تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن حرف الهمزة
فمن ذلك قولُه تعالى في سورة " يونس (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ) .
قُرىء بنصب الهمزة من (شركاءكم) ورفعها وجرّها:
ولا بُدّ أوّلا من تمهيد قاعدةِ يُبْنَى عليها أحكامُ الإعراب،
وهي أنَ
أهل اللغة قالوا: إنّ أَجْمَعَ لا يُسْتعملُ إلاّ في المعاني،
وجَمَعَ لا
يُستعمل إلا في الأعيان، فيقال: أجمعتُ الأمر؛ لأنه معنى، قال
الشاعر:
أجْمَعُوا أمرَهم بليلٍ فلمّا أصْبَحُوا أَصْبَحَتْ لهم
غَوغاءُ
وقال الآخر:
يا ليتَ شِعري والمُنى لا تَنْفَعُ. . . هل أَغْدُوَنْ يوماً
وأمريَ مُجْمَعُ
(1/4)
ويقال: جَمَعْتُ شركائي؛ لأنّ الشُّركاء
أعيان.
قلت: هذا هو الأكثر، وقد يوضع كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر،
وهو
قليل فصيح، فيقال: أجمعتُ الشركاء، وجمعتُ الأمر، قال الله
تعالى:
(فجَمَعَ كَيدَهُ) ، وهو من المعاني. وقرأ أبو عمرو في
"طه": (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) من جَمعَ، وقُرىء هنا في
الشاذّ كذلك.
(1/5)
إذا تقرّر هذا فاعلم أن القُرّاء السبعة
أجمعوا هنا على (فأَجْمِعوا) بقطع
الهمزة ونصب (الشركاء) ، أما قطع الهمزة فجاء على الأكثر "
لأنّه مع
الأمر، وهو معنى.
وأما النصب في (شركاءكم) فيحتمل تخريجه أوجهاً:
الأول: أن يكونَ معطوفاَ على (أمركم) على حذف مضاف.
التقدير: وأمر شركائكم، وإنما حَمَلْناه على المضاف لئلاّ
يقال: أجمعتُ
الشركاء.
الثاني: أن يكون معطوفاَ على (أمركم) من غير تقدير حذف مضاف.
بناء على أن يُقال: أجمعتُ الشركاء، وإن كان قليلاً.
الثالث: أن يكون معطوفاَ على (أمركم) لا على أنه على حذف
مضاف، ولا على أنْ يقال: أجمعتُ الشركاء، ولكن على أنّه يجوز
في
المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه، نحو قولهم: رُبَّ رجلٍ
وأخيه.
ولا يقال: رُبَّ أخيه.
وقولهم: كلُّ شاة وسَخْلَتِها بدرهم، ولا يقال: كلُّ سخلتِها.
وتقول: قامت هند وزيد، ولا يقال: قامت زيد.
(1/6)
الرابع: أن يكون محمولاً على فعل مُضْمَرٍ
يُفَسرُه المعنى، أي: وادعوا
شركاءكم، وقد أظهرَ أُبَى رضي اللهُ عنه هذا الفعل وثَبَتَ في
مصحفه.
وهذا بناءً على أنّه لا يُقال: أجمعتُ شركائي، وهذا الوجه حسن.
وهو كثير نثراً ونظماً، حتى إنهم اختلفوا فيه: هل هو مقيس أو
مسموع؛ قالوا: والصحيح أنّه قياس، والضابط: أنّه متى اجتمع
فعلان متقاربان
في المعنى ولكلّ واحدٍ منهما متعلّق، جاز حذف أحد الفعلين وعطف
متعلّق المحذوف على المذكور، على حسب ما يقتضيه لفظه، حتى
كأنّه
شريكُه في أصل الفعل، إجراءً لأحد المتقاربين مُجرى الآخر، فمن
ذلك
عند بعضهم قولُه تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ) .
(1/7)
على قراءة الكسر، التقدير عنده واغسلوا
أرجلكم؛ لأن الأرجل لا تُمْسَح، فحذف "واغسلوا" لقرب معناه من
"وامسحوا" ثم جرّوا (أرجلكم) عطفاً
على (برؤوسكم) حملاً لأحد الفعلين على الاآخر.
وسيأتي الكلام على هذه الآية بأبسط من هذا في باب اللام إن شاء
الله تعالى.
