تحفة الأقران في ما قرئ بالتثليث من حروف القرآن

حرف الباء
فمن ذلك قوله تعالى في سورة " الفاتحة ": (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قُرِىء بخَفض الباء ونصبها ورفعها:
فأمّا قراءة الخَفض فقرأ بها السبعة، ووجهها ظاهر: وهو إما يكون نعتاً
للجلالة أو بدلاً.
وأمّا قراءة النصب فقرأ بها زيدُ بن على وطائفة، وفي توجيه هذه
القراءة تفصيل: وهو أن يقال: لا يخلو الذي قرأ بنصب (رَبِّ) أن
ينصب (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وقد قُرىء بذلك، أو يجرّهما.
فإن كان قرأ بنصبهما فلا إشكال؛ لأنه نصبَ الجميعَ على القطع، أي: أعني ربَّ العالمين الرحمنَ الرحيمَ.
وإن كان قرأ بجرّهما ففيه إشكالٌ من جهة أنّهم قالوا: لا يجوزُ في الصفات الإتباعُ بعد القطع؛ لأنه يلزمُ منه الرجوعُ بعد الانصراف.
وقد قال الشاعر:
إذا انصرفَتْ نفسي عن الشيء لم تَكَدْ. . . إليه بوجهٍ آخرَ الدهرِ تَرْجِعُ

(1/18)


وهذه القراءة يلزم منها الإتباع بعد القطع، لأنّه قَطَعَ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ؛ عن الإتباع، ثم أتبع (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
وتوجيه هذه القراءة ولا يلزم منه الإتباع بعد القطع: أن يكون (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بدلاً لا نعتاً، لا سيّما على مذهب "الأعلم" الذي يرى أنّ (الرحمن) لا يكون صفة.
ومنهم: من نصب (رَبِّ الْعَالَمِينَ) على النداء وهو ضعيف.
ومنهم: من نصبه بفعل على أنه توهّم أنّ مكان (الحمد لله) : نَحْمَدُ
الله ربَّ العالمين، فأجراه على ما يَصلُحُ في المَوضع، وهو ضعيف جدّاً "
لأنّ مراعاةَ التَّوَهُمِ لا تجوز إلا في العطف، نحو قولك: ليس زيد بقائم
ولا قاعداً، بنصب " قاعد" على توهّم حذف الباء.
قال الشاعر:
مُعاوِيَ، إنّنا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ. . . فَلَسْنا بالجبالِ ولا الحديدا

(1/19)


فعطف " ولا الحديد " على توهّم حذف الباء من " الجبال "، أي: فلسنا
جبالاً ولا حديداً.
هذا كلّه على من يمنعُ الإتباعَ بعد القطع، وهو الكثير.
وأما من جوّزه فلا إشكال في ذلك.
وأما قراءة الرفع فذكرها أبو البقاء في " إعرابه " ولم يُسْنِدْها، وفي
وجه هذه القراءة تفصيل أيضاً: وهو أن يقال: لا يخلو الذي يقرأ بالرفع أن
يرفعَ (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وقد قرىء بذلك، أو يجرّهما، فإن كان قرأ
برفعهما فلا إشكال، لأنّه رفع الجميع على القطع، أي: هو ربُّ العالمين
الرحمنُ الرحيمُ.
وإن كان قرأ بجرّهما ففيه إشكال من جهة الإتباع بعد القطع، ووجه ذلك أن يكون (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بدلاً كما تقدّم.
تتميم:
" الربّ " مصدر في الأصل، من قولك: رَبَّ يرُبُّ ربّاً: إذا أصلح، ثم
وصف به كعَدل ورِضاً، فوزنه على هذا " فَعْل "، وقيل: هو اسم فاعل وأصله راب، وحذفت ألفه كما قالوا: رجل بارّ وبَرّ، فوزنه على هذا " فاعل ".

