها، ويأخذون الأموال بغير حلّها، ويخيفون السّبل، ويطلب الرجل منهم الثأر فيقتل غير قاتله، ويصيب غير الجاني عليه، ولا يبالي من كان بعد أن يراه كفأ لوليّه ويسمّيه: الثأر المنيم، وربما قتل أحدهم حميمه بحميمه.
قال ابن مضرّس وقتل خاله بأخيه «1» :
بكت جزعا أمّي رميلة أن رأت ... دما من أخيها بالمهنّد باقيا
فقلت لها: لا تجزعي إنّ طارقا ... خليلي الذي كان الخليل المصافيا
وما كنت لو أعطيت ألفي نجيبة ... وأولادها لغوا وستين راعيا
لأقبلها من طارق دون أن أرى ... دما من بني حصن على السيف جاريا
وما كان في عوف قتيل علمته ... ليوفيني من طارق غير خاليا
وربما أسرف في القتل فقتل بالواحد ثلاثة وأربعة وأكثر.
وقال الشاعر «2» :
هم قتلوا منكم بظنّة واحد ... ثمانية ثم استمرّوا فأرتعوا
يقول: إنهم اتهموكم بقتل رجل منهم، فقتلوا منكم ثمانية به.
فجعل الله الكعبة البيت الحرام وما حولها من الحرم، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد- قواما للناس. أي أمنا لهم، فكان الرجل إذا خاف على نفسه لجأ إلى الحرم فأمن. يقول الله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
__________
(1) الأبيات من الطويل، وهي لتوبة بن المضرس العبسي في كتاب الوحشيات ص 82.
(2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في المعاني الكبير لابن قتيبة ص 1021.

(1/51)


وإذا دخل الشهر الحرام تقسّمتهم الرّحل، وتوزّعتهم النّخع، وانبسطوا في متاجرهم، وأمنوا على أموالهم وأنفسهم.
وإذا أهدى الرجل منهم هديا، أو قلّد بعيره من لحاء شجر الحرم- أمن كيف تصرّف وحيث سلك.
ولو ترك الناس على جاهليتهم وتغاورهم في كل موضع وكل شهر- لفسدت الأرض، وفني الناس، وتقطّعت السّبل، وبطلت المتاجر. ففعل الله ذلك لعلمه بما فيه من صلاح شؤونهم، وليعلموا كما علم ما فيه من الخير لهم- أنه يعلم أيضا ما في السّموات وما في الأرض من مصالح العباد ومرافقهم، وأنه بكل شيء عليم.
وقولهم: وأين قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] .
ولم يرد الله في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصة، وإنما أراد: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن. والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذكره الله عز وجل في هذا الموضع بأفضل صفاته. وقال في موضع آخر: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) [الحجر: 77] . وفي موضع آخر: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 69] ولِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 67] وإِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] يعني المؤمنين.
ومثله قوله تعالى في قصة سبإ: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] . وهذا كما تقول: أن في ذلك لآية لكل موحّد مصلّ، ولكلّ فاصل تقيّ. وإنما تريد المسلمين.
وقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الحديد: 20] فإنما يريد بالكفار هاهنا:
الزّرّاع، واحدهم كافر. وإنما سمّي كافرا لأنه إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي غطّاه، وكل شيء، غطّيته فقد كفرته، ومنه قيل: تكفّر فلان في السّلاح: إذا تغطّى.
ومنه قيل للّيل كافر، لأنه يستر بظلمته كل شيء. ومنه قول الشاعر «1» :
يعلو طريقة متنها متواترا ... في ليلة كفر النّجوم غمامها
__________
(1) يروى صدر البيت بلفظ:
يعلو طريقة متنها متواتر والبيت من الكامل، وهو للبيد في ديوانه ص 309، وجمهرة اللغة ص 787، وكتاب الجيم 3/ 168، وبلا نسبة في المخصص 12/ 238.

(1/52)


أي غطاها. وهذا مثل قوله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] .
وأما قوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] ، فإن للعرب في معنى (الأبد) ألفاظا يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر، أي ارتفع، وما أقام الجبل، وما دامت السموات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يريدون لا أفعله أبدا، لأن هذه المعاني عندهم لا تتغير عن أحوالها أبدا، فخاطبهم الله بما يستعملونه فقال: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مقدار دوامهما، وذلك مدة العالم. وللسماء وللأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: 48] ، ويقول: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] .
أراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. ثم قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] أي غير مقطوع.
و (إلّا) في هذا الموضع بمعنى (سوى) ومثله من الكلام: لأسكننّ في هذه الدار حولا إلا ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول.
هذا وجه. وفيه (قول آخر) ، وهو: أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإن كانتا قد تتغيّران، وتستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض، إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وفيه (وجه ثالث) : وهو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة الله، وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنة.
فكأنه قال سبحانه: خالدين في النار ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين من المسلمين إلى الجنة، وخالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض، إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة من المدد، ثم يصيرون إلى الجنة.
وأما قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ، فإن (إلّا) في هذا الموضع أيضا بمعنى (سوى) . ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي.