ومنه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ) ، أي: واعتقدوا الإيمان؛ لأن الإيمان لا
يُتبَوّأ.
ومنه قوله تعالى على بعض الأقوال: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا)
، أي: ويجعله رسولاً؛ لأن العلم لا يعمل في
الذات، فلو جعلت الرسولَ بمعنى الرسالة جازَ عطفُه على الكتاب.
ومنه قول الشاعر:
فَعَلَفْتُها تِبناً وماءً بارِداً. . . حتى شَتَتْ همّالةً
عيناها
(1/8)
أي: وسَقَيْتُها ماء؛ لأن الماء لا يُعلف.
ومنه قول الآخر:
يا ليتَ زوجَك قد غدا. . . مُتَقَلِّداً سَيفاً ورُمحا
أي: وحاملا رمحاً؛ لأنّ الرمح لا يُتَقَلَّد.
ومنه قول امرىء القيس:
غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعمةِ. . . يُحَلَّينَ ياقوتاً
وشَذْراً مُفَقَّرا
وريحَ سنا في حُقّةٍ حِميريّةٍ. . . تُخَصّ بمَفروكٍ من المسك
أذفرا
(1/9)
لأنّ الريح لا يُحَلَّى.
ومنه قول الآخر:
إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوما. . . وزَججنَ الحواجبَ
والعُيونا
أي: وكَحَّلْنَ العيون؛ لأنَّ العيون لا تُزَجَّج، وإنما يكونُ
ذلك في
الحاجب. يقال: زجَّجَتِ المرأةُ حاجبها: أطالَته بالإثمد.
ومنه قول الآخر يصفُ مُسْتَنْبِحا وهو الضيف:
يُعالجُ عِرنيناً من الليلُ باردا. . . تلفُّ رياح ثوبَه
وبُروقُ
أي: وتصيبه بروق.
(1/10)
ومنه قول الآخر:
فعلا فروعَ الأَيْهُقانِ وأَطْفَلَتْ. . . بالجَلْهَتَين
ظِباؤُها ونَعامُها
أي: وباضت نعامُها؛ لأنّ النّعامَ لا تُطفل.
ومنه قول الآخر:
تراه كأنّ اللهَ يَجْدَعُ أنفَه وعَينَيه. . .، إنْ مولاه ثابَ
له وَفْرُ
أي: ويفقأ عينيه؛ لأنّ العينَ لا تُجدع.
وعلى هذا حمل بعضُهم قوله:
أَكْنيه حينَ أُناديه لأُكْرِمَه. . . . ولا ألقِّبُه والسوأةَ
اللقَبا
أي: ولا ألقّبُه اللَّقَبَ وأسوءه السوأة، ثم حذف أسوءه لدلالة
ألقبه
عليه، ثم قدّم مضطرّا، ورأى هذا أولى من تقدُّم المفعول معه.
(1/11)
قلت: وهذا دليل على كثرة هذا الوجه
وسَعَته، لأنّهم يرجعون إليه عند
المضايق، ويقدّمونه على غيره في التأويل.
وقد ذهب جماعةٌ من النحويّين إلى أنّ هذا النوعَ وأمثالَه محمو
على التَّضمين لا على حذف الفعل.
ومعنى التضمين: أن يُضَمَّنَ الفعلُ معنى فعل آخر يصح أن يعملَ
في
المعطوف والمعطوف عليه، فيُضَمَّن (تَبَوَّءوا) : اتَخَذوا،
وعَلَفْتُها:
أعطيْتُها، ويُحَلَّين؛ يُعْطَين، وزجَّجْن: حَسَّنَّ،
وأطْفَلَت: وَضَعَت.
ويَجْدَع: يُذهب.
والفرق بين التَّضمين وإضمار الفعل؛ أنّ التَّضمينَ يكونُ
العطفُ فيه من
باب عطف المفردات، وأن إضمارَ الفعل العطفُ فيه من باب عطف
الجُمَل، والترجيح بين المذهبين مذكور في الكتب المطوّلة.
الخامس من أوجه النصب ما قاله أبو علي، ولم يذكر الزمخشريُّ
غيرَه، وهو أن يكون (وشركاءكم) مفعولاً معه، وإذا كان كذلك
فالمصاحَب يحتمل أن يكون الواو في (فأجمعوا) فتكون (الشركاء)
فاعلاً
في المعنى، ويحتمل أن يكون (أمركم) فتكون مفعولاً في المعنى.