(1/20)


والربّ في اللغة: السَّيَد، والمالك، والمعبود، والثابت، والمُصلح.
والخالق، وزاد بعضهم: الصاحب، واستدلّ على ذلك بقوله:
فدنا له ربُّ الكلابِ، بكَفه. . . بِيض رِهادفٌ، ريشُهن مُقَزَّع
ولا دليل في البيت.
وكلّها تصلح في الآية إلاّ الثابت والصاحب، وفي السيّد خلاف.
و (الْعَالَمِينَ) فيه شذوذ من وجهين:
أحدهما: أنّه اسم جَمع كالأنام، وأسماء الجموع لا تجمع.
الثاني: أنّه جُمع بالواو والنون، ولم يَستوفِ الشروط.
قال شيخ الجماعة أبو حيَّان: والذي أختاره: أنْ يُطْلَقَ على المُكَلَّفين.
لقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ) .
وقراءة حَفص (للعالِمين) بكسر اللام توضّحه، ولم يقرأ حفص بكسر اللام في

(1/21)


(العالِمين) إلاّ في " الروم ".
***
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الأنعام ": (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) قرىء بنصب الباء وخفضها ورفعها:
فأما قراءة النصب فقرأ بها حمزة والكسائي، ووجهها أن يكون
منصوباً على النداء، أو بإضمار أمدح، قاله ابن عطيّة، أو بإضمار أعني.
قاله أبو البقاء. وكل واحد منهما قريب من الآخر، فتكون جملةً مُعْتَرَضاً
بها بين القسم الذي هو (والله) وبين جوابه الذي هو (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) .
وأما قراءة الخفض فقرأ بها باقي السبعة، ووجهها أن يكون نعتاً (لله)
وقيل: يجوز أن يكون بدلاً، وقيل: يجوز أن يكون عطف بيان.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها عِكرمة، وسلام بن مسكين) ، مع رفع الجلالة،

(1/22)


ووجهها أن يكون الجلالة مبتدأ، و (رَبِّنَا) خبر، ويكون الكلام مبنيّاً على
التقديم والتأخير، أي: ما كنا مشركين واللهُ ربُّنا، وتكون الواو واو الحال.
ثم قدّمت الجملة الحالية. والجملة بأسرها من قوله تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) في موضع نصب مفعول القول.
تتميم:
في الصحيح " أن رجلاً أتى ابنَ عبّاس رضي الله عنهما فقال: سمعتُ
الله يقول: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) . وفي أُخرى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) ، فقال ابن عبّاس: لما رأوا أن الجنّةَ لا يَدْخُلُها إلا مؤمن قالوا: تعالَوا فلْنَجْحَدْ وقالوا: ما كُنا مشركين، فختم الله على أفواههم، وتكلّمت جوارحهم، فلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة "والصّافّات ": (بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)
قُرىء بخفض الباء من (الكواكب) ونصبها ورفعها:

(1/23)


أما قراءة الخفض فقرأ بها السبعة غير أبي بكر - أحد راويَي عاصم
إلاّ أن حمزة وحَفصاً - أحد راويَ عاصم نوّنا (زينة) والباقون لم يُنَوّنوا.
أمّا من نوّن (زينة) فالكواكب بدل منها. وأما من لم ينوّن فالكواكب
مضاف إليه.
و (الزينة) حينئذٍ لا تخلو أن يراد بها المصدر كاللينة، أو الاسم كاللِّيقة اسم لما يلاق بها الدواة، فإن أُريد بها المصدر فتحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل، كقوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ) ، ويكون التقدير: أنْ زيّنت السماء الكواكب.
ويحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول كقوله تعالى: (بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ) ، ويكون التقدير: أن زيّن الله الكواكب. وإن أُريد بالزينة
الاسم، فالإضافة من إضافة الخاصّ إلى العام، كخاتم حديد، وباب
ساج.

(1/24)


وأما قراءة النصب فقرأ بها أبو بكر - أحد راويَي عاصم، وابنُ وَثّاب.
ومسروق بخلاف عنهما، والأعمش، وطلحة، وذلك مع تنوين (زينة) .
ووجه هذه القراءة أن يكون نصب (الكواكب) بالمصدر المنوّن) ، كقوله تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) ، ف (يتيم)
منصوب بـ (إِطْعَامٌ) .
وكقول الشاعر:
فلولا رَجاءُ النصرِ منكَ ورهبةٌ. . . عقابَك، قد كانوا لنا كالمواردِ

ف " عقابك " منصوب بـ " رهبة ".
وقال الآخر:

(1/25)