(1/53)


وإنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السّعداء حين يموتون يصيرون بما شاء الله من لطفه وقدرته، إلى أسباب من أسباب الجنة، ويتفاضلون أيضا في تلك الأسباب على قدر منازلهم عند الله: فمنهم من يلقّى بالرّوح والرّيحان، ومنهم من يفتح له باب إلى الجنة، ومنهم الشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق في الجنة. أي تأكل، قال الشاعر «1» :
إن تدن من فنن الألاءة تعلق وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين يطير مع الملائكة في الجنة.
والله يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: 169] .
أفما ترى أنهم عندنا موتى وهم في الجنة متّصلون بأسبابها؟ فكيف لا يجوز أن يستثنى من مكثهم فيها الموتة الأولى؟.
وأما قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم: 96] ، فإنه ليس على تأوّلهم، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة.
فأنت ترى المخلص المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قول الله سبحانه في قصة موسى صلّى الله عليه وسلّم: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ، ولم يرد في هذا الموضع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حبّبه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السّنة التي كان يقتل فيها الولدان.
وأما قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النبأ: 9] ، فليس السّبات هاهنا: النوم، فيكون معناه: وجعلنا نومكم نوما. ولكن السّبات الراحة: أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمّي يوم السبت، أي يوم الراحة. وأصل السبت: التّمدّد، ومن تمدّد استراح. ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سبتت المرأة شعرها: إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السّعدي «2» :
__________
(1) صدر البيت: أو فوق طاوية الحشى رمليّة والبيت من الكامل، وهو للكميت في تاج العروس (علق) ، وليس في ديوانه.
(2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 15، وتفسير البحر المحيط 8/ 409.

(1/54)


وإن سبّتته مال جثلا كأنّه ... سدى وأثلاث من نواسج خثعما
ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدّد يكون. ومثل هذا كثير، وستراه في (باب المجاز) إن شاء الله.
وأما قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:
15، 16] ، فقد أعلمتك أن كل ما في الجنة من آلتها وسررها وفرشها وأكوابها- مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد، وإنما دلّنا الله بما أراناه من هذا الحاضر على ما عنده من الغائب. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. والأكواب:
كيزان لا عرى لها، وهي في الدنيا قد تكون من فضة، وتكون من قوارير.
فأعلمنا أن هناك أكوابا لها بياض الفضّة وصفاء القوارير، وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنها من فضة، كما تقول: أتانا بشراب من نور، أي كأنه نور.
وقال قتادة في قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 58] أي لهنّ صفاء الياقوت وبياض المرجان.
وأما قوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 33] ، فإن ابن عباس، رضي الله عنه، ذكر أنها آجرّ. والآجرّ: حجارة الطين، لأنه في صلابة الحجارة.
وقرأت في التّوراة بعد ذكر أنساب ولد نوح صلّى الله عليه وسلّم: أنهم تفرّقوا في كل أرض، وكانت الأرض لسانا واحدا، فلما ارتحلوا من المشرق وجدوا بقعة في الأرض اسمها (سعير) فحلّوا بها، ثم جعل الرجل منهم يقول لصاحبه: هلمّ فلنلبّن لبنا فنحرّقه بالنار فيكون اللّبن حجارة، ونبني مجدلا «1» رأسه في السماء.
وذكر بعض من رأى هذه الحجارة أنها حمر مختّمة. وقال آخرون: مخطّطة، وذلك تسويمها، ولهذا ذهب قوم في تفسير (سجّيل) إلى سنك وكل. أي حجر وطين.
وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ، فإن المخاطبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره من الشّكاك، لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلّها، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره.
والجواب عن هذا مستقصى في (باب الكناية والتعريض) فكرهت إعادته في هذا الموضع.
__________
(1) المجدل: القصر المشرق، لوثاقة بنائه، وجمعه: مجادل.