والأَولى أن يكون المصاحب الواو، لأن الصحيح عندهم أن المفعول
معه
(1/12)
لا يجوز إلا حيث يجوز العطف، وأنت إذا عطفت
(شركاءكم) على
الواو جاز لوجود الفصل، وإن جعلت المصاحب (أمركم) لم يجز العطف
على اللغة المشهورة؛ لأن العطف يقتضي أن يقال: أجمعت، وهو
قليل.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي
إسحق، وعيسى بن عمر، ويعقوب. ووجه هذه القراءة أنْ
يكونَ معطوفاً على الضمير في (فأجمعوا) وحَسَّنَه وقوعُ الفصل
بالمفعول.
ويجوز أنْ يكونَ مبتدأً والخبرُ محذوف لدلالة ما تقدّم.
(1/13)
والتقدير: وشركاؤكم فليجمعوا أمرَهم.
وأما قراءة الجرّ فقالوا: قرأ بها فرقةٌ ولم يُسَمُّوها.
ووجهُها أنْ يكونَ معطوفا على الضمير في (أمركم) على حذف مضاف،
أي: وأمر شركائكم، كقول الشاعر:
أكلَّ امرءٍ تَحْسِبينَ امرءا. . . ونارٍ توقَّدُ بالليلِ نارا
ومنه قولهم: " ما كلُّ بيضاءَ شحمة، ولا سوداءَ تمرة "، أي:
وكلّ
نارٍ، ولا كلّ سوداء، فحذف " كلّ " فيهما لدلالة ما تقدّم.
وعلى هذا حَمَلَ البصريون قوله تعالى: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ) فيمن نصب (آيات) .
(1/14)
أي: وفي اختلاف، فأضمرت " في " لتقدّم
ذكرِها في قوله تعالى: (وَفِى
خلقكم) ، والدليل على هذا قراءة عبد الله: (وفي اختلاف) فصرح
ب (في) المضمرة، فلم يَبْقَ في الآية دليل للأخفش على تجويز
العطف
على عاملين. والله أعلم.
(1/15)
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " فصّلت ":
(سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ)
قرئ بالنصب والجرّ والرفع:
وأما النصب فقرأ به القرّاء السبعة، ووجهُها أن يكون (سَوَاءً)
بمعنى
استواء، فيكون مصدراً بفعل مقدّر: أي استوت استواء، أو يكون
حالاً:
إمّا من (الأرض) ، أو من الضمير في (فيها) ، أو من (أقواتها) ،
ويمكن أن
يكون حالاً من (أربعة) ، وجاءت الحال من النكرة لأنها قد
خُصّصت
بالإضافة، والإضافة من المُخَصِّصات - قاله ابن مالك، وهو
إعراب
حسن.
وأما الرفع فقرأ به أبو جعفر، ووجهُها أن يكونَ خبرَ ابتداء
محذوف.
أي: هي سواء.
(1/16)
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها زيد بن علي،
والحسن، وابن أبي إسحق.
وعمرو بن عُبيد، وعيسى، ويعقوب. ووجهها أن تكون نعتاً ل
(أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ..
تتميم:
قوله تعالى: (لِلسَّائِلِينَ) يَحتملُ أنْ يتعلَّقَ بقوله
تعالى: (قَدَّرَ) أي
قدّر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المُحتاجين المُقتاتين.
ويَحتملُ أنْ يتعلَّقَ بمحذوف: أي هذا الحصر لأجل من سأل: في
كم خُلقت الأرضُ وما فيها؛ ذكرهما الزمخشري.
واعلم أن (سواء) اختصّت بحكم: وهو أنّها لا ترفعُ الظاهرَ في
الأكثر.
بل ترفعُ الضمير، إلا إذا كان الظاهرُ معطوفاً على الضمير
فيرفعه، تقول:
مررت برجلٍ سواءٍ هو والعَدَم، فالعَدَم معطوف على الضمير
المستتر في
(سواء) المؤكّد بـ " هو " الظاهر، وهذا ممّا يجوز في المعطوف
ما لا يجوز
في المعطوف عليه، وقد تقدّمت نظائره.
ومن العرب من يرفع بـ سواء
الظاهر، وليس بالكثير.
(1/17)
|