بضرب بالسيوفِ رؤوسَ قومِ. . . أزلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ
ف " رؤوس " منصوب بـ " ضرب ".
قلت: وهل في هذا المصدر المنوّن الناصب للمفعول فاعلٌ أم لا؛
اختلف النحويّون في ذلك على خمسة مذاهب:
الأول: وعليه الجمهور: أن الفاعل محذوف.
فإن قيل: الفاعل لا يحذف.
قيل: ذلك في الفعل لا في المصدر.
الثاني: وعليه الكوفيون: أن الفاعل مضمر.
الثالث: مذهب أبي القاسم بن الأبرش من نحاة الأندلس: أنّ
الفاعل منويّ إلى جنب المصدر، فقال في قوله تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) ، التقدير: أو إطعامُ إنسانٍ.
قال: ودلّ عليه ذكره الإنسانَ قبله.
وهذا لا يطَرِدُ له، ألا ترى أنك تقول: عجبت من ركوبٍ
الفَرَسَ، وليس هنا شيء متقدم يدل على الفاعل كما في الآية.

(1/26)


الرابع: مذهب السيرافي: أن المصدر ليس فيه فاعل، لا محذوف
ولا مضمر، والمنصوب بعده كدرهم بعد عشرين، وهو مذهب مردود.
الخامس: مذهب الفرّاء: أن المصدر لا يجوز أن يُلْفَظَ بالفاعل
بعده، قال لأنه لم يُسمع في لسان العرب. فإن قلتَ قد سُمعَ في قول
الشاعر:
حَرْب تَرَدَّدُ بينهم بتشاجُرٍ. . . قد كفَّرَتْ آباؤها أبناؤها
ألا ترى أن " أبناؤها " فاعل بـ " تشاجر ".
فالجواب أنَّ هذا البيتَ

(1/27)


لا حُجّةَ فيه، إذ مَحملُ البيت على أنّ " آباؤها " مبتدأ، و " أبناؤها " خبر.
والتقدير، آباؤها في ضعف الحلوم مثل أبنائها، ويدلّ على ما ذكرنا قوله
في البيت قبلَه:
هيهاتَ، قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيها. . . فاستجهلتْ، حُلَماؤها سُفَهاؤها
أي: حلماؤها مثل سفهائها.
ويلزم أيضاً في البيت على جعل " أبناؤها "
فاعلاً بـ " تشاجر" الفصل بين المصدر ومعموله.
وإلى مذهب الفرّاء مال الشيخ أبو حيان ونَصَرَه، وتأول ظواهر
سيبويه.
ويجوز أن يكون نصب (الكواكب) على بدل الاشتمال من (السماء) .
أي: زينّا كواكب السماء.
وزاد أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها زيد بن عليّ مع تنوين (زينة) ، ووجهها أن
تكون (الكواكب) خبر مبتدأ محذوف، أي: هي الكواكب، أو أن تكون
فاعلاً بالمصدر المنوّن على مذهب البصريين، كقوله: عجبت من قيام زيد،

(1/28)


التقدير: بأن زَينت الكواكبُ. أو أن يكون مفعولاً لم يستم فاعله.
التقدير: أن زُيّنت الكواكب.
وفي هذه المسألة خلاف: فذهب الجمهور إلى أن المصدر ينحلّ إلى
فعل ما لم يُسَم فاعلُه، فتقول: عجبت من ضربٍ زيد، على أن يكون
" زيد " مفعولاً لم يسم فاعله، والتقدير: من أن ضُرب زيد.
وأنشدوا على ذلك:
إنَّ قَهراً ذَوو الضلالةِ والبا. . . طلِ عِزّ لكلِّ عَبد مُحِقِّ
أي: أن يُقْهَرَ ذَوو الضلالة.
وذهب أبو الحسن الأخفش إلى مَنع ذلك، وتَبِعَه نحاةُ الأندلس، وكان
شيخنا الإمام العلامة أبو عبد الله البَيْري يميل إلى مذهب أبي الحسن
ويُعَوّل عليه.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " الدخان ": (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

(1/29)