(1/55)


وأما قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] ، فإن الناس يختلفون في مطاعمهم: فمنهم من يأكل الوجبة، ومنهم من عادته الغداء والعشاء، ومنهم من يزيد عليهما، ومنهم من يأكل متى وجد لغير وقت ولا عدد. فأعدل هذه الأحوال للطّاعم وأنفعها، وأبعدها من البشم «1» والطّوى «2» على العموم- الغداء والعشاء. والعرب تكره الوجبة، وتستحبّ العشاء، وتقول: ترك العشاء مهرمة، وترك العشاء يذهب بلحم الكاذة «3» .
وقد بيّنت معناهم في هذا القول في كتاب (غريب الحديث) .
ونحن لا نعرف دهرا لا يختلف له وقت، ولا يرى فيه ظلام ولا شمس، فأراد الله جل وعز أن يعرّفنا من حيث نفهم ونعلم، أحوال أهل الجنة في مأكلهم، واعتدال أوقات مطاعمهم، فضرب لنا البكرة والعشيّ مثلا، إذ كانا يدلّان على العشاء والغداء.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أنه قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه ذلك. فأخبرهم الله تبارك وتعالى أن لهم في الجنة هذه الحال التي تعجبهم في الدنيا.
وأما قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] ، فإنه لم يرد أن ذلك يكون في الآخرة، وإنما أراد أنهم يعرضون عليها بعد مماتهم في القبور.
وهذا شاهد من كتاب الله لعذاب القبر، يدلّك على ذلك قوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، [غافر: 46] فهم في البرزخ يعرضون على النار غدوّا وعشيّا، وفي القيامة يدخلون أشد العذاب.
وأما قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ، ولم يأت بالشيء الذي جعل له الجنة مثلا- فإن أصل المثل ما ذهبوا إليه من معنى المثل، تقول: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول: هذا شبه الشيء وشبهه.
ثم قد يصير المثل بمعنى الشيء وصفته، وكذلك المثال والتّمثال، يقال للمرأة الرّائقة: كأنها مثال، وكأنها تمثال، أي صورة، كما يقال: كأنها دمية، أي صورة، وإنما هي مثل، وقد مثّلت لك كذا، أي صوّرته ووصفته.
فأراد الله بقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ، أي صورتها وصفتها.
__________
(1) البشم: التخمة.
(2) الطوى: الجوع.
(3) الكاذة: لحم مؤخر الفخذين.

(1/56)


وروي أن عليّا رحمه الله كان يقرأ: مثال الجنة أو أمثال الجنة
، وهو بمنزلة مثل، إلا أنه أوضح وأقرب في أفهام الناس إلى المعنى الذي تأوّلناه في مثل.
ونحوه قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] أي ذلك وصفهم، لأنه لم يضرب لهم مثلا في أوّل الكلام، فيقول: ذلِكَ مَثَلُهُمْ وإنما وصفهم وحلّاهم، ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي وصفهم.
وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] ، ولم يأت بالمثل، لأن في الكلام معناه، كأنه قال: يا أيها الناس، مثلكم مثل من عبد آلهة اجتمعت لأن تخلق ذبابا لم تقدر عليه، وسلبها الذباب شيئا فلم تستنقذه منه.
ومثل هذا في القرآن وكلام العرب أشياء قد اقتصصناها في (أبواب المجاز) .
وأما قوله: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) [الرعد: 40] . فإنه لم يرد أن عليك البلاغ بعد الوفاة كما ظنّوا، وإنما أراد:
إن أريناك بعض الذي نعدهم في حياتك، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك- فليس عليك إلا أن تبلّغ، وعلينا أن نجازي.
ومثل هذا: رجل بعثته واليا وقلت له: سر إلى بلد كذا فادعهم، فإن استجابوا لك فأحسن فيهم السيرة، وابسط المعدلة، وإن عصوك فعظهم وحذّرهم عقاب المعصية، فإن أقاموا على الغواية أعلمتني ليأتيهم النّكير. فصار إليهم فمانعوه، ووعظهم فخالفوه، وأقام حينا مستبطئا ما أوعدتهم به، فقلت: إن أريناك ما وعدناهم من العقوبة أو عزلناك قبل أن نريك ذلك- فليس لك أن تستبطئنا، إنما عليك التّبليغ والعظة، وعلينا الجزاء والمكافأة.
وأما قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] .
وقوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] .
وقوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] .
وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم: 16] .
فقد ذكرنا الجواب عن ذلك في (باب المجاز) ، وكرهنا إعادته في هذا الموضع وستراه هناك كافيا، إن شاء الله.

(1/57)