قُرىء فيهما برفع الباء ونصبها وجرّها:
أما قراءة الرفع فقرأ بها السبعة، ووجهها أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوف.
أي: هو رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) . وجوّزوا فيه أن يكونَ خبراً بعد
خبر، وأن يكونَ فاعلُ (يميت) ، وفاعلُ (يحيي) ضميراً يعود على ما قبله.
أو أن يكونَ من باب التنازع، فيكون (ربكم) فاعلَ (يميت) على إعمال
الثاني، وفي (يحيي) ضمير يعود عليه، أو بالعكس على إعمال الأول.
ويجوز فيه على مذهب الفرّاء أن يكون (وربكم) فاعلاً بـ (يُحيي
ويُميت) معاً، والأظهرُ الإعرابُ الأول.
وأما قراءة النصب فقرأ بها أحمد بن جُبير الأنطاكي، ووجهها
النصب على المدح، أو العناية، أي: أمدح أو أعني.
وأما قراءة الجرّ فقرأ بها جماعة، منهم ابن أبي إسحاق،

(1/30)


وابن مُحَيْصِن من (ربك) .
، وأبو حَيوة، والزَّعفراني، ووجهُها الجرّ على البدل
ومن ذلك قوله تعالى في سورة " والذاريات ": (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
قرئ بضمّ الباء مع ضمّ الحاء وكسرها، وقرئ بض الباء مع
فتح الحاء وضمّها وكسرها، وقرئ بكسر الباء مع كسر الحاء. فهذه ستّ
قراءات: مع ضمّ الباء ضمّ الحاء وكسرها، ومع فتحها فتح الحاء وضفها
وكسرها، ومع كسرها كسر الحاء:
فأما قراءة ضمّ البماء مع ضمّ الحاء فقرأ بها السبعة، ووجهها أن

(1/31)


يكون الحُبُك جمعاً، واحدُه حبيكة، مثل طريقة وطُرُق.
أو أن يكونَ واحدُه حِباكاً، نحو مِثال ومُثُل. قال الراجز:
كأئما جَلَّلَها الحوَّاكُ. . . طُنْفُسة في وَشيها حِباك
وأما قراءة ضمّ الباء مع كسر الحاء فقرأ بها أبو مالك الغفاريّ.
والحسن، وهي قراءة مشكلة، لأنهم نصّوا أن " فِعُلاً ". بكسر الفاء وضمّ
العين ليس من أبنية الأسماء. قال ابن عطيّة: هي قراءة شاذّة غير متوجّهة.
ثم وجّهها هو وابن جنّي على تداخل اللغات؛ وذلك أنه يقال: الحُبُك
بضمّ الحاء والباء، والحِبِك بكسرهما، فقالوا: الحِبُك، بكسر الحاء من
لغة وضمّ الباء من لغة أخرى.
والأشهر في تداخل اللغات أن تكون من كلمتين لا من كلمة واحدة، كقنَط يقنَط بفتح النون فيهما.
قال الشيخ أبو حيَّان: والأحسن عندي أن تكون ممّا أُتبعَ فيه حركةُ
الحاء لحركة تاء (ذات) في الكسر، ولم يُعْتَدَّ باللام الساكنة، لأن الساكنَ
حاجز غير حصين.

(1/32)


قلتُ: وما استحسنه الشيخ حسنٌ، فما زال يُوَضِّحُ المُشكلات ويَفُكُّ
المُعْضلات.
وأما قراءة فتح الباء مع فتح الحاء فقرأ بها ابن عباس، وأبو مالك.
قال أبو الفضل الرازي في توجيهها: إنها جمع حَبَكة، كعَقَبة وعَقَب.
وأما قراءة فتح الباء مع ضمّ الحاء فقرأ بها عِكرمة، ووجهُها أنّها
جمع حُبْكة، كطُرْفةُ وطُرَف.
وأما قراءة فتح الباء مع كسر الحاء فقرأ بها الحسن، ووجهها حسن
ظاهر؛ لأنّ " فِعَلاً ". موجود في الأسماء، نحو عِنَب وضِلَع، وأما في
الصفات فقال سيبويه: لا نعلمه جاء صفة إلاّ في حرف واحد معتلّ.
يوصف به الجمع، وهو قوم عِدًى انتهى.
قال الشاعر:
إذا كُنْتَ في قومٍ عِدًى لَسْتَ منهمُ. . . فكُلْ ماعُلِفْتَ من خبيثٍ وطيّبِ

(1/33)


وقد استدرك الفارسي وغيره على سيبويه أشياءَ إذا تُؤملت لم تنهض
استدراكا.
وأما قراءة كسر الباء مع كسر الحاء فقرأ بها أبو مالك الغفاري.
والحسن بخلاف عنه، وهي قراءة مشكلة؛ لأن سيبويه ذكر أنّه لم يجىء
في الاسم إلا إبِل، واستدركوا على سيبويه أشياء لم يذكروا فيها حِبِكا.
ووجهها أن يكون الأصل حِبْكاً بكسر الحاء وسكون الباء، ثم حُرِّكت الباءُ
بالكسر إتباعاً لحركة الحاء، ومنه قول الشاعر:
أَرَتْنِيَ حِجْلاً على ساقِها. . . فهشَّ الفؤادُ لِذاكَ الحِجِلْ
وقال الآخر:

(1/34)


علمَنا إخوانُنا بنو عِجِلْ. . . شُرْبَ النَبيذِ واعتقالاً بالرِّجِلْ
فهذه ستّ قراءات بيّنّاها.
وفيه قراءة سابعة وهي (الحُبْك) كقُفْل، وهي
منسوبة إلى أبي السَّمّال. وقراءة ثامنة (الحَبْك) كعدل.
وقد اختلف المفسّرون في (الحُبُك) : فقيل: ذات الحبك: أي الخَلق
المستوي، وقيل: ذات الحبك: المُزَيّنة بالنجوم.
وقيل: ذات الحبك: أي الشدّة.
واختُلِف أيضاً في (السماء) : فقيل: المراد بها السموات، فالألف
واللام للجنس. وقيل: المراد بها السابعة، فالألف واللام للعهد.
وقيل: المراد بها السّحاب الذي يُظِلّ الأرضَ.

(1/35)


وهنا سؤال: وهو أن يقال: ما الحكمة في أنه لمّا أقسم هنا بالسماء.
وُصِفَت بذات الحبك؟
فالجواب أن المراد هنا المناسبة بين المقسم والمقسم به عليه.
فوُصِفَت السماء بأنها ذات طرق مختلفة لأن أقوال المخاطبين مختلفة.
وهذا أحسن ما يكون في القسم.
ومن المناسبة بين القسم والمُقْسَم عليه قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) ، ثم قال تعالى: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) .
أي لمتفرّق، فمنه كسواد الليل، وهو من بَخِلَ
واستغنى، ومنه كبياض النهار، وهو من أعطى واتّقى.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة "المزّمّل": (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)
قرئ بخفض (ربِّ) ورفعه ونصبه:
فأما قراءة الخفض فقرأ بها ابن عامر، وأبو بكر، وحمزة.
والكسائي، ووجهها الخفض على البدل من (ربّك) .
وعن ابن عبّاس أن (رب) قسم حذف منه حرف الجر.
وجوابه (لَاَ إِلَهَ إِلَّاهُوَ) كما يقال:
والله لا أحد في الدار إلا زيد، وهو غير جائز عند البصريين، لأنّه فيه

(1/36)


حذف حرف القسم في غير الجلالة، وذلك لا يُقاس.
وأما قراءة الرفع فقرأ بها باقي السبعة، ووجهها الرفع على خبر مبتدأ
محذوف، أي: هو رب.
وأما قراءة النصب فقرأ بها زيد بن عليّ، ووجهُها النصب بإضمار أمدح.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة "إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ" و "لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا"
قُرىء بضمّ الباء من "لَتَرْكَبُنَّ" وفتحها وكسرها:
فأما قراءة الضمّ فقرأ بها نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم
ووجهها أن الخطاب للجنس، أي: "لَتَرْكَبُنَّ" أيّها الناس.

(1/37)


وأما قراءة الفتح فقرأ بها باقي السبعة، ووجهها أن الخطاب للإنسان
المقدّم في قوله: (يا أَيّهَا اَلإنسانُ) أو للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أي: لتركبَنّ يا محمد سماءً بعدسماء في الإسراء
وأما قراءة الكسر فقرىء بها في الشاذّ، ووجهها أن الخطاب للنفس.

(1/38)